في عُرف دورة الزمن، فإنه لا جديد تحت الشمس، فالأحداث ومهما تغيّرت صورها وتداخلت ملامح وأدوار أشخاصها، ليست إلا تكرارا واستنساخا لما سبق من سالف شمس وعَصْر، وذلك وفق حلقة تاريخية ثابتة الدوران، عنوانها الراسخ: “ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه القادم بقديمه الذي لن يكون إلا يومنا هذا”..
ذات لندن من تاريخ وأعوام سابقة الصراع والفوضى، حيث أوربا كانت تعيش ظلامها وتخلفها المزمن، شوهد بين الأزقة الضيقة لعاصمة الضباب شبحا لرجل متدثر بقبعته، كان يتحاشى السير في العلن، ليُفاجأ بعشرات من “الحناجر” الغاضبة وهي تحاصره بشارعه الضيق صارخة فيه : “أشنقوه، أشنقوا هذا الفرنسي النتن”.
لحظتها، وبعد ورطته أمام “عوام” أحاطوا به بجرم أنه فرنسي، حيث مشاعر سكان لندن حينها كانت تفيض حنقا لكل ما يُشْتَمّ فيه رائحة من نطفة مجاري نهر السين، صرخ “فولتير” الشهير متسولا عفوَ الجموع الغاضبة بقوله: ” يا أبناء إنكلترا، إنكم ترغبون في قتلي لكوني فرنسيا، ألا يكفيني عقوبة أنني لم أولد إنكليزيا؟، ألا يكفيني عار أنني ولدت فرنسيا؟”، لتكون النتيجة أن تداولت الصحف الصباحية خبرا عن حكاية فولتير الذي نجا من ثورة الشارع بعد أن تبرأ من انتمائه. أما التداعيات، فقد ظلت تاريخا عن فولتير جبان يصفه الإنكليز بالحقير الذي تبرأ من وطنه، فيما يصفه الفرنسيون بالخائن الذي باع نفسه، والمفارقة أن فولتير الذي عاش هاربا بين الحروف، خسر فرنساه ولم تقبله لندن مواطنا كامل الكرامة والحقوق.
الحكمة أنه لا فرق بين شمس الأمس واليوم، بين فولتير الذي زايد بخيانته لعرقه، وبين آل نهيان وآل بايدن وآل محمود عباس وآل المطبعين من ممالك وإمارات ودول، باعوا ذممهم، فلا هم نالوا تقدير الشارع ولا هُم حفظوا كرامة الانتماء، والمهم أن الخيانة واحدة وإن تغيرت جغرافيتها وظروفها وملامح شخوصها، ووحدها غزة وآل غزة من صنعت و”صنعوا” الفارق في عالم لا يعترف إلا بشرعية الصمود وشرعية الثبات وشرعية أن تكون ابن أرضك، فإما أن تمتلكها وإلا فلتدفن في ترابها جذورا سيسقيها جيل غيرك من نسل “باقون ما بقيت شجرة وغُصن الزيتون”..
“الصهيونية” فكرة.. وبيت أبيض و”خُم” عربي التّيجان
في تطور للأحداث بساحة غزة، تساقطت الأقنعة من على وجوه كانت فقط بالأمس القريب دروعا لليهود وللكيان الصهيوني، ليعيد التاريخ نفسه عن صورة “فولتير” لا هو فرنسي ولا هو إنكليزي، فقط مذلة تاريخية هائمة من المواقف المتناقضة، لتبدأ لعبة التراجع خطوات إلى الوراء، لحفظ بقية ماء وجه معولم، ووجه المقارنة ليس في توبة عجوز أمريكي لا زال يفاخر بصهيونيته حتى وإن لم يكن يهوديا، ولكن في اكتشاف بايدن أمريكا، أن غزة أكبر من أن تكون صورة مستنسخة عن بغداد سقطت بين ليلة وضحاها بفعل خونة الديار، ليفهم بايدن المتصهين متأخرا، أن حليفه نتنياهو، ليس بتلك القوة التي كان يراهن عليها، لاجتثاث المقاومة خلال أيام من الإبادة الممنهجة لإنسان غزة، فإذا بعزة غزة تصفع وتخلط أوراق الجميع بدءا من تراجع ماكرون فرنسا عن سياسة “التوقيع على صك على بياض” لصالح نتنياهو، فألمانيا وثورة الناس ببريطانيا، لتنتهي الحال إلى البيت الأبيض وما تمخض عنه موقف جون بايدن من نتنياهو ضاق ذرعا بفشله، مطالبا إياه على هامش محفل احتفائه بعيد “الحانوكا” اليهودي بالبيت الأبيض، بأن يُغير حكومته المتشددة، وأن يجد حلا طويل الأمد لـ “الصراع” الفلسطيني – الصهيوني، بعيدا عن سياسة الأرض المحروقة التي جعلت سلامة الشعب اليهودي على المستوى العالمي على المحك، والمغيب في رسالة جون بايدن أو انقلابه على رفيق مذبحته، ليس في تراجعه عن دعم نتنياهو، ولكن في كشف حقيقة أخرى عن “الصراع” الحقيقي في غزة خصوصا وفي العالم عموما، حيث القضية تتعلق بالمحفل “الصهيوني” ممثلا في “الماسونية”؛ التي لا تعني بالضرورة أن تكون يهوديا، ولكنها مشروع متكامل بكل أدواته ولوبياته وأشخاصه، فيما كيان نتنياهو وقبله شارون ليس إلا حلقة صغيرة في المشروع المعولم، لذلك فإن رسالة بايدن وهو يوقد شمعة “الحانوكا” اليهودي ببيته الأبيض، لم تكن إلا “قرصة” أذن لنتنياهو وحكومته مفادها أن الماسونية كمشروع صهيوني قديم الأجندة والتخطيط والإستراتجية، لن تسمح بهدم المعبد بسبب مغامرة غير محسوبة من كيان تم زرعه في قلب الشرق الأوسط لتجسيد المشروع وليس ليكون حجرة عثر فيه.
بعبارة أخرى، فإن تصريح جون بايدن حول هويته كصهيوني وإن لم يكن يهوديا، أكبر من أن تكون زلة لسان، ولكنها رسالة للوبي الإسرائيلي، بكون جنين دويلتهم حلقة بسيطة في مشروع عالمي متكامل عنوانه الماسونية التي لا تحمل من هوية ولا عرق إلا المصلحة التي تعني السيطرة والتحكم في ثروات العالم كيانا ومكونا، وأن أي تهديد لتلك المصلحة – ولو كان من نتنياهو ذاته – يعني زوال الرعاية السامية وحتى زوال “إسرائيل”، فالمشروع أكبر من دويلة الكيان، حين يصل الخطر إلى المحفل الصهيوني.
الصهيونية فكرة ومشروع ومحفل لا عرق ولا جنسية ولا جغرافية له، هذا ما أبلغه بايدن لنتنياهو محذرا إياه من تهوره ومن نسيان دوره في اللعبة، وهذا ما يعيشه العالم كحقيقة مطلقة سيطرت على كل مراكز القرار العالمية، وسواء كان العنوان هو “الصهيونية” أو “الماسونية” كحركة اقترنت بالسيطرة والنفوذ والتحكم في سيرورة العالم اقتصادا وعروشا ودولا، فإن الثابت في المعادلة أن ملحمة غزة عرّت الوجه الحقيقي للعالم، وأخرجت “سدنة” المعبد والمحفل من سراديب غرفهم المظلمة، بدءا من “زبانية” البيت الأبيض فأوربا وصولا لزبائن العروش العربية ممن يسمونهم حكاما وملوكا وأمراء، فيما الحقيقة هي أن جميعهم أدوات بيد محفل وفكرة واحدة تسمى “الصهيونية” التي أعلنها بايدن وأكد أنه لا علاقة لها باليهود ولكنها ابنة المصلحة فقط، والمصلحة التي كانت مع “إسرائيل” لسبعين عاما من إرضاع الجنين الصهيوني المشوّه، لا ضير إن غيرت جغرافيتها ونفخت لها مستوطنة أخرى تسمى أبوظبي أو جدة أو الرباط، وهو ما نراه من تغيير للبوصلة في توجيه سياسة التّصهين باتجاه جغرافيات أخرى، يراد لها أن تكون بديلا عن “تل أبيب” ، حيث أصبح لنا في كل قطر عربي مُطَبِع، “تل أبيب” و”شارونات” برتبة ملوك وزعماء وحكام، ظهروا أكثر شرا و”شارونية” من شارون ذاته!
مجمل القول في “صهيونية” بايدن أن غزة التي أنهت نتنياهو كورقة سياسية في محفل الماسونية، دفعت “العراب” الأمريكي لأن يحذّر من يقفون وراء المحرقة من أن الأصل في الصراع استمرار المشروع ولا يهم إن كان بيهود “تل أبيب” أو بغيرهم من يهود العروش العربية الجاثمين على أنفاس شعوبهم، وكل ذلك خوفا من أن تكون لهم في كل رقعة جغرافية غزة أو يمن ثائر على حين غرة!
المقاومة “غزة”.. أما الدّرس فإنه “اليمن” السعيد!
لا اختلاف في أنه إذا كانت غزة قد أسقطت ورق التوت من على عورة الحضارة الغربية بشقيها الأمريكي والأوربي ،لتفتح أعين شعوب العالم على حقيقة الأشياء للدرجة التي دفعت الكاتب الأمريكي الشهير “كريس هيدجز” لوصف بلده بقوله: “نحن القتلة الأشرس والأكفأ على الكوكب، ولهذا السبب فقط نسيطر على بؤساء الأرض، الأمر لا يتعلق بالديمقراطية أو الحرية أو التحرر”، قُلنا، لا اختلاف إنه إذا كانت غزة قد نجحت في كشف زيف الغرب وأمريكا، فإن أبناء حضارة سبأ من خلال اليمن السعيد، كانوا الوجه الآخر للملحمة التي دفعت “الصهيونية”، لأن تظهر وجهها في البحر دفاعا عن دين “المصلحة” أو الماسونية التي أخرجت بايدن من ثوبه اليهودي، ليدافع عن ماسونيته وصهيونيتيه فقط بعيدا عن لعبة ومقاصف نتنياهو، فلولا كابوس “باب مندب” البحري وما غيرته غزوات غزو السفن المتوجه للكيان الصهيوني، بغض النظر عن الرايات التي ترفرف فوقها، سواء كانت رايات هندية أو فرنسية أو أمريكية أو بريطانية، لولا ذلك، ما تغيرت معادلة الصراع لتتجه نحو البحث عن تسوية، ليس لحفظ “إسرائيل” فقط، ولكن لحفظ اقتصاد القابعين وراء التجارة العالمية في محفل ماسوني، لا هوية له إلا دين الدولار وعقيدة المصلحة، والمهم فيما ترسخ في ثنائية غزة تقاوم واليمن البسيط ينشأ له إمبراطورية في البحر، أن المحفل الماسوني الصهيوني، وبعيدا عن الصراع في الأراضي المحتلة، قرأ درس “يوجد في النهر مالا يوجد في البحر” جيدا، وفهمه كما لم تفهمه عروش الخم الأعرابي من دول التطبيع، فيكفي الصدق والإرادة، لأن تخلط غزة محاصرة ويمن معدوم وفقير، معادلة العالم، لتجبر حتى أمريكا بايدن للتخلي عن حليفتها “إسرائيل” والانقلاب عن كل نتنياهو فيها.
مجمل القول ومنتهى الكلام؛ أن العروش العربية التي يدّعي حكامها وملوكها عجزهم عن المواجهة وتسجيل مواقف لصالح الأمة تاريخا وجغرافية، أن ملاحم غزة واليمن صفعت الجميع، وسجلت في تاريخ الثبات أن المعركة ليست في قوة أمريكا وأوروبا ولكنها في استكانة وعمالة وخنوع الأنظمة والعروس العربية، فيكفي الملحمة رجالا، كانوا هُم غزة الصمود، كما كانوا هُم سبأ في التضحية ، حتى يكتب التاريخ بعيدا عن نهاية “فولتير” بإحدى أزقة لندن المظلمة، أن المعجزة مواقف تغيّر مجرى الأحداث لتكتبها مشيئة الرجال وليست مشيئة أبناء الدجال، وبعبارة خاتمة..انتهت اللعبة وذاب الثلج وبان المرج، فوحدها الخيانة والعمالة والخنوع من هزم الأمة العربية، دون قتال؛ والدليل.. اسألوا صهيون وبايدن ومحافل الماسون عن تداعيات ما فعلته غزة وما أغرقه يمن الرجال!