بعدَ اغتيال الكاتب والرِّوائي والإعلامي الفلسطيني “غسَّان كنفاني”، عام 1972، قالت شمطاءُ الكيان الصهيوني “غولدا مائير”: “اليوم تخلَّصنا من لِواءٍ فِكرِيٍّ مُسلَّحٍ، فغَسَّان بقلمِه كان يُشكِّل خطرًا على (إسرائيل)، أكثر مِمَّا يُشكِّله ألف فدائي مُسلَّح”. إنَّ اغتيال المُبدعين الفلسطينيّين في مجالات الفكر والأدب والفنون، عقيدةٌ دمَويَّةٌ صهيونيَّة مارسَها الكيان الصُّهيوني، منذ الثُّلث الأوَّل من القرن الماضي، داخل فلسطين المُحتلَّة وفي كلِّ مكان عبر العالم، وما زال يُمارسها دون رادِعٍ..
واغتيالُ الشَّاعر البروفيسور الدكتور “رفعت العرعير” عضو الهيئة التَّدرِيسيَّة في الجامعة الإسلامية في غزَّة، من جرائم الكيان لإخماد أقوى الأصوات الفلسطينيَّةِ “التي كانت تعمل على إعادة السَّردِيَّة الفلسطينية وروايتها باللغة الإنجليزية إلى العالم الغربي”. وهو أيْضًا رائِدُ مشروع “نحن لسنا أرْقامًا” الذي صار له منصَّةٌ رقميَّةٌ جاء فيها حول المشروع: “عندما يتحدَّث العالم عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من المضطهدين الذين يعيشون في مُخيَّمات اللاجئين، عادة ما يكون ذلك في إطار لغةٍ جامدةٍ من السياسة والأرقام (أعداد القتلى، أعداد الجرحى، أعداد المُشرَّدين، أعداد المحتاجين..) لكن الأرقام في الواقع لا تحكي حياةَ الأشخاص، بل غالبًا ما تُجرِّدهم من إنسانيتهم، فلا تنْقل ما في حياة الأشخاص من صراعات شخصية يومِيَّةٍ، وانتصارات، ودموع، وضحكات، وطموحات تُحاصرها لغةُ الأرقام”.
“نحن لسنا أرْقامًا” مشروعٌ يحفِّزُ الكُتَّاب الفلسطينيين، النَّاشئة على الخصوص، على “توثيق” قصصهم التي سمِعُوها من أهاليهم وتلك التي عاشوها في حياتهم، وترجمتها إلى اللغة الإنجليزيَّة، والتَّواصل مع كُتّابٍ وإعلاميين من الغرب للإشراف على نشرها وذُيُوعها.. من أجل تحرير الصَّوت الفلسطيني وكسْر طوْق الحصار المضروب عليه، ومُخاطبة الرأي العالمي بلغاته..
من المُجدي الكتابةُ باللغة العربية والتَّوجُّه إلى القارئ العربي، فذلك يُسهِم في ترسيخ وحدة الشُّعور ويُبقي التَّواصل بين الشعوب العربيَّة، كما يُبقي فلسطين قوامًا للوحدة بين هذه الشُّعوب.. غير أنَّ الكتابة باللغات الأجنبيَّة، لا سيما الإنجليزيَّة، يكون له تأثيرٌ أكبر في إيصال الصوَّت الفلسطيني إلى المُجتمعات الغربيَّة والتَّأثير في الرأي العام العالمي، خاصة لمَّا تكون تلك الكتابة إبداعيَّةً وترتكز على قصص الحياة اليوميَّة للفلسطينيّين بكل ما فيها من آلامٍ وأوجاعٍ ومآسِيَ غالبًا ما لا يتناولها الإعلام بتفاصيلها كاملةً.
ما إنْ شرعنا في إعداد هذه الأوراق حول استشهاد الدكتور “رفعت العرعير”، حتى تناهى إلينا استشهادُ شخصياتٍ أخرى في مجال الإعلام والكتابة الإبداعية، تحت نيران القصف الصهيوني للبيوت والمباني.. ومثلما أشارتْ مصادرٌ كثيرةٌ إلى أنَّ “العرعير” كان مُستهدفًا من قبْل، فإنَّ ارتقاء غيره من المُبدعين شهداءً يدخل ضِمْن الاغتيال المُمنهج للعقل الفلسطيني.. وقد وجدْنا أنَّه من المُجدي تقديمُ قصَّة الفنانة التَّشكيلية “زينب شكري القولق” التي كانت من طالِبات “رفعت العرعير”، وفقدتْ 22 فردًا من عائلتها في قصْفٍ صهيونيِّ عام 2021..
سؤالٌ شغَل بالَ الدكتور “رفعت العرعير”، منذ طرحتْه عليه ابنته “شيماء” عندما كان عمرها خمْسُ سنواتٍ ولعلَّها الآن قريبةٌ من ربيعها العشرين. قال السؤال: من خَلَق اليهود؟ اليهود الصهاينة الذين يحتلُّون أرضَ فلسطين، ويُقتِّلون في أهلها، ويُعذِّبون ويُجوِّعون ويقصفون ويُدمِّرون.. ولعلَّ “شيماء” لم تستوعب أنَّ الله الرحمان الرَّحيم العادل الذي خلَق الفلسطينيّين الطيِّبين المُحِبّين للخير والسَّلام، خلَقَ أيْضًا اليهودَ الصهاينة أصحاب العقيدة الدَّموِيَّة والتَّدميريَّة.. غير أنَّ “العرعير” استشهد قبْل أنْ يُقدِّم إلى ابنته جوابًا عن سؤالِها، رُبَّما الجوابُ سيكون في قصَّةٍ تكتبُها، يومًا ما، “شيماء” أو تلاميذ وطلَبة الدكتور “العرعير”..

أنْيابُ الإعْلامِ الغَربيِّ تنْهشُ غزَّةَ..
في هذه الفوضى الإعلامية وكثرة وسائل الإعلام، وجميعُنا يعرف أنَّ وسائل الإعلام اليوم هي سلطة أقوى من كل السُّلطات الحاكمة، ولها الدور الرئيسي في تشكيل الرأي والرُّؤية، وتملك أساليب الخداع والتَّمْوِيه، وتعرف كيف تستقطب الجماهير، حتى أصبحتْ هناك مدارس إعلامية تُدرِّس أساليب الخداع الإعلامي وكيفيَّة التأثير على الجماهير.
بالنسبة إلى المثقف العربي الذي يواجه حواجز إعلامية غربيَّة أغلبُها مُضَلِّلة ومُخادِعة وكاذبة، وتتصرَّف دائمًا حسب مصالحها التي تكون إمَّا شخصية أو حكومِيَّة، لذلك تنحاز إلى طرف ضد الآخر. وفي الحرب على غزَّة، برزتْ أنْيابُ وسائل الإعلام، وظهرتْ كمْ هي حادَّةٌ في التَّمييز وعدَمِ التَّفرقة بين الجلاَّد والضَّحِيَّة، بين الطَّاعن والمَطعون.
أجِدُ أنَّ مُخاطبَة الغرْب بلغته، أو استعمال اللغة الإنكليزية في شبكات التَّواصل الاجتماعي هو اللَّعب في ملاعب الغرب بقوة، ومعرفة لغتهم والتكلُّم والكتابة عبْرها يمنحُ القضيةَ السياسيَّة القوة والإقناع، لأن التَّلعثم والتَّأتأة وترجمة الكلمات تُضعِف جُسور الإقناع، ثم التَّكلم بلغتهم يفضح سلوكَهم، فالحُجَّة بالحجة والرأي بالرأي عبْر اللغة ذاتها يجعل الأجنبيَّ والمثقف العربي يقِفان على درجةٍ واحدةٍ في الصِّراع، وإنْ كان موقفُ الإنسان الغربي قد يكون أقوى.. ومَنْ عرف لغةَ قوْمٍ أمن شرَّهم.. هذا ما تعلَّمناه في الصغر.
وأمَّا بالنسبة إلى استهداف الباحثين والأكاديميين.. فعندما اغْتِيل الكاتبُ الفلسطيني “غسان كنفاني” عام 1972 كان أمامنا خريطة واضحة أنَّ أسْهل طريقةٍ للقضاء على شعب، هي اغتيالُ وقتلُ رموزِه الأدبيَّة والفنيَّة والسياسيَّة، قد نقول بأنَّ الاغتيالَ السياسي عُرِف منذ زمن طويل والتاريخ يشهد على العشرات من القادة الذين تمَّ اغتيالهم، لكن اغتيالَ رجال الثقافة والعلم والأدب والفن، فهذا أمرٌ “جديد”، وقد فازتْ به المخابرات “الإسرائيلية” التي تريد تعطيل العقل الفلسطيني وتقطيع أصابعه، لأنَّ الشعوب لا تملك فقط المساحة السياسية بل هناك العقول الأدبية والأكاديمية والفنية التي تُعتبَر أساس النَّهضة والإبداع والاستمرارية والنجاح، فهي العناوين المُهمَّة لنهضة الشعوب .
قال المسيح “ليس بالخبز يحيا الإنسان “، والدول لا تحيا فقط بقوَّتِها، بل بمدى تفاعلها مع المشاعر والأحاسيس الشعبية وارتباطها بالجماهير، ففي الأنظمة السياسية هناك أعمدةٌ ترتكز عليها إلى جانب السلاح، هناك أعمِدةُ القِيَم الأخلاقية والسلوكية والإبداعية والمعرفية والعلمية.
لذلك فإنَّ اغتيال العلماء والمفكرين ومطاردة المثقفين هو نسْفُ المسيرة الإنسانية الإبداعية، وإرجاع الشعب إلى مُربَّع “الخبز” فقط.. خبزٌ دون عقلٍ يُبدِع، وهذا معناه وضْع الشعب في خانة الضُّعف. ولا ننسى أنَّ المبدع يحمِلُ رايةَ شعبِه أيْنما يذهب، إنَّه يقوم بتعريف العالم على قضيَّته التي قد لا يستطيع تعريفها أكبرُ السياسيين في خطاباتهم.

“أمل” طارتْ أشلاءً.. ويبقى الأمل
أوْجاعُ أبٍ في غزَّة
لم ترحم الحربُ على غزَّة أحدًا من سُكَّانها، بمختلف المستويات والأصعدة؛ الاقتصادي والاجتماعي والنفسي.. وأصعب هذه المستويات؛ المَلاذُ وتوفير الطعام.
في غزَّة لا يوجد مكانٌ آمنٌ. كثيرةٌ هي القصص التي تضُجُّ بالمعاناة، فقد عملتْ قوات الاحتلال الصهيوني على إرهاق الناس، بجعْلهم يهجرون بيوتهم في الشمال ومدينة غزة للنزوح إلى الجنوب، وحين نزوحهم، باتوا يطالبونهم بالنزوح إلى مدينة رفح (المواصي)، وهذا يُعتبَر إسفافًا حياتِيًّا، فكيف بِمَنْ فقَد بيته في لحظات، ولم يأخذ منه شيئًا أنْ يتدبَّر أمرَه!
(بابا… بَرْدانَه)، لم تكن هذه الجُملة سوى وخْزة في أذُنِ الأب، حين تفوَّهَتْ بها ابنتُه الصغيرة، ماذا يفعل ولا أغْطِيَةً لديه، فبيْتُه تهدَّم، صاح بأعلى صوته: آآآه، واحتضن ابنته وبكى.
(بابا… بدِّي بسكوتة)، وخْزَةٌ أخرى لرجولة الأب، من لا يملك كيف يمنح؟ ونفادُ الأطعمةِ غيْمةٌ قاهرة تُغطِّي الحال، فلا نُقود ولا أغذية، حتى الخبز لم يعد يراه سكان غزَّة، فالمخابز أغلقتْ أبوابَها، حيث لا طَحين ولا وُقود لتشغيلها.
وآخرٌ يطالب أباه باللعب بمَحْمولِه، وبطاريَّته على وشك الانتهاء، وقَع بين ناريْن؛ صراخُ ابنه للعب، ونفادُ البطَّارية، لاستعمالها ككشّاف وسَط الظلام؟!
“أمَل” طفلةٌ مَرِحةٌ، كانت تعتاد كل يوم على اللعب في حديقة منزلها، وخلال الحرب لم تخرج من البيت، فضّل أهلها أنْ تلعب في المنزل، على الأقل إلهاؤها عن السؤال حول الحرب وأهْوالها؛ ضرَب أخوها الكُرةَ إلى خارج النافذة، جرَتْ وراءها، وتذكَّرتْ كلمات والديْها ألاَّ تخرج إلى حديقتهم، لكن براءة الطفولة لم تُرِد أنْ تَبِيتَ كُرَتُها خارج البيت، فذهبت لإحضارها، أمسكت بها واحتضنتْنا، والابتسامة تعلو مُحيَّاها، وكانتْ الابتسامة الأخيرة، أسْكتها صاروخٌ آثمٌ، جعلَها تطيرُ مع لعبتها أشلاءً.
وكاتِبٌ في مدرسة إيواءٍ، لم يجد ما يساعد في إشْعال الحَطَب للأكل إلاَّ كِتابَه الذي ألَّفه بعْد عاميْن من الجُهد والتعب، وهو النُّسخة الوحيدة التي جاء بها من بيته قبل خروجه منه، مزّقَ أوراقَ كِتابه، وكأنَّه يُمزِّق قلبَه، ودمعتْ عيناه مع احتراق كتابه من أجل إطْعام أولاده.
بين المِخْرَز واللّحْم
الاغتيال لأيِّ فلسطينيٍّ هو اغتيالٌ مُؤلِمٌ لعقلٍ وكيانٍ ماكثٍ على أرضه، ولا يكون الاغتيال مُؤثِّرًا إلاَّ إذا كان مُكلِفًا، بمعنى أنَّ الاغتيالَ النَّوْعيَّ يُكلِّف الاحتلالَ الصُّهيوني ماديًّا ومَعنويًّا، وتأتي المادِيَّة في مراقبة وترصُّد الهدف لإنجاح عملية الاغتيال، بشكل يبدو عملية عادية، إلاَّ أنها تكون مُغلَّفةً بالمأرب المُخابراتي.
وأمَّا المعنوية؛ فهي لأنَّ الهدفَ النَّوعي يكون تأثيره في الحدَث كبيرًا، سيّما الكفاءات العلمية العالمية، ومثال ذلك: العالم الفلسطيني ابن غزة البروفيسور “رفعت العرعير”، واللاَّفت إلى هذا المثال تفضيلُ “العرعير” العيشَ في غزَّة، على خِلاف الأمثلة التي ارتأتْ أنْ تهرب بعقلها من جحيم الواقع ورَتابته، والأكثرُ تصْوِيبًا هو تشبَّثه بواقعه ما قبل الاستشهاد على الرغم من فُرَص الانفلات من خطورة الوضع.
هذا الهدفُ ينْغرِزُ في الذَّات الفلسطينية التي تُؤمن بما لديها من طاقات أوَّلاً، وبتعميق هذا الشعور بانتماء حقيقيٍّ إلى المكان وإلى الحالة.
إنَّ كل هذا يضعُنا في مُحدَّدٍ واحد؛ الإرثُ التاريخي للعقلية الفلسطينية المقاتل بالعلم والأدب.
إنَّني أعتقد تمام الاعتقاد، أنَّ هناك أمثلة صنعتْ من عنادها ثباتًا في الموقف، وترسِيخًا لجوهرٍ شخصي؛ تَبدَّى ليصنع الموقف المناهض لإنشاء مشهدٍ جديد من تغريبةٍ فلسطينية، لم يكن أنْ يكون أحدث مُؤدِّيها العالم “رفعت العرعير”.

غزَّة تنْتفِض عبْر الكتابة.. تُجدِّدُ السَّرديَّة الفلسطينيَّة في العالم
ترجمة وتخليص: نهى عُودة (شاعرة فلسطينيَّة)
نشرتْ المجلَّةُ الفصلِيَّةُ “بيوغرافيا” (السِّيرة الذّاتيَّة)، في ربيع عام 2014، بالمُجلَّد: 37، العدد: 2، الصَّادر عن جامعة “هاواي”، مقالاً مُطوَّلاً كَتَبه الدُّكتور “رفعت العرعير” بعنوان: “غزَّة تكتبُ مرَّة أخرى: السَّرديَّة الفلسطينيَّة”. وحول المَضمون العام للمقال، قال “العرعير”: “في فلسطين، القِصص لها قُدْسيَّتُها. في الأوقات العَصِيبَة، نلجأ إلى رواية القصص من أجل أنْ نُعَزِّي أنفسَنا. الأمَّهَات والجَدَّات هُنَّ المَصدر الرئيسي للقصص في كل عائلةٍ. وعندما يكبر الطِّفلُ الفلسطيني بما فيه الكفاية ليكون واعيًّا، يُدرك أنَّه قد تأثَّر بتلك القصص، كما يُدرك بأنَّها أعمَقُ وأبعدُ من أن تكونَ مُجرَّد قصصٍ للتَّرْفِيه. لقد تعلَّمتُ في وقت مُبكِّر من حياتي أنَّه من الأنانية والغدْر أنْ أحتفظ بقصة لنفسي. إذا سمحتُ لقصة ما أنْ تتوقَّف عندي، فإنني بذلك أخُونُ تُراثي وأمِّي وجدَّتي وبلدي. وهذا المقال يصِف كتابةَ مجموعةٍ قصَصِيَّة من طَرَف مُؤلفين فلسطينيين شباب من أجل مواهبهم التي تشتد الحاجة إليها في الحياة.
الطِّفلةُ “شَيْماء”: من خَلَقَ اليهود؟
قبْل أكثر من خمس سنوات، خلال الحرب “الإسرائيلية” الواسعة النِّطاق على غزَّة في الفترة 2008-2009، والتي استمرت ثلاثة وعشرين يومًا، في عمليَّةِ الرَّصاص المُصْبُوب، قامتْ ابنتي الصَّغيرة “شَيْماء”، التي كانت تبلغ من العمر خمس سنوات فقط، بتوجيه سؤال إليَّ وإلى والدتها، ففي غمْرةِ دويِّ الانفجارات ورائحة البارود، جاء سؤالُها بصوتِها النَّاعم بمثابة صدمةٍ لكليْنا: “من خلق اليهود؟”، سألتْ “شَيْماء” وهي تنظرُ في عيني، ثم التفتت إلى والدتها تًحسُّبًا لتلقِّي الإجابة.. وما زال السُّؤال قائمًا يُحيِّرني ويحضُرُني في كثيرٍ من المناسبات والظُّروف..
استغرقتُ أنا وزوجتي لفترة من الوقت في الصَّمت، ولم يتمكَّن أيٌّ مِنَّا مِن التَّحدُّث، ناهيك عن تقديم إجابةٍ لسؤال “شَيْماء”. عرضتُ على ابنتي، مُرتبِكًا، أنْ أحْكي لها قصةً، وأتبعتُ ذلك بالعديد من القصص الأخرى.
إذًا لم أتمكَّن من الإجابة عن سؤال “شَيْماء”، والشيءُ الوحيد الذي أعرِفُه هو لماذا كبُرَتْ ابنتي، في غُضون أسابيع قليلة، بما يكفي لتطرح مِثل هذا السؤال العميق.
لا بدَّ أنَّ “شَيْماء” اعتقدتْ بأنَّ الإله الرَّحيم والمُحِبَّ الذي تتعلَّم عنه في روْضة الأطفال، والذي عادةً ما يُنقِذ الأخْيارَ في قِصَص والدِتَها، لا يمكن أنْ يكون هو نفسه الإله الذي خلَق آلات القتل تلك التي لم تجلب لنا شيئًا سوى الموت لأيَّامٍ وليالي طويلة، والفوضى والدَّمار والدموع والألم والخوف، مِمَّا جعلها وإخوتَها الصِّغار يستيقظون ليلاً وينْتحبون بشكلٍ هستيري. ولا يمكنُ أنْ تكون رؤيتها للإله الذي خلقَنا هي رؤيتها ذاتِها للإله الذي خَلَق الأشخاص الدَّمويّين الذين تسبَّبوا في تحطيم نوافذ بيتنا، والذين أطلقوا النارَ قبل يوميْن على والدها عندما كنت أملَأ خزانات المِياه على سطْح منزلنا أثناء وقْف إطلاق النار الذي استمرَّ لساعتيْن.
جاءتْ الحربُ بعْد حصار طويل لا تزال “إسرائيل” تفرضه على غزة، وهو الحصار الذي أصابَ جميع جوانب الحياة تقريبًا بالشَّلل. استهدفتْ “إسرائيل” البنْيَة التَّحتِيَّة والمدارس والجامعات والمصانع والمنازل والحقول.. وكان الجميعُ هدفًا مُحتمَلاً، ويمكن أنْ يتحوَّل كل منزلٍ إلى حُطامٍ في جزْءٍ من الثانية.
لم يكن هناك وقتٌ مناسبٌ أو مكانٌ مناسبٌ في غزَّة. لقد كانت غزَّة بأكملها هي مركز الترسانة العسكرية “الإسرائيلية” الأكثر تطوُّرًا. لقد كان واضحًا وُضوح الشمس لسكان غزة، في ذلك الوقت، أنَّ “إسرائيل” تستهدفُ الحياةَ والأملَ عن عمَدٍ وبشكل مَنْهجيٍّ، وأرادتْ التأكُّد من أنَّه بعد الهجوم لم يعد لدينا أيَّ شيءٍ نتمسَّك به، وأننا سنلتزمُ الصَّمتَ إلى الأبد.
الكتابةُ إلى غير قُرَّاء العربية
تمَّتْ كتابةُ القصص الثلاث والعشرون في كِتاب “غزَّة تنْتفض عبْر الكتابة” باللغة الإنجليزية. هناك العديد من الفلسطينيين، صغارًا وكبارًا، يكتبون القصص الخيالِيَّة والشعر باللغة العربية؛ وبالمقارنة، عددٌ قليلٌ جدًّا من الأشخاص يكتبون باللغة الإنجليزية. في كثير من الأحيان، تأتي الرواية الفلسطينية باللغة الإنجليزية من غير الفلسطينيين. نحن الفلسطينيون بحاجة ماسَّةٍ إلى أخْذ زِمام المُبادرة للتَّعبير عن أحلامنا وآرائنا وآلامنا وهمومنا باللغة الإنجليزية.
لقد رأينا العواقبَ غير المقبولة لتَرْك رواياتنا إلى وسائل الإعلام الغربية التي تُسيء تَمثِيلنا بانتظام، وعادةً ما تتبنَّى الرِّوايات والخطاب “الإسرائيلي”.
وقد رأينا أيضًا كيف فشل بعض المُؤيِّدين للفلسطينيين في فهْم عُمْق وجوْهر مأساتنا، مِمَّا أدَّى إلى تحويل القضية الفلسطينية إلى أزمة إنسانية، بدلاً من أزمةٍ شعب تستعمِره “إسرائيل”.. شعبٌ محرومٌ أبناؤه من حقوقهم الإنسانية الأساسية، ويتعرَّضون باستمرار إلى العُنصرِيَّة والإذلال. لذلك، في كتاب “غزَّة تنْتفض عبْر الكتابة”، كانت الكتابة مباشرة إلى جمهور كبير، وأخذَ الكِتاب خارج نِطاق القُرَّاء العرب، واستخدام اللغة الإنجليزية كوسيلة هي الأولويات.
ولأنَّ الأدبَ المُترجَم، على الرغم من أهميته، يفْقدُ حتمًا بعضًا من معناه من خلال عملية التَّرجمة، لذلك وجَّهْنا جُهودَنا نحو تحسين مهارات الكتاب الإبداعيَّة في الكتابة باللغة الإنجليزية. كما قُمنا بتصميم الكتاب لإعطاء دَفْعة للذين يكتبون باللغة الإنجليزية، على أمل أنْ يُمكِّنهم من الكتابة أكثر وإقامة المزيد من الحوار الدولي.
أنا مُتأكِّدٌ مِن أنَّ الضجَّة الإعلامية التي أحدثتها مُبادرة “غزَّة تنْتفض عبْر الكتابة”، وجوْلة الكِتاب في الولايات الأمريكية المتحدة ستشجع العديد من الفلسطينيين على الكتابة باللغة الإنجليزية من أجل فلسطين. بعد أربعة أشهر فقط من نشْر الكتاب، هناك خطَّة لترجمة “غزَّة تنْتفض عبْر الكتابة” إلى لغات أخرى (لقد تمَّتْ ترجمته بالفعل إلى لغة الملايو). وآمل أنْ يتبع ذلك عددٌ متزايد من المشاريع التي تترجِم الأدبَ الفلسطيني الناشئ إلى اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى.
بعد خمس سنوات..
كتابُ “غزَّة تنْتفض عبْر الكتابة” يُثبت أنَّ الوطن في بعض الأحيان يُصبح قصَّةً. نحن نُحِبُّ القصةَ لأنَّها تتحدَّث عن وطننا، ونحِبُّ وطنَنا أكثر بسببِ القصة. والآن، بعد مرور خمس سنوات، تواصل “إسرائيل” سياساتَها اللاَّإنسانية ضد الفلسطينيين، تُصعِّد العنفَ، تنتهك الهدنةَ وتقتل الأبرياء، أرى السؤالَ نفسه في عيون ابنتي “شيماء”. لقد مرت خمس سنوات منذ عملية الرصاص المَصْبوب، ولم تعطني “إسرائيل” أدْنى فرصة لتوضيح أنَّنا جميعًا لدينا الإله نفسه، أو لرؤية نهاية لكل هذا العنف والشر الذي صنعه الإنسان والذي سيتوقف عندما تُنهِي “إسرائيل” احتلالها ووحشيتها ضد غير اليهود.
بعد خمس سنوات، أخذنِي كتاب “غزة تنتفض عبر الكتابة” إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث التقيتُ بالنشطاء الفلسطينيين والمؤيدين لفلسطين، وكان بعضهم من اليهود. كان هدف الجولة تعزيزُ أصوات الشباب الفلسطيني وتمكين الرواية الفلسطينية على الرغم من أنَّ الحكومة “الإسرائيلية” رفضتْ السَّماح لـ “سارة علي” من غزَّة بالانضمام إلينا، فقد قمتُ بجولةٍ مع “يوسف الجمال” و”روان ياغي” حيث تحدثَّنا في أكثر من عَشْر مُدُنٍ أمريكية، والتقينا بفلسطينيين يعيشون في الشَّتات، وبمئات من الناشطين الأمريكيين المؤيدين للفلسطينيين.. كما التقينا بشباب من أصلٍ أفريقي في “شيكاغو”، الذين أخبرونا عن وحْشيَّة وعنصرية أميركا مع الأمريكيِّين المُلوَّنِين. جاء المئات للاستماع إلى أصوات الشباب من فلسطين، في الكنائس والمعابد اليهودية والمكتبات والمنازل. وتحدثنا عن السياسة والأدب والحياة والغذاء والماء والمقاومة والمستقبل والعنصرية والنسوية والعدالة. كانت الجولة دليلاً على أنَّ الخيالَ عالميٌّ، وأنَّ الأدب يكسر الحواجز ويُعيدنا جميعًا إلى إنسانيتنا.
بفضلِ أسْفارنا، أستطيع الآن أنْ أقول لابنتي “شيماء” أنَّنا لم نتعرَّض إلى الاحتلال والقمْع فحسب، بل تعرَّضنا أيضًا إلى العُزلة والفَصل العنصري، وإنَّ “إسرائيل” تبني الجدرانَ ونقاط التفتيش للحفاظ على إبقائِنا مَعزولين.
وسأقول لابنتي إنَّني علمتُ خلال جولتي أنَّ اليهود أيضًا مِن المُمكن أنْ يكونوا ضحايا، وأنَّ اليهودية قد اختطفتها الصهيونية.
سأقول لابنتي “شيماء” أنَّنا نحن الفلسطينيون ما زلنا بحاجةٍ إلى النُّموِّ والاستمرار في اكتساب وجهات نظرٍ.. لأنَّ النضال من أجل فلسطين يجب خوْضه عالميًا ووطنيًا أيضًا، أو كما يُلخِّص “علي أبو نعمة” هذا الفهْم: “إنَّ النضال من أجل حقوق الإنسان الفلسطيني يجب أن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنضال من أجل حقوق الإنسان في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم”.
الآن عندما أروي قصصًا لابنتي، عادةً ما أفكِّر في المُضيفِين اليهود الكرماء في “أتلانتا”، الذين ظلت ابنتهم الجميلة “فُيُّولاَ”، البالغة من العمر خمس سنوات، تسألني عن الأوْهام البصرِيَّة. لم أعْطِ “فيولا” إجابةً على سؤالها، لأنَّها في كل مرَّة تسألني كان ذهني يذهب إلى “شيماء” التي حرمتها “إسرائيل”، هي ومئات الآلاف من الأطفال من الحياة.
لا أعتقد أنَّنا سنغفر عدَمَ السَّماح لأطفالنا بأنْ يعيشوا حياة طبيعية ولم يخططوا لمستقبلهم، بدلاً من القلق عليهم. فهم لم يرسموا شواطئًا وشمسًا، بل رسموا السُّفُن الحربيَّة وأعمدة الدُّخان والطائرات الحربية والبنادق. ونأمل أنْ تساعد قصص “غزَّة تنْتفض عبْر الكتابة” في جمْع ابنتي “شيماء” و”فيولا” معًا، وأنْ تُواصِلاَ معًا النضال حتى تتحرَّر فلسطين، وحتى ذلك الحين، سأستمِرُّ في سرْد قصَصِها.

وطنٌ أنا وجنونُ عَصْفِك عابِرُ
كل يومٍ تغتالُ آلةُ الموت الصهيونية الحياةَ في فلسطين بكل ما فيها من خيْر وجمالٍ. ويعمل الكيانُ الصهيوني على تنفيذ مشاريعه الشيطانيَّة لطمس الهويَّة الفلسطينيَّة وتزييف التَّاريخ والعبث بالمناهج المدرسيَّة، إضافةً إلى جرائمه ضدَّ الإنسان الفلسطيني التي تجاوزت حدودَ ما يستطيع العقل البشري أنْ يتصوّره. واستشهاد الدُّكتور “رفعت العرعير” تحت قصْف آلة الموت للكيان الصهيوني، هو اغتيالٌ للعقل وإجرامٌ آخر في حقِّ التعليم والإعلام والأدب، ومحاولة لإخماد كلِّ صوتٍ فلسطيني يخترق جُدران الصَّمت ويُخاطب الرأيَ العالمي باللغة الإنجليزية.. وآلة الموت الصهيونية هي ذراعٌ للقوى الغربيَّة للإبقاء على الضُّعف العربي، وحبْس الشعوب العربية في دائرة الانهزامية والانفعالية غير المُجدية وتدمير معنوياتها وفرْض “الاستعمار” الفكري عليها..
سَفرٌ إلى حيثُ الغمامُ مسافرُ
إنِّي تعبتُ ودربُ حُلمي عاثرُ
واسّاقَطَتْ من عينِ بَوْحي جمرةٌ
وعيونُ حولي بالبكا تتظاهرُ
أتلومني؟ ثكلتكَ روحُك أعْطني
شيئًا فعلناه ارتَضَتهُ ضمائرُ
فالأرض حتى ما وراء الشمس
يأبانا وكلُّ مُسَطَّرٍ بنا كافرُ
كم خيبةٍ دقّت على أعمارنا
وتحجّرت فوقَ الدموع محاجرُ
كم غُصّةٍ نَفَثَت على جَمَراتِنا
ومصيبةٍ رَقَصَت… ونحنُ نكابرُ
وكأنَّ أرضي لم تلد آسادها
وكأن أرضي لم تخلّفْ…. عاقرُ
يجري القطيعُ إلى المراعي بُكرةً
ويعود في تخم وليس يحاذرُ
ووراءه كلبٌ يديرُ طريقه
صوب الملاحم والمُدى تتكاثرُ
يا من تُخادعُ فالستائر خلفَها
ما لا يقالُ ولم تُطِقْه ستائرُ
قف برهةً واسمعْ خلاصةَ حكمةٍ
وطنٌ أنا وجنونُ عَصْفك عابرُ

القلمُ في مُواجهة الرَّصاص والقَصْف الجوِّي..
مَسيرةُ الشهداء أصحاب القلم من بدايات القرن العشرين إلى طوفان الأقصى
انْهضْ واقتلْ أوَّلًا..
حين نستعرض تاريخ فلسطين في مواجهة الاحتلال الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى ملحمة طوفان غزة، سنجِدُ أنَّ مَسيرة القتل والاغتيال للأدباء والشعراء والمُبدعين الفلسطينيين، مسيرةٌ قذرةٌ لم تتوقَّف، عِلمًا أنهم يحملون القلمَ والعدوُّ الصهيوني يعتبِر القلمَ أخْطر عليه من الرَّصاص، وخاصة في فترات زمنيَّةٍ لم تكن بها الشبكة العنكبوتية معروفةً، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودةً أيضًا، فكان الصهاينة ينزعجون من الكلمة والقصيدة والأغنية واللوحة وكل أشكال التعبير التي تنتقل بسرعة النار في الهشيم، ومثال ذلك الشهيد الشاعر الشعبي “نوح إبراهيم”، والقتل والاغتيال جزءٌ من العقيدة الصهيونية، ويمكن العودة ولكن بحذر إلى كتاب: “انهض واقتل أوَّلًا.. التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية”، الذي يستعرض فيه الكاتبُ الصهيوني “رونين برجمان” تاريخَ الاغتيالات التي نظمتها أجهزة الاستخبارات الصهيونية.
في البدءِ كان اغتيالُ الشُّعراء..
وقبْل إعلان “دولة” الكيان الصهيوني ومن خلال منظَّماته الإرهابية المدعومة من الاحتلال البريطاني وبالتعاون معه، كان الأدباء والفنانون والمُفكِّرون أهدافًا للحركة الصهيونية، فـ “نوح إبراهيم”، الشاعر الشعبي، استشهد في 1938 مع ثلاثة من رفاقه بمُحاصرتهم من طرَف قوة بريطانية مدعومة بالطائرات وبمشاركة عصابات “الهاجناه” الإرهابية الصهيونية. ومن حجم الحقد عليهم القُوا جثثَهم في بئرٍ واستخرجها أهالي بلدة “طمرة” ودفنوهم كما يليق بالشهداء، وأستَذْكرُ مِن الشهداء الشاعر “عبد الرحيم محمود” الذي استشهد عام 1948 في معركة “الشجرة” والذي كان يزعج الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية بقصائده وشعره، ومن المُفكرين الشهيد “عز الدين القسَّام” قائد الثورة ومُنظِّر الفكرِ الجهادي الديني واستشهد في 1935 بمحاصرته في “أحراش يعبد” للقضاء على الفكرة وأصحابها، لكن الكلمة والفكرة تبقى مهما بلغتْ قوةُ وعربدةُ الأعداءِ.
التَّضييقُ والسِّجن لِمَنْ لم يستشهد..
كما نجِدُ أنَّه من النادر خلال الفترة التي سبقتْ قيام ما يُسمَّى “دولة” الكيان أنْ تجد مثقفًا وشاعرًا غير مُشتبكٍ مع الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، وكلهم كانوا أهدافًا سواءٌ للتَّصفِيَّة أو المُضايقات. فالشاعر “إبراهيم طوقان”، الذي لُقِّب بـ “شاعر فلسطين”، طُرِد من عمله في إذاعة القدس بقرار من الاحتلال البريطاني، وهناك الشاعر “عبد الكريم الكرمي” الذي طُرد من عمله في التدريس بقرار الاحتلال البريطاني، والشاعر “برهان العبوشي” الذي أصِيب أكثر من مرَّة بالرصاص والشَّظايا ولكن كتِبتْ له الحياة، فمن لم يستشهد برصاص الاحتلال البريطاني جرى التَّضييق عليه وطرده من عمله وسجنه، وهذه الأسماء نماذج فقط فهناك الكثيرون غيرهم، وفي النهاية أصبحوا كلهم مُهجَّرين بعد مجازر ونكبة 1948.
الشَّمطاءُ قالتْ: اليوم تخلَّصْنا من لِواءٍ فكريٍّ مُسلَّح..
بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية العلنِيَّة بعد هزيمة حرب جوان/ حزيران وسُقوط ما تبقَّى من فلسطين بِيَد الاحتلال الصهيوني، إضافة إلى مناطق عربية أخرى، أصبح الأدباء والمفكرون الفلسطينيون في الخارج والداخل أهدافًا للتَّصفِيَة الجَسدية أو الاعتقالات والأسْر والتَّضييق. وللتَّذكير، فبعد احتلال القدس، قام الصهاينة باقتحام مبنى البلدية وأطلقوا النار وأتلفوا لوحات الفنان الفلسطيني “إسماعيل شموط”، وهذا يدلُّ على حِقْد الصهاينة على الأدب والفن، القلم والريشة. ولعلَّ المثالَ الأبْرز الشهيد “غسان كنفاني” الكاتب والروائي والإعلامي والذي جرى اغتياله عام 1972 بعبوةٍ ناسفةٍ زُرِعتْ في سيارته وبقرار من العجوز الشمطاء “غولدا مائير” رئيس وزراء الكيان بتلك الفترة، والتي قالت عقب استشهاده: “اليوم تخلَّصْنا من لواء فكري مُسلَّح، فغسان بقلمه كان يُشكِّل خطرًا على (إسرائيل)، أكثر مِمَّا يُشكله ألف فدائي مسلح”. لتتوالى عملياتُ اغتيالِ المُفكِّرين وحَمَلة الأقلام المناضلة، فجرتْ محاولة اغتيال “بَسَّام أبو شريف” والتي أدَّتْ إلى إصابات كبيرة في جسده ووجهه وقطع أصابعه بطَرْدٍ مَلغوم، واغتيال الشهداء: كمال عدوان، كمال ناصر، أبو يوسف، النجار في عام 1973. ومحاولةُ اغتيالِ الكاتب والمُفكِّر “أنيس صايغ” رئيس مركز الدراسات الفلسطيني ثلاث مرَّات مِمَّا أدَّى إلى بَتْر بعض أصابعه وضعف عينه عام 1972. وكذلك الكاتِب والقاصّ الشهيد “ماجد أبو شرار” الذي جرى اغتياله عام 1981، والشهيد “علي فودة” الذي استشهد في القصف الصهيوني في حصار ومعارك بيروت عام 1982، والشهيد المُشتبك “باسل الأعرج” في “رام الله” عام 2017، والشهيد الكاتب “وائل زعيتر” 1972، والشهيد “د. عز الدين القلق” 1978 وكان له دوره الثقافي الكبير وخاصة بالسينما في أوروبا، والشهيد “عبد الوهاب الكيالي” عام 1981 وكذلك الشهيد “حنا مقبل” والذي اغتيل عام 1984، وأخيرا وليس آخرا الشهيد الفنان “ناجي العلي” 1987.
اغتيالُ العقلِ الفلسطيني في كلِّ مكان..
وهناك عددٌ كبيرٌ من أبناء فلسطين جَرى اغتيالهم في أنْحاء المَعمورة، ومنهم صاحب الكلمة الصحفي والمُفكِّر “هاني العابد” في “خان يونس” 1994، والمفكر الجهادي “د. فتحي الشقاقي”، وشيخ الشهداء المُفكِّر الجهادي الشيخ “أحمد ياسين”، والشهيد المفكر “د. عبد العزيز الرنتيسي”، والكاتب النَّشِط “أليكس عودة” في كاليفورنيا، والدكتور “إسماعيل راجي الفاروقي” وزوجته “د. لمياء الفاروقي” في بنسلفانيا في الولايات المتحدة حيث استهدفهم الموساد بالرصاص في بيتهم هناك، والشهيد الشاعر “راشد حسين” الذي قَضى حَرْقًا في بيته في نيويورك بظروف غامضة ولكن أصابع الموساد واضحة فيها، والشهيد المفكر والكاتب “إبراهيم المقادمة” 2003، والشهيد المُفكر والكاتب “جمال منصور”، وغيرهم العديد والعشرات من حَمَلة القلم المناضل، ومِنهم من جرَتْ تصفيتهم بالأسْر.
كلُّ مَنْ يُناصِر فلسطين هو في مَرْمى الاغتيال
إضافةً إلى العشرات من الصحفيين وأصحاب الكلمة، ففي انتفاضة الأقصى استشهد أكثر من 15 صحفيًّا وإعلاميًّا من بينهم الصحفي الإيطالي “روفائيل تشيللو” عام 2002 في “رام الله”، ولا ننسى اغتيالَ “راشيل كوري” الأمريكية بجرَّافة صهيونية بشكل متعمد عام 2003 في رفح في قطاع غزة، وكذلك الإعلامي البريطاني “جيمس ميللر” على الشريط الحدودي لمدينة رفح عام 2003، واغتيال الإعلامية “شيرين أبو عاقلة” في “جنين” العام الماضي 2022.
اغتيالُ مراكز الذَّاكرة التَّاريخية والإبداعيَّة
المراكز الثقافية والمكتبات العامة كانت أيضًا من أهداف الصَّهاينة، فالمكتبات العامة أغْلِقتْ في الضِّفة الغربية وغزة بعد هزيمة جوان/ حزيران، وبعْد أنْ فتحتْ صُودِرتْ كميَّات من الكتب منها، وكانت تتعرَّض إلى الإغلاقات المُستِمرَّة، وتمَّ قصْف مقر المركز الفلسطيني للدراسات والإعلام في مدينة “نابلس” بالطائرات المروحية. وفي غزة، خلال مراحل سابقة، جرى قصفُ مركز للفن التَّشكيلي وتدميره، إضافة إلى عشرات المراكز الثقافية. وفي “رام الله”، خلال اجتياح 2002، جرى تفجير بوَّابات مركز “خليل السكاكيني” الثقافي والذي كنتُ أتشرَّف برئاسته، وجرتْ عملية إتلافٍ للوحات الفنية والتراثية ومحاولة سرقة وثائق ومذكرات الأديب والمُربِّي “خليل السكاكيني”، ولكن كنتُ قد تنبَّهت قبْل الاجتياح لذلك، فنقلتُها بالتعاون مع مديرة المركز إلى مكان آمنٍ فنَجتْ من المُصادرة أو الإتلاف.
علماءٌ استشهدوا في أرض فلسطين
الآن، وفي حرب الإبادة المُعلنة على غزّة، والتي دخلت شهرها الثالث وأدت حتى الآن إلى استشهاد ما يُقارب العشرين ألف شهيد وعشرات الألوف من الجرحى والمُشرَّدين وهدم آلاف المنازل وتدمير المشافي والجامعات والمدارس والكليات والأبنية التراثية والأثرية، نجدُ أنَّ العلماء والمثقفين والأدباء والصحفيين مِنْ أهمِّ أهداف الحرب الهمجيَّة الصهيونية، فالقلم والفكر هو العدو الأساسي للكيان، لأنَّه هو من ينهض بالأمة، ولذا كانت أولُ آيةٍ أنزلها الله سبحانه وتعالى ونزلتْ من السماء مع الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هي: “اقرأ..”، فنجِدُ عشرات الأشخاص من حَمَلة القلم جرى استهدافهم بشكل مَقصود، ومنهم – وكان مستهدفا منذ زمن – البروفيسور الدكتور “رفعت العرعير” عضو الهيئة التَّدرِيسيَّة في الجامعة الإسلامية في غزة، ويُعتبَر الشَّهيد من أقوى الأصوات التي كانت تعمل على إعادة السردية الفلسطينية وروايتها باللغة الانجليزية للعالم الغربي، وصاحب مشروع “نحن لسنا أرْقامًا”، وجرى استهداف منزله بغارة جوية مباشرة استشهد فيها، واشتهرت له قصيدة “إذا وَجَب أنْ أموت” التي أنهاها بقوله: “فليبعث ذلك على الأمل، فليكن ذلك حكاية”.
ومِنَ الشهداء أيضًا العالمُ الفلسطيني البارز والمُصنَّف عام 2021 من ضمن أفضل 2% من الباحثين حول العالم، الأستاذ الدكتور البروفيسور “سفيان تايه” المُتخصِّص في الفيزياء النظرية والرياضيات التَّطبِيقيَّة، حيث استهدفتْ غارةٌ جوية صهيونية منزله فاستشهد وأسْرته في الغارة، وكذلك الشهيد البروفيسور “محمد عيد شبير” وهو كاتب وشاعر وحاصلٌ أيضًا على الدكتوراة في علم الأحياء الدقيقة، واستشهد وأفراد أسرته بغارة صهيونية استهدفت منزله. والشهيدة الدكتورة “ختام الوصيفي الحاصلة” على درجة الأستاذية في الفيزياء بغارة على بيتها واستشهدت مع زوجها وعدد من أفراد أسرتها. ودكتور القانون والشريعة “تيسير إبراهيم” وكان سابقًا عميد كلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية، واستشهد في غارة استهدفت منزله. وأيضا الدكتور “سعيد دهشان” خبير القانون الدولي والشأن الفلسطيني، وصاحب كتاب “كيف نُقاضي إسرائيل”، حيث استشهد وأسرته بغارة جوية استهدفت منزله. إضافة إلى العشرات من الفنانين التشكيليين والأدباء والشعراء والصحفيين ذُكورًا وإناثًا لا يتَّسع المجال إلى ذكرهم بالكامل في هذه العُجالة.
الكلمة تنتصر..
هكذا، والمعركة ما زالتْ مُستمِرَّة على طريق النصر إنْ شاء الله، نرى كيف أنَّ العدو كان يدرك خُطورةَ الكلمة والقلم والكلمة المناضلة والمُقاتلة، فاستهدفها بالقتل والاغتيالات، لإدراكه أنَّها عدوٌّ ومقاتل شرِسٌ. وشعبُنا الفلسطيني كان يدرك أهميَّة القلم والكلمة واللوحة في معركتي التحرير والبناء، فواجه الاحتلال بالكلمة والقلم إضافة إلى الحجر والبندقية، بينما الاحتلالُ واجه القلم والكلمة بالقصف الجوي والمدافع والعبوات الناسفة وتفخيخ السيارات والطُّرود الملغمة والرصاص والصواريخ وبأوامر من أعلى المستويات السياسية والعسكرية في إدارةِ الكيان الغاصب، ولكن رغم كل ذلك ففي البدء كانت الكلمة، والكلمة ستنتصر.
مَلاكُ غزَّة “زينب القولق” تُوثِّقُ مأساتها بالألوان
“زينب شكري القولق” فتاةٌ فلسطينيَّةٌ من غزَّة، عبَّرتْ بالألوان عن قَتامةِ الضَّمير العالمي وبلادَته وهو مُعتكِفٌ في “محراب” صمته أو تحجُّره. وثَّقتْ “زينبُ” حكاياتَها ومشاعرَها في لوحات تشكيليَّةٍ تَشَّقَقُ لها الجبالُ خيشةَ أنْ يسائِلها اللهُ عن جُمودِها وصمْتها، بعد قصْفِ آلة الموت الصهيونية لغزَّة في شهر ماي 2021، حيث فقدتْ “زينب” 22 فردًا من عائلتها.
بعد عامٍ من الفَجِيعَة، أقامتْ “زينب شكري القولق” مَعْرضًا تشْكِيليًّا، من تنظيم المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان لحقوق الإنسان وهيئة الأمم المُتَّحدة للمرأة في فلسطين. قالت “زينب”: “اليومَ أقدِّمُ عائلتي وقضيَّتهم، وأرْفع صوتي وصوتهم من خلال معرضي الفني: عمري 22 عامًا وفقدتُ 22 شخصًا”.
أيُّ قوَّة جبَّارة تختزنها هذه الزَّهرة البريئة في داخلها مكَّنتْها أنْ تُحوِّل مأساتها إلى سلاحٍ تُواجِه به جبروتَ الكيان الصُّهيوني ومِنْ خلْفه قوى الشَّر العالمية؟ أيُّ إيمانٍ عظيمٍ تمتلكه هذه الفتاة الملائكيَّة، فتجاوزتْ أحزانَها الشَّخصية، وصاغتْ من ألوانها “مَلحمةً” فلسطينيَّة تُخاطبُ العالمَ وضميرَه المُتَماوِتَ، وتقول لقوى الشّر الشَّيطانِيَّة: نحن باقون في أرضنا، مُتَجذِّرون فيها، ولن تقْتلعنا آلة موتكم الجهنَّميَّة.. نحن الباقون وأنتم الطَّارئون؟
“زينب شكري القولق” هي أنموذجٌ للإنسان الفلسطيني المُقاوم والصَّامد في وجْه الطُّغيان بإيمانٍ راسخٍ، وهي أنموذجٌ لعبقرية المرأة الفلسطينيَّة في إبقاء عائلتها وإخوتها وأبنائها على قيْد الأمل الذي لا يذبل ولا يذوي ولا يُخالجُه يأسٌ أو شكٌّ بأنَّ فلسطين لأبنائها الطَّيِّبين، ومهْما طال الزَّمن فإنَّ شمسَ حريَّتها ستُشرق من دماء شهدائها ولو تآمرتْ كل قوى الشرِّ في العالم ضدَّها.
دخلْنا موْقعَ “إنستغرام”، واستوْقفنَا الزَّمن في صفحة ملاك غزَّة الفنَّانة التشكيليَّة “زينب شكري القولق”، وتخيَّرنا بعضًا من لوحات معرضِها الذي كان تحت عنوان: (عمري 22 عامًا وفقدتُ 22 شخصًا)، حيثُ وضعتْ لكلِّ لوحةٍ تعليقًا مُرافقًا، وجميعُها منشورة في شهر ماي 2022. وفيما يلي، ندعو القارئَ أن يُصافحَ “زينب” من خلال لوحاتها وحُروفِها كما كتبتْها..
لوحةُ العائلةِ.. أقْسى ما خَطَّتْ يَداي
رسمتْ “زينب” صورةً لعائلتها ونشرتْها على حسابها في “إنستغرام” في شهر ماي 2022، وأرفقتها بهذا التَّعليق: “ربَّما كانت مُعضلة عائلتي أنَّ الحنان يفيض منهم، صغارهم يبقون أطفالاً حتى وإنْ كبروا، يطعموننـا الحـبَّ ويسقوننا الاهتمامَ، أنْ تكون طفلًا لهذه العائلة، يعني أنه سيكون في جعبتك محاصيـل حـب مـن الأجداد للآباء للأبناء، أنْ يكون قلبك معلـق بجميعهم، لـم تكن تخلـو تفاصيل أيامنا منهم، فـي يـوم كهذا كنت أحصل على قُبلـة مـن أمـي قبْـل نومي، وحضن من أختي عند استيقاظي، تدفئ قلبي رسالة حب طويلة من أخي الأكبر، ودندنة وضحك من أخي الأصغر، كنتُ سأحصل علـى حـضـن دافـئ مـن جـدَّتـي، وقُبـلات مـن جـدِّي وأمشـي ودعواتهما تحفظني، وكلمات غزل تطرأ علـيَّ مـن عمتي، و دعاءٌ يرافقنـي مـن زوجـة عمـي، كانت أمي ستخبرني مجددًا تفاصيل ولادتي وعيونها تلمع والحب يفيض.. أخاف الملابس المعلقة، أبكـي أرواحها الغائبة. لوحة ألوانها اختلطت بالدموع، أقسى ما خطَّتْ يداي”. (عمري 22 عامًا وفقدتُ 22 شخصًا).
اثنتا عشرة ساعة تحت الرُّكام
اثنتا عشرة ساعة بكافة تفاصيلها كنت أراجع ذكرياتها ثانيةً بثانية وأنا أرسم اللوحةَ حتى أنني سمعت صوت المُسعف مرة أخرى وهو يحاول معرفة مكاني تحت الركام، شعرت أنـي أختنق مجددًا، كنت ألتفت باحثةً عن مصدر رائحـة الرماد والتراب التـي سيطرت عليّ، حتى أنني نظرت للأرض وتخيلتهـا تـهـوي، أمسكت بهاتفي، تشبثت به، ووضعت رقم نفس المُسعف أمامي، في حال أي طارئ!
أذكـر آخـر مـا قلتـه لـه قبْـل أنْ تنفد بطارية هاتفي، أسـمـعُ مـرة أخـرى صـوت هاتفي وهو يهوي مـن يـدي للأسفل ويرتطم بالركام، أرانـي وأنا عاجزة أحـاول، أراني وأنا خائرة القـوى أحاول، أراني وأنا أشاهد بطارية هاتفي تنفد وأنا ما زلت عالقة تحت الركام وأحـاول، أرانـي فـي ظـلمـة حـالكـة فـي ألـم شـديـد فـي جـروح غامرة، أرانـي وأنـا أفـقـد صوتـي، وأنـا أبحـث عـن هـواء، وأنـا أبتلع التراب، وأحاول، ومـا زلـت حتـى اليـوم أحاول. (عمري 22 عاماً وفقدت 22 شخصًا)
مَنْ يزيل الأنقاضَ مِنْ داخلي!
تخذلني ذكرياتي ومحاولاتي، كلما أردت ردْم الصَّدع في روحي اكتشفتُ أنه يتَّسع. لا تعلم معنى أنْ تحتضن أختك أو أخيك تطمئنه وقلبك يرتجف! أن تخبره ألاَّ يخاف وأنـت هـو الخائف!
أنْ يلجؤوا إليك لتضحكهم أو تخبرهـم قـصـة كما اعتادوا، بينما تنظر إليهم وتتمنى أنْ تقول لهـم ليخبرني أنـا أحدكـم قـصـة تُنسيني ما يحدث حولي. ربما أزالوا الأنقاض مِنْ فوقي، ولكن مَنْ سيزيلها من داخلي! (عمري 22 عاماً وفقدت 22 شخصاً)
جثَّةٌ تَرْتدي زَيَّ تَخرُّجٍ..
لـم أتخيَّل يومـًا أنْ تضيـق علـيَّ الأرض وتبقى المقبرة هي المكان الوحيـد الـذي أستطيع فيه إخبارَ عائلتي بأني تخرجت أخيرًا، لم أتصوَّر قبْلاً أني لن أكون قادرة على إخبار أمـي كـم كنت مُمتنة لليالي الاختبار التي نامتها بجانبي لطمأنَتي، لكل كوب قهوة أحضرتـه لـي فـي ساعة متأخرة من الليل بينما كنت أدرس، لـم أخبـر أختي هنـاء بـعـد كـم آنـسـني دعاؤهـا وأحاديثها حين كنت خائفة من الاختبار.. لـم أتخيل كيـف لأحلامنـا التـي تمنيناهـا طويلاً أنْ تنقلب لكابـوس بشـع، أن تنتهـي أعوامٌ من الدراسة وقد أصبحتُ جثةً ترتدي زيَّ تخرُّجٍ. (عمري 22 عامًا وفقدت 22 شخصًا).
ذاكرةُ الساعة الواحدة بعد مُنتصَف الليل
صراخٌ وهلع وبكاء وأصوات الصواريخ المُدمِّرة، كان الأطفال والنساء أكثرُ أشخاصٍ خائفين، لم يدركوا ما يحدث.
هذا صوت أمـي ويـد أختي ونظرة أخوايْ، وشكل الحائط الذي أمامي وهو يتشقق، وهذه الأرض التي ابتلعتنا، والمبنى الذي انهال فوقنا، ثم الأسقف التي قصمتْ ظهورَنا والحجارة التي جرحت أجسادنا، والرماد الـذي نتنفس، وأجسادنا العالقة، والظلمة الحالكة والدم الذي يسيل، وانعدام الهواء ورائحة الركام والتراب الـذي نبتلع، والحجارة اللعينة التي فصلتني عن أهلي الذين كانوا بجانبي، وصراخي وصراع أفكاري، وصراخي وصراع أفكاري، وصراخي، وصراخي.. إلى أن تلاشي صوتي حتى اختفى تمامًا.
هـذا مـا تذكرني به الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وقْتَما قصفتْ الطائرات الحربية الإسرائيلية بيتي الذي أسكن، حينما فقدتُ اثني وعشرين فردًا من عائلتي بينما كنت أنا الأخرى أصارع الموت. (عمري 22 عامًا وفقدت 22 شخصًا).

زينب.. الرُّوحُ تَنزِفُ كلماتٍ
من المُجدي أن نُضيف نصًا كتبَتْه “زينب شكري القولق” واختارَه الشهيد الدكتور “رفعتْ العرعير” ليكون مادةً في اختبارِ ترجمةٍ إلى اللغة الإنجليزية، وضعَه لِطُلابه في الجامعة الإسلامية لغزَّة، سنة 2022. حيث جاء في ورقة الاختبار:
في اختبار التَّرجمة الأدبية في “الجامعة الإسلامية – غزة”، طلبتُ من طالباتي النَّجيبات ترجمةَ جزءٍ من كلمات “زينب القولق” التي فقدتْ 22 من أفراد عائلتها، مِنهم: أمّها وأختها واثنان من إخوتها وجدها وجدتها، في مجزرة شارع الوحدة العام الماضي (ماي 2021).
من كلمة “زينب شكري القولق”، النَّاجِيَة من مَجزرة قتَل فيها الاحتلال الإسرائيلي 44 فلسطينيًّا منهم 22 من عائلة زينب.
عمري 22، قتلتْ لي “إسرائيل” 22 شخصًا.
ماما أمل، وأختي هناء، وأخي أحمد، وأخي الأكبر طاهر جدي أمين، وجدتي سعدية وعمتي بهاء… كنتُ أتخيَّلهم واحدًا تلْوَ الآخر بداخل تلك الأكفان كلما انتهيت من رسم أحدها، ودعَّت قريبي الذي تخيَّلته بداخله. اثنان وعشرون كفنًا، اثنان وعشرون روحًا رحلت في ليلة وضحاها، تلك الأكفان ليست متشابهة كما ترى على الإطلاق، كل كفن منها يحتوي على قريب لي.
صراخٌ وهلع وبكاء وأصوات الصواريخ المدمرة. كان الأطفال والنساء أكثر أشخاص خائفين، لم يدركوا ما يحدث.
هذا صوت أمي ويد أختي ونظرة أخواي وشكل الحائط الذي أمامي وهو يتشقق، وهذه الأرض التي ابتلعتنا، والمبنى الذي انهال فوْقنا، ثم الأسقف التي قصمتْ ظهورنا والحجارة التي جرحتْ أجسادنا، والرماد الذي نتنفس، وأجسادُنا العالقة، والظُّلمة الحالكة، والدم الذي يسيل، وانعدام الهواء، ورائحة الركام والتراب الذي نبتلع، والحجارة اللعينة التي فصلتْني عن أهلي الذين كانوا بجانبي، وصراخي وصراع أفكاري، وصراخي وصراع أفكاري، وصراخي، وصراخي إلى أن تلاشى صوتي حتى اختفى تماما..
يستفزُّني مرور الأيام وشمس كل صباح، ما زلتُ أنتظر أنْ أفتح عيناي كما عهدت دومًا على ابتسامة أمي واهتمامها المفرط بي كطفلة متلهِّفة، لحضن واحدٍ من هناء، اعتدت السهر مع أحمد ليخفف عني عبء أيامي بضحكاته ما زالت ضحكاته تتردد في أذني للحد الذي يجعلني ألتفتُ أبحث عنه.
اشتقت لفنجان قهوة واحد مع طاهر، لنفتح حديثًا ونمُرَّ بألف قصة لم نُنْه أيًا منها ولكننا نضحك أخيرًا، لم يكن أخًا عاديًا، فقدت أخي الأكبر وصديقي المفضل. لا أستطيع الالتفات لبرهة إلا وذكرى لأحدهم أو لجميعهم تباغتني، هلكتْ روحي شوقا. ألمُ الفقْد يتسع، يزداد بمرور الوقت ولا يهدأ ولا يسكن ولا يصمت..