مع تصاعد الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، لم يعد التوتر بين البلدين مقتصرًا على التصريحات السياسية، بل امتد إلى الملفات الأمنية والاستخباراتية، وحتى إلى النقاشات داخل المؤسسات الإعلامية والتشريعية الفرنسية، فمن اتهاماتٍ بتجميد التعاون الأمني، إلى تهديدات تطال شخصيات فرنسية بسبب مواقفها المساندة للجزائر، وصولًا إلى قرار قناة “فرانس 5” المفاجئ بسحب وثائقي يكشف جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، كل ذلك يطرح تساؤلات حول عمق هذه الأزمة وتأثيرها على العلاقات الثنائية مستقبلاً.
وفي هذا الصدد، اعترفت مديرة الأمن الداخلي الفرنسي، سيلين برتون، بأن التعاون الاستخباراتي مع الجزائر بلغ “أدنى مستوياته”، مشيرة إلى أن الأزمة السياسية الراهنة أصبحت عائقًا أمام أي تقارب أمني بين البلدين. وفي مقابلة مع قناة فرانس إنفو، وصفت برتون الوضع بـ “الصعب” و”غير المحتمل”، في إشارة واضحة إلى الضرر الذي لحق بالاستخبارات الفرنسية جراء هذا الفتور في العلاقات.
تصريحات مديرة الأمن الداخلي تزامنت مع تصريحات سابقة لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الذي كشف في حوار مع صحيفة لوبينيون الفرنسية أن الجزائر علّقت التعاون مع المديرية العامة للأمن الداخلي الفرنسي، بسبب وقوعها تحت سلطة وزير الداخلية برونو ريتايو، الذي اتخذ مواقف معادية للجزائر منذ توليه منصبه. بالمقابل، أكد الرئيس أن التعاون الاستخباراتي لا يزال قائمًا مع المديرية العامة للأمن الخارجي، التي تتبع وزارة الدفاع الفرنسية، وهو ما يعكس انقسامًا داخل المؤسسات الفرنسية نفسها في التعامل مع الجزائر.
هذا الوضع يُسلّط الضوء على الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها الجزائر لفرنسا في مجالات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، وهو ما يفسّر القلق المتزايد في باريس من استمرار الأزمة وتأثيرها على الأمن القومي الفرنسي، خاصة في ظل التهديدات الإرهابية المستمرة في منطقة الساحل، حيث تعتبر الجزائر لاعبًا رئيسيًا في جهود مكافحة الإرهاب.
برلمانية تحت التهديد.. دعم الجزائر ممنوع في باريس؟
لم يتوقف ارتداد الأزمة عند التعاون الأمني، بل طال حتى السياسيين الفرنسيين الذين أبدوا مواقف داعمة للجزائر، حيث كشفت النائبة الفرنسية صابرينا صبايحي عن تلقيها تهديدات بالقتل بسبب مساعيها لدفع فرنسا نحو الاعتراف بـ”مجزرة باريس 1961″، التي راح ضحيتها مئات الجزائريين.
وأوضحت صبايحي، ذات الأصول الجزائرية، أنها تواجه بشكل متكرر حملات إساءة كلما تحدثت عن العلاقات الجزائرية الفرنسية، مشيرة إلى أنها تلقت رسالة تهديد في أفريل 2023، خلال عملها كمقررة لمقترح يدعو فرنسا إلى الاعتراف الرسمي بأحداث 17 أكتوبر 1961.
صبايحي، التي تشغل منصب نائب رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية الجزائرية في الجمعية الوطنية الفرنسية، أكدت أنها لن تخضع لهذه التهديدات، وأنها رفعت شكوى رسمية بشأنها، ما يكشف حجم الضغوط التي تواجهها الأصوات الفرنسية التي تسعى إلى تصحيح الرواية التاريخية بشأن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
قناة “فرانس 5” تُلغي وثائقيًا عن الجرائم الفرنسية في الجزائر.. لماذا؟
في خطوة أثارت جدلًا واسعًا، ألغت قناة فرانس 5 بث الفيلم الوثائقي “الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة”، الذي يفضح استخدام فرنسا للأسلحة الكيميائية المحظورة خلال حربها الاستعمارية في الجزائر بين عامي 1954 و1959.
ورغم أن القناة لم تقدم تبريرًا واضحًا، إلا أن صحيفة ليبيراسيون الفرنسية كشفت أن القرار جاء بحجة “تخصيص مساحة لتغطية مستجدات الحرب في أوكرانيا”، وهو مبرر أثار استغراب المتابعين، خاصة أن الوثائقي كان مقررًا عرضه منذ مدة طويلة.
الوثائقي، الذي أخرجته كلير بييه، يستند إلى أبحاث المؤرخ الفرنسي كريستوف لافاي، ويكشف كيف استخدمت فرنسا أسلحة كيميائية محظورة بموجب بروتوكول جنيف لعام 1925 في عملياتها العسكرية ضد الثوار الجزائريين، خاصة في المناطق الجبلية.
ورغم إلغاء البث التلفزيوني، إلا أن الفيلم أصبح متاحًا على الإنترنت، مما يطرح تساؤلات حول دوافع القناة الفرنسية في محاولة حجب هذه المعلومات، وهل يعكس هذا القرار سياسة انتقائية في التعامل مع القضايا الحقوقية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بجرائم فرنسا الاستعمارية؟
بين دعوات التهدئة والمطامع الانتخابية
التصعيد الفرنسي تجاه الجزائر، والذي تجلى في تصريحات مسؤولين كبار وقرارات تمس ملفات تاريخية وأمنية حساسة، يعكس ارتباكًا في السياسة الفرنسية تجاه الجزائر، فبينما تسعى بعض الأطراف في باريس للحفاظ على قنوات الاتصال مع الجزائر، تتجه أخرى، خاصة من التيارات اليمينية المتطرفة، نحو تأزيم العلاقة عبر خطاب عدائي واستفزازي.
ورغم محاولات بعض الأصوات داخل فرنسا التهدئة، إلا أن الأزمة الحالية مرشحة للاستمرار في ظل استمرار التوترات السياسية، خاصة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية في فرنسا، حيث يُستخدم ملف العلاقات مع الجزائر كورقة في الصراعات السياسية الداخلية.
بالمقابل أظهرت الدبلوماسية الجزائرية تماسكًا في مواجهة هذه الاستفزازات، وهو ما جعلها تكسب المزيد من الدعم داخل القارة الإفريقية، خاصة بعدما أكدت استقلالية قرارها ورفضها لأي تدخلات خارجية.
وفي ظل هذه المعطيات، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستُراجع باريس سياستها تجاه الجزائر، أم أنها ستواصل نهج التصعيد رغم الخسائر الأمنية والاستراتيجية التي قد تترتب على ذلك؟