عندما يعيد التاريخ نفسه في طبعة أكثر سوءًا.. فرنسا والمغرب.. جاريتان في حِجر الصهيونية

أُعدم “روبسبيير” وأخذ حلم الجمهورية الفاضلة إلى قبره مهانا، لتدخل فرنسا مرحلة من الفوضى والاضطرابات وسط محيط أوروبي عدائي متربّص، وفي أثناء ذلك، توارى اليهود وتخفوا في محافلهم الماسونية درءًا للشبهة، كما ظلّت عليه طباعهم منذ الأزل، إلى أن سطع نجم “نابليون بونابارت” خريف عام 1799م، الضابط الصاعد الذي شجّعته البورجوازية المعتدلة، والمخترقة من قبل الأثرياء اليهود، للقيام بانقلاب عسكري ووضع حد نهائي لكل مظاهر الثورة.

وفعلا، فقد أطاح الضابط – الذي سيصير إمبراطورا – بـ”الدليل الفرنسي”، وهي الهيئة الحاكمة في فرنسا أثناء الثورة. ليبدأ حملته الأوروبية بعد ذلك بهزم النمسا شمال إيطاليا، وإخضاع إيطاليا نفسها سنة 1800م للسيطرة الفرنسية.. وقد تجاوب معه الشعب الفرنسي ومع انتصاراته، وهو الأمر الذي سهّل عليه مهمة بسط الأمن داخل فرنسا، واستعادة الثقة بين الفرنسيين والروم الكاثوليك، وتحسين الظروف داخل البلد من خلال إعادة تنظيم التعليم، وإنشاء بنك فرنسا المركزي وتأسيس النظام المالي والمصرفي، ودعم العلم والفن والأدب، وأما أهم إنجازاته في هذه الفترة، فقد كان “قانون نابليون”، الذي كان أول نظام قانوني مدني ينشأ في إقليم أوروبي.

لقد كان للحملة الفرنسية على مصر، سنة 1798م، أثرها البالغ في تحفيز “نابليون” على تأسيس منظومة قانونية متكاملة أسماها؛ “قانون نابليون”، والذي أثّر بدوره في الكثير من الدول الأوروبية وحملها على تغيير قوانينها ومواثيقها، وفق ما فعل نابليون في فرنسا. تناول القانون “النابليوني” القوانين العامة والأحوال الشخصية وما تعلّق منها بعقود الزواج، والحقوق المدنية، والعلاقات بين الوالدين والطفل، والمِلْكِية والمَلَكِية، والميراث عن طريق الزواج، وغيرها من الحقوق والعلاقات.

ولأنّ الدعم المالي اليهودي لم يكن خافيا ولا خافتا، خاصة من قبل المرابي الكبير “موسي مندلوهن” الذي كان قد أغرق البرلماني ورجل الدولة “كونت دو ميرابو”، فإنّ الإمبراطور الفرنسي لم ينس للطائفة اليهودية فضلها، فراح يصرّ على تمكينها من تملك الأراضي والعقارات وبناء دور العبادة والمحافل، بكل حرية ومن دون تحفظ، على الرغم من المعارضة الصارمة والتي بلغت حدّ الإدانة من قبل الكنيسة خاصة المذهب الأرثوذكسي..

وقد علّل الإمبراطور سياسة إدماجه لليهود وحمايتهم، بأنّ ذلك ينبع من قناعته الراسخة بضرورة تكريس فكرة الحرية الدينية، ومن ثم جلب اليهود أصحاب الثروة وجذبهم إلى المناطق التي تسيطر عليها فرنسا، وبالتالي ضمان “رأس المال” اليهودي في إثراء المجتمع الفرنسي.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد مع الطائفة اليهودية، وإنما تجاوزه إلى عزم “نابليون” على إنشاء دولة يهودية تابعة للإمبراطورية الفرنسية في فلسطين، وهي الفكرة التي استبدت به، لولا اندحاره عند أسوار مدينة “عكا” غداة الحملة على مصر، وطبعا كان ذلك بإشارة من “أصدقائه” اليهود أصحاب النعمة عليه، والذين عرضوا عليه مساعدتهم في حملته على الشرق كلّه.

كان اليهود الفرنسيون قد بدأوا في التكتل أكثر، وهذه المرة خارج هياكل المحافل الماسونية، وبطلب من الإمبراطور نفسه، سارع نشطاؤهم إلى عقد أول مؤتمر “إمبراطوري” لــ”حكمائهم” وأعيانهم في “سان هدريان” الفرنسية، وهنا تمّ التطرق إلى قضية إنشاء دولة يهودية في فلسطين تابعة وداعمة للنفوذ الفرنسي، حتى يتمكن “نابليون” من إحكام سيطرته على الطريق الإستراتيجي باتجاه الشرق الأقصى، وتصبح الحركة التجارية شرق المتوسط كلها بين يديه، فيمنح بعد ذلك الحماية والدعم لـ”الدولة اليهودية” المزعومة من بطش العرب والمسلمين في المنطقة.. إلا أنّ هذه الفكرة لم تنجح، فقد انكسر “نابليون” واندحر، ولم يتمكن من الاستيلاء على سوريا وفلسطين.

هُزِم “نابليون” على مشارف “بروكسل” في آخر معارك بــ”واترلو”، بعد المائة يوم على عودته من منفاه الأول واستعادته السلطة، أو الفترة التي تعرف بـ”أيام نابليون المائة”، وهي المدة التي قضاها في الحكم ثانية إلى أن استعاد الملك “لويس الثامن عشر” تاجه في الثامن جويلية من العام 1815م.. ليظل الصراع قائما ومتداولا بين “آل بوربون” الملوك، و”آل بونابرت” الأباطرة في حكم فرنسا، إلى سقوط الإمبراطورية الثانية العام 1870م، ونهاية عصر ملوك فرنسا.

لا يمكن المرور إلى بدايات القرن العشرين، من دون العودة إلى غزو فرنسا للجزائر واحتلالها بقوة الحديد والنار، ودور اليهود في دعم الاستعمار وضرب أهل البلد في الظهر، رغم أنّ وجودهم العضوي في الجزائر يعود إلى زمن الصراع الكنعاني اليهودي، وخروج الفينيقيين إلى شمال إفريقيا، حيث عاشوا ضمن النسيج الاجتماعي الجزائري لفترة طويلة، إلى أن حلّ الفتح الإسلامي، فكان فأل خير عليهم كما كان على بقية السكان، من دون أن يجبرهم أحد على ترك ديانتهم وتقاليدهم، فعاشوا في طمأنينة طوال حكم الدول والدويلات الإسلامية لشمال إفريقيا والأندلس، بل وكان لهم الحظ الأوفر في بناء الحضارة العربية الإسلامية، إذ برز منهم الشعراء والأدباء والفنانون والأطباء والفلاسفة والمفكرون، أشهرهم “سلام يعقوب بن يوسف بن كلس”، والأطباء من “آل بختشوع النساطرة”..

يطوفون بلاد العرب والإسلام شرقها وغربها من دون أدنى تحفظ ولا خشية من أحد. إلى أن سقطت الأندلس، فكان مصيرهم كمصير العرب والمسلمين حيث عانوا الويلات جراء محاكم التفتيش والطرد القسري والقتل والتعذيب.. إلى أن استتب الأمر للخلافة العثمانية وتأسيس إيالة الجزائر على الجبهة الغربية للمتوسط، ليأنس اليهود مرّة أخرى بالأمن والسلام، سواء بالنسبة لليهود الأصليين من أهل البلد أصحاب العمائم واللحى “التوشابيم”.. أو بالنسبة لليهود الفارين من بطش الكنيسة الكاثوليكية “الميغورشيم”.. أو يهود الفرنجة الذين يعرفون بالـ”ليفورن”، وهؤلاء هم الذي تغلغلوا في دواليب الدولة واستولوا على مراكز التجارة والاقتصاد، وهؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا عونا للفرنسيين في احتلال الجزائر، قبيل وبعد الإنزال في سيدي فرج.

وطوال السنوات الأولى لحرب الإبادة الفرنسية بحق الأهالي، وحروب المقاومة والدفاع المنظمة والشعبية من طرف أصحاب الأرض والبلد، ظلت العلاقة بين اليهود والنظام الاستعماري سمنا على عسل، إلى أن تمّ ترسيم هذه العلاقة بمنحهم الجنسية الفرنسية -الأوروبية بموجب مرسوم النائب “كريميو” واعتبارهم مواطنين من الدرجة الأولى، على عكس الأهالي الذين صدر بحقهم قانون “الأنديجينا” كرعايا من الدرجة الأخيرة.

وأما في فرنسا “الميتروبوليتان”، ومع نهاية القرن التاسع عشر، كان النفوذ اليهودي قد نفذ إلى عمق أعماق مفاصل الدولة ومؤسساتها، إلى أن انفجرت قضية الضابط اليهودي “ألفريد دريفوس” الذي اتهم بنقل أسرار عسكرية إلى السفارة الألمانية في باريس، والذي صدر بحقه حكم قضائي ينصّ على تجريده من رتبته العسكرية، وطرده من الخدمة، وسجنه مدى الحياة في جزيرة الشيطان.

أثارت قضية الضابط اليهودي هذا، حفيظة الرأي العام الفرنسي، حيث اعتبروه خائناً في حق الوطن، كما أنها أسالت الكثير من الحبر وشغلت الصحافة والمسؤولين، واهتزت لها باريس وتزلزلت، بأن سقطت وزارات كما انتحر العديد من رجال الدولة آنذاك. وهنا كانت الفرصة مواتية للطائفة اليهودية في فرنسا، لتظهر قوتها الفعلية في إدارة الرأي العام وتسيير السياسة الحكومية، بأن عمدت إلى تصعيد الأزمة وتأجيج الشارع، كما استغلها زعيم الحركة الصهيونية حينها “تيودور هرتزل” الذي كان مقيماً في باريس في تلك الفترة، لإثارة مشاعر اليهود في فرنسا وفي كل أوروبا، مروّجا لفكرة معاداة السامية المعشّشة في رؤوس بعض المسؤولين. كما أثارت هذه القضية حفيظة الأديب الفرنسي “إميل زولا” ليجعل من الضابط “دريفوس” بطلا في كتاباته، مهاجما من خلاله من أسماهم بالمعادين لليهود.

وخضعت الحكومة الفرنسية بعدها للضجة التي أثارها اليهود وأصدقاؤهم، وجيء بالضابط من منفاه، وأعيدت محاكمته، وصدر قرار ببراءته من التهم الموجهة إليه، ومنح وسام الشرف، كما أعيد للخدمة في الجيش من جديد.

واعتبرت قضية “دريفوس” مثالاً على النفوذ اليهودي في فرنسا الذي بدأ يقوى ويشتد، والذي استطاع تحويل قضية ضابط اتهم بالخيانة، إلى ضابط حكم عليه بالبراءة ومنح وسام الشرف. واستغل اليهود الفرنسيون القضية بعد ذلك بسنوات، من أجل أن توافق الحكومة الفرنسية على خططها في إقامة “الوطن القومي اليهودي” في فلسطين.. حيث تمكنوا من إقناعها بإصدار وعد “كامبو”، الذي اعتبر اعترافاً رسمياً من قبل فرنسا بالحركة الصهيونية، يشبه كثيرا الوعد البريطاني المعروف بــ”بلفور”.

وفعلا، فقد صدر الوعد بعد لقاءات عدة تمت بين زعيم المجلس الصهيوني العالمي؛ “ناحوم سوكولوف” من جهة، ورئيس وزراء فرنسا؛ “ألكسندر ريبو”، والسكرتير العام لوزارة الخارجية “جول كامبو”، من جهة ثانية.. حيث طالب “سوكولوف” أن تصدر الحكومة الفرنسية بياناً كتابياً، تعبّر فيه عن دعمها لأهداف الحركة الصهيونية الرامية إلى إقامة دولة “قومية” في فلسطين.. لتستجيب الحكومة الفرنسية بعد ذلك، وتصدر بتاريخ الرابع من شهر جوان العام 1917م، إعلانا صريحا عبّرت فيه عن تأييدها ودعمها للمخطط الصهيوني الهادف إلى إقامة وطن “قومي” لليهود على أرض فلسطين التي نُفي منها “شعب إسرائيل”، كما تدّعي الأساطير والخرافات اليهودية المزعومة.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
شبح الإعدام يلاحق الرئيس المعزول.. الخروج عن المسار في كوريا الجنوبية يعني النهاية المظلمة الأرض تهتز في ولاية المدية شاحنات محملة بالوثائق السرية.. إدارة بايدن تحزم أمتعتها تحت جنح الظلام التعديلات العشوائية على سكنات "عدل" قد تجر صاحبها إلى السجن وقف إطلاق النار.. غزة تفرض منطق الميدان الجزائر- السنغال.. نحو تعزيز التعاون الثنائي مشروعا قانونيْ الأحزاب والجمعيات.. رؤية جديدة لمستقبل الحياة السياسية في الجزائر وقف إطلاق النار في قطاع غزة.. هكذا علقت الجزائر المساعدات الفرنسية المزعومة.. عطاء وفق قاعدة: "خذها ولكن أبقِها عندي" لائحة الأمن في البحر الأحمر.. لهذا السبب امتنعت الجزائر عن التصويت! أحوال الطقس.. أمطار وثلوج على هذه المناطق بعد الكرة الذكية والملعب الذكي.. ماذا بقي من لعبة بيليه ومارادونا؟  بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة.. ترامب يطلق تصريحات اجتماع الحكومة.. مشاريع قطاع الري على طاولة العرباوي وزارة الدفاع.. إرهابي يُسلم نفسه إلى السلطات العسكرية ببرج باجي مختار قوجيل: فرنسا هي من تحتاج الجزائر أكثر وليس العكس تطورات الوضع في اليمن.. الجزائر تترأس اجتماعا لمجلس الأمن لضمان استقرار السوق في رمضان.. استيراد 28 ألف طن من اللحوم أول شركة ناشئة تقتحم السوق المالي.. ماذا يعني إطلاق تداول أسهم "مستشير" في بورصة الجزائر؟ سيكون من أحسن المطارات في إفريقيا.. فتح سوق حرة بمطار الجزائر الدولي قريباً