في الذكرى الـ 65 لاغتياله.. “علي معاشي”.. صوتٌ غنّى للجزائر واستشهد لأجلها

في الوقت الذي حمل فيه الكثير من الجزائريين السلاح للوقوف في وجه الاستعمار الفرنسي، استغل آخرون حناجرهم للتعريف بالقضية الوطنية وإيصال صوت ثورة التحرير إلى أبعد بقعة في العالم. فلا شك أن الفن الجزائري ساهم في التعريف بالثورة الجزائرية، من خلال الأغاني التي كانت تصدح عالياً، سواء خلال سنوات حرب التحرير، أو بعد الاستقلال.

أغان أبرزت جشع وهمجية المستعمر الفرنسي، وتغنت ببسالة وشجاعة الثوار والشهداء الذين قدموا النفس والنفيس لتحرير الوطن من بطش المستدمر الذي صال وجال فوق أراضينا ناهباً لخيراتها، ومنتهكاً لحقوق أبنائها. فكانت الأغنية الثورية هي السلاح الآخر الذي حمله نخبة من الفنانين الجزائريين ضدّ عدوهم، لتكون بمثابة رصاصات قي صدر المحتل، والتي لاقت صدا واختلجت مسامع العالم بأسره لقوة كلماتها، حتى أن العدو بات يعدم كل من سولت له نفسه إطلاق أغنية تسلط الضوء على أفعالهم الدنيئة.

وكان على رأسهم، شهيد الأغنية الثورية “علي معاشي”، الذي كان بمثابة الشوكة التي جعلت المستعمر يقف جاهداً لاستئصالها. وتحلّ اليوم الخميس، المصادف لـ 8 جوان 2023، الذكرى الـ 65 لاستشهاده، وهي الذكرى التي أصبحت اليوم الوطني للفنان، وبهذه المناسبة سنحاول في عدد اليوم من “الأيام نيوز”، استذكار سيرة هذا الفنان الشهيد الذي خلد اسمه في سجل عظماء الجزائر.

من هو “علي معاشي”؟

علي معاشي شاعرٌ ومغنٍ جزائري عرف بأغانيه الوطنية والتي مثلت طابعا فنيا للثورة الجزائرية من أجل الاستقلال عن فرنسا. وهو شهيد الوطن الذي آمن برسالة التحرر باستخدام القلم والصوت وكلمات كان وقعها أشد من الرصاص، فكلن صوتاً غنى للوطن واستشهد لأجله.

النشأة

ولد علي معاشي في 12 أوت 1927، في حي رأس السوق الشعبي في حوش المعاشات وسط مدينة تيارت، ونشأ بشارع” كليبار” (شارع الشهيد حمداني عدة حالياً)، كان والده من أعيان المدينة وكان مترشحاً في السلك الثاني، وصار مستشارا بلديا ما بين 1929 و1932، وتكفلت والدته بتربيته بعد وفاة أبيه. وزاول تعليمه الابتدائي بمدرسة الكرمة، ثم تركها لمساعدة والده في عمله الفلاحي التحق بعدها بالقوات البحرية للجيش الفرنسي سنة 1945 بمدينة بنزرت التونسية لتأدية الخدمة العسكرية.

وقد سمح له عمله في البحرية الفرنسية بزيارة العديد من البلدان العربية وغيرها والاحتكاك بأهاليها، فنمت معارفه وصقلت مواهبه، وقد زاد عشقه في هذه الفترة للموسيقى عموما والعربية منها خصوصا فظهر تأثره بمشاهير الفن العربي أمثال الفنان التونسي قدور. فبعد إنهائه الخدمة العسكرية الإجبارية في بنزرت بتونس، عاد إلى مسقط رأسه، وقام سفير الطرب بإنجاز مآثر كثيرة، كما تصاحب الراقصات المجموعة الموسيقية كلثوم، علي معاشي وأصدقائه كانوا يقومون بالتمثيل في المسرح والغناء كأدوات لتحرير الشباب المحلي، وذلك بأن يسمح له في نفس الوقت لتقوية مشاعره الوطنية.

صفاته

كان علي معاشي يتمتّع بصفات عديدة، الموهبة، الأناقة، اللياقة، الثقافة، البعد الإنساني والعطاء كان مغنياً لطيفاً، كان مثابراً وصارماً في التمرينات الموسيقية، منضبطاً.

المشوار الفني

رغم قصر مشواره الفني، إلاّ أنه كان حافلاً وغزيراً، فقد ألف ولحن وغنى الكثير من الأغاني، للمرأة والحب وللوطن والثورة. ومنذ صغره، تأثر علي معاشي بالقصيدة الشهيرة “مولاة الحايك” لشاعر الملحون “محمد بلطرش”، وأسّس فرقة فنية سميت “سفير الطرب”، وطاف بعدة مناطق من تيارت مسقط رأسه إلى تونس ومصر رغم سنه صغير الذي لم يتجاوز الثامنة عشر مستغلا اشتغاله بالبحرية آنذاك.

تطوّر فنه، وأوجد لنفسه بصمته الخاصة من خلال دمج النغمة الوهرانية الأصيلة التي وافقت صوته العذب. وتغنى بقصائد متنوعة بين الغزلية والثورية فتغنى بالمرأة وبالجزائر ومناطقها، واشتهر بأغان كثيرة مثل “يا بابور” وهي أول ما ألف و”تحت سماء الجزائر” و”طريق وهران” و”أنغام الجزائر” المعروفة بمطلعها “يا ناس أما هو حبي الأكبر…”، والتي جمع فيها مختلف الطبوع الجزائرية عبر 15 دقيقة.

واستطاع علي معاشي بموهبته الفذة والمميزة، أن يمزج بين الفن البدوي الوهراني الأصيل والفن الشرقي العصري، فأسس سنة 1953 فرقة فنية أطلق عليها اسم” سفير الطرب”، كما سبق الذكر، كان أعضائها يرتدون لباسا وطنيا موحدا كلما قاموا بعرض فني. وانتقل بعدها إلى الجزائر العاصمة وفيها تلقى تكوينا في الهندسة الصوتية مكنه من العمل بالإذاعة كمهندس صوت.

كما أثرى الساحة الفنية الجزائرية بستة عشر (16) أغنية مازالت حية في الذاكرة منها أغنية “البابور”، و” تحت سماء الجزائر”،” زيارة سيدي خالد”،” طريق وهران”،” النجمة والهلال”، وغيرهم. وسنة 1956، سجل علي معاشي أغنيته الشهيرة” أنغام الجزائر” التي تعتبر رمزا للأصالة والوطنية.

قصة أغنيته الشهيرة “أنغام بلادي

غنى الفنان الشهيد أغنيته الشهيرة “أنغام بلادي”، التي يقول مطلعها “يا ناس ما هو عزي الأكبر يا ناس ما هو حبي الأكبر.. لو تسألوني نفرح ونبشر ونقول بلادي الجزائر”، رداً على أغنية “بساط الريح” لفريد الأطرش التي ذكر فيها جلّ البلدان العربية ما عدا الجزائر، وكان فريد الأطرش قد غنى في عنابة أثناء التهاب الثورة الجزائرية لكن عند انتهاء الحفل شكر السلطات الفرنسية على الاستقبال، فثارت الجماهير الحاضرة المؤمنة بالقضية الجزائرية بالاحتجاج وتكسير الكراسي، وهو ما جعله يشطب اسم الجزائر من “بساط الريح”.

كانت المرارةُ التي شعر بها الجزائريّون كبيرةً وهُم يُشاهدون البساط السحريَّ المتخيَّل يقفز مِن مراكش في المغرب إلى تونس من دون أن يحطَّ بالأراضي الجزائرية التي كان شعبُها يستعدّ لخوض واحدةٍ من أبرز الثورات التحريرية في القرن العشرين.

وفي خضمّ تلك الخيبة، أبى علي معاشي إلاّ أن “يردّ الاعتبار” إلى بلاده الجزائر من خلال الأدوات نفسِها، ألا وهي الموسيقى، فألف معاشي أغنية “أنغام بلادي” والذي يُشيد فيها بكل المناطق الجزائرية من شرق وغرب وجنوب، مروراً بمنطقة القبائل والعاصمة الجزائر، لكن هذا لم يكن ليريح الاستعمار الفرنسي، ممّا أدى بالقبض على علي معاشي وزجه به في غياهب السجن ليعدم شنقا في ساحة عمومية بوسط مدينة تيارت “كارنو”، حيث مثلوا بجثته ليبقى إلى الأبد شهيد الفن والوطن.

التحاقه بالثورة

عند اندلاع الثورة التحريرية المجيدة، عام 1954، لم يتردّد علي معاشي في دعمها بكلماته وألحانه وصوته، حتى بات بمثابة ذراع فنّي لها، قبل أن يلتحق بصفوفها عام 1957. ووفق مصادر تاريخية، سنّدت إليه قيادة الثورة مهمّة نسخ النشيد الوطني، الذي كتبه الشاعر مفدي زكريا، استنادا إلى نسخته الأصلية المستقدمة من تونس، وتوزيعه على الأوساط الشعبية.

رسالته الفنية والثورية

شحذ الهمم وتقوية العزائم كانت الرسالة التي حرص على توصيلها الفنان علي معاشي إبان الثورة التحريرية، وكان واحداً من أبناء الجزائر الأبرار الذين آمنوا برسالة التحرّر باستخدام القلم واللحن، فآثر بنفسه وقدم روحه فداءٍ لوطنه. ودعا إلى الروح الوطنية من كل منبر للفن الهادف الذي ينظم كلمات كان صداها أكثر وقعاً من صدى الرصاص.

الاعتقال والاغتيال

وبعد أن صار اسم “علي معاشي” أشهر من نار على علم، وراجت أغانيه الوطنية، وأثارت الحماس في القلوب، انتبه الاستعمار الفرنسي إلى هذا الرواج وهذا التأثير المقلق على العقول، فبيت النية للتخلص منه.

فبعد انتباه المستدمر الفرنسي لتأثير أغانيه، اختطفه عنوة في 7 جوان 1958 مع اثنين من رفقائه، خلال حفل غنائي ارتد فيه أعضاء الفرقة الموسيقية ألوان العلم الجزائري، واقتادهم في اليوم الموالي (8 جوان من نفس السنة) إلى “ساحة كارنو” (ساحة الشهداء حالياً) بمدينة تيارت، وبعد أن أذاقهم العدو الغاشم أشد ألوان العذاب، أعدمهم ونكّل بجثثهم. ولم يكتفي بذلك، فجمع الجزائريين لمشاهدة مصير الثلاثة المشنوقين في الساحة لبث الرعب في نفوسهم، فاستشهد علي معاشي وعمره يناهز 31 سنة.

ذكرى استشهاده أصبحت “يوماً وطنياً للفنان”

ورغم مرور عشرات السنوات على استشهاده، بقي الفنان الراحل حياً في ضمير الذاكرة الوطنية والفنية، وأصبحت ذكرى وفاته عيد باعتبار الثامن جوان من كل سنة، يوماً وطنياً للفنان، وهي مناسبة يُترحم من خلالها على روح الشهيد الفنان علي معاشي، وعلى أرواح جميع الفنانين الجزائريين الذين أفنوا أعمارهم في سبيل الحرية والاستقلال.

فبدل أن تُحقّق فرنسا الاستعمارية مأربها بإعدام علي معاشي، صار هذا اليوم ذكرى يترحم فيها الملايين على روحه، وصار يوماً وطنيا للفنان، وحملت جائزة مرموقة للشباب المبدع اسمه.

“لو تسألوني نفرح ونبشر ونقول بلادي الجزائر”

ويكفي صاحب “لو تسألوني”، أو كما يسميه الباحث والصحفي عمار بلخوجة “النشيد المغتال”، أن ينام اليوم قرير العين بعد أن بقيت كلماته خالدة في ذاكرة الجزائريين، وتُعاد في كل عيد للثورة والاستقلال، فرغم أنه كان من عائلة ثرية لكنه فضّل الشهادة والموت مشنوقاً في الساحة العمومية على أن يبيع القضية الوطنية، ورد على كل من شكك في هوية الجزائريين بترديده “لو تسألوني نفرح ونبشر ونقول بلادي الجزائر”.

ابتسام مباركي - الجزائر

ابتسام مباركي - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
ذكرى المولد النبوي الشريف.. الإثنين عطلة مدفوعة الأجر عبد الفتاح السيسي يُهاتف الرئيس تبون وهذا ما اتفقا عليه توقيف 4 إرهابيين واستسلام آخر بتمنراست رئيس المجلس الوطني لحماية الوطن لدولة النيجر يهنئ الرئيس تبون تطعيم 105 آلاف طفل ضد شلل الأطفال خلال يومين في غزة قبل نهاية سبتمبر.. كاسنوس تدعو الفلاحين إلى تسديد الاشتراكات موسم الحج 2025.. ضبط القائمة النهائية لوكالات السياحة والأسفار عشية المولد النبوي.. وزير الصحة يُحذّر من خطورة استعمال الألعاب النارية الصداع النصفي"الشقيقة".. الأعراض وطرق العلاج وكالة الطاقة الدولية تخفض توقعات الطلب على النفط خلال 2024 بريد الجزائر.. خدمة جديدة لحاملي البطاقة الذهبية هزة أرضية تضرب ولاية البويرة في اليوم 342 من الحرب.. اشتباكات ضارية في مخيم الفارعة واستهداف جرافة للاحتلال 7 قتلى إثر احتراق حافلة بتقرت كفى جرائم إبادة في فلسطين والصحراء الغربية.. نداء الجزائر في جنيف يفضح الاحتلالين وصفته بـ"الانتصار الجديد".. مجلة الجيش تحتفي بـ"نهج ترسيخ المسار الديمقراطي" مجابهة الأضرار وتعويض العائلات وترميم الطرق.. فيضانات بشار تحت مجهر الحكومة اجتياح بري واسع قيد التحضير.. هذه تفاصيل المؤامرة الصهيونية لفصل البقاع عن الجنوب الفريق أول شنقريحة يبحث مع مسؤول شركة روسية التعاون العسكري الرئيس تبون يتسلم رسالة من أمير دولة قطر