هل تعلم أن هناك 14 دولة إفريقية تدفع ضرائب لفرنسا مقابل ما يعتبره الفرنسيون الجهود والممارسات الإيجابية للاستعمار الفرنسي في القارة السمراء؟ كان يمكن للجزائر أن يكون لها المصير ذاته، لولا أنها تمكنت من طرد جيش الاحتلال بلغة الحديد والنار.
عندما بدأ المد التحرري في إفريقيا مستلهما من الثورة الجزائرية العظيمة، قرّر الفرنسيون ترك مستعمراته في إفريقيا وحشد قواته في الجزائر على أمل القضاء على الثورة، لكن مع إبقاء روابط قسرية تقيد حرية تلك المستعمرات، وتجعلها تابعة لباريس، على شكل “رابطة الكومنولث” البريطانية مع بعض الفوارق.
غير أن بعض الرموز الأفارقة، وفي مقدمتهم أحمد سيكوتوري، الرئيس الغيني، قرر في العام 1658 المطالبة بالاستقلال عن الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، ولمواجهة ذلك، لجأت “النخبة” الاستعمارية الفرنسية في غينيا والمقدرة بنحو ثلاثة آلاف شخص، إلى تدمير وحرق كل البني التحتية في البلاد (المدارس الجسور، البنوك، الجامعات، المزارع…)..
وبالمقابل نشطت حملة مركزة تمجد ما قامت به فرنسا كدولة جلبت الحضارة والرقي إلى هذا البلد!!!
الهدف من هذا العمل الوحشي، توجيه رسالة إلى كل المستعمرات الفرنسية الأخرى في إفريقيا، مفادها أن من يقرر السير على خطى غينيا، سيكون مصيره مثل مصيرها. ومع مرور الوقت بدأ الخوف يتسلل إلى قلوب السياسيين من احتمال تكرار حالة غينيا في بقية المستعمرات لو قررت السير على خطى أحمد سيكوتوري، الذي كان شعاره “نفضل الحرية في ظل الفقر على البذخ في ظل العبودية”.
ومن هنا بلور رئيس جمهورية التوغو، سيلفانو أولمبيانو، فكرة، مفادها جلاء الاستعمار الفرنسي ولكن مقابل تسديد دين سنوي لباريس، بعنوان رد الجميل على ما قدمه الاستعمار الفرنسي لبلاده، لتفادي شرّها !! وهو ما كان يبحث عنه الرئيس الفرنسي، حينها شارل ديغول، الذي اقتنع بأن الاستعمار لا مستقبل له، بسبب ما كان يقاسيه في الجزائر.
الشرط الذي حددته فرنسا مقابل التجاوب مع فكرة الرئيس التوغولي، تمثلت في حصولها على 40 بالمائة من ميزانية التوغو في سنة 1963، ولأن الوضع الاقتصادي لهذا البلد لم يكن مستقرا، فقد قرر رئيسه سحب العملة التي كانت سائدة في بلاده ممثلة في العملة الاستعمارية الفرنسية (الفرنك الإفريقي FCFA)، وصكّ عملة جديدة خاصة ببلاده، ومع ذلك لم تشفع له فرنسا وقررت تصفيته عبر أحد عناصر اللفيف الأجنبي التابع لها يدعى إينيان غناسينغبي، ثلاثة أيام فقط بعد صك العملة الجديدة، مقابل 612 دولار.
محاولة أخرى لسحب العملة الاستعمارية الفرنسية ( FCFA)، قام بها أول رئيس لدولة مالي موديبو كايتا في 30 جوان 1962، غير أن مصيره لم يكن أفضل من نظيره التوغولي، حيث تمت الإطاحة به في 19 نوفمبر 1968 من قبل ملازم أول يدعى موسى تراوري من اللفيف الأجنبي الفرنسي أيضا.
وتواصلت بعدها الانقلابات العسكرية في المستعمرات الفرنسية السابقة، ليطيح عنصر آخر من اللفيف الأجنبي الفرنسي، يدعى جون بيدال بوكاسا، بأول رئيس لجمهورية إفريقيا الوسطى، في 1 جانفي 1966، ثم الإطاحة بموريس يامييغو، أول رئيس لجمهورية فولتا العليا (بوركينافسو حاليا)، من قبل أحد عناصر اللفيف الأجنبي، أبو بكر سانغولي الذي حارب في الجزائر إلى جانب جيش الاحتلال، في 3 جانفي 1966، وهو المشهد الذي تكرر أيضا في دولة بنين في 26 أكتوبر 1972.
وبعد نجاح استراتيجية الرعب، انتقلت باريس إلى إلزام 14 دولة إفريقية بموجب العقد الاستعماري، بإيداع 85 بالمائة من ودائعها الخارجية في البنك المركزي الفرنسي، فيما لا تزال تلك الدول تدفع ديونا لفرنسا بعنوان إيجابيات الاستعمار، يقدرها الخبراء بنحو 500 مليار دولار سنويا.
وتضم الدول الضحية، كل من الكاميرون والسنغال وتوغو وبنين ومالي وبوركينافاسو، والنيجر وتشاد وغينيا بيساو وغينيا الاستوائية وكوت ديفوار والغابون وجمهورية افريقيا الوسطى والكونغو برازافيل
بهذه الأساليب والممارسات فرضت باريس على مستعمراتها وضعا أقل ما يقال عنه أنه استعمار من نوع جديد، وهو مشروع سياسي قديم عبر عنه الرئيس السابق، فرانسوا ميتران، عندما قال إن “فرنسا من دون إفريقيا سوف لن يكون لها تاريخ في القرن العشرين”، حاله حال خلفه جاك شيراك، الذي قال بدوره في 2008، إن فرنسا من دون إفريقيا ستخسر موقعها كقوة عالمية ثالثة.