نشرت المجلّة الشهرية المصرية “المجلّة” حوارًا أجرتْه الكاتبة “مَلَك عبد العزيز” مع الكاتب الجزائري “كاتب ياسين”، في الأول مارس 1962، وذلك على هامش مؤتمر “كُتّاب آسيا وإفريقيا”. وتُعيد “الأيام نيوز” نشر هذا الحوار ليتعرّف القارئ على الدّور الذي كان يقوم به المثقّفون والكتّاب الجزائريون في تمثيل ثورة التحرير الوطني في الفعاليات الدولية، وأيضا ليعرف القارىء “نوعية” الأسئلة التي كانوا يتلقونها وكيف كانوا يجيبون عليها. إضافة إلى أمور أخرى، أدلى بها “كاتب ياسين”، ومنها عناوين بعض كتبه، التي كانت تحت الطبع آنذاك، ولا نجدها ضمن كُتبه المنشورة، مثل: “حرب المائة والثلاثين عاما”، و”نجمة فقدتْ الذاكرة” وهي غير رواية “نجمة” التي كانت قد نُشرتْ.. وهو الأمر الذي يضع بعض علامات الاستفهام حول هذا الحوار.
رأيتُ الكاتب الجزائري “كاتب ياسين” في إحدى لجان مؤتمر كُتّاب آسيا وإفريقيا، وهي لجنة “دور الترجمة في تقوية التضامن الإفريقي الآسيوي، وتنمية التبادل الثقافي بين الشعوب الإفريقية الآسيوية” إذن أنتُخِب نائبا لرئيس هذه اللجنة. ولقد لفَت نظري بقدرته الفائقة على إدارة النقاش، وحسْمه لمواضع الخلاف باقتراح الصّيَغ المُحدّدة الواضحة لصياغة القرارات النهائية. كما لفَت نظري بروحه الثورية القوية التي تنعكس في ملامح وجهه التي تجمع بين الحدّة والرّهافة، وفي طريقته الحاسمة في إدارة المناقشات والبعد بها عن التّميّع في التكرار الذي لا ضرورة له، أو في الاستطرادات التافهة. فانتهزتُ استراحة بين بعض الجلسات لأتعرّف عليه وعلى دوره في الكفاح الجزائري، وعلى إنتاجه الأدبي.
– مَلَك: متى بدأتْ صلتك بالحركة الوطنية في الجزائر؟
– ياسين: كان ذلك وعمري خمس عشرة سنة، إذ قامت مظاهرات شعبية في مدينة سطيف اشتركتُ فيها، فقُبِض عليّ وسُجنتُ، ثم فُصلتُ من المدارس فصلا نهائيا. (مظاهرات الثامن ماي 1945)
– مَلَك: ومتى قامتْ هذه المظاهرات؟
– ياسين: في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إذْ قام الجزائريون في كافة مُدن الجزائر بمظاهرات وطنية وشعبية للمطالبة بالاستقلال، بعد أن ساهموا مع فرنسا مساهمةً فعّالة في حربها ضد النازية.
– مَلَك: ومتى بدأتَ كتابة الشعر؟
– ياسين: صدر لي أوّل ديوان وأنا في السادسة عشرة بعنوان “مناجيات”.
– مَلَك: وماذا صنعتَ بعد حرمانك من الدراسة؟
– ياسين: ظللتُ أدعو إلى الكفاح بإلقاء المحاضرات وكتابة الأشعار. ثم ذهبتُ إلى باريس، وعشتُ مع العمّال الجزائريين هناك حياةَ الشّاعر المناضل.
– مَلَك: أَلمْ تعد إلى الجزائر بعد ذلك؟
– بلى.. عدتُ عام 1948، واشتغلتُ مُحرّرا في جريدة “الجزائر الجمهورية” (أَلجي ريبوبليكان التي صدرت في الفترة بين 1938 و1962)، ثم مُراسلاً صُحُفيًّا. وفي تلك الفترة تنقّلتُ بين الكثير من بلدان العالم، ولكن عندما مات والدي تاركًا أسرةً كبيرة العدد، اضطررتُ للعودة إلى الجزائر، فاشتغلت عاملا في بناء الميناء، فلمّا توقّف العمل، اضطررتُ للعودة إلى باريس بحثًا عن الرزق، فعملتُ في تعبيد الطرق وأعمال الميناء، وفي أيّ نوع يصادفني من أنواع العمل المسموح بممارسته للجزائريين. وهناك تعرّفتُ بالكتّاب، وبدأتُ أكتب في الصّحف الحرّة، وأتممتُ الكتبَ التي كنت قد بدأتُها، فنشرتُ مسرحية شعرية بعنوان “الجثّة المُطوّقة”، ثم رواية “نجمة”. وعند قيام ثورة التحرير الجزائرية، خرجتُ من فرنسا، وجعلتُ أتنقّل من بلد إلى بلد، داعياً لقضية الوطن.
– مَلَك: نلاحظ أنك وإن كنت تتكلّم العربية إلاّ أنك تكتب بالفرنسية، وكذلك يفعل الكثيرون من كتّاب الجزائر البارزين، بل أن بعضهم لَيَعجزُ عن الحديث بالعربية، فما سبب هذه الظاهرة؟
– ياسين: لقد أراد الاستعمار أن يهدم القومية، فعَمد إلى محاربة اللغة العربية حربًا لا هوادة فيها، فكان يُغلق المدارس التي تُعلّم العربية، بل يهدمها، ويضطهد مُعلمّي العربية وأدبائها، ويُحرق خزائن الكتب، فأصبح من يريد أن يتلقّى شيئا من العلم مُضطرا إلى أن يلتحق بالمدارس الفرنسية، حتى عجز كثيرٌ من المثقفين عن التعبير بالعربية.
– مَلَك: ولكن ما أثرُ هذا الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في الحرب ضد الاستعمار؟
– ياسين: نحن نستولي على السلاح الفرنسي لنحارب به الفرنسيين ونُخرجهم من ديارنا، وكذلك نستخدم سلاح اللغة الفرنسية، فهي ليست سوى أداة نُوصل بها أفكارنا الثورية إلى المثقفين الجزائريين الذين حُرموا مثلنا من نعمة تذوّق العربية الفصحى، والقدرة على التعبير بها. كما أنها أداة نُجنّد بها الرأي العام العالمي إلى نصرة قضيتنا، بل نجتذب بها بعض الفرنسيين الأحرار إلى صفوفنا، فنردّ بذلك السهم المسموم إلى نحر راميه.
– مَلَك: هل تصل هذه الكتابات التي تُنشر في باريس إلى داخل الجزائر؟
– ياسين: نعم، تصل تحت الأرض، أي تُهرّب بالطريق السرّي كما يُهرّبُ السلاح.
– مَلَك: ما وضع الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية؟ ألاَ يُنظَر إليه بعض الناس باعتباره جزءًا من الأدب الفرنسي؟
– ياسين: لا.. إن هذه النظرة بلا شك خاطئة، فالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية أدبٌ مستقلٌ عن اللغة التي يُعبّر بها، مُتخلّصٌ من روابطها العاطفية والعنصرية. إنه يُعبّر عن وضع بذاته، وروح أصيلة بلا ملامح من حكمة الشعب الجزائري وعزيمته الثورية المُندفعة للقضاء على الأوضاع الاستعمارية الفاسدة، وإحلال أوضاع جديدة سليمة بنّاءة محلّها.
– مَلَك: ولكن ألاَ يُوجدُ أدباءٌ جزائريون يكتبون باللغة العربية الفُصحى؟
– ياسين: نعم، هناك بعض الكتّاب مثل الأستاذ “مصطفى الأشرف” عضو وفدنا في هذا المؤتمر، ولكن صعوبة نشر الكتب العربية في الجزائر تحُول بين الكثيرين وبين النشر.
– مَلَك: أَلمْ تفكروا في نشر مثل هذه الكتب في بلاد عربية أخرى؟
– ياسين: في الواقع أن المعركة العملية العنيفة التي نخوضها قد تصرفنا عن مثل هذا الأمر، ولكن الكتابات العربية الكفاحية يُكتفَى بنشرها على هيئة منشورات تُتداول سرًّا بين القوات المُحاربة وبين صفوف الشعب.
– مَلَك: إذا كانت جماهير الشعب قد حُرمت تعلّم اللغة العربية الفُصحى، فهل تستطيع أن تفهم هذه الكتابات العربية، وكيف يُمكن تجنيدها للمعركة؟
– ياسين: إن الشعب يعرف طريقه، فعندما حُرم القدرةَ على التعبير بالفصحى، اتّجه إلى التعبير باللغة الدارجة، فنَبغ الشعراء الشعبيون والزّجّالون والقصّاصون الذين قاموا بدور خطير في تجنيد النفوس للثورة ضد الاستعمار. ولقد كان الأمير “عبد القادر الجزائري” الذي اختارته جماهير الفلاحين المجاهدين أميرًا على الحرب ضد العدوان الفرنسي في القرن الماضي، كان من أكبر شعراء الفصحى في عصره، مع إحاطته الواسعة مع الثقافة التقليدية والتاريخ العربي. وكان معروفا باعتزازه بالفصحى، إلاَ أنه كمجاهد وقائد ثوري لمعركة تحريرية كبرى، كان يعرف قيمة ذلك الإنتاج الشعبي باللغة الدارجة، فلذلك كان يُشجّعه ويؤيّده كسلاح خطير من أسلحة المعركة، يبُثّ به الوعي والحميّة في قلوب الجماهير. ولقد كانت هذه الظاهرة الشعرية الشعبية تزداد قوة أثناء الثورات (الشعبية) المتتالية.
– مَلَك: هل لك مؤلّفات أخرى غير التي ذكرتها؟
– ياسين: نعم.. هناك رواية “حلقة الانتقام”. وهناك كُتبٌ أخرى تحت الطبع وهي: “حرب المائة والثلاثين عاما” عن كفاح الجزائر في فترة الاحتلال التي استمرت مائة وثلاثين عاما. و”نجمة فقدتْ الذاكرة”، و”المرأة المتوحشة”، و”الميدان المُرصّع بالنجوم”.
– مَلَك: أين تعيش الآن؟
– ياسين: كما ترين، أنا الآن في القاهرة، وبعد أيام سأكون في الصين.. إنني أتجوّل في ربوع العالم أدعو لقضية وطني.