من المتعارف عليه في إستراتيجية التنويم والتلاعب الذهني، التي تُرصد لها ثروات وميزانيات طائلة من طرف مخابر التوجيه والتأطير والقولبة المسبقة للعقل الجمعي ، أنه كلما كانت الصورة واضحة بشكل ملفت للانتباه، كلما كانت التعمية والغموض هما الهدف المنشود، وذلك لتعليب مشاريع ومخططات ما كان لها أن تمر لولا لعبة التلهية الذهنية التي غالبا ما يتم تعليبها في وضوح صورة معروضة ومسوقة بشكل لا يدخل شكا ولا ريبة لمن يقف أمامها، فيما الحقيقة أن الغموض كله، في ذلك الوضوح الذي يجعلك أنت الصورة بعد أن أعدم مهندس اللعبة، المسافة بينك وبين الحقيقة التي تعني أن تتراجع إلى الوراء، لترى الأشياء على حقيقتها بعيدا عن أي توجيه وقولبة وتأطير مسبق.
ما يجري الآن في ساحة المحرقة بغزة، ومن شدة وضوح صورته وركامه وأنقاض غزّته، ناهيك عن أبطال الركح الذين يديرون خشبة المسرح ومذبحته، يستدعي التراجع خطوات إلى الخلف، لقراءة أخرى للأحداث المُسوقة بعيدا عن أي تأثير للدعاية الإعلامية والسياسية؛ قراءة مغايرة للتسويق الممنهج لصور الدمار ورائحة الدم وتناثر الأشلاء دون أي رادع أو خوف صهيوني من التداعيات، وكأن الأمر تحول إلى فوضى غير محسوبة تورط فيها نتنياهو وكيانه وأجهزته الأمنية، بدافع الانتقام والثأر من طوفان أقصى جرف “بعبهم”، ليجدوا أنفسهم في محطة اللارجوع واللاعودة، ولا يهم، في الصورة المسوقة منذ شهرين من سيناريو المقصفة، إن خسرت “إسرائيل” كل ما بنته لسبعين عاما من “تطبيع” صورتها ليس فقط مع العرب ولكن مع الغرب، الذي صحت شعوبه اليوم على حقيقة واحدة مفادها أن “دويلة” الكيان الصهيوني، ليست إلا احتلالا غاشما، وأن الذي يحدث في فلسطين حرب حرية بين مغتصب متوحش وبين شعب أعزل إلا من إيمانه بأنه صاحب الحق في أرضه.
الصورة بذلك الشكل الذي خسرت فيه “تل أبيب” كل ما بنته في سبعين عاما من وجودها، واضحة لدرجة تدفع كل محلل للأحداث للبحث عن الخلل في ذلك الوضوح غير المنطقي، الذي دفع نتنياهو ومن وراءه لأن يفقدوا العالم كله، مقابل أن ينهوا “غزة” نسلا وحرثا غير مبالين بالقادم من تهاوٍ لكل أسهم “دويلتهم” على مستوى الرأي العام العالمي شعوبا ودولا؛ فترى ماذا يوجد في غزة غير الجثث المفحمة التي غطت سحبها على الحقائق المغيبة؟ وكيف للبيت الأبيض ممثلا في جون بايدن ولباريس مجسدة في رئيسها الرخوي إمانويل ماكرون وفي بريطانيا بصورة رئيس الوزراء ريشي سوناك، أن يغامروا بكل ما لديهم من أوراق في حرب خاسرة إنسانيا وسياسيا وحتى اقتصاديا؟ وذلك في ظاهر الصراع الذي نراه من وراء أوراق الشجرة التي أخفت صورة ولعبة الغابة الحقيقية، حيث محرقة غزة، أظهرتها التقارير الإعلامية الدولية وبعد شهرين من المذبحة، أنها صراع وصفقات “غاز” سبقت نيران وركام وحطام غزة، فما حكاية “بريتش بتروليوم” و”إنفوسيس” كشريك مذبحة، وكاقتصاد ما وراء صفقات الغاز وما بعد أفران غزة..؟!
“بريتش بتروليوم” و”إنفوسيس”.. الوجه الآخر لأفران الغاز بغزة!
في كل حروب القرن العشرين والواحد العشرين التي قادها التحالف الأمريكو – أوربي، فإن ركح المذابح التي طالت الجسد العربي من بغداد إلى الشام فليبيا واليمن والسودان مرورا بفلسطين، دون نسيان دول القارة السمراء، فإن القاسم المشترك في لعبة الحروب، تحت مسمى الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم يكن إلا الذهب الأسود ومناجم اليورانيوم والمعادن الثمينة؛ فالمذابح التي كان ظاهرها الدفاع عن دين الديمقراطية الغربية لم تكن إلا حروب دول بالوكالة عن اللوبيات الاقتصادية والشركات متعددة الجنسيات. وإذا كانت مذابح العراق وليبيا والشام واضحة النفط والأهداف والغايات الاقتصادية، حيث لم يكن خافيا أنها ديمقراطية “البترول” التي أزالت دولا وشردت وقتلت الملايين في تصفية عرقية “البنزس”، فإن المغيّب في محرقة غزة أنه ليست عملية طوفان الأقصى التي كانت سببا في إنهاء غزة بنيانا وإنسانا، ولكن ما في “بطن” غزة، من مسكوت ومتستر عنه، ما برر المذبحة واستعجل حدوثها، فإذا كان ظاهر الصـورة بوضوحها المُسَوَق، أن الجنون الصهيوني سببه الانتقام والثأر من عملية طوفان الأقصى النوعية البطولة والملحمة، فإن الخفي في إصرار “إسرائيل” على مواصلة حملة التهجير العرقية وإفراغ غزة من إنسانها، مهما كانت النتائج ومهما بلغت الخسائر، ليس إلا ما كشفته الصحف ووكالات الأنباء العالمية في شهر ماي الفارط، عما سمي – حينها – بصفقة الغاز أو القرن في غزة بين الكيان الصهيوني وبين شركة “بريتش برليوم” ؛ وبعبارة أدق صفقة 1.5 مليار دولار مع شركة “بريتش بيتوليوم”، حيث منحت حكومة نتنياهو تراخيص تنقيب عن الغاز لعدة شركات منها “بريتش بترو ليوم”، وكذا شركة “إنفوسيس”،التي تمكلها “أكشاتامورتي”، زوجة رئيس الوزراء البريطاني، بالإضافة لشركة “توتال” الفرنسية وشركات أمريكية رائدة، نالت كل واحدة منها حصتها في لعبة غاز غزة، الذي كان يستلزم ويشترط لعبة “أفران” لتهجير وإفراغ غزة من أهلها حتى تستوي طبخة الغاز، وهو ما تم فعلا مع ما نراه من تهجير لأكثر من مليون غزّي! لذلك، فإن طوفان الأقصى لم يكن إلا استباقا لمحرقة غاز معلومة، أبطالها شركات متعددة الجنسيات، قامت بالتأشير على المذبحة وذلك بطوفان المقاومة أو دونها، وهو ما يفسر إصرار أمريكا وبريطانيا وفرنسا ومن خلفهم عباءات النفط الأعرابي من براميل الخليج على مساندة نتنياهو في حرب الإبادة، التي تحمل في ظاهرها انتقاما لعملية عسكرية نوعية تسمى الطوفان، أما باطنها فأن أرباب الغاز والنفط من اللوبيات الاقتصادية المعولمة أرادوا ما في “بطن” غزة ولا يهم إن “بقروها” أو انتهى كل ما هو فوقها من بشر وشجر.
نعم، هي حروب النفط والغاز ما يشعل غزة الآن، وليست وحدها لعبة الانتقام ومحاولة رد الاعتبار كما تسوق الآلة الدعائية الصهيونية في محاولة لحجب الصورة الأكبر من المشهد الوحشي لحرب غاز تحجب حقيقة المذبحة بغزة ؛ لذلك، فإن بايدن وماكرون وريشي سوناك لن يتراجعوا عن دعم “إسرائيل” ولو أدى ذلك إلى نهاية العالم، والسبب أنهم وغيرهم من مسمى زعماء العالم، ليسوا إلا موظفين برتبة رؤساء دول لدى الشركات واللوبيات الاقتصادية، ومنه فإن القضية تتجاوز الولاء لـ “إسرائيل” إلى الولاء للبزنس الذي لا تهمه الوسيلة في إستراتجية الغاية، كما لا تهمه الفاتورة مادامت اللعبة “بزنس إيزبنزس”، ولينتهي العرب وينتهي العالم ولينتهي حتى غوتيرش ومجلس أمنه وأممه المتحدة، إذا ما دفعته إنسانيته للدعوة لتفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، فلا شيء يعلو صوت الدولار حين يدق طبول حربه وزحفه ونفطه، في عرف سادة العالم الحقيقيين، حين يقررون حرب المصالح والنفط.
“الحانوكا” بالإيليزيه والبكائية ببيت “غوتيريش”!
الضارة النافعة فيما تهاوى من حقائق على مسرح و”مسلخ” غزة، أن عالم اليوم مُدَان لأجساد الأطفال والنساء والشيوخ المحاصرين بين “غاز” الشركات واللوبيات النفطية ووحشية الكيان الصهيوني بأرض الصامدين، وأن مذبحة “الأفران” التي كثيرا ما ابتز بها اليهود العالم فيما يُسمى بالهولوكوست انتهت إلى تبرئة هتلر من جرم الإبادة، وذلك بعد أن عاشت الشعوب العالمية حقيقة المحرقة حين تكون دولا وحكاما لن يتوانوا على أن يكونوا هُم “الأفران” ذاتها، وذلك إذا ما كانت الصفقة نفطا وكان الجسد عربًا ومسلمين، والمهم فيما افتضح وفضحه طوفان غزة في أقصاه الأشم أنه لم يعد هنالك مجالا لأقنعة أخرى يمكنها أن تخفي بشاعة القتل والتصفية العرقية، إذا ما كانت الغاية نفطا والتهمة مُسلم، فكل شيء مباح ومسموح، ومن يقف في وجه التيار، ولو كان الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” ذاته، فإنه لا غرابة في أن يتم اتهامه بمعاداة السامية ويطُلب منه الاستقالة باسم “فيتو” الكيان الصهيوني، الذي لم يتردد وزير خارجيته “إيلي كوهين” في إعلانها صراحة وهو يقف على جماجم غزة، بأن غوتيريش يهدد السلم والأمن العالميين، وأن عليه الاستقالة، فقط لأنه تجرأ على مراسلة مجلس الأمن، داعيا للتحرك لوقف المحرقة وحفظ ماء وجه الإنسانية في حدها الأدنى.
ومجمل القول إن غزة في مصابها الجلل لم تعرِّ فقط مؤامرة الغرب وخيانة العرب وكذا عجز الأمم المتحدة على حماية حتى أمينها العام من التحرش الصهيوني فما بالك بحماية العالم؟ ولكنها عرّت وفضحت “التيهوديت” المعلومة، مجسدة في علمانية طالما دافع عنها وقهر باسمها الرئيس الفرنسي المسلمين، لكنهم في حالة باريس تتهود وتتصهين، لم يتردد الإيليزيه وبالتزامن مع المذبحة الصهيونية باسم التوراة والتلمود بغزة، في احتضان احتفالات عيد “الأنوار” المسمى بالعبرية “حانوكا” بقصر الإيليزيه، وذلك كسابقة تاريخية كشفت كيف يمكن للعلمانية أن تلبس لها قبعة يهودية سداسية النجمة، حين يتعلق الأمر بدين الحاخامات، الذين كافئوا ماكرون على معروفه بمنحه جائزة «لورد جاكوبوفيتش» اليهودية، والتي يسديها «مؤتمر حاخامات أوروبا» لخدم إسرائيل الأوفياء من الأجناس غير اليهودية، وذلك حين يخلصون في ولائهم لنطفة العجل السامري.
منتهى القول وخاتمته، ولكي نفهم ما يحدث وما يجري وما هو ثابت إلى يوم تستيقظ فيه الأمة العربية والإسلامية من غفلتها، فإن المتاجرة بدماء المسلمين في سوق قتل معولم، تختزلها قصة خرافية متداولة، كتبتها روح اليأس قبل الدعابة عن حال المسلمين، وملخص القصة، أن أمريكيا قتل أسدا بعد أن أنقذ طفلة صغيرة من فمه، لتكب الصحف في اليوم الموالي: “مُواطِنٌ أمْريكِيٌّ يُنْقِذُ فَتاةً وَيَقْتُلُ أسَدًا. فَقَالَ الرَّجُلُ: أنَا لَسْتُ أمْريكِيًّا. فَكَتَبَتِ الصُّحُفُ: رُجُلٌ أجْنَبِيٌّ شجاع يَقْتُلُ أسَدًا حاوَلَ الهُجومَ على فَتاةٍ.
فَقالَ الرَّجُلُ: أنا لَسْتُ أجْنَبِيًّا، أنا عربي مُسْلِمٌ. فَكَتَبَتِ الصُّحُفُ وَبِالبَنْطِ العَريضِ: إرْهابِيٌّ يَقْتُلُ أسَدًا كانَ يَلْعَبُ مَعَ فَتاةٍ!”
وطبعا بقية القصة وخاتمتها ما نراه من مذابح وما نعيشه من استخفاف من البيت الأبيض حين صرح ناطقه الرسمي متحديا العالم قائلا: “أخبرونا عن دولة واحدة في العالم تقوم بتخفيف آلام ومعاناة الناس في غزة أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، لا يمكنكم ذلك”. والأكيد هنا، من يستطيع أن يقول للأسد، أن بوارجك الراسية على شواطئ غزة تكذبك أو.. أن “فمك فايح”؟!!