لا تزال الجرائم الاستعمارية الفرنسية في الجزائر تتكشف يومًا بعد يوم، وهذه المرة عبر تحقيقات تاريخية ووثائق رسمية تثبت تورط الجيش الفرنسي في استخدام أسلحة كيميائية محظورة خلال حرب التحرير، وذلك في 450 عملية عسكرية موثقة بين عامي 1957 و1959. الباحث الفرنسي كريستوف لافاي، المتخصص في التاريخ العسكري، أكد أن هذه العمليات تركزت بشكل خاص في جبال الأوراس والقبائل، التي لجأ إليها المجاهدون والسكان المدنيون بحثًا عن مأوى من القصف العنيف.
وتشير الوثائق إلى أن هذه العمليات لم تكن قرارات عشوائية من قادة ميدانيين، بل تمت بتخطيط وإشراف مباشر من القيادة العسكرية والسياسية الفرنسية. فقد وقع وزير القوات المسلحة موريس بورجيس مونوري شخصيًا على أوامر استخدام الغازات السامة، بينما لعب الجنرال شارل إيوري، أحد العقول المدبرة في تطوير الأسلحة الكيماوية الفرنسية، دورًا محوريًا في تعزيز استخدامها ضد الجزائريين.
سلاح محرم دوليًا.. وفرنسا أول من وقع على منعه!
المفارقة الكبرى أن فرنسا كانت من أوائل الدول التي وقّعت على بروتوكول جنيف لعام 1925، الذي يحظر استخدام الأسلحة الكيميائية، وهو نفس السلاح الذي استعملته ضد الجزائريين في حرب التحرير. الوثائق التي كشف عنها لافاي تؤكد أن فرنسا أعادت استخدام مخزونها من الغازات السامة من الحرب العالمية الأولى، وخاصة غاز CN2D، الذي يتكون من الكلوروأسيتوفينون (CN) والأدامسيت (DM)، وكلاهما يسبب الاختناق الحاد والتسمم الدموي.
الهدف الرئيسي من هذا الاستخدام لم يكن فقط قتل المجاهدين، بل أيضًا إبادة المدنيين ومعاقبة الحاضنة الشعبية للثورة. فوفقًا للوثائق العسكرية، كان الجيش الفرنسي يسعى إلى إخلاء الكهوف والملاجئ عبر قصفها بغازات قاتلة، مما يجعلها غير صالحة للسكن، في محاولة لكسر عزيمة المقاومة.
فيلم وثائقي سويسري يكشف المستور
جاء الفيلم الوثائقي “الجزائر.. وحدات الأسلحة الخاصة”، الذي عرضته هيئة التلفزيون السويسري في 9 مارس، ليكشف تفاصيل هذه الجرائم بأسلوب موثق ودقيق. الفيلم، من إخراج كلير بييه وإنتاج لوك مارتان-غوسيه، يعتمد على شهادات ناجين جزائريين وجنود فرنسيين سابقين، بالإضافة إلى الأرشيف العسكري، ليؤكد أن عدد العمليات الكيميائية قد يتجاوز 8000 عملية، رغم أن المؤرخ كريستوف لافاي تمكن حتى الآن من توثيق 440 منها فقط.
ومن أبرز الشهادات التي قدمها الفيلم، ما حدث في مجزرة غار بن شطوح بالأوراس يوم 22 مارس 1959، حيث لجأ 150 جزائريًا إلى كهف هربًا من القصف الفرنسي، ليتم إطلاق الغازات السامة داخله، ما أدى إلى إبادة جماعية مروعة، لم ينجُ منها إلا عدد قليل. هذه الجريمة وغيرها، توثق كيف استخدمت فرنسا الحرب الكيميائية كأداة للإبادة الجماعية، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية.
ميشال أباتي.. إعلامي فرنسي يكسر الصمت الرسمي
لم يقتصر كشف هذه الجرائم على المؤرخين فقط، بل امتد إلى الصحافة الفرنسية المستقلة. الإعلامي الفرنسي الشهير ميشال أباتي، أحد الأصوات القليلة التي تجرأت على الحديث عن الوجه الإجرامي للاستعمار الفرنسي، تناول في عدة مناسبات ملف الأسلحة الكيميائية في الجزائر، مشيرًا إلى أن فرنسا لا تزال تتعامل مع تاريخها الاستعماري بسياسة الإنكار والتعتيم.
أباتي، المعروف بجرأته في مناقشة القضايا الحساسة، اعتبر أن ملف الجرائم الاستعمارية الفرنسية يجب أن يفتح بشكل كامل، وأن الاعتراف بما حدث في الجزائر ليس مجرد مسألة تاريخية، بل مسؤولية سياسية وأخلاقية يجب على فرنسا تحملها.
هل ستعترف فرنسا بجرائمها أم ستواصل سياسة الإنكار؟
على الرغم من تراكم الأدلة، لا تزال الحكومة الفرنسية تماطل في فتح الأرشيف العسكري بالكامل، متذرعة بحجج دبلوماسية وأمنية واهية، في محاولة لطمس هذا الفصل الأسود من تاريخها. ومع ذلك، فإن تزايد الضغوط الأكاديمية والإعلامية، إلى جانب المطالب الجزائرية المستمرة بالكشف عن الحقيقة، قد يجعل فرنسا عاجزة عن مواصلة سياسة الإنكار إلى الأبد.
لكن يبقى السؤال: هل ستواجه فرنسا ماضيها الاستعماري بشجاعة وتقر بجرائمها ضد الإنسانية، أم أنها ستظل تحاول إخفاء الحقيقة والتهرب من المحاسبة؟