في الثَّامن عشر من ديسمبر 1973 أصْدرتْ الأممُ المُتَّحدةُ قرارَها بإدخال اللُّغة العربِيَّة ضِمْن لغاتِ عمَلِها الرَّسمِيَّةِ. وفي شهر أكتوبر 2012 قرَّرتْ اليونِسكو تَكْريسَ الثامن عشر من ديسمبر يوْمًا عالمِيًّا للغة العربيَّة، وذلك لأنَّ “الحضارة العالميّة والتّاريخ يشهدون بعَظَمةِ هذه اللّغة الحَيَّة ورِيادتِها ودَوْرها في الحِفاظ على العلوم والفلسفة والآداب في وقتٍ كان العالمُ في ظلامٍ وجَهْلٍ” كما قالتْ المَعْجَمِيَّةُ العربيَّة “غريد الشّيخ محمد”.
وبهذه المناسبة، احتفلتْ المُؤسَّساتُ العِلميَّةِ والتعليمِيَّة والثقافِيَّة في مُختلف أقْطارِ عالَمِنا العربيِّ باليوم العالمي للُّغة العربِيَّة من خلال إقامةِ الفعاليَّات المُتنوِّعةِ.. وقد اختارتْ جريدة “الأيَّام نيوز” أنْ تحتفلَ بهذا اليوم العالمي، حيث وجَّهتْ جُمْلةً من الأسئلة إلى نخْبةٍ من الأدباء والأكاديميين العَرَب، حول قضيَّةِ تشْكيل الكلمات وعَلاماتِ الوَقْفِ والتَّرْقِيمِ في الكتابات العربيَّةِ، لا سيما الأدبيَّةِ منها، مِنْ مُنطلق أنَّ لهذه القضِيَّة أهميَّةٌ بالغةٌ خاصةً فيما يتعلَّقُ بنُطْق أسماء الأشخاص والأماكن.. بالإضافة إلى أنَّ عدَم التزام الكُتَّاب بعلامات التَّرقيم يُضَيِّعُ المعنى ويُفقِدُ القارئَ القُدرَةَ على التَّواصل “الصِّحِيِّ” مع النَّص أو المَنشور أو الكِتاب..
جاء في نصِّ الرِّسالة التي توجَّهتْ بها “الأيام نيوز” إلى النُّخبة العربيَّة المُشاركة في هذه الأوراق: تفتقِدُ الكتاباتُ الأدبيَّةُ العربيَّةُ إلى “تقاليد” استعمال التَّرقيم رغم أهميَّة: علامات الوَقْف، علامات النَّبَرات الصَّوتِيَّة، علامات الحَصْر.. في تيْسِير فَهْم القارئِ للكتابة، وتوطيد علاقته مع اللُّغة، وتمْكينِ الكاتبِ من توصِيل مَعانِيه بكل وُضوحٍ و”سُيُولَةٍ”.. غيْر أنَّ حضورَ علامات التَّرقيم نجِدُه بشكلٍ قَويٍّ في مجال “السِّياسة الرَّسميَّة”، حيث الفاصلةُ – مثلاً – لها مكانتُها في كتابة العُقود بين الدُّول، ذلك أنَّ إغفالَ فاصلةٍ يُمكِنُها تضْيِيعُ حقوقِ شعوبٍ بأكملها.. والأمرُ كذلك بالنِّسبة إلى تَشْكيل الكلمات “الضَّروريَّة”، وخاصَّة في الشِّعر، فالكتاباتُ الأدبيَّةُ العربيَّةُ تفتَقِدُ إلى التَّشكيل.. فإلى أيِّ مَدى ترونَ ضرورةَ استعمال التَّشكيل والتَّرقيم في الكتابة الأدبية العربية؟ وإلى مدى تستعملون هذه الأدوات في كتاباتكم؟ وكيف تُقيِّمُون الكتاباتَ الأدبية في الجانب المتَعلَّق بالتَّشكيل والتَّرقيم، وكيف يتعلَّمُها الكاتبُ؟ وهل تجِدون ضرورةً إلى تَعلِيمها في المَدارس؟ فكانتْ هذه الرُّؤى والأفكار..
أهَمِيَّةُ التَّشْكيل والتَّرْقِيم في الكتابة الأدبية العربية
أُفُق العنوان ينْشقُّ عن تساؤلات بارزةٍ طرَفاها الكتابة الأدبية، والأدوات المساعدة على الفهم من ضبْطٍ للكلمات، ووضعٍ لعلامات الترقيم:
– فما ضرورة التَّشكيل والترقيم في الكتابة الأدبية العربية؟
– وكيف يتَعَلَّمُها الكاتبُ؟
– وما تجربتي في الكتابة مع هذيْن المُقوميْن؟
إنَّ لهذيْن المُقَوِّمَيْن: (الضبط بالشكل، وعلامات الترقيم) أهمية بالغة في إيصال المعنى إلى المتلقي ومساعدته على فهْم النُّصوص العربية بشتَّى أنواعها وخاصة جنس الأدب.
وقد برزتْ أهميةُ التَّشْكيل للكتابة العربية منذ العصر الإسلامي الأول، أيام الفُتوحات والتوسُّع الجغرافي للخلافة الإسلامية واعتناق الشعوب المختلفة للدين الإسلامي.
فاتِّساع رُقْعة الخلافة ولَّدَ الحاجة إلى ضبط اللسان العربي بعْدَ امتزاج الأعْراق وتداخُل الثقافات، وبالذات حين بدأ الأعاجِمُ يدخلون الإسلام، وظهرتْ الحاجةُ مُلِحَّةً لتعليم كتاب الله بطريقة صحيحة، والحفاظ على اللغة، التي هي لغة الدين والسياسية، من التَّحريف والعجمة.
وبغَضِّ النَّظر عن اختلاف الروايات في بداية وضْع عِلْم النَّحو والتَّشكيك في الكثير منها، فإنَّ القصة التي تُرْوَى عن “أبي الأسود الدؤلي” في حديثه مع ابنته، تطرح إشكاليةَ الوعي المُبكر لدى العرب بضرورة ضبط اللغة شكْلاً، ووضْع إشارات لتمييز المعنى المُراد بالجملة؛ والذي قد يُفْهَم في سِياق الحديث من نَبْرة الصوت، ولكنه يلْتَبِس في الكتابة؛ أهُوَ تَعجُّبٌ أم نَفْيٌ أم استفهامٌ؟
يُرْوى أنَّ ابنةَ “أبي الأسود الدؤلي” تأمَّلتْ صفحةَ السَّماء، وقالت: ما أحسنُ السماء، فقال أبو الأسود وهو العارف بلغة العرب: نجومُها، فردَّتْ عليه: قُلْتُها مُتعجِّبةً لا مُستَفْهِمةً يا أبَتاه.
فيُقال إنَّ “أبا الأسْوَد” باكَرَ الإمامَ علِيًّا بن أبي طالب – رضي الله عنه – وقال: يا أمير المؤمنين، ضاعتْ لغةُ العرب، وقصَّ عليه الحكايةَ، واستشارَه كيف يكون الحَلّ؟ فأمره علي – رضي الله عنه – أنْ يراجعه، وحين عاد إليه، ألقى إليه صحيفةً فيها: “الكلامُ كلُّه اسمٌ، وفِعلٌ، وحَرْفٌ، فالاسم ما أنْبَأ عن المُسمَّى، والفعل ما أنْبأ عن حَركة المُسمَّى، والحَرْف ما أنبأ عن معنى ليس باسمٍ ولا فعلٍ، ثم قال له: زِدْهُ وتتبَّعْه”.
ولستُ بصدَدِ البَتِّ في صِدْق الرِّواية من عدمه، وإنَّما استشهدتُ بها لأؤكد أنَّ إرهاصات الإحساس بارتباط الكتابة العربية بالتَّشكيل، ووضْع علامات التَّرقيم حدَثَ مُبكِّرًا لدى اللُّغويِّين العرب، وإنْ لم نجد أثرًا للتَّرْقيم قديمًا، إلاَّ في المَصحف بوضع دوائر تفصل بين الآيات للتَّنْبيه إلى انتهاء الجُمْلة.
ومَعلومٌ أنَّ التَّنقيط والتَّشْكيل وَاكبَ بدايات التَّدوين فـ “أبو الأسود” كان سبَّاقًا إلى تنْقيط المَصْحف ووضع العلامات الإعرابية الأولى على الكلمات، واستكْمل “الخليل بن أحمد الفراهيدي” هذه العلامات بطريقة أوْضح لا تختلف كثيرًا عمَّا هي عليه اليوم.
سُقْنا هذه اللَّمحة التاريخية للتأكيد على أهمية التَّشكيل ووضع علامات التَّرقيم في النص العربي، ضبْطًا أولاً لقراءة القرآن الكريم، وصيانة اللِّسان العربي من اللَّحن، ثم سعْيًا إلى إفْهام معاني النُّصوص وسِياقاتها.
فالتَّشكيل من أهمِّ الأمور التي توضِّح الفوارق الكثيرة في اللغة، وهو مرتبطٌ بنائِيًّا باللغة العربية إنْ على مستوى المُفردة أو على مستوى الجملة؛ فالفرْق بين الصِّيَغ الصَّرْفِيَة يتحدَّد أحيانا بالتشكيل: (مُراقِبٌ/ مُرَاقَبٌ) اسم فاعل واسم مفعول، والكلمات المُتجانسة تجانُسًا تامًّا يتحدَّد معناها عن طريق التشكيل:( عَلِمَ/ عِلْمٌ/ عَلَمٌ)، والأمثلة كثيرة.
أما على مستوى الجُمْلة فقد عُرِفَ عِلْم النحو بأنَّه تَوَخِّي معاني الإعراب في الجُمْلة؛ ويرتبط بالتَّشْكيل ارتباطًا عُضوِيًّا. وهذا ما يجعل تَدريس مادة التَّحرير أساسِيًّا في مختلف المراحل التعليمية، ويجب أنْ يكون مُلزمًا في جميع المسارات أدبية كانت أم علمية. وهو أَوْكَدُ فيما يتعلق بالكتاب والشعراء؛ فالكثير من الكتابات لأدباء وأساتذة جامعيين تزخر بالأخطاء الإملائية والنحوية التي تُحوِّر المعنى؛ خاصة في مراكب الهَمزة والألف الفارقة، والتاء في آخر الكلمة، وإلحاق الياء بما يُسَند للمخاطبة الأنثى.
إنَّ الكتابةَ الأدبية جِنْسٌ مختلف عن بَقِيَّة أنواعِ الكتابة، هي رُوح اللغة الذي يخاطب الوجدان، مِمَّا يجعل الحفاظَ على سلامتها البِنائِيَّة، لغةً وتراكيبَ وإملاءَ وتشكيلاً وترقيمًا، ضروريًّا حتى يستطيع المُتلقِّي قراءةَ النصِّ قراءةً تُثري رصيدَه اللغوي، وتُتيح له فَهْمه وكشْفَ مَغاليقه.
ذلك أنَّ النصَّ الأدبي، والشِّعْري خاصة، يقوم على خَرْق المألوف في التراكيب، وعلى الانقطاعات المفاجئة (الفصل/ الوصل) لإثارة المتلقي وخلخلة الرَّتابة في اللغة، مِمَّا يجعلُ الاعتناءَ بالتَّشكيل ووَضْع علامات التَّرْقيم ضروريًّا ومُلِحًّا.
في تجربتي الكتابِيَّة دأبتُ مُبكرًا على أنْ لا أتركَ القصيدة غَفْلاً مِن التَّشكيل، بل أحْرصُ كل الحِرص على ضبْط جميع حروفها شكلاً، فأنا لا آمن أنْ يُغَيِّر المتلقِّي أو يبَدِّل في معاني الكلمات والجُمُل، والنَّهج نفسه أتَّبِعُه في وضْع علامات التَّرقيم لأضْمن تَوْصيل الفكرة المنشودة إلى القارئ، وتوضيحها في ذِهْنه كما ابْتغَيْتُها.
إنَّ العِناية بالتَّشكيل والتَّرقيم جزءٌ من واجبنا تجاه لغتنا الأمِّ؛ لغةُ الدين والحضارة العربية الإسلامية، فاللغة العربية – رغم قِدَمها – تأتي اليوم في طلائع اللغات العالمية، ويزدادُ الرَّاغبون في تعلُّمها بشكلٍ مُطْرَدٍ لأسباب ثقافية واقتصادية وسياسية، وهو ما يجعل الحفاظ على سلامتها وضبْط شكلها ونَبْرِها أساسِيًّا في تعليمها للنَّاطِقين وغير الناطقين بها.
التَّشْكِيلُ التَّرْقِيمُ.. رُؤْيَةٌ تاريخِيَّةٌ
يحتفل العربُ كل عامٍ باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر، وهو يومُ اعتماد اللغة العربية لغةً رئيسة في الأمم المتحدة. ولغتُنا العربية جديرة بالاهتمام، فهي لغة ما يزيد على أربعمائة مليون عربي، ولغة دينِيَّة لملياريْ مسلم في العالم.
ومن الموضوعات التي تحتلُّ درجةً عالِيَةً من الأهمية في الكتابة عموما والكتابة الأدبية خصوصًا، الضَّبطُ اللغوي للكلمات، فبعض الكلمات يلتَبِس على القارئ معناها بغير ضبط، وكذلك استخدامُ علامات التَّرْقيم التي تسهم في إيضاح المعنى وتَكْميله، فهي ليست مجرَّد زينة ـ وإنْ كانتْ كذلك ـ فهي مثل المُحَسِّنات البديعِيَّة التي تُجَمِّل النصَّ من جهة وتُكسِبه مزيدًا من الجمال والوضوح من جهة أخرى، وهي كذلك تشبه الخَرْجَة في المُوَشَّح وهي آخر بيت فيه، وقد قِيل عن الخرجة: “هي مِلْح المُوَشَّح وسُكَّره، ومِسْكه وعَنْبره”، فلا تُحَسَّن الكتابة إلاَّ باستخدام هذه العلامات التي تُحَسِّنُ القراءةَ والوَقْف، وتُبَيِّن مَواطن التَّعبير المختلفة، وتُزيِّن قراءةَ القارئِ.
أما ضَبْط كلمات العربية فهو قديمٌ يَرجِع إلى العصر الأموي حينما شاعَتْ الكتابةُ، واحتاج القُرَّاء إلى الضَّبط نظرًا لضُعفِ السَّلِيقَة العربية التي كانت في العصر الجاهلي وصدْر الإسلام قبل دخول غير العرب في الإسلام. وأولُ مَن وضَع النِّقاط على الحُروف هو “نصر بن عاصم الليثي” (.. ـ 89 هـ)، وكان فَقيهًا فَصِيحًا عالِمًا بالعربية، وهو من تلامِذة أبي “الأسْوَد الدؤلي الكِناني” واضِعُ عِلْم النَّحو، وقِيل إنَّه “أبو الأسْوَد” نفسه، وقِيل “عبد الرحمن بن هرمز المدني”، فقد كانتْ الكلماتُ العربية خالِيَّة مِن النقاط اعتمادًا على فِطْنة العربي مِن جهة، ولأنَّها كانتْ لغةً شفهِيَّةً من جهة أخرى، فلم يكن العربُ بحاجة إلى النُّقط والضبط إلاَّ بعد تحويل الكلام من الشَّفاهِيَّة إلى الكتابة، لتسهيل قراءته وتَيْسير فَهْمه من قِبَل القارئ على الوجه الذي يريده الكاتبُ.
والرَّاجح أنَّ “أبا الأسود الدؤلي” هو مَن اخْترَع الحركات التي تُرسَم على الحُروف، وذلك للتَّمييز بين الأحْرُف المُتشابهة مثل: الباء والتاء والياء. وقد كان لـ “نصر بن عاصم الليثي” الدور الأكبر والأبرز كما أجْمع علماء العربية، وقد أكْمل الضَّبط وحسَّنه العلامة العبقري “الخليل بن أحمد الفراهيدي”، بما يقترب من الحركات في العصر الحديث.
أمَّا علامات الترقيم، فأوَّل من ألَّفَ فيها العلاَّمة “أحمد زكي باشا” عام 1912م، وكتابه هو: “الترقيم، وعلاماته في اللغة العربية” وقال في مقدِّمته: “وقد اصطلحتُ على تَسمِيَة هذا العمل بالترقيم، لأنَّ هذه المادة تدل على العلامات والإشارات والنقوش التي توضع في الكتابة، وفي تطريز المَنسوجات. ومنها أخذ علماء الحساب لفظة: رَقْم وأرقام، للدلالة على الرموز المخصوصة للأعداد. فنقلناها نحن لهذا الاصطلاح الجديد، لما بينها من المُلابسة والمشابهة”، وذلك لتدارك النُّقص الحاصل في تلاوة اللغة العربية، والمساعدة في فَهْم الكلام، بفصل أجزائه بعضها عن بعض، ليتمكَّن القارئ من تَنْويع صوته تبَعًا لأغْراض الكاتب، وتوضيحًا للمعاني التي قَصَدها، وذلك بطريقة مَنطقِيَّة مُنطَبِقة على القواعد والأصول المُقرَّرة للوقف والابتداء في اللغة العربية. وقد وَفَّق فيه بين القواعد العربية والعلامات الأجنبية، لتوحيد العمل وتسهيل السبيل، فجزاه الله عن العربية وقرائها خيْر الجزاء.
وتنحصرُ عَلامات التَّرْقيم في اللغة العربية في عشْر علامات هي: الفَصْلَة، والفَصلة المنقوطة، والنقطة، والنقطتان الرَّأسِيَتان، وعلامة الاستفهام، وعلامة التعجب، وعلامة التَّنصيص، والشرطة، والشرطتان، والقَوْسان.
ولكلّ مِن هذه العلامات العَشْر مواضعُها في الكلام الذي فَصَّلتْ فيه كتُبُ الإلقاء والتحرير العربي وأسُسُ الكتابة والتَّعبير، وهي من أساسيات اللغة العربية.
ولا شك في أنَّ استخدام علامات التَّرْقيم ضرورة مُلِحَّة، ويجب تعليمها لطُلاَّبنا في المدارس، مع ضرورة ضَبْط الكلمات، في النثر والشعر على السواء، خصوصًا في مراحل التعليم الأولى كي يستقيم لسان أبنائنا ويكتسبوا المَلَكة اللغوية التي تؤهلهم للكتابة فيما بعد.
وتفتَقِد كثيرٌ من الكتابات العربية إلى الضَّبط واستخدام علامات التَّرقيم، خُصُوصًا في الصُّحف والمجلات والروايات، مِمَّا يُسبِّب إشكالات في القراءة والفَهْم عند الصغار خُصوصًا، ويمكن للكاتب أنْ يتعلمها بسهولةٍ من الكُتُب الخاصة بمهارات الكتابة، وهي لحسن الحظ كثيرةٌ ومتوفرة، وأنا شخصيًّا أحرصُ على استخدام علامات التَّرقيم، وعلى استخدام التَّشكيل قَدْر المُستطاع، وخُصوصًا في الكلمات التي تَشْكُل قراءتها بدون التَّشكيل فيلْتَبِس معناها، كما أحرص على إرشاد طُلاَّبي إلى استخدامها في كتابتهم.
قِراءةٌ في عَلاماتِ الوَقْفِ والتَّرْقِيمِ
علاماتُ الوَقْف والتَّرْقِيم: هي من الرُّموز الاصطلاحية التي تُوضَع للفصْل بين الجُمَل والعِبارات والفَقرات، ولتحديد أساليب الكلام التي تتنوُّع بتنَوُّعِ الأغراض التَّعبِيرِيَّة، وهي مأخوذة من مادة: (ر. ق. م.) التي تدلُّ على الوَشْيِ، في تطريز المَنسوجات وخَتْمها، ولتمييز بعضها من بعضٍ، ويُحسِّن استعمالها، ومِن الضُّعْف إهْمالها وعدَم الاهتمام بها، وهذه العلامات هي:
– النقطة (.): تُوضَع في نهاية كل جُمْلةٍ مُستقِلَّةٍ عمَّا بَعْدها، مُستَوْفِيَةٍ لمُكمِّلاتها اللَّفظِيَة، وعند انتهاءِ الكلام وانْقضائه.
– الفاصلة (،): تُوضَع بَعْد لَفْظِ المُنادَى.
-بين الجُمْلتَيْن المُتعاطِفَتَيْن.
-بين الشَّرْط والجزاء، وبين القَسَم والجواب، إذا طالتْ جُمْلة الشَّرْط أو القَسَم.
-بين المُفرَدات المُتَعاطِفة.
-بَعْد نعم أو جواب لا.
– في تَدْوين الإحالات في الهامش.
– الفاصِلةُ المَنقوطَة (؛): تُوضَع بَعْد جُمْلةٍ ما بعْدَها سبَبٌ فيها مثل: محمدٌ مِن خَيْرِ الطُّلاب؛ لأنَّه حَسُن الصِّلَة بأساتِذَته وزملائِه، ولا يتخَلَّف عن دُروسه.
– النُّقْطتان المُتعامِدَتَان (:): بين لفْظِ القوْل، وبين الكلام المَقُول.
– بعد العناوين الفرعِيَّة التي تُوضَع في أوَّلِ السَّطْر، ويبدأ الحديثُ عنها في السُّطور التالِيَة.
– بين الشيء وأقسامه وأنْواعه.
– قبْلَ الأمْثِلة التي تُوَضِّح قاعِدةً.
– قبْلَ النصِّ المُقْتبَسِ.
علامةُ الاسْتفهام (؟): توضَع بعد جُمْلة الاستفهام سواءٌ أَكانتْ أداتُه ظاهرةً أمْ مُقَدَّرَةً.
– تُدَوَّنُ بين القوسيْن للدَّلالة على شَكٍّ في رَقْمٍ أو كلمةٍ أو خَبَرٍ.
– بعد علامة التَّعجُّب أو قَبْلها، وذلك إذَا أحْسَسْنا أنَّ الاسْتفهامَ غريبٌ.
– علامة التَّعجُّب (!): تُوضَع بعد جُمْلَةٍ يُعَبَّر بها عن تَعجَّبٍ أو استغاثةٍ أو فرحٍ أو حزنٍ أو اسْتغرابٍ أو تحذيرٍ أو إغْراءٍ.
الشَّرْطَة (-): في أولِ السَّطْر في حال المُحاورة بين اثْنَيْن إذا استُغْنِيَ عن تكرار اسْمَيْهما.
– بين العَدَد والمَعْدود إذا وقَعَ عُنوانًا في أولِ السَّطْر.
– تُوضع في أول العِبارة المُعتَرِضة، وفي آخرها.
نقاطُ الحَذْف والإضمار(…): وهي نُقَطٌ أفُقِيَّة، ثلاثٌ عادةً، تُوضَع مكانَ المحذوفِ من الكلام، أو مكانَ كلامٍ مُضْمَرٍ لا يُراد التَّصريح به لسببٍ ما.
علاماتُ التَّنبِيه والتنظيم في التعبير، وهي:
– القَوْسان ( ): يُوضَع بينهما عباراتُ التَّفسير والدُّعاء.
– توضَع بينهما كلُّ عبارةٍ يُراد النَّظَر إليها.
– المَعكوفَتان أو المُرَكّنان: توضَع بينهما زيادةٌ قد يدخِلُها الباحثُ في جُمْلةٍ اقْتبسَها لتوضيحِ النصِّ أو تَقْوِيمه أو الحذف منه.
– القَوْسان المُزْهران أو العَزيزان: تُحصَر بينهما الآيات القرآنية، ويجب أنْ تكون مَشْكولَةً وفْقَ المَصْحف الشَّريف حسبَ الرِّواية التي اعتمَدَها الباحثُ.
– الخَطُّ المائل (/): يوضَع للفَصْل بين التاريخ الميلادي والتاريخ الهجري.
– يوضَع للفصل بين اليوم والشهر والسنة.
– يوضع للفصل بين المُترادفتَيْن أو المتضادَّيْن.
– يوضُع للفصل بين مكانيْن أو أكثر لطَبْع كتابٍ ما.
– النَّجْمة: تُستَعْمل النَّجمةُ لتنْبِيه القارئِ إلى الإحالة على الهامش، لمزيدٍ من الشَّرْح أو التَّعليق أو التَّفصيل، وتوضَع فوق الكلمة المَقصودة، ويمكن أنْ تُشير بِنَجْمتَيْن أو أكثر، فهي تُستعمَل كما تُستعمَل أرقامُ الإحالة.
– الشَّوْلتان المُزدَوِجتان (” “): توضَع بينهما العبارات المَنقولة حرفِيًّا من كلام الآخرين، والمَوْضوعة في ثنايا كلام الباحث؛ ليَتميَّز هذا من ذاك، أما إذا كان الكلامُ غير موضوعٍ في ثَنايا كلامِ الباحث، فلا داعي لوضعه بين الشولتين المزدوجتين.
أهمِّيَةُ علامات التَّرْقِيم:
لاستخدام علامات التَّرْقيمِ أهميةٌ كبيرةٌ؛ فاستخدامُها يهدف إلى توضيحِ جزءٍ من المعنى المقصود من كتابة النصِّ، وبدونها سيشعر القارئُ بعَدَم القُدْرة على فَهْم المَقصود بمعظم ما قَرَأه.
بعلامات التَّرْقيم، تستطيعُ الإشارةَ إلى انتهاءِ النصِّ أو انتهاء المعنى المُراد توْصِيله إلى القارئ.
بعلامات الترقيم، تُزيل الإبْهامَ عن كتابتك وتجعله أكثر وضوحًا.
كما تساعد علامات الترقيم في إظهار الرَّابط بين الجُمَل المختلفة؛ مِمَّا يساعد على توضيح المعنى وترتيب الكلام.
تساعد علامات الترقيم على إيصال مشاعر الكاتب من فرحٍ أو حزنٍ أو تعجُّبٍ أو تساؤلٍ… وهكذا.
الكاتبُ يستطيع أنْ يُوصِل أفكارَه بشكلٍ دقيقٍ باستخدام علامات التَّرقيم.
ومن أهميّة علامات الترقيم – كذلك – فَهْمُ المعاني المقصودة في الكتابة؛ وذلك لأنَّ القارئَ أو السامعَ يدرك ما يسمعه أو يقرؤه بصورةٍ أسهلَ وبمعنى أوْضحَ، كما أنَّ الوُقوف عند هذه العلامات وِفْقًا لمواضِعِها الصحيحة يساعد على التَّرابط بين الجُمَل؛ مِمّا يُعطي انطباعًا طيِّبًا ومُريحًا في نَفْس المُتلقِّي، سواءٌ كان قارئًا أم سامعًا.
أمَّا إنْ خَلاَ النصُّ من علامات التَّرْقيم، فإنَّ هذا النَّقص قد يُؤدّي إلى اضطراب المعنى، أو شعور المُتلقِّي بالغموض؛ لذلك أصبح خُلُوُّ النص من علامات الترقيم عيْبًا واضحًا يَعِيب الكاتبَ، ويَشعرُ به مُتلقِّي النص ولا يرتاح إليه، كما يُؤدّي نَقْص علامات الترقيم إلى اختلاط المعنى عند المُتلقِّي، أو حتى تغييره، أو عدم التَّمييز بين كلام الكاتب، والكلام المُقْتبَس أو المنقول مثلاً.
ضبْطُ الأفكارِ المُراد إيصالها بِدِقَّة
إنَّ لعلامات التَّرْقيم أهميّةٌ تُوازي أهميَّةَ الإمْلاء في اللغة العربيّة، فكما أنَّ إملاء الهمزة مثلًا يختلف ويغيّر مِن معنى الكلمة فعندما نقول: أَكل، يكون معناها مختلفًا عن أُكل، فالأولى فعلٌ ماضٍ أمَّا الثانية فهي فعلٌ ماضٍ مَبني للمجهول، فأيضًا استخدامُ علامات التَّرقيم يُغيِّر في معنى الجُمْلة ليضبط الفكرة المُراد إيصالها للمُتلقي، فعلى سبيل المثال نجد الفَرْق واضحًا في الجُمْلة الآتية عندما غيّرنا فقط في علامات الترقيم وأماكنها: البارحة قال محمّدٌ: أبِي رائعٌ؛ فَهُنا القائلُ هو محمّدٌ مادحًا أبَاه بدلالةِ وَضْع النُّقطتَيْن الرَّأسِيَتيْن بعد اسم محمد. البارحة – قال أبي: رائع – محمّد؛ فهنا القائل هو أبي مادحًا محمّد، بدلالة وَضْع جُمْلة (قال أبي: رائع) بين شرطتَيْن لتكون مُنْفصلة في معناها عمَّا قَبْلها وبَعْدها وتُبيِّن أنَّ الأب هو الذي يمدح محمَّدًا بإخبارنا أنّه رائعٌ.
نذْكُر مِثالًا آخر على تغيير علامات الترقيم لمعنى الجُمْلة، فقد نقول: (الساعة الآن الواحدة بعد الظهر.)، مع وضْع النقطة في نهاية الجُمْلة لتُبيِّن أنَّها معلومةٌ نريد إخبارَها للشخص الآخر، أمَّا حين نضعُ مثلًا علامةَ استفهامٍ في نهاية الجُمْلة بدلًا من النقطة فإنَّنا بذلك نكون قد حوَّلناها إلى سُؤالٍ يحتاج إلى إجابةٍ من الشخص الآخر، فتصبح: (الساعة الآن الواحدة بعد الظهر؟).
ومثالٌ ثالِثٌ، عن أهمية علامات الوَقْف والتَّرقيم: وخاصة الفاصلة، نُورِد المثالَ الآتي في أحَدَ مُراسلات الملوك في تاريخنا العربي؛ إذْ ورَدَ في أحَدِ المُراسلات: ” العفو ممنوع الإعدام” من يقرأ المَراسلة سيفْهَم أنَّ المقصودَ ضرورةُ تنفيذِ الحُكْم، ولكن مع إضافة الفاصلة تغيَّر المَعنى جِذْرِيًّا:
-“العفو، ممنوع الإعدام” = وهنا طلَبٌ لتوقيف الحُكْم.
-“العفو ممنوع، الإعدام” = ضرورة تطبيق الحكم بلا هوادة.
من فُصْحَى التُّراث إلى فُصْحَى العَصْر
تُمثِّل علاماتُ التَّشكيلِ النُّقَطَ والحَركات: الكَسْرَة والضَّمَّة والفتْحة، والشدَّة والتَّنْوِين، وقد ابْتُكِرتْ في زمن الصَّحابة في القرن الأول الهجري عند تدْوين القرآن.
أمَّا علامات التَّرْقيم فتُمثِّل: الفاصلة، النقطة، النقطتان، الاستفهام، التَّعجب وغيرها، فهي مُستحدَثة ولم نرَها في كُتُب القُدماء وليستْ في القرآن، وربَّما اسْتُعمِلتْ النقطةُ قديمًا للفصل بين الجُمَل أو أجزائها.
فِيما تُعَدُّ علامات الترقيم – في الكتابة الأدبية العربية – رموزًا اصطلاحية مُعيَّنة تُوضَع لتوضيح الفكرة الرئيسية العامة، والأفكار الجزئية للفقرات التي يتطرَّق إليها الكاتبُ عند كتابة أيّ نص أدبي، نثري أم شعري. والفقرات بدورها تتشكل من جُمَل، وهذه الجُمل تحتاج إلى توضيحٍ وإبرازٍ لكي يتفهَّمها القارئُ دون لبْسٍ ولا خلْطٍ، وإلى تَعيين مواقع الفصْل والوقْف والابْتداء، وأنواع النَّبرات الصوتية والأغراض الكلامِيَّة، مِن هنا تأتي أهمية علامات الترقيم.
لم يعرف العربُ علامات الترقيم والتشكيل والتَّنقيط في عصور ما قبل الإسلام ذلك أنَّهم أهل البَيان وسَدَنة اللغة، وقد أدَّى دخول الكثير من غير العرب في الإسلام، إلى تغيير الكثير من المعاني الأصْلِيَة لبعض الكلمات العربية، الأمر الذي تَطلّب إيجاد الحلول التي تقلِّل من هذه الأخطاء، فتمَّ وَضْع النِّقاط على الحروف، وكذلك الاهتمام بما يُسمَّى بعلامات ترقيم القرون الأولى للهجرة، ولم تكن سوى النقطة، وأشار “ابن منظور” إلى ذلك بقوله: ” وَكِتَابٌ مَرْقُومٌ أَيْ: قَدْ بُيِّنَتْ حُرُوفُهُ بِعَلَامَاتِهَا مِنَ التَّنْقِيطِ.” وأول من نَقَط الحُروف “أبو الأسْوَد الدؤلي” (توفي 69 هـ)، بإشارة من الإمام “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه (ت 40 هـ).
ولِمعرفة مكان توقُّف القُرّاء، أخذوا يضعون دائرةً وفي داخلها نقطة، أو يخرج منها خطٌّ، كأداة للفصل بين الجُمل، ثم أصبح الأمر تقليدًا شكليًّا عند الكُتَّاب؛
وقديمًا، كانت الكتابة العربية بلا فواصل، كما كانت بلا نقط للحروف. ثم تم تَنْقيط الحُروف، وظلّتْ الكتابةُ بلا فواصل حتى عهْدٍ ليس ببعيد. مِمَّا نشأ عنه تداخُل بين الجُمَل وبين أجزاء الجُمَل بعضها البعض، وحُدوث لبْسٍ في الفَهْم. حتى جاء العلامة ” أحمد زكى” ورأى تواجد علامات الترقيم في كتابات الغرب، وخُلُوُّ الكتابات العربية منها، وفي العام 1912م كان الوقت قد حان للانتفاع بمثل تلك العلامات في كتاباتنا العربية، ومن هذا التاريخ دخلتْ علامات الترقيم إلى اللغة العربية، حيث رأى “أحمد زكى” أنَّ اللسان العربي مهما بلغ درجة العلم والبيان لا يتسنّى له في أكثر الأحيان أنْ يتعرّف على مواقع فصْل الجُمل وتقسيم العبارات، فأصْدر رسالةً عنوانها: “الترقيم وعلاماته”.
وارتكازًا على ما سَبَق، يُمكننا القوْل أنَّ:
– التَّرْقيم في اللغة هو نظام من الحركات والعلامات التي تستعمل في تنظيم الكتابة.
– علامات الترقيم هي علامات رمزية، اتفق عليها علماء اللغة القدامى وزادها المحدثون، توضع في النص المكتوب بهدف تنظيمه، وتسهيل قراءته وفهمه، ومعرفة مواضع الوصل والوقف، والفصل بين أجزاء الحديث والمعاني، والاقتباس النصي، وإظهار التعجب أو الاستفهام وتحديد علاقة الجمل ببعضها، وتحديد نبرة اللهجة عند قراءة النص جهرًا، وتنويع طبقات الصوت، وتبين مواقع الهمزة إملائياً.
– يتوقَّف على علامات التَّرقيم جلاء المعنى، وجوْدة الإلقاء، وحسن الإشارات، وجَمال الكتابة، وفن العرض.
– علامات الترقيم لا تُعُتبر حُروفًا، وهي غير مَنطوقة، وتختلف استخداماتها وقواعدها حسب اللغة، وأيضًا تطوُّر تلك اللغة عبر الزمن.
إنَّ اللغة العربية الفصحى الحديثة، أو اللغة العربية المِعْيارِيَّة الحديثة، أو اللغة العربية القِياسِيَّة الحديثة، أو فُصْحَى العَصْر. هي اللغة العربية الفصحى المستخدمة في عالم الإعلام والمحتوى العربي اليوم، والأدب بجميع أجناسه، وترجع أهمية استخدام اللغة المعيارية في الأدب، أنَّها تمثِّل تطوُّرًا لغويًّا طبيعيًّا عن فُصحى التُّراث التي استخدِمتْ في الجاهلية وعصر صدر الإسلام.
كما تعكس الفُروقات اللغوية بين فصحى التراث وفصحى العصر استجابةً اللغة العربية إلى مُتطلَّبات العصر الحديث في التَّواصل والإعلام.
أيضًا، تتجلى أهمية استخدام اللغة المِعْيارية في الأدب لمدى تأثيرها على جوانب اللغة جميعًا، بما تشمل النحو والمصطلحات والصَّوتِيات، خاصةً في مجال الحركات والتَّشكيل، وعلامات التَّرقيم، إلى جانب الفُروقات الأساسية في أسلوب الكتابة الرسمِيَّة والأدبية، وظهور فنون كتابية جديدة لم تكن معروفةً خلال فترة فُصْحَى التُّراث.
كما ترجع أهمية التشكيل وعلامات الترقيم إلى أنَّهما يتَّصلان بالرَّسم الإملائي اتصالاً وثيقًا، فكلاهما عنصر من عناصر التَّعبير الكتابي الواضح السليم، ويختلف المعنى في كثير من السِّياقات اللغوية باختلاف رَسْم الحُروف إملائيًّا والتَّشكيل في الكلمة من حيث الخطأ والصواب في كتابتها، كما يختلف المعنى بالقدر نفسه إذا أسِيءَ استخدامُ علامات الترقيم.
فإذا كان التشكيل يُظهِر جلِيًّا الفرق في المعنى بين كتابة الكلمتيْن بصورة يكون المقصود إحداهما، مثل: (سُئِلَ مصطفى) و (سأَلَ مصطفى)؛ فإنَّ الفرْق معنويًّا كذلك يظهر في علامات الترقيم، مثل: “أضاء القمر”، و”أضاء القمر؟” بالصِّيغة الاستفهامية التي تُظهِرها علامة الاستفهام، فالجُمْلة الأولى خبَرِيَّة تحمل تقريرًا أنَّ القمر أضاء، والجملة الثانية استفهامية تستفسر هل أضاء القمر؟
ولأنَّ لغةَ الأدب تختلف في انْزياحها عن اللغة المعجمية لأنَّها مُحمَّلةٌ بحمولات جمالية وشاعرية ومجاز وخيال مُدَمج بالواقع، لذا أصبح من الضروري استخدام اللغة المعيارية في الكتابة الأدبية لِمَا تشمله من أدوات تساعد القارئ على فَهْم المعنى وإدراك الفكرة، والوعي بالمضمون إجْمالًا.
التَّرْقِيُم اللُّغَوِيُّ.. الأهَمِيَّةُ والدَّلالَة
حين نتحدَّثُ عن جانبٍ من جوانب لغتنا العربية، فإنَّنا نخوضُ في خِضَمٍّ عظيمٍ على الرغم أنَّه جانبٌ أو طرَفٌ بسيطٌ مِن أطْراف لغتنا العظيمة الغرَّاء، لاسيما وهذه اللغة كلما اقترب الفردُ منها يشعرُ بأنَّه يغرقُ فيها.
وإذَا أردْنا الحديثَ عن التَّشْكيل والتَّرقيم في اللغة العربية كمِيزةٍ وخاصِيَّةٍ، فإنَّنا لا بُدَّ أنْ نتحدَّث عن البدايات الأولى للتَّشكيل، فالبدايات الأولى التي قام بها “أبو الأسْوَد الدؤلي” الذي قام بأوَّل تشْكيل للحرُوف من حيث الحَرَكات والسَّكنات وكانتْ عبارةً نِقاطٍ تحت الحَرْف وفوْقه وفي الجانب منه. ليَأتي مِن بعْده “الخليل بن أحمد الفراهيدي”، في العصر العبَّاسي، والذي وضَع: الفتْحَةَ والضَّمَّة والكَسْرة والسُّكون، والتي اعتُمِدتْ حتى يومنا هذا، وإنْ زِيدَ عليها الشَّدَّةَ أو التَّضْعيف، وإنِّنا لسنا بِصدَدِ تناول البدايات، لكن مِن المُهِمّ التَّعْريج عليها كمَدْخلٍ في سُطورٍ لبدايات التَّشْكيل والإعْجام، وإنْ كان هذا المقالُ ستناول أهميَّةَ التَّشكيل في اللغة العربية والذي يُعَدُّ مِن أهمِّ السِّمات للغتنا العربية العظيمة، لأنَّ التَّشْكيل يجعلُ القارئَ يُميِّز بين الكلمات من حيث مَوقعها الإعْرابي، فبالتَّشْكيل يضبطُ سِياقَ الخِطاب والجُمَل ودلالتها ومعانيها. وإنَّ اختلَّ التَّشكيل، فإنَّه يخْتلُّ المَعنى والمَبْنى للجِمْلة والنَّص والمُؤلَّف، لذلك يحرص الدَّارسون للغة العربية على السلامة اللغوية للمُؤلَّف والكِتاب والنَّص وللمُحتوى عمومًا حِرْصًا منهم على قُوَّة الكِتاب وصِحَّته اللغوية، حتى تَصِل رسالتُهم بسلامةٍ إلى المحتوى الفكري لُغوِيًّا وفكريًّا ومضمونًا، وحتى يجْتنبوا العيوبَ والقُصورَ..
إنَّ التَّشكيل يعكسُ الطريقةَ التي يتحدَّثُ بها المُتكلِّم، ويعكس ثقافَتَه ومستواه اللغوي وحتى مستواه التعليمي من حيث الإتقان النحوي والتأثير البلاغي والإبلاغي. فحديثُ المُتكلِّم صورةٌ لتَمكُّنه اللغوي وقدْرته على الإبْلاغ والتأثير وما يتركه من أثرٍ في المُتلقي. والمُتحدِّثُ أو الكتاب أو الرسالة قد يؤثِّر جيِّدًا وعميقًا، أو قد يترك انطباعًا سيِّئًا عن الكتاب أو الرسالة أو الخطبة أو القصيدة أو النص، ويعود ذلك إلى صاحب المُنْجَز نفسه، لاسيما وأنَّ التَّشكيل التزامٌ بقانون وقواعد اللغة نحوِيًّا وإملائِيًّا وحتى نُطقًا وتحُّدثًا.
إنَّ الحَركات والسَّكنات تُسهِّل التَّعلُّمَ للمُبْتدئِين في تعلُّمِ اللغة، وإتقانُ الحَركات والسَّكنات، علاوةً على أنَّه يضبط الناحيةَ والبلاغية والدلالية، فقد تتوافق الحركةُ في الكتابة اللُّغوية بحركةٍ جِسمانِيَّةٍ سواءٌ باليد أو غيرها، أو توحي بدلالة من خلال اللغة، وإنَّه من خلال النُّطق السَّليم والكتابة السليمة للكلمة وللجُملة والفقرات، يُمكن للخطاب أنْ يكون مُتماسِكًا ومُؤثِّرًا إلى حّدِّ أنَّ المُتحدِّثَ والكاتب والمستمع يفرِّقون بين دلالة الخِطاب والنص، ويَعيون مَضامينه، ويفرِّقون بين الكلمات المُتشابهة في الحروف والمختلفة في الحركة وفي الدلالة، بل ويفْرز السامعُ والقارئ والمتكلم بين دلالة كل ذلك وتتَّضِح له مقاصدُ الخطابِ عمومًا وعُمْقَه وتأثيره.
ومن خلال التَّشكيل سيتَّضح للقارئِ العميقِ الأصْواتَ الصَّائتةَ والصَّامتة، وأصواتها ومخارجها، ولوْلاَ التَّشكيل ما تبيَّنَتْ الأصواتُ، وربَّما تحوَّل الصَّائِتُ صامِتًا، والمَجْهُور مَهْموسًا عند إغفال الحركة سواءٌ كانتْ مَرسُومةً أو غائبةً..
وإذا كانت الحركاتُ والسَّكناتُ مهمَّةُ في النَّثر، فإنَّ أهميَّتِها تظهرُ أيضًا في الشِّعر، فالتَّفعِيلة والبحرُ المَوزون يظهرُ مِن خلال تساوي الحركات في تفْعيلات البحر، وإنْ اضطربتْ الحركاتُ في القصيدة الواحدة قد يختّلُّ الوزنُ والبحرُ ويخرج عن التَّام أو المَجْزوء، وعن المصطلحات العروضية إلى: لا شعر ولا قصيدة، فيُختَبر الشاعرُ بانسجام الوزن وتناغم التَّفعيلات بوحدة عروضِيَّةٍ في وزن البحر الواحد والرَّوْيِ والقافِيَة المُوحَّدة.
وإذا كانتْ علاماتُ التَّرقيم “رموزًا اصْطلاحِيَّةً تُوضَع لتوضح الأفكار الرَّئيسة للموضوع والأفكار الجُزئية التي يتعرَّف عليها الكاتب عند كتابته لأيِّ نصٍّ: نثري أو شعري، ويوضِّح من خلالها الفقرات التي تُشكِّل الجُمَل حتى يفهم القارئ دلالات وغايات الكاتب والنَّص دون خلط ودون لَبْس”.
ولأنَّ التَّرْقيمَ عبارةٌ عن علامات رمزيَّةٍ، فإنَّ أهميتها تكمن في “التَّعرف على أماكن الوَصْل والفَصْل والحذف والوَقْف والابتداء والأخذ والاقتباس والأغراض الخطابية”، فإنَّها علاماتٌ تدُلُّ على ذائِقةِ الكاتب.
وعلاماتُ التَّرقِيم تُميِّز بين الجُمَل وأغراضها وأنواعها ومَقاصِدها، فحين نقول: “لقد عملتُ كثيرًا، ورحلتُ كثيرًا، وخاطرتُ أكْثرَ؛ والآن: أنا متقاعدٌ”. فإذا كانت الفاصلةُ دلَّتْ على الجُمَل المُتتابعة المُترابطة المعنى الواحدِ والفكرةِ؛ فإنَّ الفاصلةَ المَنْقوطة دلَّتْ على الاختلاف ما بين الجُمَل السابقة والجُمْلة الأخيرة. ليس هذا فحسب، بل إنَّ الجُمَل القصيرة المتشابهة والمتتابعة دلَّتْ على مراحل من التَّعب والمُعاناة، لتنتهي الجُمْلة بمعاناةٍ أكبر، فيَصِل الأثرُ مُتواتِرًا مُتتابِعًا ومُؤثِّرًا ومُختلِفًا.
لم تَعُد علامات التَّرقيم مُجرَّد رُموزٍ، ولم تَعُد تختلف عن الألفاظ، بل وتدعِّم دلالات الخطاب ومضمونه مثل: “لا أريدُ عِلمًا لأحيا. لا، أريدُ علمًا لا للحياة”. فالتَّصادم بين الإثبات والنَّفي حوْل العَلامة من مُجرَّد رمزٍ إلى دلالةٍ، لا تختلف عن الدَّلالة اللغوية، بل أصحبتْ العلامةُ إشارةً تُحيل إلى دلالةٍ مختلفةٍ.
لُغَتنا العربِيَّة لغةٌ عظيمة تحتاج من القائمين عليها ومن أبنائها ومن المؤسسات مزيدًا من الاهتمام ومن الرعاية ومن البحث. وتحتاج كثيرًا مِن تكريس حُبِّها في الناشئة والعمل على انتشارها وتسهيلها والمحافظة عليها من غزو الكلمات الوافدة، حيث تمتلك لغتنا معانِيَ أكثرَ ثراءً وأعْمق تأثيرًا. وحتى تتخطَّى اللُّغات الأخرى، لا بدَّ من تكريس حُبِّها وعِشْقها في نفوس أبنائِها.
وإنْ كانت لغتُنا ضِمْن اللُّغات الخمسة العالمية، فبذْل مزيدٍ من الجهد في سبيل الارتقاء بها سيؤهِّلها لتكون مَعشوقةَ العربي وغير العربي، فهي لغة الإسلام، وهي لغة الحُبِّ والمَشاعر، ولغة التجارة والصناعة والطب والشعر والدراما وكل مجالات الحياة المختلفة، وهي اللغةُ المختلفةُ والواسعة باتِّساع ألْفاظها واشتقاقاتها، وعَظيمةٌ بِعَظمة لِسانها المُعْجِزِ.
التَّرْقِيم.. ذُرْوَةُ تَطوُّرِ الكتابة بالعربية
إنَّ محاولةَ البحث عن السَّبب، الذي جعَل العرب قديمًا، يكتبون بدون “نُقَطٍ أو ترقيم”، مهِمَّة فكرِيَّة مُحَيِّرة، وأنْ يظلُّوا على هذا الحال، حتى فتَح اللهُ على “أبو الأسود الدُّؤلي”، وأدْخَل النُّقَط، وما تَبِعه مِن اختراعِ الدائرة التي تتوسُّطها نُقْطة، للفصْل بين الجُمَل، لتكون بدايةً، إلى عملِيَّةٍ لُغوِيَّةٍ غاية في الأهمية، في تاريخ اللغة العربية وتطوُّرها.
في رأيي، السَّببُ في أنْ يكتب العربُ قديمًا بدون تَنقِيطٍ أو تَرْقيمٍ، حتى بدايات العصر الإسلامي، رُبَّما يعود إلى أنَّ العربَ لم يكونوا شعْبًا قارِئًا، ومِن ثم لم تكُنْ الكتابة عمليةً مُهمَّةً، كان شعبًا شفاهِيًّا، لا حاجة له للكتابة، إلاَّ في إطار نُخْبةٍ قليلة، كانتْ تكتب وتقرأ لأسبابٍ دينِيَّةٍ، ذات علاقة بالنُّصوص الدينِيَّة المَوروثة.
لكن ما يزال السُّؤالُ المُحيِّر، لماذا انتظرَ العربُ أكثر مِن ألف سنة، بعد أنْ أصبحوا يكتبون ويقرأون مع دخول الإسلام، وانتشار النَّص القرآني بين الناس، ولم تتطوَّر الدائرةُ التي بداخلها نُقْطة، كَعَلامةِ تَرْقيمٍ، إلى أنْ جاء شيخُ العُروبة المصري “أحمد زكي باشا”، في بدايات القرن الماضي، وأدْخلَ علامات التَّرقيم إلى اللغة العربية، لأنَّه رأى أنَّ اللِّسانَ العربي، مهْمَا بلَغتْ درجةُ العلمِ، لا يَتسنّى له في أكثر الأحيان، أنْ يَتعرَّف على مواقع فَصْل الجُمَل وتقسيم العبارات، وذلك في رسالته عام 1912 بعنوان “التَّرقِيم وعلاماته”.
ربَّما يرجع السَّببُ إلى انتشار التَّعليم في مصر، بدايات القرن الماضي، واستحداث مناهج دراسِيَّةٍ، استلزمتْ وُجودَ ما يُشبه الكتابَ المصري الحالي، جعلَ المَعنِيِّين بالتعليم، يدركون أهميَّةَ التَّرقيم في الكُتُب المدرسِيَّة، لأهميته الكبيرة في الفَهْم والتَّحصيل، مِمَّا أدَّى إلى أنْ يقوم وزيرُ المعارف المصري “أحمد حشمت” في ذلك الوقت، بتكليف “أحمد زكي” بإدخال علامات التَّرقيم، المستخدمة في اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ووضْع أسُسِها وقواعدها.
الأمرُ الآخر الذي يجب أنْ نَعِيه ونحن نتحدَّث عن التَّرقيم واللغة، أنَّ الانتقالَ المُهِمَّ الذي تمَّ، وأحْدث تطوُّرًا في الكتابة باللغة العربية، في بدايات القرن الماضي، هو استفادةٌ من المُنْجَز اللغوي في اللغات الأجنبية، أيْ أنَّ التَّرْقيم بوضعِيَّته الحالية في اللغة العربية، هو أنْموذج يُدلِّل على مَدى الاستفادة، التي تحقَّقتْ للغة العربية من اللغات الأجنبية، وهذا يؤكد على حيوِيَّة اللغة العربية، ومَقْدِرتها على التَّفاعل مع اللغات الأخرى، والتطوُّر عبر الزمن.
إنَّ تجرُبَتِي الشخصِيَّة مع التَّرقيم، مُرتبطةٌ بِعُمْقٍ، بتجربتي مع كتابة القصَّة والرِّواية، وهذا يجعلني أمِيلُ إلى الاقتناع، أنَّ الحاجة إلى التَّرْقيم، قد ألحَّتْ على الكاتب العربي، مع بداية القرن العشرين، بعْدَ أنْ بدأ العربُ يكتبون النَّثرَ الحديث، المُتمثِّل في السَّرد بأنواعه، مقالة وقصة ورواية ومسرح، إذًا لا يمكن حقيقةً، استيعابُ نصٍّ نَثْريٍّ عصريٍّ، خاصَّةً إذا كان سَردِيًّا بشكل صحيح، بدون تَرْقِيم.
أدباؤنا يُهمِلون علاَمَات التَّرْقيم..
التَّشْكيل من العناصر الهامَّة في اللغة العربية التَّشكيل جِسْر وُصول القارئ إلى المعنى المقصود للكلمة خاصة إذا كان القارئ من الأطفال، ولذلك غالبِيَّةُ قِصص الأطفال تُنْشر وكلُّ كلماتِها مُشكَّلة.
عدمُ تَشْكيل الكلمة قد يجعلها تَحْمِل أكثرَ من معنى، ولكن الكبارَ غالبيَّتهم باستطاعتهم الوصول إلى المعنى المقصود وذلك من خلال سِياق الجُمْلة.. غالبِيَّةُ مدارِسنا، مع كامل الأسف، لا تُعلِّم الأطفالَ الطُّرُقَ الصحيحة للتَّشكيل، ومَرْجَعُ ذلك إلى عامليْن:
الأوَّلُ هو أنَّ غالبيةَ المُدرِّسين لم يُعَدُّوا الإعدادَ الجيِّد كمُعلِّمِين. والثاني أنَّ غالبيةَ المُعلمين يركِّزون على نقْل العِلْم عبْر الدُّروس الخصوصية والمجموعات المدرسِيَّة بأجْرٍ، أما التلميذ العادي فيُترَك إلى جهده الخاص ومحاولاته الخاصة.
وبالنسبة إلى علامَات التَّرْقيم فهي مُهْمَلة جدًّا من قِبَل الدَّارسين الذين لا يُجيدون استخدامَها من الأساس، ولذلك فليس بإمكانهم تَعليم ذلك للأطفال.
بالنِّسبة إلى الأدباء فإنَّ الغالبيةَ العظمى من الأدباء الذين أعرفهم وعاصرتُ كتاباتهم على الطبيعة لا يُجِيدون استخدامَ علامات التَّرقيم وفي مُقدِّمة هؤلاء كاتِبُ هذه السُّطور، لسبب بسيطٍ أنَّني لم أتعلَّمها في مراحل التعليم الأساسية، مراحل تَثْبيت المَعلومة، وعندما حاولتُ استدراكَ ذلك في الكِبَر لم تَثْبُتْ المعلومات، ولذلك فإنَّ كل الكتب التي ترى الكتابة بها مضبوطةً من حيث التَّشكيل وعلامات التَّرقيم فإنَّها قد ضُبِطتْ بخبرةٍ مِن مُدقِّقٍ لُغَوِيٍّ مُحترِفٍ استقدَمَتْه دارُ النَّشْر أو استقْدَمَه الكاتبُ نفسه.
الحَرْفُ العَربِيُّ.. تَشْكِيلُ المَعْنَى تَعْلِيلٌ للمَبْنَى
إنَّ الشَّفافِيَةَ المَعنوِيَّةَ هي المسافةُ الفاصلة بين نَظِيرَيْن، تُضائِل القِيمةَ المُعتبرة للمقارنة بينهما، وهنا أقصدُ بالشفافية الْتِماسَ المَعْنَوِي لتقاسم الفاصلة بينهما، بحيث يبدو كلٌّ منهما طرَفًا من الفاصلة.
فالمشرق والمغرب نظِيران، بيْدَ أنَّ الفاصلةَ بينهما ناصعةُ الفَرْق لا شَفَافَته، بينما تُوصف الفاصلة بين المُظلِّل وظلِّه بالشَّفافة لاتِّصالهما، ما يعنى تماهِيًّا بين حدَّيْهِما في قِيَم الوجود والدلالة.
اجتهدتْ العقولُ العربية (المَعْنِيَّة بدراسة اللغة) في تَشْفِيف المسافة بين اللغة (المَنْطوقَة) وبين المعنى، وقد بلغوا أيَّ مَبْلغ في التَّوليف بين الصَّوْت والدَّلالة. في مَقالي هذا، سأتطرَّقُ إلى شفافِيَّةِ المسافة بين اللغة المكتوبة (الحُروف) وبين سِيمْيَاء المعنى: تَشْكيلُ المَبْنى تَعْلِيلُ للمَبْنى.
التَّشْكيل تَجْمِيلٌ يُقَصَد به التَّعليل، أيْ أنَّه (التَّشْكيل) يقوم بدَوْر التَّغذِيَة البَصرِيَّة للغةِ المَكتوبة ثم عنها، ويُؤدِّي، في الوقت نفسه، دورًا حاسِمًا في تِبْيان المَعنى دون لَبْسٍ. وهنا قِيَم التَّشكيل (الضَّبْط الكتابي).
أولاً، القيمة الجمالية، وتَظْهر في:
- مَلْءُ الفراغات في ثنائية الجَمال المكتوب (الكُتلة – الفراغ)
- الاتِّصال الحُروفِي المُفْضي إلى وحدة الكلمة فالجُمْلة.
ثانيًا، القِيمَة السِّيمْيائِيَّة:
تُمثِّلُ الحَركات: (الفَتْحة، الضَّمَّة، الكَسْرة، السُّكون) دَلالاتٍ ذاتِيَّةٍ تُشير إلى أثرِها وتأثُّرها؛ فالفاعل الأقْوى مرفوعٌ بالضَّمة أو الواو أو الألف، وهي الأعْلى دلالة على هذه القوة حين النُّطق لما يُمثِّل ضَمَّ الشَّفتَيْن مِن معنى خَفِيٍّ للقَطْع بالقوة، وكذا الألِف حال الرفع (المُثنَّى). كما تُشير الفَتْحةُ إلى وَقْع الفاعلِيَّة في المَفاعيل، وكذا الياء في حال جَرِّ الاسم وجزم الفعل مِن وقْعٍ أشَدّ مِن المُسْنَد على المُسْنَد إليه.
ثالثًا، القِيمَة المعنوِيَّة:
وهي قِيمةٌ تتوسَّطُ القِيمَتَيْن السَّابقتيْن ما يُعِين على تِبْيان المَقصود مِن الكتابة كوْنَها الصُّورة الأمْثل للغة المَنْطوقة والمسموعة، وتقَع في منتصف المَسافة مِيزانًا ضابِطًا بين النُّطْق والسَّمْع.
نَعودُ إلى قاعدة الفَرْق بين الصَّوْتِ والحَرْف، فالصَّوْت ما كان مَنطوقًا مَسموعًا، والحَرْف ما كان مَكْتوبًا مَنْطوقًا.. إنَّ شفافِيَّة الفاصلة بين الحَرْف واللِّسان لِحِمْلٍ كبيرٍ يَتَجشَّمُه الكاتبُ والخطَّاطُ كي يتَّصِل المَعنى بالمَبنى كمُظَلِّل مُشْمِسٍ وظِلِّه.
أيُّها الكُتَّابُ جَمِّلُوا ما تَكْتُبون..
هل كان العربُ يعرفون علامات التَّرْقيم؟
لم يعرف العربُ قديمًا من علامات الترقيم سوى النُّقطة، أو ما يعمل عملها ويحل محلها، وذلك لاستخدامها كأداةٍ للفصْل بين الجُمَل. وكانت النقطةُ عند العرب تبدأ بها الجُمْلة، وهي كانت عبارةٌ عن دائرة وكانت توضَع بداخل الدائرة نقاط، وفي أحيان أخرى كان يخرج من الدائرة خطٌّ. وقد تمَّ وضْع النقطة في داخلها أو في خارجها من قِبَل الأشخاص، وذلك بهدف تحديد المكان الذي توقَّف فيه القارئ، لكي يسهل له العودة مرة أخرى، وبعد ذلك أصبحتْ تقليدًا بين النُّساخ لإعطاء شكْلٍ جمالي للكتاب.
ومن الجدير بالذِّكر أنْ نتيقَّن جميعًا أنَّ الكتابة في اللغة العربية لها أصولٌ ولها قواعد، وهناك العديد من الافتراضات التي لا يمكن أنْ تمسَّ الواقعَ بأيِّ صِلةٍ. وقد ذهَب العلماء والباحثون إلى أصْل الكتابة في اللغة العربية، وقد ذهَب البعض إلى أنَّ الكتابة في اللغة العربية هي وقْفٌ من الله تعالى، وقد أرْجَع البعض إلى أنَّ الخط العربي مُشْتقٌّ من الخطِّ المُسند، والرأي الآخر أنَّ الكتابة جاءتْ من الخطِّ المصري القديم. وتُعتَبر علامات التَّرقيم من الأدوات التي تسهِّل القراءة في اللغة العربية.
تاريخ استخدام علامات الترقيم الحديثة
أوَّل من أدخل علامات الترقيم في اللغة العربية، مثل علامة الاستفهام، وعلامة التعجب، والقوسين، والفاصلة المنقوطة وغيرها، إنَّه “شيخ العروبة” وهو لقب “أحمد زكي بن إبراهيم بن عبد الله النجار” المولود في الإسكندرية عام 1867 وتلقَّى تعليمه في القاهرة، وتخرَّج في مدرسة الحقوق سنة 1887. دَرَس فنَّ الترجمة وكان يُجِيد الفرنسيّة إجادةً كبيرة، بالإضافة إلى الإنجليزية والإيطاليّة واللاتينيّة.
أهمُّ أعماله هو قِيامه بإدخال علامات التَّرقيم على اللغة العربية، ووضع أسُسها وقواعدها. وعلامات الترقيم التي نقلها “أحمد زكى باشا” بلفْظها ورَسْمِها هي: الفاصلة (،). الفاصلة المَنقوطة (؛). النقطة (.). علامة الاستفهام (؟). علامة الانفعال أو التعجب (!). النقطتان ( :). نقط الحذف والاختصار(…). الشَّرطة (-). التَّضبيب (“…”). القوسان ().
وقام باختصار حُروف الطِّباعة العربية من 905 شكلاً إلى 132 شكلاً و46 علامة، وذلك بعد أن قام بنفسه بتجارب يومية في “مطبعة بولاق” في عملية استغرقتْ ثلاثة أشهر، ويُعَدُّ أول من استخدم مصطلح “تحقيق” على أغْلِفَة الكتب العربية.
فوائد علامات التَّرْقيم
هي الطريقة التي تُيَسِّر على القارئ الكريم سبيله إلى القراءة الصحيحة، وهي أيضًا الطريق المستقيم للكاتب كي يسير عليه كتاباته بالشكل المفهوم الواضح الذي يمكن القراء من تلقيه بكل سهولة دون عناء بحيث يصلهم بالمعنى مباشرة من خلالها.
لذا يمكن الوصول إلى تعريفٍ سليمٍ لعلامات الترقيم يوضِّح المقصود منها تمامًا، وهو: علامات التَّرْقِيم هي رموزٌ اصطلاحيّةٌ مَحدَّدةٌ، قد اتَّفق عليها علماءُ اللغة، وزاد عليها العلماء حديثًا. وهي علاماتٌ تُوضَع بين الجُمَل والكلمات في أثناء الكتابة، وهذا بهدف تنْظيم النصِّ، وكذلك تحديد مواضع الوَقْف والابتداء وكذلك الفصل، وأيضًا أنواع النَّبرات الصَّوْتِيَّة، وهذا يُسهّل عملية فهْم النصّ من قِبَل القارئ في أثناء القراءة.
أهميَّةُ علامات التَّرقِيم
علامات الترقيم في اللغة العربية لها أهميةٌ كبيرة، وذلك نظراً لأنَّها تُسهِّل عمليةَ القراءة، ولوجود الترقيم في النص. ويُمكن أن نسْرُد بعض فوائدها التي توضِّحُ أهميَّتها:
1 تعمل علامات الترقيم على تسهيل القراءة للقارئ، وتزيد من عملية فهْمه للنص المكتوب، وإدراك ما يحتويه من معنى، كما إنها تساعد على التفسير للمقاصد وتوضيح التراكيب.
2 لتسهيل التَّعرُّف على مواضع فصْل الجُملة وتقسيم العبارة، هذا بالإضافة إلى التوُّقف في بعض المواضع والسُّكون وذلك لتحسين الالتقاء في الجُمَل.
3 تعملُ علامات الترقيم على تسهيل عملية القراءة في اللغة العربية، وذلك منعًا لإهدار الوقت، حيث توفر الوقت الذي يحتاجه القارئ للقراءة بكل سهولة ويُسْرٍ، حيث أنَّ الترقيم يُقصِّر الزمنَ الذي تتطلَّبه القراءةُ لأيّ نصِّ.
4 يضيف الترقيمُ الدِّقةَ إلى التعبير والكلام، ويعطي الصدق في الدلالة.
5 يعمل الترقيمُ على تحسين اللغة العربية، وكذلك تُحسِّن عرْض الكلام، فيظهر للقارئ بشكلٍ أفضلَ للقراءة وكذلك أفضل في الاستمتاع بقراءة اللغة العربية.
رسالةٌ إلى الكُتَّابِ
أحترم كثيرًا الكاتبَ الذي لا يخطئ في الإملاء – وأحترم جدًّا – الكاتب الذي يراعي علامات الترقيم، ويضعها في مواضعها الصحيحة.
الكاتبُ نوعان: حاذِقٌ، ومَصنوع.
والجمال الكتابي يتطلَّبُ أمْرَيْن لا غنى عنهما:
- السَّرد الأدبي؛ الذي بسببه أطْلِق عليه لقبُ: كاتبٍ
- الإملاء الصحيح، وانعدام الأخطاء النحوية، ودِقَّة علامات الترقيم.
لذا أيها الكاتِبُ؛ سواءً كنت موهوبًا أو مصنوعًا مُكتسبًا، أنتَ تمتلكُ مَلَكةً أدبيَّةً رفيعة، جميلة وأنيقة، فلا تبخل عليها بإضافة العلوم اللغوية؛ لكي يكتمل نِصاب الجَمال.
أعلمُ أنَّ الكثير من الكُتّاب مُلِمُّون بعلوم اللغة والنحو، وأنهم يتغافلون عن الأخطاء؛ تكاسُلًا لا جهلاً. هؤلاء نقول لهم: لطفًا، جَمِّلوا ما تكتبون، فلا يكتملُ الجَمال إلّا إذا ظهر في أبْهى حُلَله. ولا يكتملُ بهاء الكتابة إلّاَ بلغةٍ سليمة خالية من الأخطاء النحوية، والإملائية، ومُزخْرَفًا بعلامات التَّرقيم السَّليمة.