غزة والهنود الحمر ولعنة الأفارقة السُود.. أمريكا في مواجهة “عارها” التاريخي القديم!

قبل ثمانية أشهر من تاريخ اليوم، حيث الاحتجاجات والصدامات والاعتقالات و”الهراوات” والعصي البوليسية، أضحت هي الصورة الغالبة في ساحة الجامعات وشوارع كبريات المدن الأمريكية، ما كان لأحد أن يتصوّر أنّ أمريكا بجلالة قوّتها وسيطرتها وحسابات أجهزتها الدقيقة، ستهوى للدرجة التي يخرج فيها سيناتور “أسود” منها، ليواجه، مجتمع البيض من طينة جو بايدن وجورج بوش ودونالد ترامب، بحقيقة العم سام وما خلفه من تاريخ قهر وعنصرية أسود، لا زالت جراحه، كما لا زالت سياطه تلفح وتدمي أظهر ذوات البشرة السوداء، رغم كل مزاعم المساواة والحرية والديمقراطية..

عضو الكونغرس الأمريكي “الأسود” جمال بومان، وفي صفعة لتاريخ أمريكا الأسود مع بني جنسه من “زنوج” وعبيد الزمن الأمريكي السابق، وقف مرافعا لصالح انتفاضة الجامعات الأمريكية ومندّدا بسياسة القمع والعصي والهراوات البوليسية ضد الطلبة المحتجين على إدارة “بايدن” وتعاملها مع مذابح غزة، لكن النقطة الفارقة في ثورة السيناتور الأسود، هو إشهاره للون بشرته السوداء في وجه “أمريكا الرجل الأبيض”، وذلك حين اعترف قائلا: “لقد وُجّهت الأسلحة لي من قبل، عدة مرات ببساطة لكوني رجلا أسودا في أمريكا، والآن أرى الأسلحة تُسحب تجاه المتظاهرين السلميين في جامعة كولومبيا لمجرد ممارستهم حقوقهم في التظاهر ضد العقاب الجماعي وقتل المدنيين في غــزة”.

والرسالة الفاضحة قبل الواضحة من تصريح السيناتور، أنّ العصي التي أدمت أظهر الطلبة، ليست إلا صورة من تاريخ أسود هي أمريكا “الزنوج” والقهر والسياط، والتي مهما لبست من أقنعة مساواة وحرية ودمقرطة، فإنّ رجلها الأبيض، لا زال يحمل في جيناته، سياط الجلد، التي لن يتردّد في استعمالها كلما دعته حساباته إلى استعادتها من مقتنيات أجداده وموروثهم التاريخي الأسود، ولا يهم في النهاية، إن كان الظهر طفلا جائعا من غزة أو صبيا أسودا بتاريخ فلوريدا أو تكساس..

تذكر سجّلات وصفحات التاريخ – تاريخ التماسيح الأمريكية – أنّ العم سام وفي أزمنة سياطه وصيده التليدة، حيث التأسيس لأمريكا، كان مذابح العار الأسود الممارس ضد السكان الأصليين  من هنود حمر، وضد الأفارقة من “زنوج” تم اختطافهم من قارتهم السمراء ليكونوا عبيدا وخدما للرجل الأبيض، يَذْكُر ذلك التاريخ، أنه في الفترة الممتدة بين عام 1870 وحتى عام 1919، كان صيادو التماسيح في أمريكا، يستخدمون الأطفال الأفارقة في المستنقعات كطعم لاصطياد التماسيح، حيث كانوا يختطفون الرضع من أمهاتهم المستعبدات، ليتم رميهم في البحيرات و”البرك” بعد شدّهم بحبال طويلة، وذلك كطعم للتماسيح، التي وإن تسمع صراخ الضحية حتى تسرع إليه ملتهمة، فيتم اصطيادها برمح أو عتلة، بغية استعمال جلودها في صناعة الأحذية والحقائب.

وقد شاعت تلك الظاهرة الوحشية بالذات بمستنقعات فلوريدا وبحيرات تكساس، وكانت جريدة “التايمز” الأمريكية، أول من أماط عليها اللثام على ذلك التاريخ والبشاعة والجنون الأسود سنة 1923، ليصدر إثرها، قرار عن الكونغرس الأمريكي بتجريم الظاهرة سنة 1924، والنتيجة، أنه لا فرق في عرف “العم سام” بين ما كان من تاريخ تماسيحه مع الأفارقة السود في العهد الغابر، وبين حاضر أحفاده اليوم، من طينة جو بايدن وبوش وترامب، حيث الصيد اليوم، ليس بحيرة ومستنقع تاريخين، ولكنه غزة المحرقة، أما تماسيح أمريكا القديمة، فإنها الآن “كيان” صهيوني، بدلا من أن يرمي الرضع في بحيرات فلوريدا القديمة لتصنع أمريكا من على أظهرهم حقائب وأحذية جلدية، فإنه يقصفهم من فوق رؤوسهم بغزة، ليحفر من على إبادتهم مصالح وآبارا نفطية، والحكاية كما التاريخ والتماسيح نفسها، وما كان يوما أطفال رضع سود في فلوريدا وتكساس، هو اليوم، أطفال رُضع محاصرين بساح وتحت سماء غزة..

التاريخ يسمى تاريخا، ولا شيء يأتي من فراغ، لذلك فلا غرابة، أن تنتهي أمريكا اليوم برجلها و”بيتها” الأبيض، لنفس محطة التأسيس البشعة، وتتمخّض “صهيونتها” على صرخة سيناتور أسود من داخل مراكز صناعة قراراها، ليذكرها، أنه و”عِرْقَه” الأسود، لم ينسوا لعبة التماسيح القديمة، وأنّ “غزة” بمذابح أطفالها، ليست إلا مستنقعا آخر من أنياب تماسيح أمريكية بوجه وملامح أخرى، بطلها كما ركح سياطها رجل أبيض، لن يتردّد، خدمة لمصلحته الاقتصادية، من أن يستخرج من جثث الرضع بغزة وبغداد وليبيا ودمشق واليمن نفطا وغازا، كما لم يتردّد في تاريخ آفل في تقديمهم قرابين لصناعة الحقائب والأحذية في رحلة صيده للتماسيح.

والمهم، في كل ما سبق، من ماض بشع وحاضر متأزم، أنّ “غزة” وبكل المآسي التي طالت “صمود” أطفالها ونسائها وشيوخها، وضعت أمريكا أمام وجهها الحقيقي وتاريخها البائس، لتحرّر الوعي الجمعي من قيده؛ فمن الجامعات إلى “الكونغرس” الأمريكي، إلى شوارع نيويورك وواشنطن وفلوريدا وتكساس، فإنّ لسان الحال واحد: “أوقفوا لعبة التماسيح”، فقد جرفت “إسرائيل” أمريكا إلى مستنقع أصبح يهدّد النسيج الاجتماعي داخل أمريكا ذاتها، والنتيجة أنّ الجرائم التي طالت غزة، أحيت ذاكرة الهنود الحمر والزنوج القدامى، ليتقدّم أحفادهم الاحتجاجات والاعتصامات وثورة الطلاب، مذكّرين “العم سام” بما سبق، ولم ينس من جرائمه ووحشيته التاريخية..

حين تجتاح الشوارع الأمريكية المنتفضة على سياسة البيت الأبيض الخارجية، رقصة تاريخية مرتبطة بتاريخ الهنود الحمر وذلك في مناصرة لغزة، وحين تتحوّل الشوارع الأمريكية إلى منصة مسرح كبيرة ولوحة فنية عميقة، جمعت بين سواد الأفارقة وبين “اللباس” التقليدي للهنود الأحمر، نفهم كما يفهم العالم وكذا “الرجل” الأبيض في بيته الأبيض الحاكم، أنّ ما حدث في غزة، أخرج كل التراكمات الأمريكية القديمة، من صراع “هوية” ومعركة أرض وجرائم تاريخ منسية، كما أنّ القضية اليوم، لم تعد فقط، في سؤال: من يتحكم في أمريكا؟ ولكنها، في من فعل هذا بأمريكا؟ ومن هُم، أهل أمريكا الحقيقيين؟ وهل فعلا أمريكا تغيّرت أم أنّ صيادي التماسيح غيّروا فقط شكل حبالهم وطريقة صيدهم وجنسية وعِرق الطُعم الملقى في قاع المستنقعات؟

أمريكا ما قبل غزة، ليست أمريكا ما بعد مرحلة غزة، والتصدع الذي حدث داخل منظومتها الإنسانية جَبّ كما أحرق كل ما قبله من أقنعة زيف وتعايش مصطنع داخل النسيج الأمريكي ذاته، فكما أصحاب البشرة السوداء، ذكّرتهم الهراوات البوليسية بتاريخ الزنوج والعبودية التي غيّرت شكلها ولم تغيّر طبيعة استعبادها ولا لفحها للأظهر، فإنّ السكان الأصليين من هنود حمر، عادوا إلى شوارع أمريكا بحثا عن تاريخ داسته حوافر “الكاوبوي”، ليصطفوا مع غزة كأرض محتلة ومع أمريكا كتاريخ مبتور منهم وكوجود أحيت تراكماته أحداث طوفان الأقصى وما اقترفته أيادي الإجرام الصهيوني من وحشية وإبادة وقتل..

نتنياهو ومن خلال مغامرة “السيف الحديدي”، لم يجن فقط على مستقبله السياسي وعلى خرافة  الهيكل المقدّس وعلى وهم حلمه التلمودي في “إمبراطورية” من النهر إلى البحر، ولكنه جنى على أمريكا من الداخل، بعد أن تخلّصت النخبة الأمريكية من جامعيين ومثقفين وحتى ساسة من عقدة الخوف، ليس فقط من تلك التهمة الجاهزة المسماة معاداة السامية، والتي كانت بمثابة الخنجر المسلّط على رقاب كل من يقترب من بيت العنكبوت الصهيوني، ولكن من عقيدة “المصلحة” التي جُبِل عليها المجتمع الأمريكي حتى على حساب المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية، حيث يكفي أن نرى موقف نائبة عميد جامعة إنديانا الأمريكية “إليزابيث دن”، وهي تنزل باكية إلى ساحة المظاهرات، معلنة انضمامها إلى الداعمين لفلسطين ومصرحة: “هناك احتمال كبير أن يتم فصلي اليوم.. لكني لا أستطيع الجلوس ومشاهدة ما يجري دون تحرك!”.

يكفي أن نرى ذلك ونعلم تلك المقايضة الأخلاقية لمكاسب يضمنها الجلوس وموقف يلغي كل مكسب ومنصب، حتى نعرف “الشرخ” الذي حدث داخل الذات الأمريكية، بعد أن تغلّبت ضفة الأخلاق على رغبة المصلحة، ليصبح الموقف الإنساني والأخلاقي، أكبر من أي مكتسب وظيفي، وهو ذات الحال، مع مواقف مشابهة تمثلت في استقالات بالجملة من مناصب عليا من وزارة الخارجية الأمريكية ومن مؤسسات سيادية بالبيت الأبيض، وذلك من طرف موظفين ساميين، رفضوا أن يكون ظلا لكيان نتنياهو على حساب “القيم” والمثل والمواقف الإنسانية..

مجمل القول ومنتهاه، التحوّل في أمريكا حقيقي، ومخاوف إدارة البيت الأبيض من تداعيات ومضاعفات ما يجري من مخاض شعبي بالعواصم الأمريكية الكبرى نتاج ثورة الوعي العام،  تلك المخاوف لم تعد مجرد قراءات سياسية، ولكنها ناقوس خطر دقّته الأجهزة الأمنية ومراكز الدراسات الأمريكية في تحذير لإدارة البيت الأبيض من مغبة سياسة الهروب إلى الأمام وما قد ينتج عن ذلك من ارتدادات غير محسوبة، لذلك، فإنّ قرار إدارة جو بايدن بإرجاء تسليم شحنة أسلحة جديدة أقرّها الكونغرس لـ”إسرائيل”، كان سابقة في سياسة “بايدن” وخطوة إلى الوراء من إدارة البيت الأبيض تجاه سياسة الصك على بياض الأمريكية التي انتهجت من تاريخ السابع من أكتوبر الماضي، وهو ما أعلنته هيئة البث العسكرية الإسرائيلية، في شكل “صدمة” لم يتوقعها قادة الكيان الصهيوني، ساسة وعسكرا، على رأسهم نتنياهو، الذي خسر معركة غزة كما خسر معركة أمريكا، لينتهي به المطاف، كخاتمة قول هنا، لخسارة نفسه بعد أن انتهى وخيارات “دويلته” الهجينة، إلى مزبلة التاريخ، كما كتب ذلك الصحفي الإسرائيلي بن كاسبيت في وصفه لحالة “بيبي” وشعره المستعار، حيث قال: “لو كان نتنياهو في بلد صحي ومفعم بالحيوية، لأُخرج من مكتب رئاسة الوزراء، بشعره المستعار منذ زمن طويل، ولرمي به في مزبـلة التاريخ”، وفعلا، إنها مزبلة التاريخ من رمت بتراكماتها في وجه أمريكا ونتنياهو، وهجينا كان أعرابا أو صهيونا.

أسامة وحيد - الجزائر

أسامة وحيد - الجزائر

اقرأ أيضا