قبل حدوثها بعقدين من الزمان، تنبّأ فيلسوف الجوّانيّة، المفكر المصري الكبير “عثمان أمين”، بكارثة القنبلة الذريّة التي دمّرت الحياة في مدنيتَي: هيروشيما وناكازاكي، في اليابان عام 1945، وذلك من خلال مقال بعنوان: “هل العلم صديقٌ للإنسان؟”، نشره عام 1927، وحذّر فيه البشرية من القطيعة بين العلم والأخلاق، حيث قال: “في سنة 1927، استوقفتني مشكلةُ العلم والأخلاق، ومضيتُ أقرأ وأتأمّل، وكانت نتيجة هذه الدراسة التأمُّلية مقالا نشرته بعنوان: “هل العلم صديقٌ للإنسان؟”، قلتُ فيه أنِّي لا أرى حدًّا لما يأتي به الإنسان من مغامرات رهيبة في آفاق العلم”.
ونحن نستعير عنوان مقال فيلسوفنا الكبير لنجدّد طرح السؤال وإشكالية العلم والأخلاق، وهل وُجِد العلم لإسعاد البشر أم لتعاستهم وتدمير الطبيعة والحياة على كوكب الأرض؟ فما نراه من إبادة للحياة في غزّة وكل فلسطين بآلة الحرب والموت الصهيونيّة، هو تأكيدٌ بأنّ غزّة هي ضحيّة “العلم الغربي”، ومظهرٌ من مظاهر القطيعة بين هذا العلم والأخلاق، حيث أنّ تلك الآلة الجهنّميّة صنّعها العِلم الأوروبي والأمريكي من أجل القتل والتّدمير ونشر الرّعب “المُستديم” في قلوب الأبرياء.. ذلك العِلم الذي صنّع أيضًا الأسلحة البيولوجية والكيماوية والنوويّة والرّقمية وغيرها من الأسلحة التي نعلمها والتي لا نعلمها! ولوّث الهواء والماء والتراب والغذاء.. بل صنّع الأمراض وعمل على نشرها في مختلف بقاع العالم!
عندما نتحدّث عن العِلم المُعادي للأخلاق والقيم والطبيعة والحياة، فإنّنا نقصد “العلم الغربي” الذي يستند إلى فلسفات لا تعترف بإنسانية الإنسان الذي لا ينتمي إلى ما يُسمّى: الدول الكبرى في أوروبا وأمريكا، فيجوز في نظر الغرب التجريب “العلمي” على هذا الإنسان في مختبرات ما يُسمّى “البحث العلمي”، كما يجوز ممارسة أبشع أنواع القتل البطيء والسريع عليه.. ولعله من الطريف أنّ الغرب خصّص أيامًا للاحتفال العالمي بالسلام والحب.. وحتى المراحيض، تعبيرًا عن إرادته في توظيف العلم للحفاظ على الحياة في كوكب الأرض وحماية الإنسان وإسعاده.. ومن تلك الأيام التي يحتفل بها العالم في شهر سبتمبر: محو الأميّة، الإسعافات الأوليّة، محاربة الانتحار، الحفاظ على طبقة الأوزون، القلب، مقاومة الحروب والاحتلال.
لو تأمّل القارئ الكريم في هذه الأيام العالمية، سيُدرك بأنّ سببها الأصلي هو “العلم الغربي”، فالأميّة مثلا هي ميراثٌ استعماري، ومشروعٌ اعتمدَت فيه الدول الاستعمارية على الدراسات العلميّة لتنفيذه بهدف تحقيق غايات الهيمنة والسيطرة على الشعوب، وكذلك الأمر بالنسبة لطبقة الأوزون والتلوّث البيئي فهما من نتائج العلوم الصناعية التي أعلنَت عداءها على الطبيعة بكل ما فيها من مخلوقات وموجودات. أمّا الانتحار أو ما يقترب منه من ظواهر أخرى مثل القلق وفقدان الطمأنينة وأمراض نفسية كثيرة أخرى فمعظمها من آثار “العلم الغربي”.. ونترك القارئ يتعمّق في معنى “اليوم العالمي لمقاومة الحروب والاحتلال” الذي يوافق 27 سبتمبر! كما نترك له مهمّة التفكير في المقصود من “العالم” الذي يحقّ له أن يحتفل، هل هو العالم أجمع أم هو العالم الذي يُعتَبر إنسانُه إنسانًا؟
من المُجدي استذكار العلم في الحضارة الإسلامية التي لم تبخل به على البشرية جمعاء، وكانت الأخلاق هي جوهره وقوامه الأول، فكان مفتاح السعادة للإنسانية كلها وليس للمسلمين فحسب. وعندما حدثَت القطيعةُ بين العلم والأخلاق، منذ بدايات الثورة الصناعية الأوروبية أو ما يُسمّى: “عصر النهضة”، دخلت الإنسانية في متاهة الصراعات والأحقاد والاستعمار.. وصولا إلى “تصنيع” الأمراض والأسلحة الفتّاكة، وشيوع الفكر المادي الاستهلاكي الذي أثّر حتى على العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة تحت السقف الواحد.. ويبدو أن البشرية تتوجّه كل يوم إلى أتمتة الإنسان بفكره ومشاعره، وتحويله إلى مجرّد كائن آدمي قابل للبرمجة!
فهل مازال العلم صديقا للإنسان؟ وهل قضية العلاقة بين العلم والأخلاق هي قضية تُدرس فقط في المخابر المُغلقة لعلوم الاجتماع والنفس والتاريخ…؟ أم أنها قضية يجب أن يعتنقها الأدب باعتباره مجالًا جماهيريًّا مرتبطا بجوهر الإنسان وعواطفه وروحه؟ وهل في تراثنا ما يدعو إلى الوقوف عنده وإعادة إحيائه حول علاقة العلم بالأخلاق؟ وهل علينا نستشرف آفاق العلم وندقّ ناقوس الخطر حول ما سيؤول إليه حالنا، فنندفع إلى استثمار مواردنا الطبيعية وقدراتنا وطاقاتنا البشرية الخلاّقة لنُبدع “علومنا” المنطلقة من أخلاقياتنا، فنؤمّن غذاءنا ونحفظ نقاء هوائنا وتربتنا ومياهنا.. أم نكتفي باستهلاك “علوم” الغرب ومنتوجاته، ونُحمّل أجيالنا تبعات الأمراض المستقبلية في الطبيعة والأجساد والأرواح والفكر والمشاعر؟
نعم! إنّ العلم سهّل حياتنا وقدّم لنا الحلول لكثير من قضايانا، ولكن بأيّ ثمن؟ ونعم! إنّ العلم إنسانيٌّ بطبعه وهو ملكٌ للإنسانية جمعاء، ولكن هل كل العلوم مُباحة أمامنا أم أنّ هناك احتكارٌ لبعضها و”يُحرّم” علينا امتلاكها؟ وحتى لا نغرق في إيجابيات العلم ولا نضيع في معانيه النبيلة، يكفي أن نقف أمام صورٍ للإبادة في غزّة.. لعلنا نُدرك بأنّنا ضحايا “العلم الغربي”، ونفكّر بمصيرنا ومصير أجيالنا، نحن الذين لم نقم بثورة علميّة حقيقية تُكسبنا الحصانة ضدّ أيّ مشروع يطمح إلى أن يجعلنا مجرّد ضحايا.. ضحايا “للعلم الغربي”!
نور أم نار.. جنة أم جحيم؟..
العلم صنع أمجاد البشرية وعارها أيضًا!
بقلم: نهى عودة – شاعرة وكاتبة فلسطينية في لبنان
“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (سورة العلق، الآية: 1). هكذا خاطب الله الإنسانَ بالعلم في مُحكم كتابه، حاثًّا إيّاه على التقدّم والتطوّر، وملزمه بطاعته فهو الخالق الواجب الوجود الذي لا يستطيع أحد أن يُؤتى من العلم قطرةً من آياته في السماوات والأرض.
يهب الله سبحانه وتعالى للإنسان عقلا يميّزه عن غيره من مخلوقاته فيكون إمّا شاكرًا وإمّا كفورا، فبعضهم يذهب به عقله إلى حدِّ الإلحاد أو الإبداع أو التفكُّر والتأمُّل في خلق الله وكنه الدين.. أو الاختراعات التي نراها اليوم والتي تُذهِب العقلَ بعظمتها وتأثيرها وانتشارها العالمي. لكن الإنسان بطبيعته يميل إلى جنون العظمة إذا ما اتّخذ التفرّد نهجه والصهيونية العالمية ومبادئها سبيلا. هكذا العلم يحمل سلاحًا ذو حدّين فإمّا مُعمِّرا أو مدمِّرا.
الفلاسفة المسلمون وسعادة البشرية
الفلاسفة العرب تناولوا العلم بشكل عميق، وجعلوا منه محورًا أساسيًّا في فلسفاتهم. لقد تأثّروا بالتراث اليوناني والفارسي، ودمجوا بين العلوم العقلية والدينية. كان لهم إسهامات كبيرة في تطوير الفلسفة والعلم في الإسلام، ونظروا إلى العلم باعتباره وسيلة لفهم الكون وتحقيق الخير الإنساني.. بالنسبة لهم، العلم لم يكن منفصلاً عن الدين أو الأخلاق، بل كان جزءًا من النظام الشامل للحياة والفكر، الذي يسعى إلى تحقيق السعادة والفضيلة. وفيما يلي بعض من آراء الفلاسفة العرب عن العلم:
“الفارابي”، وهو الفيلسوف والعالم المسلم “أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي” (872–950م)، ويُعدّ واحدًا من أبرز فلاسفة الإسلام في العصور الوسطى، قال بأنّ العلم والفلسفة هما أدوات لفهم العالم ولتحقيق السعادة التي هي الهدف النهائي للإنسان. وكان يعتبر أن العلم هو وسيلة للتفكّر في الكون وتنظيم المجتمع الإنساني. كان يؤمن بضرورة التوفيق بين الفلسفة والعلم والدين، ورأى أنّ الفلسفة يجب أن تخدم الدين وتعمل على تعزيز الفضيلة بين الناس.
“ابن سينا”، وهو أحد أبرز العلماء والفلاسفة في التاريخ الإسلامي، كان له تأثير كبير في مجالات الطب والفلسفة. اعتبر أن العلم هو وسيلة لفهم الطبيعة وتحقيق الكمال الإنساني، وكان يرى أن المعرفة تُكتسب عن طريق العقل والتجربة. في فلسفته، قدّم نظريات متقدّمة حول العقل والوجود، واعتبر أنّ العلوم الطبيعية والميتافيزيقية مترابطة، ولا يمكن فهم الكون بدون الجمع بينهما. كما أشار إلى أنّ العلم الطبي يجب أن يستند إلى التجربة والملاحظة، وكان له كتاب “القانون في الطب” الذي ظل مرجعًا لقرون في العالم الإسلامي وأوروبا.
“ابن رشد”، كان من أعظم الفلاسفة والمفكّرين الذين سعوا إلى التوفيق بين الفلسفة والعلم والدين. دافع عن استخدام العقل في فهم الشريعة، وأكّد أن العلم والفلسفة لا يتعارضان مع الدين، بل إنهما وسيلتان مختلفتان لتحقيق المعرفة الحقيقية. ورأى أن العلم هو طريق للفهم الدقيق للكون وقوانين الطبيعة، وبالتالي يجب أن يُستخدم لتطوير الفكر البشري. في كتابه “تهافت التهافت”، انتقد “الغزالي” الذي رأى تعارضًا بين الفلسفة والدين، وقدّم رؤية تجمع بين العلم والدين كجزء من نظام معرفي شامل.
ومن العلماء والفلاسفة أيضًا “الكندي” (801-873 م): كان أول الفلاسفة المسلمين الذين تناولوا الفلسفة اليونانية وحاولوا توظيفها في الإطار الإسلامي. و”الغزالي” (1058-1111 م): على الرغم من أنه كان ناقدًا لبعض الفلاسفة، إلا أنه كان له تأثير كبير في مجال الفكر العلمي والفلسفي، وكان يرى أن العلم الذي يخدم الأخلاق والدين هو العلم المفيد، وحذّر من العلوم التي تقود إلى الشكوك أو تنحرف عن الطريق الصحيح.
تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية
تاريخ العلم وفضيلته في التاريخ الإسلامي موضوع واسع ومُتجذّر في حضارة الإسلام منذ بداياته فالعلم من أهم القيم التي دعَت إليها الشريعة الإسلامية، فقد حثَّ القرآن الكريم على طلب العلم ورفَعه إلى مكانة عظيمة، وذلك في آيات كثيرة، نذكر منها:
“قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” (سورة الزمر: الآية 9)، وهذه الآية تؤكد على التفاوت بين أهل العلم وبين غيرهم.
في العصر العباسي، وخاصة بين القرن الثامن والقرن الثالث عشر، شهد العالم الإسلامي ازدهارًا علميًّا كبيرا. وقد كان هذا العصر يُعرف بالعصر الذهبي للإسلام، حيث نشطت حركة الترجمة والتأليف في مجالات العلم المتنوعة. فكانت مكتبة “بيت الحكمة” في بغداد: مركزًا للترجمة والتأليف، حيث تُرجمت الكثير من الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية. ومن العلوم التي برزت بقوة آنذاك، نذكر العلوم الشرعية: شُرِع في تقنين علوم الفقه والحديث والتفسير، مما ساهم في تطوير البنية العلمية الإسلامية. والعلوم العقلية والتطبيقية: حيث برز المسلمون في الرياضيات: (أمثال الخوارزمي)، الطب (أمثال ابن سينا والرازي)، الفلك (أمثال البيروني)، والكيمياء (أمثال جابر بن حيان).
كما أن علم الفقه وأصوله يُعتبر أيضًا أحد أهمّ الإنجازات في التاريخ الإسلامي، وهو تطوير علم أصول الفقه الذي يُعدّ من العلوم التي لا مثيل لها في الحضارات الأخرى. كما وأن المسلمون برعوا في الطب وألفوا كتبًا اعتُمدت لقرون في أوروبا، مثل كتاب “القانون” لابن سينا.
ساهم العلم في تطوّر الحضارة الإسلامية بشكل كبير، حيث أثرى الفكر الإنساني، وقدّم إسهامات عظيمة للحضارات الأخرى. ثم نُقلت العلوم الإسلامية إلى أوروبا من خلال ترجمة الأعمال الإسلامية إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوروبية في العصور الوسطى، حيث كانت واحدة من الطرق الرئيسية التي انتقلت بها العلوم الإسلامية إلى الغرب، مما ساعد على إحداث النهضة الأوروبية.
فتاريخ العلم في الإسلام شاهدٌ على تميّز الحضارة الإسلامية في مختلف المجالات، ومثالٌ على كيف أن العلم كان دائمًا جزءًا من روح الإسلام وسبيلاً لتحقيق الرقي والنهضة.
الأهم من ذلك أنّ في الحضارة الإسلامية، كان هناك دائمًا ربط بين العلم والأخلاق. كان العلماء المسلمون يجمعون بين البحث العلمي والالتزام بالشريعة الإسلامية التي تركز على تحقيق المصلحة العامة وتجنّب الضّرر. على سبيل المثال: الفقهاء والعلماء وضعوا قواعد أخلاقية للأطباء تتعلق برعاية المرضى وحماية حياتهم.
فالعلاقة بين العلم والأخلاق هي علاقة حساسّة جدا. العلم يقدّم المعرفة والقدرة على تحقيق تقدم تكنولوجي وعلمي، بينما الأخلاق تضع المبادئ والقيم التي توجّه استخدام هذه المعرفة بطريقة تحافظ على كرامة الإنسان وتحمي حقوقه.
العلم صانعٌ للسعادة أم للشقاء؟
العلم بحد ذاته ليس ضارًّا؛ بل طريقة استخدامه هي التي تحدِّد النفع والضّرر. حين يُستخدم العلم لتحقيق مصالح إنسانية وتقدم البشرية، فإنه يمثل قوة إيجابية، ولكن عندما يُستخدم لأغراض غير أخلاقية أو ضارّة، فإنه قد يسبب أضرارًا جسيمة. لذا، من الضروري دائمًا مزج العلم بالأخلاق والتفكير في العواقب الطويلة الأجل لكل استخدام علمي.. وإذا لم يكن العلم مقيدًا بمبادئ أخلاقية، فقد يؤدي إلى نتائج سلبية. أمثلة على ذلك:
الأخلاق: تلعب دورًا مهمًّا في توجيه الأبحاث العلمية نحو أهداف تخدم الخير العام. على سبيل المثال، البحث الطبي الذي يهدف إلى علاج الأمراض وتقليل المعاناة البشرية يتمّ توجيهه من خلال مبادئ أخلاقية مثل حماية الحياة ورفض الضّرر.
البيئة والاستدامة: في مجالات مثل الهندسة والعلوم البيئية، الأخلاق تفرض قيودًا على كيفية استغلال الموارد الطبيعية وتوجّه استخدام التّقنيات بطريقة تحافظ على البيئة للأجيال القادمة.
النزاهة العلمية: العلم يستند إلى البحث عن الحقيقة، والأخلاق تلزم العلماء بالابتعاد عن التزييف أو التلاعب بالبيانات، حيث تتطلّب بعض التطوّرات العلمية الحديثة، مثل الهندسة الوراثية، الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، قرارات أخلاقية مُعقّدة. على سبيل المثال: هل من الأخلاقي تعديل الجينات البشرية لتحسين السمات الشخصية؟ وكيف يمكن ضمان أن الذكاء الاصطناعي يُستخدم بطرق تحمي حقوق الإنسان وتمنع الانتهاكات؟
هناك عدة طرق يمكن أن يكون فيها العلم قد أضرّ بالعالم، وغالبًا ما ترتبط هذه الأضرار بإساءة استخدام الاكتشافات العلمية أو تجاهل القيم الإنسانية والأخلاقية. فيما يلي بعض الأمثلة:
– اكتشافات الفيزياء النووية أدت إلى تطوير الأسلحة النووية، مثل القنابل الذرية التي دمرت هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية. على الرغم من أنّ الطاقة النووية لها فوائد في مجالات الطاقة والصناعة، إلّا أنّ استخدامها العسكري أدّى إلى معاناة كبيرة للبشرية.
– جنون العلم أدّى إلى تطوير أسلحة يمكن أن تسبّب دمارًا هائلًا وتهديدًا للبشرية، مثل الأسلحة الكيميائية التي تُستخدم في الحروب وتسبب معاناة للمدنيين.
– التطورات العلمية في مجالات الصناعة والزراعة أدّت إلى استخدام واسع للمواد الكيميائية، مثل المُبيدات والأسمدة، التي أضرّت بالبيئة، مُسبِّبة تلوث التربة والماء والهواء.
– الأنشطة الصناعية المستندة إلى العلم والتكنولوجيا، مثل استخدام الوقود الأحفوري، أدّت إلى زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، ممّا يُهدِّد مستقبل الكوكب.
أمّا في مجال التجارب العلمية غير الأخلاقية، فحدّث ولا حرج:
– في الماضي، تمّ إجراء بعض التجارب العلمية غير الأخلاقية على البشر بدون موافقتهم وعلى الحيوانات بدون مراعاة سلامتهم. مثل التجارب الطبية النازية، خلال الحرب العالمية الثانية، التي تُظهر كيف أنّ العلم يمكن أن يستخدم بطريقة غير إنسانية.. والتكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي وتقنيات المراقبة، قد تؤدّي إلى انتهاكات خصوصية الأفراد والتعدّي على حرياتهم، حيث يتمّ استغلال البيانات الشخصية بطُرق قد تضرّ بالأفراد، سواء من خلال المراقبة أو التجسس أو التلاعب بالمعلومات.
– لقد أدّى العلم إلى تطور الهندسة الوراثية والتلاعب بالجينات، ممّا أثار قضايا أخلاقية معقدة. وهناك مخاوف من أن يؤدي التلاعب بالجينات البشرية إلى قضايا مثل تحسين الصفات البشرية بطرق غير طبيعية، أو “إنتاج” كائنات مُعدّلة وراثيًا قد يكون لها تأثيرات سلبية غير مُتوقّعة على الطبيعة والإنسان.
– كما أدّت التطورات العلمية والتكنولوجية إلى إحداث فجوة كبيرة بين الدول المتقدّمة والدول النامية. بعض الدول استفادت من التقدم العلمي لتعزيز اقتصادها، بينما تراجعت دول أخرى بسبب قلّة الموارد أو عدم القدرة على اللحاق بالتقدم العلمي.
– إنّ العلم والتكنولوجيا ساهما في تطوير الأتمتة والروبوتات، مما أدى إلى فقدان الكثير من الوظائف التقليدية، خاصة في القطاعات الصناعية. هذا التقدّم أثّر على الاقتصاد وأدّى إلى زيادة البطالة في بعض المناطق.
هل العلم صديق الإنسان؟
يمكن القول بأنّ العلم هو صديق الإنسان، وذلك لأنّه يسهم بشكل كبير في تحسين جودة حياة البشر وتطوير مجتمعاتهم، كما يساهم في تحسين الحياة اليومية والتطور في الطب والتكنولوجيا.. ممّا يؤدّي إلى تحسين الرعاية الصحية، زيادة متوسط الأعمار، وتطوير وسائل التواصل والسفر والراحة.
العلم يساعد الإنسان على فهم العالم من حوله، من أصغر الذرّات إلى أكبر المجرّات، ممّا يعزّز إحساس الإنسان بالمكانة في الكون ويدفعه إلى السعي نحو المعرفة. والعلم هو أداة لحلّ العديد من التحديات والمشكلات التي تواجه الإنسان، مثل: الأمراض، المجاعات، التغيرات المناخية، نقص الموارد..
من خلال العلم، يتعلّم الإنسان كيف يفكّر بطريقة منهجية ومنطقية، ممّا يساعده في اتخاذ قرارات مستنيرة ويقلّل من التأثر بالخرافات أو الأفكار غير المستندة إلى أدلة.. إن العلم يقود إلى الابتكار الذي يسهم في تقدم البشرية في مختلف المجالات، سواء في الصناعة، الزراعة، أو التعليم، ممّا يرفع من مستوى الرفاهية العامة.
خلاصة الكلام
إن عدم استخدام العلم بطريقة أخلاقية وتوجيهه نحو حماية البشرية يجعله شيطانا يتنقل في العالم ويدمّره ويبيد العباد، وهذا ما رأيناه في الكثير من الحروب التي حصلَت، ومؤخرا الحرب الشرسة المستعرة على فلسطين واستخدام الأسلحة غير المشروعة وتدمير الإنسان والمكان دون أن تهتز “شوارب” عملاء الأرض والمتحدّيين لعظمة الله، دون الرجوع الى الفطرة السليمة.. “قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ” (سورة: عبس، الآية: 17).
يجب استخدام العلم بحكمة وأخلاقيّة لتحقيق الفائدة للبشرية، حيث إن إساءة استخدامه يمكن أن تؤدي إلى نتائج ضارة بمستقبل البشرية وبكوكب الأرض ذاته، مثل الأسلحة المدمرة أو التلوث البيئي.. لذا، العلم بحد ذاته ليس محايدًا؛ بل يعتمد على كيفية توظيفه في خدمة الإنسان.
عِلمٌ بلا ضمير.. وحشٌ خارجَ القفص!
بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد – كاتب من مصر
“إذا لَم يَكُنِ اللهُ موجودًا فكلُّ شَيءٍ مُبَاح!” (فيودور دوستويفسكي).
في السادس من أغسطس/ أوت 1945، وبأوامر مباشرة من الرئيس الأمريكي “هاري ترومان”، ألقَى الأمريكيون قنبلة “الولد الصغير” على مدينة “هيروشيما” اليابانية، وبعدها بثلاثة أيام أطلقوا قنبلة “الرجل البدين” على مدينة “ناغازاكي”، وراح ضحية القنبلتين مائتان وعشرون ألفًا من اليابانيين، مات ما يقرُبُ من نصفهم في اليوم الذي تمّت فيه التفجيرات، وقضى الباقون متأثرين بالجروح والحروق والصدمات الإشعاعية، وبعد إلقاء القنبلتين الذريتين بستة أيام أعلنت اليابان استسلامَها لقوات الحلفاء، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه الهجمات الوحشية هي المَرَّة الأولى والوحيدة التي استُخدم فيها السلاح الذري في تاريخ الحروب، وكانت في الوقت نفسِه أكبر صدمة للبشرية في تصور ما يمكن أن يصنعه العلم بها، والمخاطر التي تنتظرها لو استمرت الدول في استخدام السلاح النووي في صراعاتها..
من يومها وشكوك الناس تتزايد حول جدوَى العلم وأهميته، وتردّدت التساؤلات عن سلبيات العلم وإيجابياته، وهل هو خيرٌ أم شر؟ وكفر كثيرون به، ورأَوه مرادفًا للشقاء والفناء، وذهبت الظنون إلى أنه هو الذي صار يسيطر على الأخلاق، ولم يعد للضمير سلطانٌ عليه، وهو بهذا قد يجرُّ البشرية إلى كوارث قد تنتهي بفنائها. وتعالت الأصوات بالدعوة إلى حظر الأسلحة النووية ونزعها والحدّ من انتشارها، ولكن حكومات بعض الدول الكبرى كان لها موقفٌ مختلف؛ وظلت تُصَنِّع السلاحَ النووي وتطوره، سرًّا وعلانية، وتتسابق في ذلك تسابقًا مخيفًا، جعل الأرضَ كلَّها تضطرب فوق صفيحٍ ساخن، وتحمل فوقها من الأسلحة الذرية والبيولوجية ما يكفي لتدميرها والقضاء على كل ما فيها ومن عليها مئات المرات، ومع كثرة الخلافات السياسية والعِرقية والعَقَدية، لم يعد العالم بمأمن من أن يتهوّر بعض الحمقى من الحكّام أو القادة، فيعطي أوامرَه الرعناء باستخدام السلاح الذري، لتدخل الأرض في حرب عالمية ثالثة، لا أحد يعلم ما الذي يمكن أن تؤدي إليه من كوارث ومصائب، قد لا تُبقي بعدها شيئًا ولا تَذَر.
شغلتني هذه القضيةُ كثيرًا، ولا تزال، وفي رأيي أن الكاتب، أو حتى المثقف، الذي لا ينشغل بمصير الإنسانية ومستقبلها، لا يمكن أن يكون كاتبًا، أو مثقفًا، حقيقيًّا، وأذكر أنني قرأت مقالًا عن “الحقيقة حول أشعة الموت”، لـ “وليم لورانس”، نُشِر في مجلة الهلال، يوليو/ جويلية 1964، وجاء فيه أن شبحًا مُريعًا يُدخِلُ الرعبَ في نفوس البشر في كل مكان، ذلك هو السلاح الجديد الرهيب الذي يتحدّث عنه كبار العلماء، ويقولون إن أقوى القنابل الذرية أو الهيدروجينية تبدو بالقياس إليه أشبهَ “بالبُمْبِ” الذي يلعب به الأطفالُ في الأعياد والحفلات.
إنه أشعة الموت، أو قنبلة الموت، أو قنبلة النيوترون التي تقتل الإنسان دون أن تصيب المباني والممتلكات بأيّ سوء، (كأنَّ الإنسان لا يهم). إن ثُمنَ غرام نحصل عليه من الاندماج النووي لغرام واحد من الديوتيريوم يمكن أن يُطلِق إشعاعًا يكفي لقتل مائة مليون شخص. وأكثر من هذا، فإن خُمس غرام يَنتُج من اندماج غرام من الديوتيريوم والتريتيوم، يستطيع أن يبعث بأشعة الموت إلى 760 ميون شخص، أي ما يعادل أيامها أربعة أمثال الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي، أو ما يزيد على أهل الصين الشعبية بكثير.
ومن العجيب أن “الكرملين” وقتَها راح يستخدم فكرة “قنبلة النيوترون” لشنّ حملة دعائية واسعة، فأصدر بيانًا يَلفِتُ فيه نظر شعوب العالم إلى الحديث الدائر في الولايات المتحدة حول مشروع لصنع قنبلة نيوترونيّة، تقتل كلَّ كائنٍ حيٍّ، ولكنها في الوقت نفسِه لا تدمّر الأشياء المادية. ثم يقول “إن المعتدين فقط الذين يحلمون بالنهب والاستيلاء على الأراضي الأجنبية والممتلكات الأجنبية، هم الذين يستطيعون تعبئة جهود العلماء لإنتاج مثل هذه الأسلحة”. وكذلك نسمع أصواتًا ترتفع في الولايات المتحدة وغيرها من دول المعسكر الغربي، تتحدّث عن هذه القنبلة وإمكانية صُنعِها، وتؤكِّد أن السوفييت يبذلون غاية جهدهم في هذا السبيل.
ومنذ أربعين سنةً من الآن، نوفمبر 1984، وقع بين يديَّ عددٌ من مجلة “الثقافة العالمية”، وهي مجلة كويتية تترجم الجديد في الثقافة والعلوم المعاصرة، قرأت فيه مقالًا عن “خطر الحرب النووية الحرارية”، للأستاذ “أندريه زخاروف”، أحد علماء الفيزياء البارزين في الاتحاد السوفييتي (سابقًا)، وأحد الحاصلين على جائزة نوبل، ذكر فيه أرقامًا مخيفةً عن المخزون النووي الذي تمتلكه الدول العظمى، وقال إن الجنس البشري لم يواجه قط أيَّ شيءٍ يشبه، ولو من بعيد، مدى ما ستكون عليه حربٌ نووية، أو مقدار الرعب الذي ستجلبه.
وقد أكَّد “زخاروف” في نهاية مقاله على أهمية أن يدرك العالمُ أن الحربَ النووية، وهي التي تعني الانتحار الجماعي للجنس البشري، غير مسموحٍ بها على الإطلاق. إن من المستحيل أن يكسب طرَفٌ الحربَ النووية. وما هو ضروريٌّ هو بذل الجهد بشكلٍ مضطرد، ولكن بشكلٍ حذِر، للتوصل إلى نزع سلاح نووي قائم على التوازن الاستراتيجي في الأسلحة التقليدية، وطالما بقيت هذه الأسلحة النووية في العالم، فلا بدَّ من إيجاد توازن في القوات النووية، حتى لا يتجرَّأَ أيُّ طرفٍ على المغامرة على الانطلاق نحو حروب نووية، محدودة أو إقليمية. والأمن الحقيقي لا يمكن أن يصبح ممكنًا إلا إذا كان قائمًا على استقرار العلاقات الدولية، والتخلي عن السياسات التوسُّعيّة، وتعزيز الثقة الدولية، والانفتاح والجماعية في المجتمعات الاشتراكية، ومراعاة حقوق الإنسان في شتى أنحاء العالَم، والاقتراب، أو التلاقي، بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، وجهود عالمية منسقة لحلِّ مشاكل العالَم.
قبل ذلك بعشرات السنوات، كان “ألفريد نوبل”، وهو عالِمٌ كيميائي ومهندس وصناعي سويدي، قد اكتشف الديناميت ومتفجرات قوية أخرى استُخدِمت في الحرب، وسهَّل اكتشافه هذا إمكانية فتح الأنفاق وقطع القنوات وبناء السكك الحديدية ومدّ الطرق، لكنها استغلت في التخريب والتدمير، ولما رأى التأثيرات السلبية لاختراعاته على العالَم، ندم على ذلك كثيرًا، وأوصَى أن يُخَصَّص جُلُّ ثروته لتشجيع الإبداع العلمي ونشر السلام.
وقد ذكر الأستاذ “العقاد” في كتابه عن “جوائز الأدب العالمية” أن “ألفريد نوبل” قد ربح منذ شبابه ثروةً عريضةً من مخترعاته ومقاولاته، وربح في كهولته ثروةً أعرَضَ منها وأوسعَ انتشارًا بين حواضر العالم وعواصم الدول ومراكز الحياة الاجتماعية، فلم تُعطِه الثروة العريضة في شبابه وكهولته تلكَ الثقة التي يفتقر إليها، ويودُّ أن يطمئن إلى ركنٍ من أركانها، لأنه كسب الثروة من صناعة “المتفجرات”، وهي يومئذٍ تنوء بأوزار قضية التسليح وقضية السلام، وتتجسّم بين العاملين فيها فضائح الرياء والسمسرة والرِّشوة ومكائد الجاسوسية.
وقريبٌ من هذا ما حدث لـ “ألبرت أينشتين”، وهو واحدٌ من أبرز من يقفون وراء صنع القنبلة الذرية، سياسيًّا بتحريض الولايات المتحدة على بَدء أبحاثها، وعلميًّا بمعادلته الشهيرة (ط = ك.س²) التي جعلت من القنبلة الذرية أمرًا ممكنًا من الناحية النظرية. لكنه ظلَّ متحفِّظًا أثناء سنوات الحرب؛ ونفى عن نفسه نفيًا قاطعًا أن يكون قد شارك في صنعها، وسعى للتوصل إلى مجموعة موحَّدة من المبادئ يمكنها أن تخلق النظامَ من الفوضَى، ورأى أن النظام القائم آنذاك من المُحتّم أن يتسبّب في مزيدٍ من الحروب. وطوال السنوات العشر المتبقية في حياته سيتنافس شغفُه بالمطالبة بإنشاء كيان حاكم موحَّد للعالم، مع شغفه باكتشاف نظرية مجال موحَّد يمكن أن تسيطر على جميع القوى الموجودة للطبيعة، وقد وصل الأمر بـ “فرانسوا دو كلوسيه”، وهو أحدُ من أرَّخوا له، فوصفه بأنه “حاج السلام!”.
لقد تورَّط رجالُ العلم في سياسة القوة، وصَمُّوا آذانهم دون صوت ضميرهم الإنساني، إلى أن صحَوا من مغالطاتهم لأنفسهم على ضجيج الانفجارات الرهيبة وصرخات الضحايا الموجعة، وقتها أحسَّ العلماء بأزمة نفسية تهز ضمائرَهم، فتخلَّوا عن أبراجهم العاجية، وأدّى بهم شعورهم بالذنب إلى الإحساس بثقل مسئوليتهم تجاه المجتمع.
ولا أحد يتخيّل على وجه التحديد ما آلت إليه الأمور في أيامنا هذه، ولا ما هي أنواع الحروب التي يمكن لو قامت أن تقضيَ على الجنس البشري كلِّه بين عشية وضحاها، وأن تعيد الأرض إلى ما كانت عليه منذ ملايين السنين، وهو ما يقف (العلم) وراءه بلا جدال، وإن كان للصورة وجهٌ آخر، ولهذا (العلم) نفسِه قصةٌ مختلفة، يرويها لنا علماء وأدباء ومفكرون، وإن كانت يغلب عليها شيءٌ من التصوّر الرومانسي والمثالي.
إنّ العلم قد صار في العقود الأخيرة يتطوّر بصورة مذهلة، ولعل هذا شيءٌ ممّا تنبأ به الفيلسوف البريطاني “برتراند رَسِل” في كتابه “النظرة العلمية” (The scientific outlook)، حين ذهبَ إلى أننا نعيش في عصرٍ علمي، ونحن إذ نقول هذا إنما نردّد قولًا شائعًا مألوفًا، ولكنه ليس صحيحًا تمام الصحة؛ ذلك بأننا قد نكون علميّين جدًّا بالنسبة إلى أسلافنا في غابر الزمان، ولكننا بالقياس إلى بني الإنسان في المستقبل، سنبدو في غالب الظن قومًا بعيدين عن العلم كلَّ البعد.
والذي أعرفه أن العلمَ كان من أهم الوسائل التي أدّت إلى راحة الإنسان وسعادته، وأمامي الآن ثلاثة كتبٍ تتناول هذا الجانب وتؤكده، تمنيت لو عرضت لها تفصيلًا، أعود إليها كثيرًا حين أريد أن أتذكر عظمة الإنسان وعبقريته الخلّاقة التي مكَّنته من أن يتوصّل إلى أسرار الطبيعة ويروّضها، ويصبح بما اكتشفه واخترعه ملِكَ الأرض وسيّد الكائنات، أولها كتاب “مواقف حاسمة في تاريخ العلم” لـ “جيمس ب. كونانت”، ونقله إلى العربية الدكتور “أحمد زكي”، وصدرت طبعته الأولى منذ سبعين سنة، وفيه إحاطة بتاريخ العلم والتطورات العظيمة التي سارت فيها حضارتنا حتى وصلت بنا إلى عصر الذرة. والثاني كتاب “تاريخ التكنولوجيا: قصة الاختراعات وأشهر المخترعين”، لـ “إيجون لارسن”، وترجمه عن الألمانية الدكتور “مصطفى ماهر”، وفي هذا الكتاب الممتع يروي لنا المؤلِّف، بأسلوبه الشائق، قصص أهم المخترعات التي توصّل إليها العقل البشري منذ بَدء الخليقة حتى اليوم، ابتداءً من الرافعة والمضخة في العصور القديمة، حتى العقل الإلكتروني والصاروخ والقمر الصناعي والطائرة الكونكورد، مرورًا بالآلة البخارية ومانعة الصواعق والمطبعة والهاتف والإذاعة والتليفزيون.
أمَّا الكتاب الثالث فهو “موسوعة الاكتشافات العلمية: من اكتشف ماذا.. ومتى؟” من تأليف “ديفيد إليارد”، ويوضح تطوّر الأفكار العلمية على مدار خمسمائة عام (1500/2000) والأفراد الذين ساهموا في بلورتها وتطبيقها بصورة فعلية؛ ابتداءً من إسهامات كلٍّ من “ليوناردو كاميلوس” في علم دراسة الصخور، و”بارسيلسيوس” في مجال الطب، و”نيقولو تارتجليا” في الرياضيات، وانتهاءً باكتشاف “جون كورليس” لأعماق المحيطات، و”لوك مونتير” و”روبرت جالو” لفيروس مرض الإيدز، و”جيمس طومسون” للخلية الجذعية، مرورًا بإسهامات “بليز باسكال” في الرياضيات والفيزياء، وتجارب “روبرت بوي” عن الهواء، وتوصّل “جون راي” إلى وجود الخالق من خلال الطبيعة…
كانت هذه هي صورة العلم كما استقرّت في وعيي صغيرًا، وكان رأيي أن العلم هو كل ما يمكن أن يتوصل إليه الإنسان من خلال النظر والاستقراء والاستنباط والتجربة، من أفكارٍ ترتقي بعقله وتسمو بروحه، أو اكتشافات واختراعات تجعل حياته أكثر أمنًا وراحةً ورخاءً وسعادة. والحقيقة أن هذا هو ما صنعه العلم في الجانب الأكبر منه، لكنَّ ما حدث في القرنين الأخيرين من تسخير العلم لخدمة قوى الشر من الإمبرياليّين وأشباههم، واستغلاله في تحقيق مآرب الدول العظمى التي تريد السيطرة على العالم، والشركات الكبرى التي تريد أن تتربّح من وراء إنتاج الأسلحة، مهما كانت فتَّاكةً ومُدمِّرة، كل هذا جعل (العلم) كلمةً سيئة السمعة، ترتبط أولَ ما ترتبط بكل ما ينغّص حياة الناس ويُقِضُّ مضاجعَهم ويفسد معيشتهم.
ولعل الأستاذ “عثمان نويّه” كان أقربَ إلى هذا المعنى حين قال في كتابه “حَيرة الأدب في عصر العلم” إن الآباء الأوائل للعلم كانوا رجالًا أحبُّوا العالَم، يُسَرِّحون أبصارَهم في جمال النجوم والبحر والنسيم والجبل، وكان من أثر حبهم إياها أن تعلَّقَت بها أفكارُهم، فرغبوا في فهمها أدقَّ مما يتجه مجرد التأمل الخارجي. لقد شعروا بالجمال العجيب للعالَم، شعورًا أشبه بالجنون سرَى في دمائهم؛ لأنهم كانوا رجالًا أُولِي عقلٍ عاطفيٍّ جبار، وقد كان لهذه الدفعة العاطفية نحو استخدام العقل الفضلُ كلُّ الفضلِ في حركة العلم الحديث كلِّها، ولكن بِمُضِيِّ الزمن أخذ العلم يتطور، من حبٍّ للمعرفة إلى حبٍّ للسيطرة، فجعل الرجل العلميُّ يقول: ماذا يهمّ من أن العالم الخارجيَّ موجودٌ فعلًا أو أنه مجرد حلم، ما دمت أستطيع أن أحملَه على السلوك الذي أشاء.
هكذا حلَّت السيطرة محلَّ الحب، وهذا تطوُّرٌ يؤسف له، فالعالم بغير بهجة وغير حب، هو عالمٌ تَجَرَّد من القيم التي كانت تنير حياة الإنسان قبل عصر العلم. فالعلم من حيث هو بحثٌ عن المعرفة يُعَدُّ قيمةً كبرى في ذاته، ولكن العالم إذا ثَمِلَ بخمر المقدرة فنسيَ تراث الإنسان الذي تراكم على مَرِّ العصور، لأنه لا يلزمه فيما هو بصدده من محاولةٍ للسيطرة على قُوَى الطبيعة، فإنه يكون قد أصاب العالَمَ بخسارة ثقافية قد يكون لها أسوأ الأثر في الاستخدامات المستقبلَة للعلم.
ثمّة أربعة كتبٍ أخرى من (كُتُبِ التوقُّعات) واستشراف المستقبل، تنتهي بنا إلى ما صرنا إليه بسبب العلم، وما وصل إليه أمرُ الناس بعد ما انتقل العلمُ نَقلته النوعية الطفرية الكبرى في العقود الأخيرة من تاريخ بني الإنسان. أشيرُ إليها في إيجاز، وأتمنى على القارئ الكريم أن يعود إليها نظرًا وفكرًا وتأمُّلًا. صدرت هذه الكتب جميعُها، ما عدا الكتاب الأول، في “سلسلة عالم المعرفة” الكويتية، وألَّفها أربعة علماء أمريكيين، فهي تتوجّه إذًا إلى القارئ الأمريكي والغربي في المقام الأول، ونحن نترجمها كالعادة لنعرف ما الذي يجري في العالم من حولنا، ثم نكتفي بعد ذلك، للأسف الشديد، بالفرجة والمشاهدة، دون أن يكون لدينا أية قدرة على الفعل، ولا حتى ردِّ الفعل، وهو ما يجب أن يتغيّر تمامًا في هذا الوقت الحرج من تاريخ أمتنا؛ فإذا كانت هذه الكتب، في جملتها، قد زَفَّت إلى العالم المتقدّم بُشرَى الأمل والثراء والجدَّة والسطوة والسلطان، فإنها قد أطلقت لنا وللعالم الثالث صيحة نذير؛ إمَّا العمل الجاد واللهاث لنلحق بالرَّكب، وإما استعباد تكنولوجي وحضاري للعالَم المتقدّم، حتى وإن امتلأت الخزائن بالمال.
الكتاب الأول هو “الإنسان التكنولوجي.. الأسطورة والحقيقة” لـ “فيكتور س. فيركيس”، ونقله إلى العربية الدكتور “زكريا إبراهيم” و”يوسف ميخائيل أسعد”، وبين يديَّ طبعته الأولى والنادرة التي لا أعرف له غيرَها، وقد صدرت منذ خمسن سنة، وفيه يعرض المؤلِّف تسلسلَ التطوّر الحضاري ثم التقدم التكنولوجي، وآراء المفكّرين في التنبؤ بمستقبل الإنسان مع التقدم التكنولوجي، وقد سمّى الإنسان في عصر الإنجازات التكنولوجية العظيمة بالإنسان التكنولوجي.
وصدر الكتاب الثاني في طبعته العربية منذ اثنتين وأربعين سنة، وجاء تحت عنوان “العالم بعد مائتي عام: الثورة العلمية والتكنولوجية خلال القرنين القادمَين”، وهو يتنبّأ، وهذا ما قد حدث فعلًا، بأنّ مجتمع ما بعد التصنيع سيحقق وفرةً وثراءً، ونموًّا اقتصاديًّا، وتقدُّمًا تكنولوجيًّا طليقًا، واستهلاكًا واسعًا فيه رفاهية وبذخ، وسيادة للإنسان على الطبيعة والحياة، بَدءًا من المورِّثات (الجينات) التي تتحكّم في المخلوقات ونوع الحياة، إلى القدرة على تعديل الحياة العقلية وتكييفها، إلى استعمار الفضاء، وامتلاك قوة تدميرية هائلة، ثم وقت فراغ غير محدود.
إن هذا المجتمع مقدمةُ طفرةٍ جديدة في سلّم التطوّر البشري، نحو إنسانٍ جديدٍ ومجتمعٍ مغايرٍ، تتحوّل فيه الفكرة إلى حقيقة فور تكوينها. وسوف يعاني إنسانُ هذا المجتمع من مشكلات ناجمةٍ عن هذا النجاح: اغتراب الإنسان نتيجة التقدم الناجح للحركة الاجتماعية، وكآبة تسود صفوف العمّال نتيجة الانتقال الناجح خارج البِنية الطبقية، وتلوّث البيئة ناجم عن النمو السريع، وانطلاق لشهوات النفس، وبشَر مُتواكلون على الحياة الميكانيكية، وأزمات نفسية واجتماعية نتيجة الفراغ، قد تدفع إلى عنفٍ ضار.
ويخبرنا الكتاب الثالث “ثورة الإنفوميديا: الوسائط المعلوماتية وكيف تغيّر عالمنا وحياتك” لـ “فرانك كيلش”، بأنه سيظهر إلى الوجود جيلٌ جديد من شركات تمتلك تكنولوجيا ثاقبة، تدعم بدورها الوسائط المعلوماتية لتحقّق نجاحًا فلكيًّا، بينما ستنام شركات أخرى مطمَئنَّةً لما بين أيديها الآن، وعندما تصحو ستجد أنّ العالم قد تغيَّر من حولها. إن ثورة الوسائط المعلوماتية تتحدّانا على المستوى الشخصي؛ فستثير قضايا أخلاقية جديدة، وتغيِّر من أساليب حياتنا اليومية، كما ستغيّر من الأسلوب الذي يتفاعل به أطفالنا مع الآخرين. ثورة الوسائط المعلوماتية تطرق أبوابَنا بالفعل، ولن تدَع أمامنا سوى خيارات تشترك كلها في صعوبة واحدة: النظرة المستقبلية.
أمَّا الكتاب الرابع، “رؤى مستقبلية: كيف سيغيّر العلمُ حياتَنا في القرن الواحد والعشرين”، لمؤلِّفه “ميتشيو كاكو”، فهو واضحٌ من عنوانه كما نقول، وقد توقّفتُ طويلًا عند واحدٍ من أخطر فصوله، إن لم يكن أخطرها على الإطلاق، حمل عنوان: “هل انتهى عصر البشر؟”، وهو يذكِّرني بكتاب “فرانسيس فوكوياما” “نهاية الإنسان.. عواقب الثورة البيوتكنولوجية”، وتصدَّرته عبارةٌ مخيفةٌ لشخص مجهول: “تستطيع أجهزة الكمبيوتر أن تحلَّ أيَّ مشكلة في العالَم، عدا البطالة التي تخلقها هي”. لقد تحدّث عن الوظائف التي سوف تزدهر في هذا القرن، وذكر منها الترفيه والبرمجة وصناعة الخدمات وخدمة المعلوماتية والعمّال الطبيين والبيولوجيين والتقنيين، لكنه استثنى العمالَ غيرَ المهرة والأميين، وأخبرنا بوضوح وصراحةٍ بأن أجهزة الإنسان الآلي قاتلة، وأنها قد صُمِّمَت خصِّيصًا لقتل البشر الآخرين، وأن “البنتاغون” كان هو أكبر مموِّلٍ لها.
وأنهَى المؤلفُ هذا الفصل بقوله: “وفيما إذا كانت أجهزة الكمبيوتر ستصبح سادتنا أو مساعدينا الدائمين، فإن هناك أمرًا واحدًا مؤكَّدًا: إنها لن تندثر”، وربما أمكن تلخيص تفكير معظم الناس الذين يعملون في الذكاء الاصطناعي بعبارة “آرثر كلارك”: “من المحتمل أن نصبح حيوانات أليفة للكمبيوتر، ونعيش مدلَّلين كالكلاب. ولكني آمل في أن نحتفظ دائمًا بالقدرة على قطع التيار الكهربائي متى أردنا ذلك”.
كانت هذه نبوءات بعض العلماء الأمريكيين للعلم والعالَم في عصرنا، وهي تتحقق بصورة مخيفة، أمَّا أنا فقد بلّغتُ.. اللهم فاشهد!
العلم والأخلاق لا يلتقيان في عصر القوة والمال!
بقلم: سامر المعاني – كاتب من الأردن
سيطرة رأس المال جعل العلم والأخلاق لا يلتقيان في العصر الحديث.. المفروض أن يكون الأمر كذلك حيث لا بدّ أن تكتمل ثلاثية بناء الحضارة الإنسانية: العلم والأخلاق والمنجز (أو الفعل). غير أنّ العلاقة بين العلم والأخلاق بدأت تتنافر حين أصبحت الرأسمالية تُسيطر على القناعات والتفكير، وصارت منهج حياة تتغلغل في كل مجالات الحياة والأساس الذي تتعامل به الدول والمؤسسات حتى انتقلَت للأفراد من مبدأ المصالح والمنافع!
لقد ذهب العلم يتسابق نحو اتجاهات أخرى غير تلك التي كانت مُتّجهة نحوه مثل ما يخدم الإنسان ويثبّت حضوره في الأرض ويخدم مشروعه في إعمار الأرض.. ليتجه نحو الفردية والعنصرية ونظرية الغاب: “أنا وبعدي الطوفان” أو “البقاء للأقوى”.. مُسوِّغًا ذلك بالأحقاد الدينية والتاريخية والجغرافيا والإيديولوجيا.
فتوزَّعت المكاسبُ ونهضت أماكن وقوميات على حساب الأخرين ليُقسَّم العالم المكاني والاجتماعي إلى طبقات وفئات، وفي باطنه أيضًا تقسيمات عنصرية دينية وفكرية وشكليّة تأسست على أساسها نظريات مادية جعلت من هذا العالم يَفصِل الأخلاقَ عن التطوُّر العلمي في سباق لا يحمل في جعبته غير القوى المادية والعسكرية والفكرية.
فتطوّر العلمُ الإنساني والتكنولوجي في المناطق والمجتمعات التي تحمل القوى المادية والعسكرية فقط، وتراجع في الدول الفقيرة والضعيفة والتي ستبقى كذلك كي تبقى في حالة تبعيّة ورجعيّة.
استطاع العالم الذي فرَّغ العلم من الأخلاق وجعل هذا الكون لا يحمل قداسةً لدمِ الأطفال والنساء ولا يقدِّم خدمةً ودعمًا للشعوب المضطهَدة.. أن “يخترع” طريقة ليتطوَّر هو ذاته فيتحرّر من سواد الأمراض والمجاعات والقتل الجماعي وشُحِّ المياه والموارد! لقد تطوَّر العلم وازداد البطش والحروب، وانقسمَت المجتمعات رغم الشعارات المزيّفة مثل: الاتّحادات والمنظّمات العالمية والديموقراطية والاشتراكية..
من هذا الجانب، انزلقت البشرية في تناقضات الوجود والحضور الأخلاقي مع تطوّر العلم الذي يُظهر الشعارات على الورق.. وأمّا وفي أرض الواقع فهناك ازدحامٌ في القاع بشعارات حديثة تبنّاها العالم الأكثر عِلمًا وتقدُّمًا منها: “من ليس معي فهو ضدي”، “المال هو القوي والقِوى هي المال.. شعاراتٌ تبنّاها رؤساء دول تسيطر على مفاصل العالم بقوة عسكرية نووية أينما وُجدت رجحَت كفّتُها، ممّا يجعل العالم عاجزًا عن التغيير و”مُجبرٌ” على تهميش دور الأخلاق ومعاييرها.. فقامت “الحضارة الإنسانية” الحديثة المُجرمة والبشعة والتي تختبئ خلف إعلامٍ مُمنهج ومبرمج يخدم مصالحها..
هل العلم صديقٌ للإنسان؟..
العلم والأخلاق وجهان لعملة نادرة!
بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر
يسعدني بوصفي قارئا قبل أن أكون شاعرا وكاتبا أن تواكب جريدة الأيام “نيوز الجزائرية” وغيرها من وسائل الإعلام والتثقيف مستجدات الأحداث العالمية، وأن تحيي الذكريات والمناسبات بما يُلقي الضوء عليها ويبيّن للقراء أهميتها، ومما أسعدني طرح هذا الموضوع المهم بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للعلم والتكنولوجيا من جهة، ومن جهة أخرى فقد واكب الإعلان عن هذا المقال أحداثا خطيرة منها اغتيال رئيس حركة حماس “إسماعيل هنية” في إيران بصاروخ موجه في مقر إقامته، واغتيال عدد من شخصيات المقاومة في لبنان بالطريقة ذاتها، وأخيرا ما عُرف بـ “مذبحة البيجر” التي ارتكبها العدو الصهيوني في لبنان فأودت بحياة أحد عشر من أتباع “حزب الله” وأصيب أكثر من ألف ومئتي عضو من مستخدمي هذا الجهاز القديم (البيجر)، وهو جهاز استقبال تم تطويره لاستقبال الرسائل عوضا عن الهاتف المحمول، وتجدر الإشارة كذلك إلى “طوفان الأقصى” الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر عام 2023م، حين عطّلَت أجهزة الإنذار للعدو الصهيوني في الجدار العازل في غلاف غزّة، واقتحمَت الأسوار المُدجّجة بالأسلحة والمعدات الإلكترونية وأجهزة الإنذار، ونجم عن ذلك ما نراه منذ عام كامل، حيث انقلبت موازين القوى في العالم كله عسكريا وإعلاميا، فافتضح أمر الكيان الصهيوني الغاصب على مستوى العالم، وتم الاعتراف بالدولة الفلسطينية على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة وإصدار قرار بإنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وإن كان العدو الصهيوني ـ مُساندا من قوى الشر العالمية ممثلة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ـ يضرب بكل القرارات الدولية عرض الحائط، ولا يأبه لقانون ولا يعترف بحق، في الوقت الذي تغط فيه الدول العربية والإسلامية في نوم عميق، غافلة أو متغافلة أنَّ الدور سيأتي عليها واحدة تلو الأخرى، وناسية أو متناسية أحلام العدو الصهيوني بدولة كبرى من النيل إلى الفرات، فنرى كثيرا من الدول تناصر العدو الصهيوني في الخفاء وتحرّضه على استئصال شأفة المقاومة الإسلامية التي تدافع عن شرف الأمة العربية والإسلامية، غافلة عن المثل العربي الرمزي: أُكِلتُ يومَ أكِلَ الثورُ الأبيضُ.
كانت هذه مقدمة لا بد منها بين يدي الحديث عن العلم وهل هو صديق للإنسان أم عدو له؟ أو بعبارة أخرى عن علاقة العلم بالأخلاق، والذي جعلت عنوانه “العلم والأخلاق وجهان لعملة نادرة”.
وقد أحببت الرجوع إلى القرآن الكريم لمعرفة نظرة القرآن الكريم إلى العلم، فهالني ما وجدته في مادة (علم) بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم الذي وضعه المرحوم “محمد فؤاد عبد الباقي” حيث استغرقت هذه المادة ست عشرة صفحة من المعجم (ص 596 ـ ص 611)، ممّا يدلّ دلالة قاطعة على أهمية العلم في القرآن الكريم.
أما الحديث النبوي الشريف، فيكفي أنْ نمثل فيه بحادثة تأبير النّخل، حيث أشار الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – على المسلمين في “المدينة” بعدم تأبير النخل أيّ تلقيحه، فلما ضعف المحصول، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، فعادوا إلى ما كانوا عليه، وهذا أكبر دليل على أهمية العلم والتجربة في كل أمور الحياة.
وقد تنبّأ المفكر المصري الكبير “عثمان أمين”، بكارثة القنبلة الذرية التي دمّرت الحياة في مدينتي: هيروشيما وناكازاكي، إبان الحرب العالمية الثانية عام 1945 م، قبل حدوثها بعقدين، وذلك من خلال مقال بعنوان: “هل العلم صديقٌ للإنسان؟” نشره عام 1927 وحذّر فيه البشرية من القطيعة بين العلم والأخلاق، حيث قال: “استوقفتني مشكلةُ العلم والأخلاق، ومضيتُ أقرأ وأتأمّل، وكانت نتيجة هذه الدراسة التأمُّلية مقال نشرته بعنوان: (هل العلم صديقٌ للإنسان؟)، قلتُ فيه إني لا أرى حدًّا لما يأتي به الإنسان من مغامرات رهيبة في آفاق العلم”.
فكيف كان سيقول مفكِّرنا الكبير لو عاش إلى اليوم وشهد المجازر الرهيبة التي ترتكبها الصهيونية العالمية في فلسطين وكمية القنابل ونوعياتها التي تذهل العقول، ففي عام واحد ألقي على غزّة وحدها ما يعادل عدة قنابل ذرية، أكلت الأخضر واليابس وأعادت الحياة في غزّة إلى القرون الوسطى، إن لم يكن إلى عصور ما قبل التاريخ.
ومن هنا فلا غرابة أن تستعير صحيفتنا الغراء عنوان مقال فيلسوفنا الكبير لتجدّد طرح إشكالية العلم والأخلاق، وهل العلم وُجِد لإسعاد البشر أم لتعاستهم وتدمير الطبيعة والحياة على كوكب الأرض؟
فالعلمُ هو المصباح الذي يُنيرُ دُورب الحياة ويُخرج الإنسان من حصون الجهل والظلام، ولقد شرف الله العلم وأهلهُ، وجعل العلماء ورثة الأنبياء ومنارةً يُهتدى بهم، وأكرمهم بالسمو والتّمكين، إذ قال تعالى: ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الزمر: 9)، فللعلم قداسةٌ وتعظيم يحظى بها كلَ من ظفر به، وأوضح تعالى بأنّ العلماء أقرب الناس إلى خشية الله، مستخدمًا أسلوب القصر في قوله سبحانه: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” (فاطر: 28).
وهَب الله الإنسان عقلاً، ميّزهُ به عن سائر خلقه، لذا كان لزامًا على الانسان أن يوسِّع مدارك هذا العقل، ليمتلك القدرة التي تساعده في إعمار هذه الأرض، والتفكُّر في بديع خلق الله ونِعمه.. وقد أولى الدين الحنيف العلمَ منزلة عظيمة لا تضاهيها منزلة، وحضَّ على طلب العلم النافع والاستزادة منه، حيث كان أول أمر أنزله الله في محكم كتابه “اقرأ”، وكثيرة هي الأحاديث النبوية الشريفة التي حضَّت على طلب العلم وذكّرت بفضله ورغّبت في طلبه بإخلاص وصدق لتستنهض همم طُلابه، إذ قال عليه الصلاة والسلام: “من سلك طريقًا يلتمّس فيه علمًا سهَّل اللهُ له طريقًا إلى الجنة”.
وحاجة الإنسان للعلم ماسةٌ فهو ضرورةٌ لتيسير العيش، كما أنَ للعلم آثارًا بالغة الأهمية في حياة الفرد والمجتمع، وهو ركيزة أساسية في تقدّم الأمم والحضارات، فما سادت أمةٌ على أخرى إلا بالعلم، حيث يصقلُ العلمُ شخصية الفرد ويعزّزُ ثقته بنفسه ويُحرّر عقله من القيود والأوهام، ويرقى بقيمه وأخلاقه، ويمنحه الفطنة في مواجهة ما يعترضُ سُبل حياته، ولأنَّ الفرد هو اللّبنة الأساسية في بناء المجتمعات فنهضةُ المجتمع وسيادته نابعةٌ من إعداد أفراده وإنارة عقولهم بالعلم والمعرفة، والغوص في بحر المكنونات لاكتشاف ما فيه منفعة.
وليبق حاضرًا في أذهاننا أنَّ طريق العلم يحتاجُ إلى الصبر والمشقّة ومُجاهدة النفس فلا يُنال فضلُه بالكسل والتَّراخي، فالسَّعي في طلبه جهادٌ وعبادة، فهو أفضل ما اكتسبته النَفوس وحصَلته القلوب، وصدق الشاعرُ حين قال:
العلمُ يبني بيوتًا لا عماد لها — والجهلُ يهدمُ بيت العز والكرم
والحق أنَّ العلم سلاح ذو حدَّين، وبعبارة أخرى فإنَّ العلم والأخلاق وجهان لعملة واحدة ولكنها عملة نادرة، فهو في أيدي العقلاء وسيلة فعّالة لإسعاد البشر على كوكب الأرض حين يُستخدم في الأغراض السلمية فيعمل على تطوير الحياة في مختلف جوانبها من زراعة وصناعة وطب وهندسة وغيرها، فيبتكر الحلول لمشكلات البشرية ويعمل على مواجهة مُستجدّات الحياة والقضاء على الأمراض الفتاكة كالكوليرا والجدري وشلل الأطفال.. عن طريق اللقاحات والأمصال، كما يقرّب العلم المسافات باختراع وسائل حديثة للمواصلات كالسفن والطائرات والقطارات والسيارات وغيرها، حتى وصل الطموح إلى سفن الفضاء التي تحاول اختراق الآفاق، مصداقا لقول تعالى: ” يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ” (الرحمان: 33).
ولئن كانت دفّة العلم اليوم في يد الغرب ممّا جعله يحيد بالعلم عن أسمى غاياته وهو تحقيق الرفاهية والسعادة للإنسان، فأمسى يعربد ويدمر باختراع الطائرات الحربية والغواصات النووية والصواريخ البالستية والأسلحة الجرثومية ناهيك عن الأسلحة النووية والقنابل الذرية والهيدروجينية، التي تدمّر الحياة وتشوّه المخلوقات والتي يتمّ تطويرها كل يوم، وصارت تمتلكها دول عديدة شرقا وغربا مما جعل الحياة على كوكب الأرض مهددة بالزوال، وجعل وعد الله يوشك على التحقق، حيث يقول الله تعالى: ” حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (يونس: 24)، ويقول سبحانه وتعالى: ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (سورة: الروم، آية: 41).
والآيات كثيرة في أنَّ الإنسان هو الذي يفسد الحياة ويهلك الحرث والنسل بسوء سعيه، مصداقا لقوله تعالى: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ” (سورة: البقرة، الآيات: من 204 ـ 206).
وهذا هو الحاصل في الحضارة الغربية التي فقدت الجانب الروحي وغرقت إلى آذانها في المادية، وظنَّت أنها سيطرَت على الحياة في كوكب الأرض وتجاوزته إلى غزو الفضاء فعتَت عن أمر ربها ورُسله، واستكبرَت في الأرض بغير الحق، فكانت النتيجة وبالًا على البشرية. وما الحروب المشتعلة في مناطق مختلفة من العالم إلا دليل على صحة ما نقول، وما فيروس كورونا (كوفيد 19) الذي انتشر في الكرة الأرضية وعطَّل الحياة لمدة عامَين، سوى أثر من آثار طغيان الإنسان، وكفره بالله، وعبثه بمقدرات الحياة، وما أثير حول هذا الفيروس وآثاره يبيّن حجم المأساة التي يعيشها البشر حين يبتعدون عن الله، ويعيثون في الأرض فسادا.
ولعله من المُجدي هنا أنْ نستذكر العلم في الحضارة الإسلامية التي لم تبخل به على البشرية جمعاء، وكانت الأخلاق هي جوهره وقوامه الأول، فكان مفتاح السعادة للإنسانية كلها وليس للمسلمين فحسب، فبضدها تتميز الأشياء.
فقد وصل المسلمون خلال القرن الأول الهجري إلى الصين شرقا، وإلى الأندلس غربا، حاملين لواء الإسلام السَّمح العظيم الذي يكفل للناس حرية الاعتقاد والعبادة ولا يُكره أحدًا على الدخول فيه “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (سورة: الكافرون، آية: 6)، ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (سورة: البقرة، آية: 256)، وحاملين مع الإسلام مشعل الحضارة ونور العلم الذي يتدثّر بالإيمان فيحضّ على عمارة الأرض وغرس بذور الخير في أرجائها.
ولو تأمّلنا ما كتبه الفلاسفة ومؤرخو الحضارة الإنسانية عن الحضارة العربية والإسلامية وأعلامها من المفكّرين والفلاسفة والأطباء والعلماء، لوجدنا فرقًا كبيرًا وبونًا شاسعا بين حضارة تستمدّ أصولها من الإسلام الحنيف الذي يحافظ على حياة البشر ويحضّ على الحياة ويعمل على استمرارها، فيحضّ أتباعه على غرس الفسيلة وإن كانت القيامة تقوم، فهذا رسول الإنسانية ورحمة الله للعالمين يقول: “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فإنْ استطاع ألّا يقوم حتى يغرسها فليفعل”، وحضارة مادية متوحشة أنانية لا ترى الآخر بل تريد استعباده وإخضاعه لسلطانها فهي تسلبه كل حقوقه وتسرق خيراته، ثم تعود فتتصدّق عليه بالفتات، والاستعمار الأوروبي الحديث خير دليل على ذلك.
ونظرة عابرة على ما نراه اليوم في غزّة من تدمير وخراب وقتل للآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، وعلى وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين للجيوش الإسلامية التي سيّروها لفتح بلاد الفرس والروم، وتحرير الشعوب من أغلالها وفتح باب حرية الاعتقاد أمامها، توضِّح الفرق الهائل والبون الشاسع بين الرحمة في الإسلام والهمجية والبربرية في المدنيّة الغربية على مرّ العصور وفي عصرنا هذا بصفة خاصة، فقد كان من وصايا الرسول ومن بعده من خلفائه الراشدين لقادة جيوشهم ألّا يقتلوا شيخا ولا طفلا ولا امرأة ولا راهبا في صومعته، ولا يقطعوا شجرا ولا يذبحوا حيوانا إلّا لمأكلة، فأين هذا من تدمير الأخضر واليابس واقتلاع أشجار الزيتون وتدمير الزّروع وإتلاف الثمار وقتل الحيوان بله الإنسان على مرأى ومسمعٍ من العالم أجمع، بل بمباركة من حثالة الزعماء في الشرق والغرب، بالرّغم من استنكار الشعوب لتلك الهمجة والبربرية وخروج الملايين حول العالم مُستنكرةً حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزّة ومطالبةً بوقفها الفوري ومعاقبة الكيان الصهيوني المارق.
ومن هنا يتبيّن أنه عندما حدثَت القطيعةُ بين العلم والأخلاق، منذ بدايات الثورة الصناعية الأوروبية أو ما يُسمّى “عصر النهضة”، دخلَت الإنسانية في متاهة الصراعات والأحقاد والاستعمار.. بدءا بالحروب الصليبية التي اجتاحت العالم الإسلامي شرقا وغربا والتي ردّها على أعقابها “صلاح الدين الأيوبي” في معركة “حطين”، ولم تنم للغرب عين ولم يُغمض له جفن حتى احتل الوطن العربي بكامله في القرن التاسع عشر الميلادي وحتى منتصف القرن العشرين، وبعد جلاء الاستعمار الغربي ترك لنا كثيرًا من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بخلق صراعات على الحدود التي صنعها بين الدول العربية، وصولا إلى “تصنيع” الأمراض والأسلحة الفتّاكة كما رأينا في فيروس كورونا، وشيوع الفكر المادي الاستهلاكي الذي أثّر حتى على العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة.. ويبدو أنَّ البشرية تتوجّه كل يوم إلى أتمتة الإنسان بفكره ومشاعره، وتحويله إلى مجرّد كائن آدمي قابل للبرمجة! وهذا ما يسعى له الغرب بكل ما أوتي من قوة للسيطرة على العالم، فنراهم يشجعون الشذوذ المُخالف للفطرة الإنسانية والذي أهلك الله بسببه قوم لوط، فصار الرجل يتزوّج الرجل علنا وبلا حياء حتى إننا وجدنا وزيرا أمريكيا يذهب لأداء القسم ويقدّم زوجه الرجل أمام العالم أجمع، كما يشجعون السِّحاق وهو زواج المرأة بالمرأة، ممّا يذهب بالبشرية إلى الهاوية، ويعرّضها للانقراض أو لغضب الله تعالى وانتقامه.
فهل ما زال العلم صديقا للإنسان؟! والجواب بكل تأكيد أنَّ العلم صديقٌ للإنسان وعدوٌّ له في آنٍ واحد، فإذا استخدم الإنسان العلم في خدمة البشر وإصلاح أحوالهم وعمل على راحتهم بتطوير وسائل المواصلات والاتصالات، والمحافظة على الصحة ـ كما نرى في تطور العلاج وزراعة الأعضاء كالكبد والكلى وحتى القلب ـ وبتوفير الطعام اللازم للبشرية بالعمل على زيادة الإنتاج الزراعي والحيواني بالطرق العلمية كالتهجين والهندسة الوراثية وغيرها، كان العلم صديقًا للإنسان.
أمّا إذا استخدم الإنسان العلم في صناعة الأسلحة الفتّاكة والعدوان بها على الشعوب المستضعفة، وفي صناعة الفيروسات التي تنشر الأمراض وفي صناعة الأنواع المختلفة من المخدّرات والمُسكرات التي تفتك بصحة الإنسان، وفي صناعة الهرمونات التي تسبب الأمراض القاتلة كالسرطان، فهنا يكون العلم عدوًّا للإنسان.
وقضية العلاقة بين العلم والأخلاق قضية مُهمّة تُدرس في المخابر المُغلقة لعلوم الاجتماع والنفس والتاريخ، ويقوم العلماء بقياس العلاقة بين العلم والأخلاق وكيف أنها علاقة وثيقة، فكلّما اقترن العلم بالأخلاق زاد نفعه وقلَّت أضراره، إن لم نقل شحَّت وكادَت تنعدم، وكلما ابتعد العلم عن الأخلاق زادَت أضراره وعاد على البشرية بالخراب والدمار وجرّ عليها الويلات ونشر فيها الأمراض والآفات.
وهذه القضية يجب أنْ يعتنقها الأدبُ باعتباره نشاطا جماهيريا مرتبطا بجوهر الإنسان وعواطفه وروحه، كما حضّ عليها الإسلام على نحو ما ذكرنا آنفا، فالأدب يهدف إلى سمو النفس وارتقاء الروح ونقاء الحياة وصفائها، وهو يشترك مع الأديان في هذه الغايات النبيلة والأهداف السامية. ولهذا فمن واجب الأدباء معالجة هذه المشكلة المزمنة، والتركيز عليها في جميع الأنواع الأدبية من شعر وقصة قصيرة وقصة ورواية ومسرحية شعرية أو نثرية ومقالة وخاطرة ومسلسل إذاعي أو تلفازي وفيلم سينمائي وغير ذلك ممّا يستجدّ من أجناس أدبية، لا بطريقة مباشرة تضحّي بالفن وقواعده في سبيل الفكرة، ولكن بطريقة فنية بحيث يتقبّلها الجمهور بقبول حسن ويتأثر بها.
وفي اقتران العلم بالأخلاق يقول شاعر النيل “حافظ إبراهيم”:
لا تحسـبنَّ الـعلمَ ينفعُ وحدَه — مـا لم يـتوَّج ربُّه بخــلاقِ
والعـلمُ إِن لم تكتنفهُ شـمائلٌ — تُـعْليهِ كان مطيةَ الإِخفـاقِ
كم عالـمٍ مدَّ العلومَ حبـائلاً — لوقـيعةٍ وقطيـعة وفــراقِ
وفقيـهِ قومٍ ظل يرصدُ فـقههُ — لمكـيدةٍ أو مُسْـتَحِلِّ طـلاقِ
وطبـيبِ قـومٍ قد أحلَّ لطبهِ — مـا لا تحلُّ شريعـةُ الخـلّاقِ
وأديـبِ قومٍ تستحقُّ يميـنهُ — قطعَ الأناملِ أو لظى الإِحـراقِ
وقد شغلني موضوع العلم في شعري فكتبتُ في يونية/ جوان عام 2016م “بين العلم والجهل”:
كفى بالعلم فضلا أنَّ ربي — عليم قد أبان لنا الأمورا
فكم بالعلم قد عزّت بلادٌ — وصار طريقها سهلا يسيرا
وكم بالجهل قد ضلّت بلاد — وصار طريقها وعرا عسيرا
تعالوا للعلا بالعلم نسمو — ونرفع صوتنا حرا جهيرا
وننبذ جهلنا وكفى ضياعا — فقد طال السُّبات به كثيرا
ينال الناس بالعلم الثريا — ونخلد للثرى نصلى سعيرا
فنأكل كفتة لعلاج إيدز — وفيروس يهاجمنا خطيرا
إلام نظل أسرى جهل قوم — بجهلهم يسوسون الأمورا
وقد كتبتُ عن العلم في سبتمبر عام 2017م قصيدة قصيرة قلتُ فيها:
هيّا إلى العلم نبني مجد أمّتنا — ونرتقي للذرى يا خيرة الأمم
سدتم قديما وأنتم أمة وســـط — هيا أعيدوا عصور العز والشمم
علّمتم الغرب كيف العلم ينهله — من فيض علمكم باللوح والقلم
لما اتخذتم كتاب الله رائدكم — كنتم لغيركم الهادين كالعلــم
وحين حدنا عن الوحي الكريم سرى — جهل إلينا وتاه القوم في الظلـــــــم
يا أمة الوحي أنوار الهدى سطعت — للناس تهدي جميل القول والشيم
فأنهضت همما للعرب خاملة — لما تساوى لديها العرب بالعجم
بنوا حضارتنا من دون تفرقــة — في كل علم تراهم في ذرا القمم
متى نعود لأمجاد لنا سلفت — حتى تعود بلادي خيرة الأمم؟!
وفي فضل العلم كتبتُ قصيدة في افتتاح المؤتمر العلمي الدولي الثاني بكلية الآداب جامعة المنوفية بعنوان “العلوم الإنسانية بين الواقع والمأمول”، وشاركني صديقي الدكتور “شعبان عبد الجيّد” في كتابة الأبيات الخمسة الأولى منها، تقول القصيدة التي ألقيتها في حفل افتتاح المؤتمر في السابع من أبريل عام 2019م:
صف للشباب العالم المأمولا — دع عنك هذا الواقعَ المغلولا
واقصص عليهم ما يكونُ إذا هُمو — سبقوا الزمانَ وأخرجوا المجهولا
طاقات هذا الجيل في أفكاره — إنَّ الخيال كم استثار عقولا
فافتح نوافذه التي قد غُلِّقتْ — زمناً فعانى رِدَّةً وخمولا
فالعلم غاية من يريد سعادةً — وهو الطريق لمن أراد وصولا
والعلم مفتاح العلا في أمة — كم راض صعبا فاستحال ذلولا
ولكم نشرنا علمنا في عالم — متخبط، نهدي هناك جهولا
كنا به زمنا نسود ونعتلي — هام الرواسي لا نهاب الغولا
كنا إذا سرنا تسير وراءنا — أمم، وتسمع قولنا المعقولا
كنا نُهاب كأسد غاب في الورى — وعلى الأعادي كم ندق طبولا
فإذا غضبنا غضبة مضرية — كان الهلاك على العدو وبيلا
فإذا قدرنا كان يسبق عفونا — فبعفونا أضحى الورى مشمولا
واليوم ما بال الورى في عزّة — والعالم العربي صار ذليلا
هم أدركوا بالعلم كل مرادهم — والجهل أغرق عالما مغلولا
هيا استفيقوا يا بني قومي ولا — تستسلموا واستشرفوا المأمولا
هيا أعيدوا مجدنا وتفوقوا — أنتم لها فاستكشفوا المجهولا
آن الأوان فشمروا عن ساقكم — ودعوا الخمول كفى الأسود خمولا
ما فاز قط على الزمان رويبض — كلا، ولا حابى الزمان كسولا
ولا شك أنَّ في تراثنا ما يدعو إلى الوقوف عنده وإعادة إحيائه حول علاقة العلم بالأخلاق، فعلماؤنا الأجلاء كانوا رجالا يحرصون على العلم ويوظفونه في خدمة البشرية وكثير منهم كانوا علماء وشعراء في الوقت نفسه، ومن أبرز الكُتب التي لا أمَلُّ القراءة فيها والاستشهاد بها على عظمة الحضارة العربية والإسلامية كتاب “شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبة” للمستشرقة الألمانية “زيغريد هونكه”، الذي سطَّرته بعد أعوام من الدراسة والبحث والتنقيب، وأسفر عن عشقٍ للحضارة العربية، فكان هذا السفر الجليل الذي كتبته باللغة الألمانية وتمّت ترجمته إلى العربية عام 1964م، وتوالت طبعاته، وبين يدي الطبعة السادسة عام 1401هـ / 1981م، والتي تنصف فيه الحضارة العربية من الحضارة الغربية وطغيانها واستبدادها ونكرانها للجميل الذي أسدته لها الحضارة العربية في عصورها الزاهرة، ويقع الكتاب في حوالي ستمائة صفحة ولا يغني الحديث عنه عن قراءته.
فهل يفيق العرب والمسلمون ويعملون بجدٍّ واجتهاد للإسهام في الحضارة والعلم مثلما فعل أسلافهم؟!
أمنية عزيزة ولكنها ليست بعيدة المنال إذا صحت النيات وصدقت العزائم وبذلت الجهود لنهضة الأمة العربية والإسلامية، فعلماؤنا ينبغون في الغرب ويُحسب نبوغهم للحضارة الغربية، فلو وفرّنا لهم الإمكانيات المادية والمعامل وأدوات الإنتاج كما فعلت اليابان بعد هزيمتها واستسلامها في الحرب العالمية الثانية، وكما فعلت الصين وكوريا، بل كما فعلت الهند والكيان الصهيوني المجرم، لحققنا الآمال وبلغنا ما تستحقّه أمتنا من نهضة بتكامل الجهود وتضافرها، فنحن نمتلك المواد الخام اللازمة للصناعة كما نمتلك البترول والثروات المعدنية، ولم يبق سوى الهمّة العالية والعزيمة القوية وإخلاص النية، والله المستعان.
علوم وفنون وآداب بدون أخلاق.. أجساد بلا أرواح
بقلم: أ. د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات – مصر
يظن بعض المفتونين بالحضارة المادية المهيمنة على العالم، منذ بدايات الثورة الصناعية الأوروبية أو ما يُسمّى عصر النهضة وحتى الآن، أن العلم أساس كل تقدم، وأنه ينبغي أن يكون حرًّا من كل ضابط أو قيد، وأن الفنون والآداب والأخلاق والعلوم الإنسانية من تاريخ وفلسفة وتربية واجتماع وعلم نفس وعلم جمال وعلم أخلاق، لا قيمة لها، وأنها تُكبِّل العلماء والمبدعين، وتُعوِّق تطور الإنسانية، ومن ثم فلا قيمة لها في الحياة ولا جدوى لها بين الأحياء! وأن الإنسان يستطيع الحياة بدونها، ولكن الحق أن كل مجتمع مستقر آمن يقوم على منظومة من العلوم ومنظومة من الفنون والآداب والأخلاق والقيم والعلوم الإنسانية؛ فالعلوم خلاصة جهود العقول العلمية البشرية، والفنون والآدب خلاصة نتاج المبدعين المدهشين الممتعين، والأخلاق: هي الدلائل والمعايير والقيم الموضوعة لتحقيق توازن حركة الإنسان في وسطه المجتمعي، وغايتها الحفاظ على الوفاق الاجتماعي والأمن المجتمعي، وتحقيق نمط معيشة كريمة منسجمة مع الحياة الحضارية التي يعيشها المجتمع، والأخلاق ضابط سلوكي، يؤدي إلى توحيد الأفعال الظاهرية، في معايير متشابهة، ويتيح المحاسبة عند الضرورة وعند ظهور السلوكيات الشاذة والضارة والهدامة. وهذا ما يُسمّى “أخلاقيات البحث العلمي” (Research Ethics).. مدى التزام العلم والمنتجات والمخترعات العلمية بالقواعد الأخلاقية ومُدوّنات السلوك المهني، وماهيّة الضوابط والحدود التي يجب أن يتوقف عندها العلم ولا يتجاوزها؛ لأنه بتجاوزها يكون قد تجاوز المحرّمات الدينية والأخلاق الاجتماعية والقيم الإنسانية، لا سيما فيما يخص بمسؤولية الباحث عن تأمين الحياة والأحياء من كل ضرر أو فساد أو اعتداء، وإنها أخلاقيّات تدعو إلى أن تكون هذه الأبحاث مُوجّهة في سبيل عمارة الكون وتكريم الإنسان.
الصهاينة والتوظيف الخبيث للمخترعات العلمية
تتّضح حتمية نشر أخلاقيات البحث العلمي والدعوة إلى الالتزام بها ومراعاتها في كل مخترع علمي فيما نراه ليل نهار من أفاعيل العصابة الصهيونية الشيطانية بعالمنا العربي على مدار سبعين عام أو يزيد! من تقتيل واغتصاب وتهجير وإبادة جماعية لإخواننا في غزّة عن طريق توظيف المخترعات العلمية توظيفًا همجيًّا وحشيًّا، أدّى إلى مقتل خمسين ألف طفل وامرأة ومريض وعجوز وغيرهم من المدنيين المسالمين، وإلى ترحيل آلاف الفلسطينيين من ديارهم وأموالهم، وإلى أسر آلاف أخرى، وكذا ذلك الإرهاب الصهيوني القبيح الذي حدث في إيران، ولبنان من اغتيالات وانفجارات عن طريق توظيف خبيث لتكنولوجيا الاتصالات، وتفخيخ أجهزة البيجر واللاسلكي، واستغلال أجهزة التنصت والتجسس، مما أدى إلى تقتيل لمئات النفوس البشرية التي أرواحها وأجسادها مقدسة في رسالات الإسلام وكل القوانين والمواثيق الدولية! هذا ناهيك عن الانفلات العلمي من دون ضوابط “الأخلاق العلمية” في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، بل إن السيناريوهات العلمية تتحدث عن تفوق الإنسان الآلي مستقبلاً وأنهم سيتواصلون فيما بينهم ويتمردون على الإنسان الذي “خلقهم”، وما أقسى تمرّدهم وعدوانهم!…
حتمية أسلمة الآداب والفنون
ارتبطت الصحوة الإسلاميَّة في العصر الحديث بحلم الأمة في النهوض، والانعتاق من أسر التخلف الموروث، ومن الهيمنة الاستعمارية والحضارية الغربية، فدعَت إلى أسلمة كثير من مجالات الحياة، ومنها المجال الأدبي الذي تصدّر تيار التغريب بالاستيراد من الآخر الغربي. فظهر ما يُسمّى بالأدب الإسلامي… وقد شكّل الإسلامُ الأدبَ العربي تشكيلًا عميقًا تامًّا، فجعله أدبًا يعبّر عن أدقّ الانفعالات وأرقّ العواطف وأنبل المشاعر، في ظل النفس السوية، أدبًا ينطلق من أعظم عقيدة، وتصوغه أعظم لغة، وينتسب إلى أكرم أمة: أمة الإسلام، المُمتدّة في التاريخ، صار الأدب العربي إسلاميًّا إنسانيًّا عالميًّا؛ لأنه مرتبط بكل مصادر القوة والعظمة، وقوة مصادره ثابتة مستمرة في قوتها، فالعقيدة ربانية ماضية مع الأيام بكل عظمتها ونورها، وقد تعهّد الله بحفظها، وفي حفظها حفظ للغتها وأدبها، ومن ثم فهي عناصر متجددة، ماضية أبد الدهر إن شاء الله تعالى، لا تهون لها عروة أبدًا إلا البشر: تلك الطاقة البشرية التي تضعف وتقوى، تتّحد وتتمزق، تعلو وتهبط على سُنن الله السائرة وحكمه وقوانينه الغالبة. ولكن الأمة الإسلاميَّة ذاتها، والأدب الإسلامي ذاته، مهما غلب عليهما الضعف والانحدار أو غلب الهوان والاستكانة في مرحلة من مراحل التاريخ، فإنهما يظلان يحملان بذور القوة والعزة، وجذور النمو والرفعة، وعناصر الخير والبركة، حتى يأذن الله فتنهض الأمة وينهض أدبها، وتعلو الأمة ويعلو أدبها ويعلو شأنها لتكون كلمة الله هي العليا، هدف عظيم لأدب عظيم، تقوم عليه عمارة الأرض وحضارة الإنسان وسعادة البشرية.
ومن أسفٍ أنه قد انحدر بعض الأدباء والفنانين العرب في نتاجهم الأدبي والفني، ووقوعهم في مزالق فيما يخصّ التّابوهات المقدسة: [السياسة: (الحاكم)، والدين: (العقيدة)، والجنس: (المرأة)] فدنّسوا ولوّثوا وشوّهوا في تجارب وأعمال مُنحطّة، وساقطة وماجنة ومكشوفة، وبرّروا كل سقوط وكل إلحاد وكل خروج وثورة وتفريق وتمزيق للبلاد والعباد عن طريق أباطرة الإعلام وسماسرة الفنون والآداب المأجورين المأفونين أعداء كل وطن وكل مجتمع وكل أمة!
وقد قصَّر النقاد والباحثون في مجال الدراسات الأدبية والفنية والإعلامية في اتخاذ موقف صريح حادٍّ من هذه الأعمال الأدبية والفنية الساقطة، والماجنة والخادشة للحياء، وانخدعوا بدعوى خبيثة هي (الفن للفن)، بل تركوا لها الطريق مفتوحًا بدعوى حرية الإبداع! ولا بد نقديًّا من رصدها ورفضها باعتبارها هُوة مزرية تؤدي إلى تشويه تاريخ الإنسان والتنفير من أخلاقياته وإضعاف المجتمع، وتحويل بعض أفراده إلى ساقطين وساقطات وداعرين وداعارات!
ومن ثم كانت الدعوة الحثيثة إلى مدرسة أو نظرية (الأدب الإسلامي)، وهي دعوة جديدة في مصطلحها، أصيلة في مقاييسها، وقد جاءت في عصرنا الحديث ضرورةً حضاريةً مُلِحَّةً في مواجهة الغارات والتحديات والانزلاقات التي تأتينا من كل صوب وحدب، من أعداء داخليين وخارجيين، يحاولون طمس هويتنا وتذويبنا وتمويتنا، حتى نصير قالبًا بلا قلب، وشكلًا بلا روح، وبشرًا بلا آمال أو غايات؛ فيسهل ـ في نظرهم – سحقنا عسكريًّا وحضاريًّا وعقديًّا، ولكن هيهات ما يفترون، ويُوعَدون!
إنّ (الأدب الإسلامي)، وكذا (الفن الإسلامي) – كما يقرّر أبرز دعاته: الأديب والناقد المغربي الكبير الدكتور الحسن الأمراني- واسعٌ ومتعدد ومتنوعٌ بتعدد أدبائه ولغاته وانتماءاتهم الجغرافية من أنواع الآداب الأخرى (العربي، والصوفي)، ومتعدد أيضًا في طرق المعالجة من أديبٍ إلى آخر وبين شعب وشعب، ولكن تنتظمه وحدة، هي وحدة الانتماء الحضاري والديني؛ فـ (الأدب الإسلامي) إذا أخذناه بمفهومه الشامل، الذي هو الأدب المنطلق من التصوّر الإسلامي للكون والحياة والإنسان، وأنه أدب رسالي وجمالي في الوقت ذاته وبلغاته المتعددة، وليس محصورًا فقط في اللغة العربيَّة؛ فالكون كله في نظر الإسلام مُسبِّح بحمد الله تعالى، وكلّ المخلوقات تنسجم في هذه الخاصية: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء:44].
وانطلاقًا من أنّ الإسلام رؤية شمولية، فكذلك (الأدب الإسلامي) يأخذ شموليته من شمولية الإسلام؛ فكل أدب لا يتصادم مع روح الإسلام، ويستجيب للفطرة ونداء الفطرة، إسلامي؛ لأن الإسلام دين الفطرة؛ فهو بهذا المنطلق أدب إسلامي وإن لم يُسمِّه صاحبه أدبًا إسلاميًّا، والتّسمية فقط لافتة، وقد تكون مؤقتة ومحدودة. وعليه فـ (الأدب الإسلامي) يُطلَق على كل أدب يخدم قضايا الإنسان، كل إنسان، وليس فقط المسلم، في أيّ مكان، برؤية إسلامية تستجيب لفطرة هذا الإنسان، هو أدب إسلامي. وهذا الفيض الإبداعي لا يقتصر على الدول الإسلاميَّة، بل هناك أدباء في غير البلاد الإسلاميَّة، أسلموا أو تعاطفوا مع الإسلام ويكتبون أدبًا إسلاميًّا. والالتزام في (الأدب الإسلامي)، ذاتي داخلي؛ فليس هنالك رقيب خارجي يُلجم لسان المبدع، ولكن عندما يتشبَّع الأديب بالرؤية الإسلاميَّة وبالإيمان سيكون ملتزمًا مع الله تعالى، وسيعرف معنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – للصحابي الجليل الحارث بن مالك الأنصاري: “عرفت فالزم، عبد نور الله قلبه بالإيمان”.
وصبغ الأدب صبغة أيدلوجية عقدية نحن – العرب – مسبوقون فيها، كما يقول أبرز المنظرين للأدب الإسلامي الدكتور “عبده زايد”، فليست (مدرسة الأدب الإسلامي) بدعًا في ميدان الدراسات الأدبية المعاصرة، وليست قصرًا على الإسلام، بل هي أمر طبعي، بل حتى قبل انهيار الإيديولوجيات، كانت الآداب تقسَّم تقسيمًا إيديولوجيًّا؛ فقد وجد مصطلح (الأدب المسيحي) ومصطلح (الأدب اليهودي)، ومصطلح (الأدب العَلماني)، ومصطلح (الأدب الاشتراكي)، ومصطلح (الأدب الوجودي)، قبل أن يُوجد أو يُطرح بيننا مصطلح (الأدب الإسلامي). كل هذه المصطلحات وُجدِت وطُرحت في الغرب وتعامل معها الناس، وسواء كان الدين سماويًّا منزّلًا من عند الله تعالى، أو كان طاغوتًا أرضيًّا؛ فهو لا يخلو أن يكون مرتبطًا بإيديولوجية أو عقيدة، والأدب الذي لا يرتبط بإيديولوجيًّا سيكون فارغًا..
بل إنّ مصطلح (أدب إسلامي) ظهر في الغرب وطُرِح في الغرب، فالمستشرقون الذين أرَّخوا للأدب العربي ظهر عندهم هذا المصطلح (أدب إسلامي)، واستخدموه، بعضهم استخدمه بمفهومه التاريخي، مثل المستشرق الألماني ” كارل بروكلمان” (1868-1956م) الذي استخدم هذا المصطلح وأسماه “أدب عربي إسلامي” في كتابه “تاريخ الأدب العربي”، وبعضهم استخدمه بمفهوم: الأدب الذي ينطلق أو يعبّر عن الحضارة الإسلاميَّة، مثل المستشرق الأمريكي “جوستاف جرونباوم” (1909-1972م) في دراسته: “روح الإسلام كما تبدو في الأدب العربي” المنشورة في مجلة الدراسات الإسلاميَّة سنة 1953م، ودرس فيها تأثير الإسلام في الأدب العربي في شكله ومضمونه وبنيته الداخلية، وموقف الناس منه، ومن ثم يكاد يكون مفهومه فيها ذا دلالة قريبة من الدلالة التي نستخدمها الآن. وكذا المستشرق الأمريكي “فرانز روزنتال” (1914-2003م) الذي كتب فصل الأدب في كتاب تراث الإسلام..
إنّ (الأدب الإسلامي) دعوة إلى أدب يحافظ على الهُوية، والثوابت، وليس فيه استعلاء أو إقصاء أو تكفير أو تبديع أو تفسيق أو غير ذلك من الأساليب والتوجهات العنيفة التي ابتلي بها بعض الشباب المُغَيَّبين، إنه أدب يعيش مع الكلمة الطيبة النافعة مهما كان قائلها، وأين كان قائلها، ومتى كان قائلها… ومن ثم قام مخلصو الأمة بالدعوة إلى أسلمة الأدب والفن، وقد آتت دعوتهم ثمارها؛ فصار لهذا الأدب كُتَّاب ومريدون، ووجد طريقه إلى القلوب والعقول والمواهب، وصار في نظر الخصوم يمثل – على الأقل – ظاهرة أدبية من الصعب تجاهلها. وقد توالت الكتابة العربيَّة الراشدة في بحث هذا النوع الإيجابي من الأدب، حتى صارت له مصادر أكاديمية ومنابر إعلامية كثيرة متنوعة بين رائدة داعية، وباحثة مُحقِّقة، ودارسة مُعرِّفة، وشادية مبدعة، ورابطة عالمية تُعنَى به، ومجلات ودوريات خاصة به، ومن ثم استحق هذا الأدب وصفيًّا وإنشائيًّا لقب (مدرسة) ومنها كتابي: “مدرسة الأدب الإسلامي”.
مفهوم الأدب الإسلامي
لمصطلح الأدب الإسلامي تعريفات عدة، من أبزرها: “التعبير الفني الهادف عن الحياة والكون والإنسان في حدود التصور الإسلامي”. وإن وقفة تحليلية لمفردات هذا التعريف تضعنا على معالم الأدب الإسلامي المبتغاة والمستهدفة. وهي:
1 – أداة الإبداع: (التعبير الفني):
أي أنّ هذا الاتجاه لا يرضى التعبير المباشر التقريري الجاف، فهذا اللون من التعبير يدخل في النطاق العلمي أو النطاق الحياتي، ولا صلة له في المجال الأدبي، فالنص لا بد أن يكون فنيًّا في المقام الأول، مشتملًا على أساليب إبداعية، وتقنيات أدبية عالية، تكفل له التميز والإثارة والجاذبية، ومن ثم التأثير.
2 – غاية الإبداع: (الهادف):
أي أن هذا الاتجاه يدعو إلى الغاية النفعية الاجتماعية للإبداع، فلا بد أن يكون الأديب ملتزمًا التزامًا طوعيًّا بقضية ما في إبداعه، فالأدب للحياة، والأدب للمجتمع، وليس الأدب للأدب! وليس الأدب متعة ذاتية، أو مَسلاة كلامية، أو مَلهاة فنية!
3 – مجال الإبداع: (الحياة والكون والإنسان):
ثلاث مفردات جامعة مُتدرِّجة عن طريق أسلوب العطف، تبيّن مجالات الإبداع، وأظن أنها شاملة لكل المضامين الأدبية قديمًا وحديثًا: فـمفردة (الحياة) يقصد بها كل ما فيها من مخلوقات وإشكاليات وأفكار ومعتقدات! ومفردة (الكون) يقصد بها كل ما فيه من مخلوقات سماوية وأرضية، لا سيما غير العقلي والجامد منها، من كواكب ونجوم وذرات ومجرات ورياح وسحاب وغيم ومطر ورعد وبرق وزلازل وبراكين وطير وطائرات ونبات وشجر وأعاصير وأنهار وبحار وحيوانات…إلخ، ومفردة (الإنسان) يقصد بها ذلك الكائن الناطق العاقل بكل إشكاليات وقضاياه ورؤاه، وأحلامه وآلامه، ومظاهر عيشته المختلفة، واتجاهاته الفكرية المتنوعة.
4 – ضابط الإبداع: (التصور الإسلامي):
وعبارة (وفق التصور الإسلامي) تحدّد الضابط الأساس الذي ينظر إليه المبدع الإسلامي ويحتكم، ويقصد بمصطلح “التصور الإسلامي” ما جاء في القرآن الكريم، والسُّنة النبوية الشريفة، وفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وكبار الفقهاء قديمًا وحديثًا ومعاصرًا للإبداع الأدبي وقضاياه. والتي تمثل معايير مؤسِّسة لما يُسمّى “النقد الأدبي الإسلامي”.
وليس الأدب الإسلامي مُستحدثًا في عصرنا، أو منهجًا طارئًا؛ لأنه أدب القرآن الكريم، وأدب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إمام البيان، وأفصح البلغاء، أدب المسلمين ـ منذ وُجدوا ـ في قوتهم وضعفهم، في فرحهم وترحهم، ما داموا يستمدّون تصوّرهم من مصدرَي الشرع الحنيف اللذين رسمَا لنا منهج الحياة الشامل، بما فيها الأدب، ومن ثم لا يستطيع من تُظِلّه حياة الإسلام أن يبدع خارج منهجه، ولا يستطيع أن ينشأ داخل المجتمع المسلم أدبٌ غير أدبه؛ لأن الإسلام حركة إبداعية شاملة في الفن والحياة، حيث تتكيّف النفس البشرية في ظلاله بالتصور الإسلامي الذي سيلهمها صورًا من الفنون غير التي يلهمها إيّاها التصور المادي أو أيّ تصور آخر؛ لأن التعبير الفني لا يخرج عن كونه تعبيرًا عن النفس كتعبيرها بالصلاة أو السلوك في واقع الحياة، كما يقول أوائل المنظرين للأدب الإسلامي.
جاءت الدعوة إلى (الأدب الإسلامي) في عصرنا ضرورة ماسّة لمواجهة أساليب أعداء الأمة وأدعيائها، من دعاة الباطل والزيف، وأدباء الشر والخديعة، الذين تتحدّث عنهم أبواق النفاق بأنهم القمم الأدبية الرائقة، التي تمثل الضمير الواعي للأمة! موظفين شعارات براقة جوفاء، مثل: الفن للفن، حرية الإبداع، تصوّر الواقع، محاور الآخرة، تجديد الخطاب، الانفتاح، التحرر، الحداثة…! أولئك الذين جعلوا التيار الأدبي الحديث يقتفي ـ غالبًا ـ الأدب الغربي، منفصلًا عنَّا انفصالًا جزئيًّا أو كليًّا، منغمسًا في التصورات اليونانية والوثنية، والروح المسيحية المنحرفة، والتيارات الفلسفية التي تموج بها الآداب الأوربية قديمًا وحديثًا، فإذا نحن أمام أدب غريب عنا في تصوراته وأخيلته ورؤيته للحياة والإنسان والكون. إنه أدب غربي الوجه والعقل، عربي اللسان فقط، بل تكاد عروبته تنهار وتضيع!
دعوة الشيخ “الشعراوي” إلى أخلاقية الأدب والفن
قال فضيلة الشيخ “محمد متولي الشعراوي” ـ رحمه الله ـ للدكتور “صابر عبد الدايم” رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالقاهرة: “مقوّمات الشخصية الإسلاميَّة في الفنون الأدبية تتجلّى بوضوح حين نبرز فيها الفضائل ولا نغذّي الرذائل… أريد أن يحتفظ الفن بجماله، فلا تجعلوه يورِّثنا قُبحا”. ويقول الشيخ لأدباء الإسلام: “لا تكبتوا موهبة الشعر والأدب في نفوسكم، ولا تخافوا أن تُحارَبوا من عشاق الرذيلة، وحاولوا أن ترفهوا جفاء الموعظة بنعومة الأداء، والحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان. والنصح ثقيل فلا ترسله جبلًا ولا تجعله جدلًا”. وهذا ما يُسمّى (الالتزام في الأدب)، حيث رعاية الأعمال الأدبية للمعايير الاجتماعية والأخلاقية والجمالية، والاهتمام بوظيفة الأدب وتوجيهه لمصلحة الفرد والمجتمع والوطن والإنسانية والدين. والالتزام الأدبي بمفهومه الواسع تلقّى رفدًا عظيمًا من نتاج الأدباء المناضلين ضد الظلم والاحتلال والاستبداد في أنحاء مختلفة من العالم، ومن أدباء ثورات التحرر الوطني والاجتماعي، وأفضل أنموذج في هذه النظرية هو أدب المقاومة الفلسطينية الذي نجح في الإعلان عن القضية الفلسطينية عربيًّا ودوليًّا، فاضحًا الصهاينة المجرمين، ومعلنًا عن المأساة التي ابتلي بها الإنسان الفلسطيني وما زال يُبتلى بها في ظل حماية الغرب المنخدع أو المأجور للمجرمين الصهاينة المعتدين!
القيمة الاجتماعية لفن الشعر
وللشعراء العرب إدراك طيّب للقيمة الأخلاقية والاجتماعية لفن الشعر، فهذا سيدنا “حسان بن ثابت” (ت نحو40هـ) – رضي الله عنه – يقول:
وَإِنَّما الشِعرُ لُبُّ المَرءِ يَعرِضُهُ — عَلى المَجالِسِ إِن كَيساً وَإِن حُمُقا
وَإِنَّ أَشعَرَ بَيتٍ أَنتَ قائِلُهُ — بَيتٌ يُقالَ إِذا أَنشَدتَهُ صَدَقا
وهذا “أبو تمام” (ت231هـ) يقول:
ولولا خِلالٌ سنّها الشعر ما دَرى — بُغاةُ العلا من أين تُؤتى المكارمُ
يُرى حكمةً ما فيه وهو فكاهةٌ — ويُرضى بما يَقضي به وهو ظالمُ
وهذا “ابن الرومي” (ت288هـ) يقول:
أرى الشعر يُحيي الناسَ والمجدَ بالذي — تُبقّيـه أرواح له عطراتُ
وما المجدُ لولا الشعرُ إلا معاهدٌ — وما الناس إلا أعظم نخراتُ
وهذا “أبو القاسم الشابي” (ت1934م) يقول:
يا شعرُ أنت فمُ الشُّعورِ — وصرخةُ الرُّوحِ الكئيبْ
وهذا “نزار قباني” (ت1989م) يقول:
الشِّعرُ ليس حماماتٍ نُطيِّرُها — فوقَ السَّماءِ ولا نايًا وريحَ صبا
لكنَّهُ غضبٌ طالت أظافرُهُ — ما أجبنَ الشِّعر إن لم يركبِ الغضبا!
وما أصدق قول شاعر الشعب والأمة “حافظ إبراهيم” (ت1932م) حين قال:
والـعـلمُ إنْ لــمْ تـكـتنفهُ شـمائلٌ — تـُعـلـيهِ كـــانَ مـطـيةَ الإخفاقِ
لا تـحـسبنَّ الـعـلمَ يـنـفعُ وحــــدهُ — مـا لـمْ يـُـتـَـوّجْ ربـّـهُ بــخَـلاق ِ
لا ريب في أنّ العلم والفن والأدب والأخلاق أثمن الثروات المعنوية التي يعتزّ بها الإنسان، هذه حقيقة لم يختلف المفكّرون فيها أبدًا؛ فالعلمُ يميّز البشرَ عن غيرهم من المخلوقات، ويبني الأفراد والمجتمعات ويسهّل لهم أمور حياتهم والأخلاق تجعلهم مؤمنين مسالمين مُعمِّرين، تحصّن المجتمعات وتقوّيها وتنمّيها وتحميها، والعلم والخلاق وجهان لعملة واحدة، فبهما تكون الحياة، وارتباطهما أساس إسعاد البشرية وتأمينها؛ فالأخلاق نور مصباح العلم الذي لا ينتشر إلّا بها! فالعلاقة بين العلم والأخلاق علاقة تكامليّة فلا أثر طيب للعلم بدون أخلاق، ولا أخلاق صحيحة من غير علم يبصّر ويرشد لأنه العين المبصرة للأخلاق، إنها علاقة تصادق وتكامل وتفاعل وانضباط. وليست العلاقة علاقة تصادم أو تناقض أو تصارع، لا علم بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا علم، والقطيعة بينهما خطر وضرر، والعلم المنضبط بالأخلاق يحقّق إسعاد البشرية، والعلم المُنفلت يؤدّي إلى إتعاسها!
“العلم بدون دين أعرج”..
لماذا لا يظهر الأنبياء في عصر العلم؟
بقلم: ختام زاوي – كاتبة من تونس
إنه الوحي الأسمى أن يطالب الإنسان المدرك والباحث بمعجزة يفكّ بها شفيرة العلم الحداثي.. معجزة عظمى إلى جانب معجزة الدين، حتى يبدّد بها قيود العلم اللامتناهي والذي تجاوز حدود العقل وراهن على زوال الأخلاق. ولعلنا قد فقدنا إيماننا بخوارق الأنبياء ومعجزاتهم، وربما تصاعدّت هذه التخيلات والشكوك من كتب الفلسفة وعلم الفلك وكُتب المنطق… وليس أقسى من خيالاتنا.. وليس أفتك بنا من أيدينا إلّا صُنع أيدينا!…
أمّا القلب المؤمن بالفناء الذائد عنه دون أن يتدخل عملنا في ذهنه، فهو ذلك الجزء الأصيل فيه.. ذلك الجزء الذي وضعه الله، ومنه قد طرَح سؤالا وجيزا وكان خطابا حائرا يفوق وتيرة العلم وأفقه: لماذا لا يظهر في عصرنا أنبياء؟
كمن يتخبّط في الشك ويطلب الغوث من القدرة الإلهية دون التماس المعونة عند مفكّر، ولا عند عالم فيلسوف.. وكانت نظرة السائل لشأن التجربة والتأمل عجيبة تحير اللب حول ما آلت به حضارة العلم.. وهكذا يمضي هذا الباحث: يفحص ويمحص، ويفترض ويستنتج، وتكثر المجادلات وتتلاطم النظريات العلمية.. ولكنه لا يخرج بعد من نطاق العلم ولم يسلم أبدا بوجود صلة بين العلم ومعجزات الأنبياء! ولماذا لا يظهر أنبياء؟ ربما قد تُزال عن طريقه العقبة الكبرى…
أسئلة لم يجب عنها أحد بعد، حتى الذين يدرسون آثار الدين وأسرار الطبيعة الإلهية، والذين يبحثون ويقرّرون الحقائق العلمية حول الدين فيقيمون له خير دليل على أنه قائم في كل زمان ومكان.. وربما كانت هذه النتيجة قفزة روحية نحو الخلود وثبات الروح، لكنها لم تجب حقًّا على سؤال الباحث!
وقد نشأ هذا الشعور من عقيدة سماوية أو فلسفية أرضية، التمس فيها تغيُّرًا في الوطن وفي الذات وفي التراث وفي التاريخ بعد ظهور الوسائل والماديات.. رموز اختفت فيها ركائز الدين، وربما عنى الباحث هنا إلى ركيزة الأخلاق.. ومحاسن الأخلاق.. تلك الرسالة العظيمة كانت دعوة الأنبياء كأريج ذكي لحضارة بشرية حقة.
ففي الحقيقة، الأخلاق هي امتداد السُّنة الإلهية، وهي مدرسة واحدة لم تكن محصورة في مذاهب أو في نظريات سائدة بل هي قيمة توعوية أو كجزء من العظمة الإلهية، وقوة ذاتية وحيوية تحيط بنا كالهالة حماية من الآفات وعيوب البشرية. وهذا ما حثّنا طبعا لمشاركة الباحث في فهمه الأعمق لمعنى الأخلاق..
لكن سيكون من الحماقة أن نتخيّل أن الأخلاق والعلم متعارضان أو أن أحدهما يخضع للآخر، وأن كل منهما يمكن أن يتجرد من القيمة بشكل مطلق. وفي الوقت نفسه، فإن أحدهما قد ينغمس في تمجيد لا حد له، بينما الآخر يسعى إلى تحقيق الأهداف دون اعتبار لقيمته.
العلوم غربية لكن الروح يابانية!
جاء لـ “ألبرت أينشتاين” مقولة يقول فيها: “العلم بدون دين أعرج.. والدين بدون علم أعمى..”. ونحن أحوج إلى العلم في حال هذه العملية. ولعل “أينشتاين” كان يخطو في تأملاته العليا خطوات ثابتة لأنه فكّر في المسألة تفكيرًا صادقا، وكان يريد أن يهتدي فيها بنفسه إلى جواب..
ولم يكن نبيًّا يُوحى له بل كان في ضلالة العقل الواعي، يتخبّط حتى لا يصح لنفسه الكذب على الناس.. وجاء الغد ومضى وتعاقبت الأيام وأصبحنا نرى بالعين نفسها التي يرى بها علماء العصر الحديث، وأدركنا مبلغ الدّمار والعذاب اللذين سيحيقان بالعالم المتحضّر لو فصلنا الأخلاق عن العلم، وما سيكون فيه إذا لم يكن هناك علم أخلاقي بحت.. ولو لم ننظر إلى هذه المسألة نظرة مصلح ناقد لتجاهلنا المجتمع الإنساني المتحضِّر والمتعولم وانطلقنا إلى جزيرة نائية في المحيط الهادي.. نعيش فيها بقية حياتنا عيشة بسيطة فطرية لا ننقل إليها شيئا من المبادئ الاجتماعية التي قام عليها العالم المتمدن.. وننزوي بعيدًا على العولمة ونأوي إلى حياة صافية كحياة الأطهار من الأطيار!…
إنما كان علينا أن نتصدّى لهذه الحرب حتى نحافظ على الروح الإنسانية من العبث والإخضاع للمادة بعد أن أصبحت الروبوتات البشرية تتطلع إلى عالم جديد يحاذي السماء ويتطلع إلى المجرات الأخرى دون خوف!
عالم يقوم على مجازر بشرية قامت عليها التجربة، فكان ثمنها قطع النسل واعتماد هيكلة النسخ في الأجساد والأفكار، أرغمونا على تقبل نظرية الكيميائيات والفيزياء والتكنولوجيا وصنع قنابل ذرية وصاروخية ولاسلكية لدوافع ربما تكون عرقية أو أغراض دينية مُزيّفة. وبذلك تكون المادة التي ندرسها أكثر من دراستنا للأخلاق الدينية هي التي أخضعتنا وجعلتنا عبيدا..
ولعل الأخبار العالمية روت لنا قصة القصف الذري على هيروشيما وناجازاكي، وهو هجوم نووي شنّته الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس/ أوت 1945، بعد رفض اليابان إعلان مؤتمر “بوتسدام”، الذي طالب باستسلامها الكامل دون شروط. إلا أن اليابان تجاهلت الإعلان ورفضته. نتيجة لذلك، أطلقت الولايات المتحدة القنبلة الذرية “الولد الصغير” على مدينة هيروشيما، ثم أعقبتها بقنبلة “الرجل البدين” على مدينة ناغازاكي.
تخيّل حجم الدمار! مدينة كانت تطمح إلى الارتقاء في سُلَّم التقدّم، تحوّلت إلى منطقة تغصُّ بالإشعاعات النووية الهائلة نتيجة استخدام السلاح النووي الفتاك. قُتل ما يصل إلى 140000 شخص في هيروشيما و80,00 في ناغازاكي بحلول نهاية عام 1945. وبعد ستة أيام من تفجير القنبلة على ناغازاكي، في الخامس عشر من شهر أغسطس/ أوت، أعلنت اليابان استسلامها لقوات الحلفاء، وتم توقيع وثيقة الاستسلام في الثاني من شهر سبتمبر، ممّا أنهى رسميًّا الحرب في المحيط الهادئ، وأعلن نهاية الحرب العالمية الثانية.
بعد الحرب، تبنّت اليابان المبادئ الثلاثة غير النووية التي تمنعها من تطوير أو امتلاك الأسلحة النووية. ومع ذلك، تمسك اليابانيون بسلاح العلم التقني التجريبي في مواجهة المستقبل المجهول. فرغم الكارثة، اكتسبوا خبرة تكنولوجية جعلت حياتهم تتطوّر لتتناسب مع احتياجاتهم في أصعب الظروف والتحديات الإنسانية والطبيعية.
في الواقع، البناء الأخلاقي للمجتمع الياباني مكّنهم من الارتقاء إلى معارج المجد. ففي اليابان، يتم تدريس مادة “الأخلاق والسلوكيات” من الصفّ الأول إلى السادس، بتناغمٍ مع جميع المواد المدرسية، ممّا يعلّم الطلاب أسُس التعامل مع الآخر. وقد شهدت البلاد إصلاحات جوهرية طالت النظام الاقتصادي والاجتماعي ونظام التعليم، حيث أُقيمت المدارس في جميع أنحاء البلاد، وتم رفع شعار: “لن يكون هناك طفل جاهل، أو أسرة جاهلة، أو قرية جاهلة في جميع أرجاء اليابان”. كما رُفع شعار: “العلوم غربية، لكن الروح يابانية”.
وبهذا البناء الأخلاقي والتقدّم العلمي، استطاعت اليابان النهوض من تحت رماد الحرب لتصبح منارة للتقدم في العالم.
أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
ممّا لا شك فيه أنّ الكثير قد تطلع إلى التطور السريع في تكنولوجيا الويب خاصة في تقنية الذكاء الاصطناعي، وقد لاحظنا العلاقة القوية بينه وبين البيئة العلمية، ملبِّيًا بذلك حاجاتها في البحث والاستكشاف بمعلومات دقيقة لكنها جافة، لأنه عاجز على التصوير الحيوي للحياة أو إطلاق خياله المبدع، فهو لا يمكن أن يتعلّم خارج الصندوق بمفرده، ويفتقر إلى اللمسة الإنسانية في الكتابة الإبداعية أو المقالات، ولا يحقق مطالب الفن لأنّه وسيلة تتعارض مع التعاطف.. وربما يفتقر إلى العنصر الأخلاقي بالرغم من أنه آلية جبّارة في الاجابة على قضايا مبهمة تخضع للمنطق، ممّا جعل الإنسان يستند إليه في بحوثه حتى إصابته بما يُسمّى “الكسل البشري”.
من المتوقَّع أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي المستقبلية قادرة على تطوير سلوكيات غير متوقَّعة نتيجة تحليلها لكميّات هائلة من البيانات.. لتحوِّلها إلى “أسلحة مستقلة” أو “روبوتات قاتلة”. لذلك يحذِّر علماء الكمبيوتر المتخصّصين في الشبكات العصبية، من خطورة إساءة استخدامه من قبل الجهات الخبيثة، خاصة في المجال العسكري، حيث يُخشى تطوير “الجنود الآليين”. وقد يصبح الذكاء الاصطناعي “مولِّدًا للتفاهات”، ممّا سيجعل من الصعب تمييز الحقيقة عن التّضليل.
لذلك فإننا في حاجة إلى دمج الأخلاق والعلم في مسارٍ واحد لضمان مستقبل أفضل للبشرية.. تخيّل أن التكنولوجيا تمضي قُدمًا بخطى سريعة، لكن من دون توجيه أخلاقي.. يمكن أن تنحرف عن مسارها وتضرّ بالمجتمعات بدلاً من خدمتها. لهذا السبب، تدعو جهات مُتعدِّدة، من باحثين وحكومات ومنظمات دولية، إلى وضع إطار أخلاقي يوجِّه استخدام الذكاء الاصطناعي بحيث يحترم حقوق الإنسان ويخدم الصالح العام.
وفي هذا السياق، تلعب “اليونسكو” دورًا محوريًّا، حيث جمعَت خبرتها الطويلة في أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا لتكون مرجعًا عالميًا في هذه القضية. فكما سبَق أن طوَّرَت أدوات معيارية مثل الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا، تسعى الآن إلى إشراك الجميع في هذا الحوار، وخاصة المناطق المُهمّشة مثل إفريقيا، لضمان أن يكون العلم وسيلة لتحقيق العدالة والازدهار للجميع.
أخلاقيات المستقبل
إن إضفاء الصبغة الرقميّة على العالم سيجعل من الحياة مجرد إجراءات دون دوافع إنسانية، وسيخرج الفعل الإنساني من طور الحرية إلى طور الآلية، والخطورة تكمن في خضوع الإنسان إلى الرقمنة وسعيه إلى رقمنة غيره قبل رقمنته، والحال أنّ العالم اليوم يشهد حضور الآلة وضمور الإنسان.. وهكذا يمكن وسم الزمن للإنسان بـ “زمن اللاعقل”، فكان لا بدّ للإنسان التضحية بهويته والتخلِّي على جيناته.. وليس أفظع من فصل الإنسان عن وجوده ووجدانه لأنه قد تمّ وصله فعلا بعالم الأشياء وفصله من عالم المعاني.
ولكن السؤال الذي يظل ملحا علينا في ظل هذه الوقائع: ما الثمن الذي سيدفعه الإنسان إن استمرّ في عبادة الآلة الرقميّة؟
العلم لا يستر قليلَ الأخلاق!..
العالم يتوجّه إلى المزيد من العبثيّة والجنون
بقلم: محمد أحمد أمين – أمين سر جمعية الحوار من أجل لبنان الواحد – لبنان
عزيزي القارئ:
إن أول ما يجب التوضيح هو إنّ الفلسفة ليست الفكر، ولو كانت كذلك لأصبحت المشكلة سهلة واضحة تمام، فليس هناك من مجتمع بشري يحيا أو يستطيع أن يكمل طريقه في الوجود دون فكر يجمعه، وحكمة عملية تقود خطواته، وتنظم حياته، ذلك إن كل تجمع إنساني يحتاج إلى تنظيم وترتيب، ورسم لنفسه طقوس يُقيمها وعادات يحييها، وخبرة حوّلها إلى حكمة، وحنكة ومهارة يورثها من جيل إلى آخر، وكل هذا يحتاج إلى فكر ينظمه، ومن هنا يأتي النور الساطع لهذا الفكر كي يصنع كل ما يقدمه من حكمة وتنظيم، ومن ثمّ قيادته من خلال العلم الذي يوفر للعقل البشري مجموعة المعارف والمهارات، وقوانين الحياة، ولذا نرى إن الإنسان قد برع عبر التاريخ في استنباط تلك القوانين العلمية، وقد عرّف علماء الإنثروبولوجيا (العلم) حيث أرتقوا به إلى تعريف تنويري هو معرفة القوانين العلمية في الطبيعة والمجتمع.. ومنحوه سلاسة تحاكي العقل البشري.
إذًا لطالما عرفنا وظيفة العلم، لا بدّ من البحث عن العلاقة العضوية بين العلم والأخلاق، ومن هنا نرى إنّ الإنسان المُتنوِّر علمًا وفكرا عليه البحث عن القاعدة العلمية التي تُسيّر هذا الكون وفوائدها المادية والحضارية، فذهب “آرمسترونغ” – أول عالم فضائي وصل إلى سطح القمر – ليصف الكرة الأرضية التي تحتاج إلى معرفة القوانين التي تسيّرها وما تعيشه من تناقضات تدفع بالإنسان للجوء إلى وسائل شيطانية للهيمنة والسيطرة الغرائزية، وزجّ نفسه في أتون الحقد والحسد والكراهية وإشعال الفتن والحروب لغايات آنية لا تستحق كل ذلك.. “لأنني حين وصلت إلى مُسطّح القمر، نظرتُ من هناك إلى الكرة الأرضية، خنقني الحزن والغم، ثم أجهشت بالبكاء، وتردّدتُ في تعليق العلم الأميركي الذي كنت أحمله وغرسه على وجه القمر، لأنني حينما نظرت من هناك إلى الأرض من تلك الفاصلة الصغيرة، رأيتها كرة زرقاء كنقطة حقيرة بلا لون، بلا حدود، بلا قوميات.. ونقضي على بعضنا البعض، فوضعت الإبهام أمام الأرض ورأيت أنه غطى عليها بالكامل، فكنت أبكي بحرقة على كل هذا الجهل والعمى والتعصب الذي غرقنا فيه!”.
ومن هنا، نأخذ ما أنزله الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم، ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” (سورة: الزمر، الآية: 9). إذًا، حين التّعويل على أولي الألباب الذين خصّهم الله بالذِّكر وأفردهم بالاعتبار وهم أصحاب العقول المُتنوّرة بالعلم، فقلب كل شيء جوهره، ومن هنا نستنبط إنّ الجوهر الذي يتسلّح به هذا العالِم في سلوكه الإبداعي، هو الأخلاق، وهي التي جعلته يقوم في إجراء تلك المعادلة الفيزيائية من خلال العلم الذي نهله وكان النور للعقل لديه، ممّا جعله إنسانًا منصفا، وقد عبّر عن ذلك عن قناعة ودراية فكان سلوكه في البحث العلمي من خلال مُهمّته المحصنة بالأخلاق، ممّا دفعته نفسه العادلة بتوجيه الرسالة الإنسانية لتكون عنوانًا نبراسًا لما بعده من العلماء أيضا. وقد يسأل سائل: ألا يتواجد علم بلا أخلاق، أو أخلاق بلا علم؟
الإجابة واضحة: نعم في مسيرة حياتي عرفتُ عالِمًا بلا أخلاق، نرجسي، متعجرف، ولكن علمه لم يتواءم مع النفس البشرية ولم يكتب له التقدم والازدهار بسبب رؤيته الفوقيّة الغوغائية. وعرفتُ أيضًا من يتحلّى بالأخلاق ويعتمدها سلوكًا لحياته ضمن كينونته، ممّا يجعل تلك الأخلاق تنحصر في بقعة جغرافية مُحدّدة!
ويحضرني قولٌ لطالما ردّده أمامي أحد أصدقاء جّدي رحمه الله، قال لي: يا ولدي إن الأخلاق تستر قليل العلم، ولكن العلم لا يستر قليل الأخلاق!
ومن هنا نرى إنّ العلم صديق حميم للأخلاق، وهما توأمان متلازمان فيما بينهما كي يحققا العدالة في مسيرة التطور والإبداع. ولنأخذ أيضًا قول الله تعالى، واصفًا الرسول صل الله عليه وسلم، “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ” (سورة: القلم، الآية: 4)، رغم أنه كان يقوم بكافة الفضائل الأخرى، من صلاة، وصيام، وحج، وقيادة حكيمة، ومع ذلك لم يصفه الله بأيٍّ منها، بل وصفه بالأخلاق، ممّا يجعلنا نؤكد على أنّ الأخلاق هي السلوك السليم الذي يؤدّي إلى تحقيق كافة الفضائل التي هي منهاج حياة..
وهذه الأخلاق الصديقة للعلم هي نور العقل الذي يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين العلم والجهل، وبين العدالة، والطغيان الذي يمارسه اليوم ذلك العالم الخفي المُدّعي بقيادة العالم حيث يتفرّد بالقرار ويرسم العدل بما يتناسب مع بقائه في السلطة المُتجبّرة، ويرسم في عالمنا أبشع الصور، ومعالم الحياة البشرية، بالتمييز بين أبيض وأسود، وبين عرق وعرق، وبين دين ودين، وبين عربي وأجنبي، ويحلِّل دماء من يشاء تحت مُسمّيات مصطنعة منقلبًا بذلك على قوانين الطبيعة وكافة القوانين التي سنّتها مؤسساته الدولية التي اصطُنِعت من قبله، ويتمرّد على دستورها، حين يتعارض مع مصالحه وأهدافه الطغيانيّة! وإلّا لما سمح لأيّ فئة من البشرية فردية كانت أم جماعية أو دولة بالاعتداء على الأخرى من خلال العدالة الدولية التي تجتمع وتحلل وتشغل البشرية في إعلامها، وتهدر من الوقت ومن الاقتصاد العالمي دون جدوى وتتحكّم بثروات الشعوب وتستبيح حريتها..
فعن أيّ عالم حر يتحدّثون ما لم يكن مُحصّنًا بالعدالة والمساواة والكفاءة؟ ويتهافتون على سباق التسلح ويُغذّون الفتن بين البشرية من أجل الثراء وتسهيل بيع السلاح لهذه الفئة أو تلك.. جرّاء ثقافة الطغيان وهو ما يجعلنا نشعر بالأسى والأسف من هذا النمط الفظ الذي يسلكه هذا العالم الحر كما يُسمّي نفسه؟
وما يجعل المتنورين يتنبّؤون كما تنبّأ سابقًا المفكر المصري “عثمان أمين” عام 1927 بكارثة القنبلة الذرية التي دمّرت الحياة في هيروشيما وناكازاكي في العام 1945، وحذّر حينها من القطيعة بين العلم والأخلاق، وهو ما أستشرفه قبل ثمانية عشر عامًا من الحدث الكارثي! وها أنا اليوم الإنسان القارئ لما يجري حولنا في هذا العالم الصغير جدًّا كما رآه “آرمسترونغ”، وفي ظل الثورة المعلوماتية التي يشهدها العالم، أجد أنّ المطلوب من هذا العالم إجراء عملية بحثية جادة، ليجد ضالّته من خلالها، لأن الإنسان طبيب نفسه.. ليعود إلى صوابه وإعادة النظر في كافة القوانين الإنسانية، وينطلق من عقمه ويخترق عقبات الحاضر ليتطلع إلى آفاق المستقبل الجديد حيث لا يعود هناك من سيّد ومسود.. بل مساهمة حقيقية من كل أمم الكرة الأرضية في مسيرة نظام العدالة الجديد، واحترام الإنماء والتنمية المستدامة، وهكذا تعمر سكان المعمورة كلها..
ودون ذلك.. أستطيع أن أستشرف كما أستشرف السابقون قبل قرن، بحدوث المزيد من الحروب، ومزيد من القتل، والتدمير والتشريد للشعوب، وانعكاسه على المتصارعين في حلبة التسابق على السيطرة والهيمنة والتي تنذر بقرب الوصول إلى الموقع الأول قبل قرن من الآن في استعمال القنبلة النووية والتي ألمح عنها بعضهم جرّاء حروبهم العبثيّة..
وأنا أكتب وكلي أملٌ أن نصل إلى عالم تسوده العدالة والمساواة، متجاوزين كل الألم والجراح، لتحقيق الأمن والسلم بين البشرية.. عالم ينبذ سباق التسلح، وينتقل إلى عالم يتسلّح بالعلم والأخلاق، من أجل عالم أفضل، وهذا ما أرجوه أن يتحقق قبل ختام كتابي في هذه الحياة إن شاء الله، وأكتفي بما نصّ عليه قلمي وفي الإيجاز بلاغة..
العلم مُجرّد أداةٍ وليس صديقًا للإنسان!
بقلم: إسراء نزال – كاتبة ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين
العلم والصداقة والإنسان والأخلاق، علاقات متشابكة متداخلة جعلت من الفاعل مفعولا به ومن المفعول به فاعلا! يتساءل المفكرون إن كان العلم صديقا للإنسان! إذا كان، الإنسان صديق للعلم؟ لماذا لم يتم تناول هذا السؤال، بل فقط تُسقَط مسؤولية الصداقة على العلم رغم أن الصداقة علاقة تبادلية بين الطرفين؟! والصداقة تحمل ضمنيًّا حرية الاختيار والإرادة، ومن هذا المنطلق يختار الطرف أو الشيء صديقه عارفًا ما يمكنه قوله لصديقه دون غيره.
وإن أردنا الحديث عن الصداقة، فإنّ هذا سيأخذنا إلى منعطف آخر يبعدنا عن مضمون المقال، لكن الأهم أنها علاقة تبادليّة، وتختلف اختلافًا جذريًّا عن العلاقة الأُسرِيّة، فالأولى اختيار والثانية رابطة دموية. و”الاختيار” كلمةٌ ضمنيًّا تشير إلى حرية الإرادة، فأنت لست مُجبرًا على أن تكون صديقًا لشخص مُعيّن، ولا تجد نفسك في بيئة مُعيّنة فرضت عليك أنّ هذه البيئة صديقة لك! فإن كان طرفٌ لديه القدرة على الاختيار فهو الإنسان وليس العلم، فالإنسان لديه حرية الإرادة والاختيار وليس العلم، فكيف يمكن أن تكون هناك صداقة والتي هي علاقة تبادلية بين طرف لديه حرية الاختيار دون الطرف الآخر!
السؤال الأهمّ، هل بترويج السؤال المُشوّه “العلم صديق للإنسان” يعني أن مسؤولية الصداقة لدى الإنسان واضحة لكن العلم عليه علامات استفهام؟ إن كان إسقاط الصداقة فقط على العلم دون الإنسان فإنّ هذا يعني أنّ الإنسان هو الأداة في يد العلم، وهنا سؤال أهم: القدرة على الاختيار بين الخير والشر، ملكُ للإنسان أم العلم؟
ما أدّى بالإنسان إلى طرح هذا السؤال هو الاختراعات العلمية التي حوَّلت العلم إلى شرٍّ بعين الإنسان العادي، حيث أنّ البروباغندا التي تُثار ضد الذكاء الاصطناعي والشبكة العنكبوتية – على سبيل المثال لا الحصر – جعلت الإنسان العادي يظن أنّ الشر وحده يأتي من العلم، وكل اختراع لا وجه له سوى الأذى والضرر! لكن، نسي الإنسان أمرًا في غاية الأهمية، أنّ الله قد سخّر لنا كل ما بين السماوات والأرض لأجل الإنسان، ووضع في الإنسان الإرادة الحرة والقدرة على الاختيار كما ورد في الكتب المقدسة التي أخبرتنا عن سبب خلق الله لآدم وهو عمارة الأرض وبنائها وهذا متفق عليه بين الكتب المقدسة التي أخبرتنا عن منبع صراع الخير والشر الذي لا يسكن سوى الإنسان، هو لا يسكن العناصر الكيميائية، أي أنّ الكيمياء لا تجبر الإنسان على صناعة الديناميت منها! كما لا تجبر الفيزياءُ الإنسانَ على استخدام قوانين الحركة وغيرها في توجيه الأسلحة! فمن يقرأ قصة آدم وإبليس يدرك ببساطة أنّ المُخيَّر بين الخير والشر هو الإنسان وليس الطبيعة. ولو كان القارئ لا يأبه بآدم وإبليس، فعليّ طرح سؤال: هل الطبيعة بمكوناتها الكيميائية والبيولوجية والجيولوجية والفيزيائية وغير ذلك تملك حرية الإرادة كما الإنسان؟!
السؤال الأدقّ، من الذي عليه أن يكون صديقًا للآخر! هل العلم أم الإنسان أم كلا منهما هو صديقٌ للآخر؟! لأنّ الطرح العام لدى العامة والباحثين والكُتّاب هو سؤال: هل العلم صديق للإنسان؟ إلّا أن الإشكالية في الأمر برمّته توجد في السؤال ذاته، وهذا ما أدّى إلى فوضى فكرية ومعلوماتية.. فإن كان السؤال خاطئا، مهما عِظم أمر الإجابة من حيث عمق الفكر والتحليل والربط والعرض المعلوماتي وما يحمله من أسلوب مثقف، فإنّ الإجابة تبقى خاطئة إن أُعطيَت لسؤال خاطئ. إذًا، السؤال الآن: لماذا السؤال “هل العلم صديق للإنسان” هو خاطئ؟
السبب هو أنّ إسقاط مسؤولية الصداقة على العلم وحده قد أدّى إلى كارثة فكرية، والسّبب أنّ طرح سؤال صداقة العلم للإنسان ضمنيًّا هو تنصُّلُ الإنسان من مسؤوليته اتجاه العلم واتجاه الإنسان كذلك، لأنّ السؤال بذاته يقول أنّ العلم وحده مسؤول عن الشر والكارثة، وعلى الإنسان توجيه أصابع الاتهام نحو العلم، وهذا أدى بالإنسان العادي إلى نفوره من العلم الذي بدونه لا يمكن عمارة الأرض وبنائها، وبالتالي على المدى البعيد سيؤدّي هذا إلى انسلاخ الإنسان عن وظيفته كإنسان. فالسؤال المطروح: “هلم العلم صديق للإنسان؟” هو أسقاطٌ للشرِّ والخير الذي ينتج من العلم على العلم وحده دون الإنسان، وكأن العلم هو من يقود الإنسان! ولهذا كان هذا السؤال الخاطئ الإجرامي “هل العلم صديقا للإنسان؟” مدخلا لطرح إشكالية وهمية أخرى ألا وهي “العلاقة بين العلم والأخلاق”. لماذا؟
الإجابة في تاريخ العلاقة العلمية بين الإنسان والطبيعة، حيث أنّ قوانين الفيزياء الموجودة في الكون، صفات وخصائص العناصر الكيميائية الموجودة في الكون بشكل طبيعي، ممّا يتكون جسد الحيوان وكل ما يتعلق به، جسد الإنسان وما يحتويه من أجهزة وخلايا، وغير ذلك الكثير، لم يخترع الإنسان أيًّا من ذلك بل اكتشف، وفقط البداية كانت اكتشاف. فقبل أن يخترع ويصنع القنبلة الذرية كان عليه دراسة العنصر وصولا إلى اكتشاف الذرة. قبل أن يصنع الروبوت كان عليه دراسة جسد الإنسان ودماغه على وجه التحديد. قبل تحكُّم السياسيين بالشعوب، كان عليهم دراسة دماغ الإنسان وسيكولوجيته وصولا الى دراسة واكتشاف ثنايا وعيه ووعيه الأعلى والأدنى. قبل الوصول إلى الذكاء الاصطناعي كان على العلماء قبل ذلك اختراع الحاسوب، وقبل اختراع الحاسوب كان على العالم البريطاني “آلان تورينج” فكّ الشيفرة الألمانية “إنيجما”، ولفك الشيفرة كان على الإنسان أن يكتشف اللغة ومن ثم يخترع الكتابة، والأهمّ من ذلك اكتشافهم للرياضيات الذي لولاه لما كان هناك تحليلات تنبّؤية أو ذكاء اصطناعي أو جهاز حاسوب. وأمثلة كثيرة على نحو ما ذكرتُ تحتاج إلى مجلد على أقلِّ تقدير فقط لذكرها!
ما يقوله التاريخ العلمي فقط من خلال الأمثلة القليلة البسيطة هذه أنّ بداية الإنسان مع العلم كانت اكتشاف: دراسة، بحث، تمحيص، اختراع، وأخيرًا تصنيع! فهل يمكن تصنيع شيءٍ من العدم دون أن تكون هنالك خلفية علمية حول الأمر؟! إذًا البداية كانت اكتشاف وليست تصنيع. ماذا يعني هذا؟ يعني هذا أنّ الإنسان الذي يسكنه الفضول وصراع الخير والشر هو المتحكِّم في العلم الذي هو أداة له وليس العكس، فالذرة كانت اكتشافًا، لكن شر الإنسان جعل من هذا الاكتشاف قنبلة. رغم إمكانية تحويل هذا الاكتشاف الى مدخل لدراسة الطاقة الحاكمة للكون! علم الفلك من أعظم العلوم ولكن شر الإنسان حوّله إلى أداة ابتزاز سياسية رغم وجود خيارات أخرى كالبحث في إمكانية وجود ماء على كوكب من الكواكب، أو على الأقل اكتشاف الفضاء وقوانينه الفيزيائية لفهم كيفية نشوئه! فالعلم بحدِّ ذاته موجود بكل مكوناته وقوانينه، لم يكن على الإنسان سوى أن يكتشفه ويستخدمه لعمارة الأرض لا لدمارها.
إذًا، الإنسان هو فقط من عليه أن يكون صديقًا، لكن ليس للعلم، بل للإنسان والطبيعة من خلال العلم، لأنّ صراع الخير والشر وحرية الإرادة ومفاهيم الأخلاق.. لا يسكن أي من ذلك سوى الإنسان وليس العلم، لكن الشر تراكميٌّ حوَّل الإنسانَ من نزعته الفكرية الفطريَّة الحرة الى متنصّلٍ من مسؤوليته اتجاه العلم والطبيعة فأسقط مسؤولية الأخلاق على العلم دون الإنسان، ممّا أدى إلى طرح الإشكالية الوهمية “أخلاقيات العلم”، فالأخلاقيات لا تأتي سوى من الإنسان الذي يستخدم العلم كأداة قد تكون مُعمِّرة أو مُدمِّرة.
هل تذكرون النّعجة المُستنسخة “دوللي”؟..
الأخلاق في مواجهة حضارة المادة و”تشييئ” الإنسان
بقلم: روند الكفارنة – قاصة من الأردن
بداية التسعينيات، خرج علينا عالِمٌ يقول بإمكانية تصنيع الحياة واستنساخها، حينها خرج لنا بنعجة اسمها “دوللي” هل تذكرون؟ نحن جيلٌ يتذكّر تلك الصدمة الحضارية والعلمية والتي جعلتنا في مأزق أخلاقي وسؤال كبير: إلى أين يذهب بنا العلم، وهل يجب على العلم أن يكون أخلاقيا؟ وهل يجب أن يتمتّع العالِم بالأخلاق والتي تُعتبر في معظم الشرائع هي الحكم الأساسي للسلوك؟ بينما يعتبر العلماء والفلاسفة أنّ الأخلاق هي حالة فردية وحرية شخصية والتي بدورها تسمح للعلماء باستخدام الحيوانات كأدوات تجريبية لكثير من التجارب غير الإنسانية والتي تغاضى عنها العموم..
ولكن، لأنّ العلماء في لحظةٍ ما طالبوا بفصل العلم عن الدين والأخلاق بالضرورة، ظهر لدينا تجارب تُقام على البشر.. وكانت بشكل أو بآخر تعطي مؤشِّرًا خطيرا على تغَوُّل المادة لا العلم فقط بل على الأخلاق أيضًا، إذ أنّ معظم الاكتشافات المُموِّل لها في العادة هي الشركات الكبرى التي تطمع إلى ربحٍ سريع وكبيرٍ ولا تهتم كثيرا إذا كان هذا المَربح أخلاقيٌّ.. فقد ظهر ذلك جليًّا في كثير من الفضائح للشركات الكبيرة وعَمالة الأطفال والاستغلال. فشركات الدواء التي تختبر أدويتها عل البشر، تعرف خطورة ذلك، ولكنها تُبرِّر لك بأنه في مصلحة البشرية.. وعندما يكون المكسب المادي هو الهدف، يتوارى المكسب الأخلاقي إذا تعارض بأيّ شكل مع المكسب المادي.
بعيدًا عن المادة والعلم والذي أظنه المُحرِّك الأول للاختراعات التي بدورها تُعنى بالتقدّم العلمي، فإنّ هناك سؤال يلحّ عليَّ: هل فعلا ما ندّعيه بأننا نعيش في زمان حصل فيه الفرد العادي على رفاهية لم يحظ بها ملوك الفرس والرومان، والتي تصوّر أنّ الهواء المُكيّف كان يحتاج إلى عَبدَين ليقوما بهذه المهمّة، وأن وجود الماء بدرجاته المُعتدلة كان ترفًا لا يحصل عليه الجميع، إذا سلَّمنا أنّ التّرف والراحة يعنيان السعادة بشكل أو بآخر؟
ولكن أظن بأنّ الإشكالية التي تضعنا أمامها كل تلك الاختراعات تقول: هل دُفع الثمن من سلامنا النفسي؟ فنحن في حالة لُهاث حقيقي لنتتبّع آخر ما صُنع من هواتف وشاشات ومُكيِّفات وسيارات.. والتي كبّرَت الشعورَ بالفجوة ما بين الطبقات الاجتماعية التي تسعى كل طبقة فيها إلى الإثبات بأنها من طبقة أعلى على حساب السلام النفسي! ويُطحن الشخص العادي في دور المادي، وجعل التّباين على أساس مادي بحتٍ بعيدًا عن دوره في المجتمع أو وظيفته أو حتى دوره الاجتماعي ومكانته.
على الجانب نفسه، علينا ألّا ننكر دور المواقع الاجتماعية في تسليع الإنسان وتشييئه وإشعال السّعار الدائر نحو المادية التي باتت تطيح في وجه طوفانها الأخلاقَ التي باتت موضة قديمة كما يقول البعض، فما نراه على مواقع التواصل الذي سلّع المرأة بالذات والأطفال وجعلهم عناصرًا لاستعراض الأجساد والمتاجرة بها.. مؤشّرٌ خطير على أنّ الأخلاق باتت موضة قديمة عندما يعلو صوت المال.
وما بين الذكاء الاصطناعي الذي يقول بأنّ بإمكانه وضع صورة أيّ شخص بأيّ وضعية كانت، واستخدام الصور والأصوات وأشكال الجسد، بل يمكن زرع شرائح داخل جسم المريض ليُشفي، فمثلا قد تُوضع شريحة لمن أصيب بتلف في العصب البصري فيرى والعصب السمعي فيسمع.. والتقدّم البيولوجي الذي لا يتوقف عند تصحيح عيبٍ حصل في الجسد بل يتجاوزه إلى إعادة تشكيل كل الجسد، فمثلا اكتُشف بأنّ “قنديل البحر” يُجدِّد نفسه وشبابه كاملا، بعيدًا عن أن هذا الكائن لا يشبه بتركيبه الجسدي الإنسانَ إلّا أنّ الأبحاث ما زالت في بداياتها.. وهنا نتساءل: هل هنالك حدود أخلاقية لكل تلك الاختراعات والاكتشافات؟ وهل تلتزم بأخلاق العلم هذا إذا سلّمنا بوجود أخلاق علمية أو علم أخلاقي؟
تنبّه الأدباء قديمًا إلى أنّ تغوُّل المادة والعلم يخلق من الشعوب شعوبًا مستعبدة لاهثة نحو غرائزها وحاجاتها ممّا يفقد الحياة جوهرها الحقيقي والمنشود.. فإننا هنا نجد أنّ الأدباء والمفكرين هم حائط السدّ الأكثر منعة والذي يُعوّل عليه لعدم سقوط الأخلاق، فهم كما الأنبياء حُرّاس الفضيلة والأخلاق، وهم مؤشِّر وضمير الأمة ولا يجب أن يختلّ ميزانهم، فهم بوصلة الأمة والذين لا يتوانون عن دفع أرواحهم لخدمة قضايا الأمة المصيرية كما فعل “ناجي العلي” و”غسان كنفاني”..
نحن اليوم نواجه طوفانًا من المادية والاستهلاكية ضد الأخلاق، وهذا يتطلّب من المثقف الحقيقي دورًا واضحًا وانحيازا لا يقبل المساومة نحو الأخلاق والفضيلة والعدل والحق والجمال وإعلاء شأن القيم الحقيقية التي نحتاجها لنحافظ على مجتمعاتنا من تغوُّل المادة وطغيانها..
إذا كان العلم سلاح الأقوياء.. فهل الأخلاق سلاح الضعفاء؟
بقلم: جنى جهاد الحنفي – كاتبة وإعلامية فلسطينيَّة في لبنان
قِيل عن المعلِّم أنه عظيمٌ إلى الدرجة التي جعلته كاد أن يُصبح رسولًا. ولكن، هل كلّهم رُسل؟ هل كلُّ من حمَل الرسالة صانها؟ هل كل من علَّمنا حَرفًا يستحقّ أن نكون له عبيدًا؟ لعل السبّورة بوابةٌ لمخزن سلاح. ولعل الكِتاب خريطةٌ لمدينة الشر التي تتوعّد العالم بالهلاك. إنه العقل البشري.. أخطر وسيلة، وأخطر غاية. إنه القادر على تحويل المُسلّمات بما يتناسب مع ذلك الطمع الذي إذا تسلل طغى وتعامى! مزرعة تطرح وردًا وسلامًا.. أو صحراء فارغة لا تتأمّل فيها خيرًا، وربما حقل زقّوم! إنه العلم، أن تعلم أنّ نجاتك وعدوّك في رأسك.
تغيّرَت عبر العصور مكانةُ العلم، لكن حقيقة أنه حاجة مصيريّة ظلّت ثابتة. في الجاهلية كان العلم جاهة، بعد مجيء الإسلام أصبح من درجات الجنة. في عصرنا، أصبح بأهمية الشهيق والزفير.. بأهمية الماء الذي يجعل كل شيء حيا. والعلم لا يشمل فقط درجات الماجستير أو تقدير الامتياز. العلم أولاً هو أن تعرف الحد الأدنى ممّا يحصل حولك، ما يحصل في الدائرة الضيقة في بيئتك.. ليس بالضرورة أن تعرف تفاصيل التاريخ السياسي العربي بالحذافير، لكنه عارٌ على العربي ألّا يعرف بالإبادة الجماعية التي تُرتكب في غزة. ويكمن المعنى الثاني للعلم في أن تعرف كل شيء عن شيء، وتعرف شيئًا عن كل شيء.
في الأولى، نحن نرتقي من مُتعلّمين إلى مُتخصّصين. الأم التي لم تكمل تعليمها المدرسي لكنها تعرف في العجين ما يفوق خبرة مُتخرّج من أكاديمية طهي، تُعدّ مُتعلِّمة. الفلاح الذي لا يعرف ما هو ثقب الأوزون بالتعريف العلمي، لكنه يحفظ ميعاد الجني والسّقاية، فهو أيضًا عالم. وفي الحالة الثانية، يترقّى المتعلّم إلى رتبة مثقف. قد لا يعرف كل شيء عن الاقتصاد، لكنه يحدّث التجار بطلاقة. ليس صحافيًّا لكنه يعرف الأخبار المحلية..
ولكن الحالات جميعها تمتلك أسلحة! ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الخطر ليس في العلم نفسه.. بل في توظيفه. وهذه هي الحقيقة التي يتناساها من يريد للجهل أن يحكم المجتمع. لم تُحرق مكتبة “ابن رشد” لأن العلم خطير، بل لأنّ توظيف نظرياته كان سيجعل المجتمع المتلقِّي أقوى..
وُجد العلم أصلًا لأنه حاجة، فالإنسان عدوّ ما يجهل. ذلك ما دفعه ليخترع أدوات التعلّم، أدوات حلّ الألغاز ليكتشف محيطه: لماذا يُحدث احتكاك الحجارة شرارًا؟ السؤال بحد ذاته أنتج إبداعًا وإيمانا. وقد أثبتها خليل الله، النبي إبراهيم – عليه السلام – وهو يتساءل عن الشمس والقمر.. اللذين اكتشفهما العلم كمعجزات. وكل حياتنا تكريم للإجابات أو دفع لثمنها..
لكن، كيف تخلّى العلم من هذه القيمة إلى احتمالية أن يصبح عدوًّا يترقّب هزيمتنا في كل مرصد؟ ألا يُفترض بالعلم أنه غذاء الروح كما حفظنا في كتب الأشعار؟ ما الذي حدث إذًا؟
مفتاح سري لمن ينوي على الخراب.. إنه الطمع! فيما لا يشبع الإنسان ويرتضي بأسوأ النتائج، المهم أن تدعم رصيده البنكي أو تحقّق له مصلحة سلطوية عليا. إن كان النووي يجعلنا نحكم العالم، لماذا نستفيد منه في العلاج وحسب؟ في محورَي: المال والسلطة، اشتعلَت حروب العالم. وفي إطارهما، توظّف العلم لأنه أذكى وسيلة للنصر. مُجددًا، إن كان الاختراق السيبراني الإسرائيلي يهدد المقاومة الإسلامية في لبنان، لماذا يكتفي بالتكنولوجيا لتكون وسيلة للتواصل وحسب؟! ونزيد المثل بأسوأ.. لماذا تتحوّل مُنتجات العلم من نعمة إلى نقمة، بينما يستطيع العلم أن يكون المادة الخام لتُوجد النقمة مباشرة؟
لعل أول إنذار للمصيبة العلمية أن يتجرد العلم من العاطفة. والعاطفة لا تعني المشاعر الوردية فقط، لكنها تشمل بالأساس الشعور الإنساني والاعتراف بأهميته التي تحوّله إلى أولوية كونيّة! ولا يوجد غير الأدب ليقوّم النفوس.. ويُشعِرها أنها أكبر من لحم ودم وطمع! ولطالما أثبت الأدبُ أنه قادر على الارتقاء بالنفس من بشرية إلى إنسانية، يحق لها، وواجب عليها أن تكون شريكة في الحكم والقرار. فالتجربة العلمية التي تهين إنسانًا، هي جريمة. والأدب الذي لا يتصدّى للطمع ويذكّره بإنسانيه فهو مشروع جريمة أيضا..
صفوة القول، ليس السلاح ذا حدّين إلا باختيار صاحب السلاح، لأنّ العلم قوة، فالمسؤولية حساسّة. القوة ارتقاء، والقوة مقتل. وليس السلام حكرًا على الأميين، بل هو الرفاهية التي تخلّى عنها المتعلِّمون ظنًّا أن السلام مضيعة للوقت والمال. ويبقى السؤال: لماذا ترسَّخ التاريخ؟ لأنه حافل بالأذى حينًا، ولأنه يضمن من العلم ما يستحق التّناقل والتطوّر. ووحدها الأنانية تثبت كيف تنكسر القواعد، وكيف يجتمع العلم والأذى معا!