فيلسوف الجُوّانيّة “عثمان أمين” يتحدّث من تلمسان.. العربُ أرقامُ حساب.. يعيشون على هامش أنفسهم (الجزء الثاني والأخير)

قبل عشرين عامًا من إطلاق القنبلة الذريّة على المدينتين اليابانيتين: “هيروشيما” و”ناغازاكي”، في شهر أوت 1945، كتَب الفيلسوف المصري “عثمان أمين”، في عام 1927، مقالا بعنوان: “هل العلم صديق الإنسان؟”، قال فيه: “إنِّي لا أرى حدًّا لِمَا يأتي به الإنسان من مغامرات رهيبة في آفاق العلم. وإنّ العقل لتُساوره الحيرة بإزاء ما ستكون عليه الحياة أمام أحفادنا”، ووجّه تحذيرًا إلى الإنسانية، قائلاً: “لقد آن لنا أن نتعلّم كيف نعيش معًا في وفاق وأمن وسلام، وأن نعمل على تنظيم أنفسنا وضمّ صفوفنا في مواجهة الفتنة النائمة التي لو قُدِّر لها أن تستيقظ لَقضَت على الغالب والمغلوب على السّواء”.

نعم، قبل عشرين سنة من إطلاق القنبلة الذريّة على المدينتين اليابانيتين: “هيروشيما” و”ناغازاكي”، حذّر “عثمان أمين” من القطيعة بين العلم والأخلاق، وقال: “فقد يأتي يوم نرى فيه الوجود الإنساني نفسه تحت رحمة عالِمٍ من العلماء، ونرى أنّ لمسة زُرٍّ صغير قد تفجِّر قوى عنيفة تقضي على جماعات وشعوب بأسرها!”، وجاء ذلك اليوم، وتلته أيامٌ وأيّامٌ.. وهو متواصلٌ في حرب الإبادة المُعلنة على الشعب الفلسطيني في غزّة، هذه الحرب التي تُقدّم المعنى الحقيقي للحضارة الغربيّة في أبشع معانيها، وتؤكّد أنّ “الحضارة الغربية تستسيغ لحوم الآدميين”، وأنّها حضارةٌ بلا قيم وبلا أخلاق، بل هي تحارب القيمَ والأخلاق وتتوجّه بالإنسانيّة إلى مهاوي الشيطان!

بعد مضيِّ أكثر من قرنٍ منذ ذلك التّحذير، هل تعلّم الإنسان كيف يعيش؟ وهل تعقَّل العلمُ واعتنقَ مَذهب الأخلاق والإنسانية، أم أنّه أوغل في عداوته للطبيعة ومختلف أحيائها ومخلوقاتها وموجوداتها؟ الأكيد أنّنا عندما نتحدّث عن العلم فإنّنا نتحدّث عن الحضارة الغربية التي لا روح لها، والتي لا تعترف بالقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، وإن كانت ترفع الشّعارات البرّاقة التي لا أثر لمعانيها في أرض الواقع. يقول “طاغور”: “إنّ حضارة أوروبا نَهِمة ومُسيطرة، تلتهم البلاد التي تغزوها، إنّها تُبيد الأفراد والهيئات والشعوب التي تعوق مسيرتها الفاتحة. إنّها حضارة كلّها سياسيّة، تستسيغ لحوم الآدميين. إنّها تقهر الضعفاء وتَثرى على حسابهم، إنّها آلةٌ للطّحن. إنّها تبذر، أينما ذهبَت، الحسدَ والغيرة والشقاق”. فماذا يقول “عثمان أمين” فيلسوف “الجوّانيّة” عن الحضارة والثقافة؟

في الملتقى التاسع للفكر الإسلامي، الذي احتضنته مدينة “تلمسان” في الجزائر، ألقى “فيلسوف الجوانيّة” مُحاضرةً حول الموضوع “الثقافة والحضارة”، نشرتها مجلة “الأصالة” الجزائريّة في شهر فيفري 1976، وقد وعدَت جريدة “الأيام نيوز”، في أعدادٍ سابقة، بإعادة نشر محاضرات الفيلسوف “عثمان أمين” – وهو أستاذ مُفكّرنا الجزائري وفيلسوف الإنِّيَّة “مولود قاسم نايت بلقاسم” – حتى لا تبقى في طيِّ النسيان. ونترك القارئ مع أول محاضرةٍ اخترنا نشرها..

الحضارة الغربية تستسيغ لحوم الآدميين

في 18 من يونيو/ جوان 1916، ألقى “رابندرانات طاغور” محاضرة في جامعة “طوكيو” خاطب فيها الشبيبة بقوله: “إنّكم لا تستطيعون أن تقبلوا الحضارة الحديثة كما هي. إنّ واجبكم أن تُدخِلوا عليها التغيير الذي تتطلبه عبقريّتنا الشرقية. وواجبكم أن تبثّوا الحياة حيث لا يوجد إلّا الماكينة، وان تستعيضوا بالقلب الإنساني عن حسابات المصلحة الباردة، وأن تُتوِّجوا الحقَّ والجمال حيث لا سلطان إلّا للقوة الغاشمة والنجاح اليسير. إنّ حضارة أوروبا نَهِمة ومُسيطرة، تلتهم البلاد التي تغزوها، إنّها تُبيد الأفراد والهيئات والشعوب التي تعوق مسيرتها الفاتحة. إنّها حضارة كلّها سياسيّة، تستسيغ لحوم الآدميين. إنّها تقهر الضعفاء وتَثرى على حسابهم، إنّها آلة للطّحن. إنّها تبذر، أينما ذهبَت، الحسدَ والغيرة والشِّقاق.

إنّها حضارةٌ تصنع الفراغ حولها. إنّها حضارة علمية لا إنسانية، ومصدر قوتها أنها تركِّز جميع قواها صوب غاية واحدة: الثروة والسلطة، وتحت اسم الوطنية لا تُراعي كلمة الشرف. إنّها تمدُّ بلا خجلٍ شِباكَها، ونسيجها الكاذب، وتقيم للمعبود الهائل البشع الذي تعبده المعابد المُشيّدة للكسب والمنفعة، ونحن نتنبّأ دون تردّد بأنّ ذلك لن يدوم، لأنّ في العالم قانونا أخلاقيًّا مُهيمنًا ينطبق على الجماعات كما ينطبق على الأفراد. فإنّ هَدمَ كل مثلٍ أعلى في الأخلاق ينتهي بأن يؤثِّر في كل عضو من أعضاء الجماعة، ويولِّد عدم الثقة والاستهتار، ويحطِّم في الإنسان كل ما هو مُقدّس. إنّ حضارةً تجعل دأبها أن تتمرّد على القوانين التي سنّها العلي القدير، لا تستطيع أن تنتهي إلّا إلى كارثة..”.

و”رومان رولان” (1866 – 1944) الذي سجّل بعض فقرات هذه المحاضرة في “يومياته”، أعلن أن هذه المحاضرة التي تُبيِّن مُنعطفًا في تاريخ العالم لم يكن لها صدى في كبرى الصحف الأوروبية ولم تُنشر إلّا في المجلة المُسمّاة “أوت لوك” (The Outlook) الصادرة بنيويورك في التاسع من أغسطس/ أوت 1916.

رسالة المثقّف.. إسعادُ المجتمع وتقدّمه

الثقافة عندنا ليست معلومات محفوظة ولا تطبيقات منقولة، بل هي في مفهومها الصحيح هي شيء يجاوز المهارة أو البراعة في أيّ ناحية من نواحي العلوم النظرية أو العملية. الثقافة مرادفة في نظرنا لحضور القلب ويقظة الروح، وهُما لا يكونان إلّا مع الضمير الحي والعقل الناضج والقلب السليم. ومتى استيقظ الوعي والضمير في الإنسان أصبح النظر والعمل عنده متلازمين لا يفترقان، وأصبحت حياته مصداقا لأفكاره، فبعُدَ عن الآلية والأنانية، وقصَد إلى الغايات بأفضل الوسائل، واتّجه إلى الجوهر والمخبر، دون وقوفٍ عند المظاهر والأعراض. والأساس المتين الذي تقوم عليه الثقافة الواعية، ثقافة القلب والعقل والحس، هو الاعتقاد بالقيم الروحيّة والمبادئ الأخلاقية.

فلسنا نتصوَّر أن واعيًّا لا تصدر أفكاره وأعماله عن يقين راسخ بأنّ الثقافة – كالحضارة – تقوم على الإيمان، أي على الرابطة الأخلاقية التي تدفع الناس إلى أن يفكِّروا ويعملوا متساندين، مرتفعين على بواعث الأنانية والأثَرَة، مُتخطِّين نوازع المصلحة المادية المباشرة.

الثقافة الحقيقية.. يتألّق فيها نور العقل والإيمان

والإنسان المثقف مَنوطٌ برسالة أخلاقية اجتماعية عليه أن يؤدِّيها: فهو بحكم وعيه المستنير تكون رسالته هي السّعي الدّائب إلى تقدّم المجتمع وإسعاده. فهو يجعل جهدَه أن يزكّي في نفوس الناس الشعورَ بالمَثل الأعلى وهو ذلك الشعور الذي استضاء بنور العقل، فأصبح حرية نابعة عن الذات، ووعيًّا للحقوق والواجبات. ينبّه وعيهم للحقوق حتى لا يستغلّهم المُستغِلّون، وحتى يتعاونوا فيما بينهم، وحتى يبذلوا جهودهم من أجل المجتمع. والمجتمع لا يتطلّب من المثقف، لكي يؤدّى هذه الرسالة، أن يكون عارفًا فحسب، بل أن يكون على الخصوص “فاضلا”. ولا يتطلّب منه أن يكون قد وصل إلى أعلى درجة من الثقافة فحسب، بل أعلى درجة من الأخلاق في عصره. وما مِن واحدٍ من أهل الثقافة يستطيع أن يزهو بنجاح دعوته لإصلاح أمته ما لم يكن قد بدأ بإصلاح نفسه. إنّ الثقافة الحقيقية هي تلك التي يتألّق فيها نور العقل والإيمان.

أمّا المدنِيّة، فقد سجّلتُ موقفي منها منذ أكثر من أربعين سنة في مُذكِّرة جيبٍ فقلتُ ما نصُّه: إنّ أعظم ما يُميِّز “المدنِيّة” عندي، خُلق التسامح، والبعد عن التحيّز وتجنّب الميل مع الهوى. وما دامت المدنِيّة الحاضرة لا تزال مَشوبة بنزعات العصبية ونزوات الكراهية، وعلى الخصوص في الأمور السياسية، فهي بعيدة في جوهرها عن المدنِيّة الحقيقية. (كتاب “الجُوّانِيّة”، ص: 36).

هل العلم صديقٌ للإنسان؟

في سنة 1927، استوقفتني مشكلةُ العلم والأخلاق، ومضيتُ أقرأ وأتأمّل، وكانت نتيجة هذه الدراسة التأمُّلية مقالا نشرته بعنوان: “هل العلم صديقٌ للإنسان؟”، قلتُ فيه إنِّي لا أرى حدًّا لما يأتي به الإنسان من مغامرات رهيبة في آفاق العلم. وإنّ العقل لتُساوره الحيرة بإزاء ما ستكون عليه الحياة أمام أحفادنا.. مُفسِّرًا أسباب تخوُّفنا من العلم، مع أنّه فيما يُقال رهن إشارة الإنسان وطوع أمره، وإنّه لَيَهولنا أمرُ القوى التي استطاع العلم ابتعاثها حتى اليوم، وقد يساورنا القلق لفكرة القوى التي قد يوفّق إلى ابتعاثها في الغد. فقد يأتي يوم نرى فيه الوجود الإنساني نفسه تحت رحمة عالم من العلماء، ونرى أنّ لمسة زُرٍّ صغير قد تفجِّر قوى عنيفة تقضي على جماعات وشعوب بأسرها..

أَفَكانت هذه نبوءة منّي بالأخطار التي سيتعرّض لها العالم بعد ذلك بعشرين سنة، بفضل الأسلحة الذريّة؟ مهما يكن الأمر، فقد مضيتُ في مقالي فعبَّرتُ عن أملي في أن يكون العلم في المستقبل قوّةً روحيّة كلها خير وبركة تخفِّف أعباء سكان الأرض جميعًا.

وذكرتُ، مع ذلك، أنّ الشك يخامرني في استطاعة العلم أن يجعلنا أوفر سعادة وهناء، وإن كنتُ على يقين بأنه لا يجعلنا أكثر حكمة ورشادا! وأشرتُ في وضوح إلى أنّ صداقة العلم للإنسان أو عداوته له إنّما هي مسألة إنسانية في صميمها، ترجع إلى قوة النفوس ومتانتها..

والأمر كلّه يتوقّف علينا، وعلى مدى شعورنا بوجوب الإقلاع عن الخُطّة السّقيمة التي سارت عليها قافلتنا في ماضيها. ولو سار أهل العلم على أساس الحكمة والروِيَّة لزال خوفنا منه، ولأصبحنا نرى فيه ذلك المُحسن المتفضل الذي يدرّ الخير على الجنس البشرى جميعا. ومن ثم نستطيع أن نستخدم المال الذي اعتدنا إنفاقه على السلاح والذخائر في وجوه الإصلاح، وفي تحسين مرافق الحياة تحسينًا من شأنه أن يحلّ مشاكل الإنتاج والطعام والزراعة والصناعة وما إليها.. وأن يهيئ لنا حياة أرغد وأهنأ وأوفر سلامًا واطمئنانا، وعالمًا أرحب مكانا لإقامتنا القصيرة مِمّا كان عليه في تاريخه المضطرب العصيب.

ووجّهتُ التّحذير الذي كثيرًا ما وجّهه المُفكِّرون المعاصرون بعد إطلاق القنبلة الذريّة في الحرب العالمية الثانية: “لقد آن لنا أن نتعلّم كيف نعيش معًا في وفاق وأمن وسلام، وأن نعمل على تنظيم أنفسنا وضمّ صفوفنا في مواجهة الفتنة النائمة التي لو قُدِّر لها أن تستيقظ لَقضَت على الغالب والمغلوب على السّواء”.

أخلاق العلم

وكتاب الأستاذ “ألبير باييه” بعنوان “أخلاق العلم” يؤكِّد موقفي الجُوّاني من العلم والأخلاق والمدنِيّة، فالفصول الأولى منه تؤكِّد هذه الفكرة: وهي أنّ العلم لا يستطيع أن يُرشدنا إلى القيم الأخلاقية، ولا إلى ما ينبغي أن يكون. ولهذا يجب “ألّا نطلب إلى العلم ما لا يسوغ له أن يعطينا” (كتاب ” دفاع عن العلم”، ص: 53).

لقد آن أن نختم الحديث، فأقول أنّي الآن بعد أن طوَّفتُ فى الآفاق شرقا وغربا: التماسًا لمعنى الثقافة والحضارة، لا أجد مُعبِّرًا عن موقفي منهما خيرًا من بيت عربي للشاعر الصوفي “فريد الدين العطار”، يقول فيه:

فإنْ تقرأ علومَ الناسِ ألْفا — بلا عشقٍ فما حصلتَ حَرفا

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
انطلاق أشغال اجتماع وزراء الداخلية لمجموعة الـ7 بمشاركة الجزائر دراسات طبية تحذر.. لماذا لا ينصح بتكرار غلي الماء؟ حج 2025.. انطلاق التسجيلات عبر الموقع الالكتروني والبلديات رسميا.. عون يطلق الصيغة الجديدة لـ “فيات دوبلو” بمصنع وهران إنهاء مهام رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الجائزة الكبرى شانطال بييا 2024.. الجزائري إسلام منصوري يفوز بالمرحلة الثالثة المبعوث الأممي دي ميستورا يصل إلى مخيمات اللاجئين الصحراويين غلق مؤقت للطريق السريع شرق اتجاه الجزائر الدار البيضاء منح تراخيص لـ 67 ألف مستثمرة فلاحية منذ 2020 إدراج 3 أسماء لأوّل مرة.. بيتكوفيتش يكشف عن قائمة اللاعبين المعنيين بمواجهتي الطوغو لبنان.. الطيران الصهيوني يشن 17 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت النفط يواصل حصد المكاسب للجلسة الثالثة على التوالي أمطار رعدية غزيرة على 21 ولاية في اليوم الـ363 من العدوان.. شهداء وجرحى في قصف الاحتلال على عدة مناطق في قطاع غزة للتستّر على خسائرها.. "إسرائيل" تمارس خدعة "إخفاء الجثث بالجثث" نائب الرئيس في مواجهة البرلمان.. الأزمة السياسية في كينيا تقترب من الانفجار عمار بن جامع يسأل: لماذا يخشى المغرب الاستفتاء على تقرير مصير الشعب الصحراوي؟ أحد أبرز المرشّحين لقيادة حزب الله.. من هو نعيم قاسم الذي بشّر اللبنانيين بالنصر؟ رسميا.. تنصيب اللجنة الوطنية لمراجعة قانوني البلدية والولاية وسط مخاوف من اتساع رقعة الصراع.. إيران تعلن انتهاء هجماتها الصاروخية ضد الصهاينة