“عمر راسم” (1884 – 1959) فنّان جزائري في الرسم والموسيقى، وصحفيٌّ أسّس عددًا من الجرائد منها: “الفاروق” سنة 1913، و”ذو الفقار” سنة 1914. اشتهرَ بأفكاره الإصلاحية، والتصدّي للاستشراق الهدّام، ومهاجمة الصهيونية. وقد نشر مقالاً بعنوان “الموسيقى الأندلسية في الجزائر”، كشف فيه عن وصول الصهيونية إلى سرقة جزء من هذه الموسيقى وتملّك حقوقها، وخَبَايا أخرى. ورأى المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله” في كتابه “تاريخ الجزائر الثقافي”، بأن “راسم” نشر مقالَه في شهر نوفمبر 1957، غير أن “الأيام نيوز” تُؤكّد بأن المقال نُشِر في الفاتح سبتمبر 1945 في المجلة الشهرية اللبنانية “الأديب”، وتُعيد نشرَه لقيمته التاريخية والأدبية والفنيّة، وأيضا لإحياء قَلم “عمر راسم” الصحفيّ والموسيقي والرّسّام.
الموسيقى المُهاجرة
الفن الموسيقي هو سلطان الطبيعة المُسيطر على الأرواح، وقد تفنّنت الأمم في ألحانه ونغماته، واخترعت منها بحسب أميالها وصبغة تعاليمها وطبيعة بلادها ودرجة رقّة شعورها وتقدّمها في الحضارة. وممّن نبغ في هذا الفن الجليل “أمة الأندلس” العربية التي بلغت فيه درجةً من السموّ جعلت ملوك أوروبا، في ذلك العهد، تتنافس في إحراز موسيقى أو مَلْحّن أندلسي عربي يُزيّن مجالسها ويكون لها فخرًا.
ولمّا قضتْ الأقدار وتشتّتت “الأمة الأندلسية” في بلدان شمال إفريقيا، نشرت تعاليمها بها لما وجدتْ فيها من الأوساط المتهيّئة بالطّبع لقبول تمدّن الأندلس الزاهر. فنال كل من المغرب الأقصى والجزائر وتونس أوفر حظ من ذلك، وانتشرتْ الموسيقى الأندلسية فيها جميعًا.
“تحريف” الموسيقى الأندلسية
وقد حدث لهذه الموسيقى في وطنها الجديد ما لم يكن منه بُدٌّ، فوَقع، مع طول المدّة، تحريفٌ في نغماتها وتغيير في تراتيبها ونظاماتها المُحكمَة، وتغلّب عليها الدخيل البلدي، فامتزجتْ، بطبيعة الحال، بما غيّر طُرقها الفنية، ولا سيما، في المغرب الأقصى وتونس، إذ تطوّرت في هذين القطرين طِبْقَ طباع أهلهما، كما وقع، في عهدنا الحاضر، تحريف وتغيير في الألحان والنغمات العربية والعراقية في مصر، بامتزاجها بالألحان البدوية.. ثم بالأوروبية والأمريكية. أما بلاد الجزائر، فإنها بطبيعة حالها وتقليد أهلها للفن تقليدا دينيا لم تُحرّف ولم تُغيّر حرفا ولا صوتا مما ورثته من المهاجرين الأندلسيين، بل نقلت منهم ألحانهم ونغماتهم وأناشيدهم نقلا مثبتًا كما روَتْ أسانيد الأحاديث الشريف.
الجزائريون حافظوا على أصالة “الأندلسية”
وقد كانت الجزائر، في إبّان شبابها وأيام سطوتها ورفاهيتها غرناطة إفريقيا الشمالية. وليس من المبالغة أن نقول أن ما بقي إلى الآن منها، من آثار تلك الألحان والأناشيد والموشّحات، هو على قلّته، صورةٌ بدون شك ممّا كانت تتغنّى به غرناطة وإشبيلية ومالقة وطليطلة وغيرها. وذلك من سبيل رواية التواتر الصحيح، وشاهدٌ على ذلك إني سمعت، في غضون ما يزيد على خمسين سنة ومن أجيال متتابعة، عدّة “أشغال” أندلسية، لم أقف فيما سمعت منها على فرْق واحد، ولو في مدّ أو قصْر، بين من عرفت من مُعلّم أو متعلّم، ومن أخطأ في نداء، أو زيادة نصف نقطة في غير محلّها، عُدَّ ذلك عليه نقصًا يُسفّهُ به عند أهل الفن.
ذلك أن الموسيقى الأندلسية مبنية على قواعد العلم في مناسبة أصواتها وارتباط بعضها ببعض، وقد جلعتْ فيها الأصوات المُطلقة والممتزجة، مُركّبة من “نوبات” مُرتّبة على قواعد الإنشاء: استهلال ثم مقصود ثم خاتمة. والنوبة تبتدئ بـ “التّوْشِية” ضربًا من دون غناء، و”الكريسي” مثلها، وهُمَا مفتاحَا “الآلة” ويكونان في نقر الوتر، ثم يُجهر بـ “المصدر” ثقيلا، ويليه “البطايحي” أثقل منه في الغالب، ويليهما “الدّرج” وهو أخفّ منهما، ثم يأتي “الانصراف” خفيفا، ثم “الخلاص” أخَفّ. وقد يزيدون على ذلك “الانقلابات” وواحدها الانقلاب وهو يتبع دائما “الصياح” أو “الاستخبار” المناسب لصناعة النوبة. فإن كانت نوبة “الزيدان” يصيحون زيدانا، وإن كانت نوبة “السيكة” يصيحون أو يستخبرون سيكة وهلمّ جَرًا.
رئيس “القَصّادين” في المديح النبوي
ولكل صناعة نوبة أو نوبات. ويُقال أن الشيخ “المنمّش” كان يعرف في الصنعة الواحدة عشرات من النوبات بأصواتها. ولا غرابة في ذلك، فإني رأيتُ بعيني ديوانا (مخطوطا) بخط العالم الجليل الشيخ “عبد الرحمان الأمين”، فإذا فيه 24 صناعة أو لحنًا، ولكل صناعة نوبات كثيرة، منها ما تزيد “مصدراتها” على العشرين. وقد كان الشيخ “عبد الرحمان” يتقن الفن ويحسن تلك النوبات كلها، وبذلك كان في عصره، رئيس “القصّادين” وهي وظيفة تشريفية كان يُقلّدُها من يتقن الفن الموسيقي الأندلسي، ويتولّى بها إدارة جماعة من “القصّادين” الفنانين الذين يتغنون بالأناشيد في مدح خيْر البرية أيّام المولد النبوي الشريف في المساجد والأضرحة والزوايا.
سطوٌ “صهيوني” على ميراث عربي
على أن الذي يُؤسف له كل الأسف أن هذا الديوان الذي ذكرته قد ضاع.. ولم يبق لنا في هذا الباب إلاّ الأنموذج الناقص الفاسد الذي طبعه “الإسرائيلي” “يافيل” عن غواية وقلة دراية، هذا وقد أكسبته جرأته على الفن، وطبعه لذلك الديوان المملوء بمُحرَّفات الموشحات والأناشيد الإسلامية، وأكسبَ ذلك ورثته حقا “شرعيا” صرنا، بمقتضاه، لا نترنم بأناشيدنا وأصواتنا إلا إذا استأذنا “يافيل” وأدَّينا له، بواسطة جمعية حقوق التأليف، “حقا” مفروضا، وعلى أن هذه الأصوات والألحان لآبائنا وأجدانا، فقد أصبحت الموسيقى الأندلسية العربية، بهذه الصورة ملكا لـ”يافيل” وورثته.
الأصحُّ بَقي في الجزائر
ومهما يكن من أمر، فإنه لم يبق الآن من تلك ألـ 24 نوبة التي ذكرها الشيخ “عبد الرحمان الأمين” إلا ما يزيد على النصف.. لكن هذا القليل الذي بقي لدينا (في الجزائر) أصحُّ مما بَقي عند المغاربة والتونسيين.. لأنّ في نطقهم رقة تضعف قيمة اللحن الفنية، ولأنهم أيضا اخترعوا، زيادة على الأصل، أنفاسا غير موافقة في الغالب لميزان الصنعة ونسبة الأصوات.
قواعد علمية للموسيقى الأندلسية
اهتمت الجزائر بالمحافظة على الموسيقى الأندلسية كما يهتم أهل الحديث بالرّواية. فكان ثقات الأمة واتقياؤها وأعيانها وأدباؤها يتنافسون في حفظها في الصدور وإتقانها. وأشدّهم اهتماما بها العلماءُ والشعراء الذين كثيرا ما تنافسوا في إنشاء “المولديات” (أناشيد وأغاني المولد النبوي الشرف) وقياسها على نظام الأنغام الأندلسية.
يكفينا دليلا على ذلك أن الذي أدخل القواعد الموسيقية العلمية في الأناشيد الإسلامية والموشّحات الجديدة التي تُنشَد في الزوايا والأضرحة الجزائرية هو الشاعر والعالم الكبير سيدي “أحمد بن عمّار” مفتي السادة المالكية في أوائل القرن الماضي (القرن 19)، وكان يُشاركه في احتفالات الإنشاد الأئمةُ والفقهاءُ. وقد سار الكثير منهم بعده على منواله مثل السيد “أحمد بن القطان”.
الشيخ “محمد عبده”: غناء الجزائر.. أحسن من المصري
وآخر فنان من بقايا السلف العاملين بقواعد الفن هو الشيخ “محمد سفينجة” المتوفي سنة 1908، وهو تلميذ الشيخ “محمد المنمش”، وكان رحمه الله حسن الصوت، وهذا ممّا يقلّ وجوده عند الفنانين في الجزائر. وبهذه المناسبة، أذكر حديثا جرى في هذا الشأن عند زيارة الأستاذ الإمام الشيخ “محمد عبده” إلى الجزائر، وقد أقام له أحد أعيان العاصمة دعوةً حضرها فنان ذلك العهد الشيخُ “سفينجة”، فأراد أحد الحاضرين -الشيخ محمد الكمال بن الخوجة- أن يعتذر عن لحن (نطق غير سليم للكلمات) المُغني وتحريفه للعربية، فأجاب الأستاذُ بأن جميع المُغنّين يلحنون، وزاد أنه يستحسن نظام موسيقى الجزائر، وأثنى على الشيخ “سفينجة”، وقال أن غناء الجزائر.. أحسن بكثير من الغناء المصري.
زِدْ على ما قلنا أنه كان يوجد أيضا مغنّيات محترفات يُتقنَّ الموسيقى الأندلسية الصحيحة، وخاتمتهنَّ المُعلّمة “أمينة بنت الحاج المهدي” رحمها الله. على أنه لا يزال هناك من بنات العائلات الكبرى من يضربن بالقيثارة والرّباب والقانون إلخ..
“عمر راسم” يتأسّف..
ومن يرى هذا الماضي الزاهر الذي كان يُضاهي في أبّهته وحسنه الفني عهد “إسحاق النديم” و”إبراهيم بن المهدي”، ويرى الحالة الحاضرة وضياع تلك الآثار الجليلة واستبدالها بتقاليد المنحطّين خُلُقًا وخَلْقاً للاغاني الأجنبية ونغمات النُّواح المصرية، فما أحقّه بأن يأخذ منه الأسف الشديد على ما صِرنا إليه، وما أحقّه بأن يمقت أشدّ المُقت هؤلاء المفتخرين بانحطاطهم الفرحين بغرورهم.