“عمر راسم”.. جزائريٌ ثائرٌ بالقلم والرِّيشة والوَتر

لم يستطع الاستعمار الفرنسي أن يعزل الجزائر عن امتدادها العربي والإسلامي، وفشلت مخطّطاته في التجهيل والتفقير والهدم الروحي والوجداني، أن تمنع النُّخَب الجزائرية من الإسهام الفاعل في القضايا العربية والإسلامية. وقد كان “عمر راسم” مثالاً للوعي الجزائري المُتقدّم، حيث تُعتَبر جريدته “ذو الفقار”، التي أصدرها سنة 1913، هي “أول جريدة عربية اكتشفت الخطر الصهيوني ونبّهت إليه”، إضافةً إلى كتاباته في الصحف العربية، مُستصرخًا ضمير الأمة العربية ليستيقظ قبل “ضياع” فلسطين.

“راسم”.. عائلةٌ فنيّةٌ

“راسم” عائلةٌ فنيّةٌ في الرّسم والخطّ، ويعود إليها الفضل في الحفاظ على الزّخرفة والمُنمنمات الإسلامية، ليس في الجزائر فحسب، بل في العالم العربي كلّه. وقد كان الأبُ “علي راسم” والعمُّ “محمد” من أشهر فنّاني الزَّخرفة والمُنمنمات والرّسم في زمانِهما. كما يُعتبرُ الأخُ “محمد راسم” من المشاهير العالميين في تلك الفنون. ففي هذه العائلة الفنيّة وُلد “عمر” سنة 1884 بمدينة الجزائر، وترعرع ونَمَت مواهِبه تحت رعاية والده وعمّه، ومنها كان منطلق مسيرته في الصحافة والفنون إلى سنة وفاته في 1959.

القراءةُ.. بوّابة الآفاق

لم ينل “عمر راسم” حظًا وافرًا من التَّعليم، فقد وجّهَه والدُهُ إلى أحد كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، فأتمَّ حفظه في السنة السابعة من عمره. ثم تلقّى قدْرًا من التعليم في المساجد، وقضى سنة في المدرسة الثعالبية، فأخذ دروسًا في اللغة العربية وبعض علومها، إضافة إلى بعض الدروس في اللغة الفرنسية، في مدرسة الشيخ “فاتح”. غير أن إرادة “راسم” القويّة وعزمه الرّاسخ على تكوين نفسه فكريًا قادَه إلى القراءة المتواصلة باللغتين العربية والفرنسية، رغم قلّة مصادر المعرفة، والتّضييق الذي مارسه الاستعمار لمنع الجزائريين من الوصول إليها.

“الحزّاب”.. من المُؤبّد إلى الإفراج

من أولى الوظائف التي تقلّدها “عمر راسم”، كانت وظيفة “حزّاب” في مسجد “سفير” بمدينة الجزائر، لحفظه القرآن الكريم وصوته الجميل وأدائه القويم في القراءة، وقد كان عُمرهُ 12 سنة. كما اشتغل، بعد سنوات، في جريدة “المُبشّر” التي كانت تُصدرها الإدارة الاستعمارية، لإتقانه فن الخط والنسخ. ويرى المؤرخ “أبو القاسم سعد الله” بأن اشتغاله في تلك الجريدة كان بهدف القضاء عليه أو تدجينه، حيث قال: “فاستدعته جريدة (المبشر) للعمل فيها والاستفادة من خطه، وربما كان للسلطات خُطّة في القضاء عليه أو تدجينه”، لا سيما وأنَّ وعيه الفكري والسياسي قد تبلوَر من خلال نشاطه الإعلامي داخل الجزائر وخارجها، وسرعان ما تمّ اتهامه بالتعامل مع أعداء فرنسا، وفي هذا الشأن، قال “سعد الله”: “اتُّهِم بالتورط في التعامل مع العدو، وقُبض عليه وزُجّ به في السجن يوم 13 أوت 1915.. وكانت الدولة العثمانية عندئذ قد دخلت الحرب ضد فرنسا. ثم حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، في نوفمبر 1915 ولم يفرج عنه إلا سنة 1921، بعد مراجعة القضية وتدخّل بعض الفرنسيين والجزائريين لصالحه”.

أوّل قلم جزائري في الصحف التونسية

تأثّر “عمر راسم” بالفكر الإصلاحي” للشيخ “محمد عبدو” الذي زار الجزائر سنة 1903، وكان مُجتهدا في متابعة الشؤون العربية والإسلامية، إضافة إلى اكتسابه معرفة عميقة بالواقع الجزائري، فتكوّنت لديه رؤيةٌ إصلاحية واستشرافية، وجرّد قلمه في الدّفاع عن أصالة الجزائر وتراثها وأمجادها، وهاجمَ مشاريع التدجين والوصاية على العقل، وحاول فضح المخطّطات الاستعمارية التي سعت إلى فرنَسة الجزائريين وتجريدهم من قيمهم وموروثهم الحضاري. وانطلق “راسم”، منذ سنة 1909، في نشر أفكاره من خلال الجرائد التونسية مثل: “التقدم” و”مرشد الأمة” و”المرشد”. و”اعتبره محمد الصالح الجابري أوَّل الكُتّاب الجزائريين الذين شاركوا في تحرير الصحف التونسية في أوائل هذا القرن (العشرين)” كما قال المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله”.

تحذيرٌ مُبكّر من “الصهيونية العالمية”

من الموضوعات الأولى التي كَتب فيها “عمر راسم”، هو موضوع “الصهيونية” العالمية” وارتباطها بالاستعمار الأوروبي. ومن أمثلة ذلك، ردّه على خطاب لأحد اليهود، تداولته بعض الصحف العربية آنذاك، وجاء في خطاب اليهودي “بات استعمار فلسطين أمرًا واجبا على اليهود لكي يلمّوا شتاتهم، ويوثّقوا عُرى ارتباطهم فيها.. وقد قرّرت (الجمعيات الإسرائيلية) أن يدفع كل (إسرائيلي) خمسة قروش كل شهر، ثم يُرسل المبلغ على البنك المُوحّد.. فالفرصة سانحة، والأحوال مساعدة، والأنصار أقوياء”.

وممّا جاء في ردّ “راسم”: “أَرضوا باستقلال فلسطين؟ أم خافوا من سطوة اليهود، أم طمعوا في بعض مالهم..”، ويبدو أن “راسم” كان يترقّب في ردود، على الأقل، من قرّاء جريدة “مرشد الأمة” التي نشر فيها موضوعه، حيث أكّد على مسؤولي الجريدة بإيلاء هذا الموضوع أهميّة خاصة لخطورته. وفي موضوع آخر، يستدرك صرخته التي لم تجد آذانا صاغية، بل برودًا عربيا من النُخّب المثقّفة عموما، فقال: “إننا ألقينا سؤالا في هذه الجريدة عن تقاعد المسلمين وصمتهم، لعلّ الغيورين يعملون بغيرتهم، ويُنجزوا ما عاهدوا الله عليه، ألقينا لهم سؤالا فلم يُجيبوا، ودعوناهم فلم يسمعوا كأن في آذانهم وقْرٌ، وعلى قلوبهم أكنّة وغشاوة.. دعوناهم لمسألة مهمة ليُدارِكوها، وسألناهم عن تقاعدهم، وسألناهم ليهتموا بها، فما زادهم إلاّ غباوة وتكاسلاً”.

توقيع “ابن منصور الصنهاجي”

حاول “عمر راسم” تأسيس جريدة، تحت تسمية “الإصلاح”، تستوعب أفكاره الإصلاحية ورؤاه الاستشرافية ومواقفه في مناهضة الاستعمار والصهيونية، غير أنه فشل في ذلك. غير أن عزمه دفعه إلى إصدار مجلة “الجزائر” سنة 1908، ولكنها توقّفت بعد عددين من الصّدور. وفي شهر فيفري من سنة 1913 أصدر “راسم” رفقةَ صديقه “عمر بن قدّور” جريدة “الفاروق”، ولكنها انتهت إلى ملكية صديقه. وفي شهر أكتوبر من السنة نفسها، أصدر “راسم ” جريدة “ذو الفقار” وتحمّل أعباء تحريرها باسم مُستعار هو “ابن منصور الصنهاجي”، كما تحمّل أعباء رسم صُورِها. وحوْل هذه الجريدة، قال الكاتب الجزائري “الزبير سيف الإسلام” في كتابه “تاريخ الصحافة في الجزائر”، بأنها “أول جريدة عربية اكتشفت الخطر الصهيوني ونبّهت إليه”.

صحافة بلا مسؤولية

امتلك “عمر راسم” رؤيةً صحفية واضحة، حيث جاء في إحدى موضوعاته منتقدا الصحافة العربية التي صارت منبرا للدعاية اليهودية دون وعي منها أو لغايات خفيّة، حيث قال: “الصحف ليست لتعليم الشعب وبث روح الفضيلة بين أفراده، بل هي لأن تخدم أشخاصا مُبتاعين لتقرير أناس غافلين عن أحوالهم، جاهلين بمصالحهم.. تذبَ عن الأباطيل، وتستر بأسوار شهامة عنكبوتية توهم الحقَّ، والحق بريء منهن، وما له منهن من نصير”.

الكتابة من منطقة اليأس

يُمكن القول بأن تجربة “عمر راسم” الصحفية والكتابة في الشؤون السياسية قد دفعه إلى منطقة اليأس، وخاصة الصّحف والكتّاب والشعراء، حيث قال فيهم: “من نهتدي بهديهم، وهم بخلوا فيما يهمّهم ويهمّنا، وأظهروا جُبْنًا حطّ شرف آبائهم”. وبلغ به اليأس إلى الحد الذي قال فيه “هل يوجد من بين هؤلاء من قال كلمةً في استعمار فلسطين العائدة على المسلمين بالخسران المبين، أَماتوا، أم تبرّموا من كل شرف؟ إن هذا لشيء عُجاب”.

الفنُّ.. خَلْقٌ فني

نزعم بأن الوعي المتقدّم للصحفي الكاتب “عمر راسم” قد ساقه إلى اليأس من “البرود” العربي لا سيما فيما يتعلّق بقضية فلسطين، وأيضا من غياب نخبة تستوعب أفكاره الإصلاحية على “طريقته”، لذلك توجّه في “المرحلة الثانية” من حياته إلى التركيز على الفن، في الرسم والخط والزخرفة والمنمنمات، وتعليمه والكتابة فيه. وقد نشرت “الأيام نيوز” أنموذجا من كتاباته في هذا السياق حول الموسيقية الأندلسية. وحول الشخصية والرؤية الفنية للفنان “عمر راسم”، يُمكن أن نُدركها من قوله: “وما أراد الفنان بعمله كسبًا إلاّ غاب عنه وحي العاطفة، ونضبت القريحة، وعمِيَتْ سُبُل الابتكار، وذهبت الحرية، وتقيّدَ الشعور، وانقلب الأمر من معنى الخَلْق الفني إلى معنى الخدمة المأجور عليها أو البضاعة التجارية”.

ماذا تبقّى من “عمر راسم”؟

تحدّث الباحثون الجزائريون عن الآثار المفقودة للمُبدع “عمر راسم”، لا سيما المخطوطات التي لم يجدوا منها سوى العناوين. غير أن آثارا كثيرة من الكتابات المبثوثة في الصحافة العربية والجزائرية، ما زالت تنتظر من يجمعها، ويُصنّفها وفقَ موضوعاتها، فهي تُشكّل تراثا جزائريا، ومفتاحا لإعادة قراءة عبقرية جزائرية جمعت بين الإبداع بالقلم والريشة والوتر.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا