في ظل استمرار العدوان الصهيوني على فلسطين وغزة بالذات، والذي يعكس فشل كامل للإنسانية في الالتزام بأبسط القيم والأخلاق، حيث في ذلك القطاع الفلسطيني الذي تحيطه حرب الإبادة من كل مكان، يتجلى موت الضمائر وانهيار القيم وانحطاط الأخلاق.
لم يقتصر الدعم الأمريكي على تأييد الكيان الصهيوني ومساندته في جرائمه فحسب، بل تخطى ذلك إلى تهديداته العسكرية واستعراض قوته الحربية، محذراً أي طرف يفكر في التدخل لإنصاف الفلسطينيين أو تقديم الدعم لهم، في محاولة لتخفيف معاناتهم التي لا يوجد لها مثيل في قسوتها وبشاعتها.
الغريب في القضية هو أن الصين وروسيا، وهما القوتان العظميان والخصمان الرئيسيان للغرب بشكل عام، وللولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، اكتفتا بالتنديد والشجب فقط، دون أن تتجاوزا ذلك إلى دعم فعّال للحق ووقوف حقيقي إلى جانب الطرف الأضعف. وهذا يتناقض مع تاريخ بلديهما المعروف بمواقفه القوية والشريفة التي أعادت الأمور إلى نصابها في العديد من المحطات السياسية الحرجة والمواجهات العسكرية الوشيكة.
بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي شنه تحالف بين بريطانيا، التي كانت تسعى للانتقام بسبب تأميم قناة السويس، وفرنسا، التي كانت غاضبة من دعم مصر للثوار الجزائريين، والكيان الصهيوني، الذي كان غاضباً من رفض مصر لاحتلال فلسطين، برز نيكيتا خروتشوف، الرئيس السابق للاتحاد السوفياتي، بموقف حازم وقوي. فرغم تركيزه على معالجة الأزمة المجرية، المعروفة بـ”الثورة المجرية”، وهو ما يعكس الوضع الحالي في أوكرانيا، إلا أن خروتشوف لم يتوانَ عن دعم مصر بشكل غير مشروط. ولم يقتصر على الشجب والتنديد، بل تقدم مباشرة إلى التهديد العسكري.
فعلى لسان الوزير الأول السوفياتي “نيقولاي بولغانين” أعلنت موسكو أنها جاهزة لإرسال قوات عسكرية إلى مصر لمواجهة العدوان الثلاثي، في حال لم توقف الدول المعتدية اعتداءها خلال ثمان وأربعين ساعة. كما هددت موسكو بقصف لندن بالصواريخ واستخدام الأسلحة النووية إذا لزم الأمر لإجبار المعتدين على الانسحاب الفوري من الأراضي المصرية. وفي مواجهة هذه التهديدات القوية، لم يكن أمام تحالف العدوان سوى الاستسلام المذل والانسحاب بأقل الأضرار الممكنة.
وفي عام 1960، خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أقدم الرئيس الفلبيني، بناءً على توجيه من الولايات المتحدة الأمريكية، على توجيه انتقادات لاذعة للاتحاد السوفياتي، مُتهماً إياه بالاستعمارية في سياسته تجاه دول أوروبا الشرقية. ولم يجد الرئيس “نيكيتا خروتشوف” بُدّاً من نزع حذائه وضرب طاولة الخطاب أمام زعماء العالم، احتجاجاً على تدخل الفلبين في مسألة لا تعنيها.
الآن والتاريخ يعيد نفسه، كان يمكن لروسيا استغلال فرصة حرب غزة لتخفيف الضغط الذي فرضته الولايات المتحدة عليها. فمع تأجيج الولايات المتحدة النزاع في أوكرانيا على أبواب موسكو، وشن حرب شاملة ضد الروس على مختلف الأصعدة: الاقتصادية، الإعلامية، التكنولوجية، الدبلوماسية، والرياضية، بالتعاون مع حلفائها الأوروبيين مثل ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، بولندا، الدول الاسكندنافية، وكذلك اليابان وأستراليا، كانت روسيا في مواجهة تصعيد غير مسبوق. ومع تصاعد الحرب إلى مرحلة أكثر خطورة، حيث تستهدف القوات الأوكرانية عمق الأراضي الروسية، يظهر التحدي الكبير للترسانة العسكرية الروسية. في المقابل، لا يزال النظام الروسي يكتفي بالشجب والتنديد، مع بعض التحذيرات والتهديدات.
من جانبها، لا تزال الصين تتبنى مواقف باهتة تجاه القضية الفلسطينية والحرب الإبادية التي تستمر في غزة منذ نحو عام. تركز الصين جهودها على المواجهة الاقتصادية ومعارك الكسب والاستثمار، متجاهلة بشاعة الجرائم والانتهاكات التي تُرتكب في القطاع. فالعنف مستمر ضد المدنيين الفلسطينيين، حيث كشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة عن ارتكاب الاحتلال الصهيوني لعشرين نوعاً من الجرائم التي يحظرها القانون الدولي، تتراوح بين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى انتهاكات للقانون والأعراف الإنسانية والطبيعة. أبرز هذه الجرائم تشمل القتل الوحشي، التدمير الشامل، الحرق، التنكيل، وقصف المنازل على رؤوس ساكنيها.
رغم فظاعة الأهوال التي يشهدها الوضع في غزة، والتي تشمل قتل أكثر من ثلاثين ألف شخص، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، إضافة إلى آلاف الأسرى المحتجزين في ظروف قاسية وغير إنسانية، ودمار شامل، وتعرض أكثر من مليوني مواطن أعزل للعيش في العراء تحت قسوة الطبيعة ونقص المؤونة والطعام، فإن القوتين العظميين لم تتحركا بالقدر الكافي لوضع حد لهذه الانتهاكات المتزايدة. يواجه الفلسطينيون حصاراً قاتلاً يهددهم بالموت جوعاً، ويجبرون على النزوح القسري والتهجير من مناطقهم، بينما يُستخدم مئات الأسرى كدروع بشرية خلال العمليات العسكرية. وعلى الرغم من كونهما عضوتين دائمتين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن رد فعلهما لا يعكس الجسامة والمستوى المطلوب للتصدي لهذه الكوارث الإنسانية.
يستمر كل هذا رغم التحذيرات الدولية والأممية المتكررة، حيث تواصل العصابات الصهيونية استخدام أسلحة محظورة دوليًا، مما أدى إلى مسح أحياء كاملة من الوجود. دُمّرت أكثر من خمسمائة مسجد وكنيسة، وأُغلقت أكثر من ثلاثين مستشفى، وتعرضت أكثر من ثلاثمائة مؤسسة تعليمية وجامعية للتدمير. كذلك، دُمّرت ثلاثمائة وستون ألف وحدة سكنية، وتهدّم مائتا موقع ثقافي وأثري، إلى جانب عشرات المراكز الحيوية. ومعظم هذه الأسلحة أمريكية الصنع، مما حول غزة إلى مكان غير صالح للعيش.
العدوان الغاشم هذا كشف أيضًا عن الانحدار الأخلاقي الذي يعاني منه جيش الكيان الصهيوني، الذي يعكس صورةً لمنظومة فكرية وسياسية فاقدة للشرف ومعدومة الأخلاق. تجلى ذلك في عمليات نهب الممتلكات العامة والخاصة، حيث قامت قوات الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة بسرقة أكثر من ثلاثمائة مليون شيكل، أي ما يعادل ثمانين مليون دولار أمريكي. تم الاستيلاء على أموال منقولة، وذهب، وفضة، ومجوهرات ثمينة، وأحجار كريمة، وذلك أثناء فرار المواطنين وهروبهم من الموت، أو خلال اعتقالهم، ومن خزائن المؤسسات العامة والمالية الفلسطينية.
تعد هذه الجرائم البشعة والإرهابية التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين العزل منذ بدء العدوان على قطاع غزة دليلاً قاطعاً على وجوب إحالة سلطات الكيان المحتل إلى المحاكم الدولية. كما تستدعي هذه الانتهاكات قطع جميع العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية بين الصين وروسيا وهذا النظام السادي الذي أساء إلى أصدقائه وداعميه قبل أعدائه ومناوئيه. وإذا لم تقم القوتان العظميان بذلك، فعليهما الانسحاب من مجلس الأمن، وترك مقعديهما لمن هم أجدر بهما، مثل الجزائر، وجنوب أفريقيا، والبرازيل، على سبيل المثال لا الحصر، والذين يظهرون شجاعة في التعبير وصراحة في الخطاب ووضوحاً في الرؤية واتزاناً في الطرح.