تحلّ، غدا الإثنين، ذكرى مظاهرات 11 ديسمبر 1960، التي شكلت منعطفا حاسما في مسار ثورة التحرير الكبرى، بعدما عبّر الشعب الجزائري من خلالها عن رفضه القاطع لكل خيار آخر غير الاستقلال الجزائر التام والانعتاق من نير الاستعمار. كما ساهمت في تدويل القضية الجزائرية وتسليط الضوء عليها إعلاميا. هذا، دون نسيان أن تلك المظاهرات التي استمرت ثلاثة أسابيع، تقريبا، أجبرت الجنرال ديغول والدولة الفرنسية الاستعمارية على التخلي عن مشروع الاستعمار الجديد، أو ما اصطلح على تسميته “الطريق الثالث”.
ففي 11 ديسمبر 1960، خرج عشرات الآلاف من الجزائريين للتظاهر في الجزائر العاصمة ومدن أخرى في البلاد، رافعين العلم الوطني تعبيرا عن معارضتهم المطلقة للسياسة الاستعمارية الرامية إلى جعل الجزائر جزءا لا يتجزأ من فرنسا.
وسعى الشعب الجزائري، من خلال هذه المظاهرات التي انطلقت في العاصمة من الأحياء الشعبية كحي بلوزداد (بلكور سابقا) والمدنية وباب الواد، إلى التعبير عن انخراطه في الثورة وتمسكه الثابت بجبهة وجيش التحرير الوطنيين.
وقد خرج الجزائريون في هذا اليوم للتظاهر بشكل سلمي ، والتأكيد مجددا على مبدأ الحق في تقرير المصير، تزامنا مع زيارة الجنرال شارل ديغول إلى الجزائر، في محاولة بائسة منه لإنقاذ أطروحة “الجزائر الفرنسية”، من خلال مخطط أسماه “الحل الثالث” في شكل استقلال وهمي تبقى بموجبه الجزائر تحت الهيمنة الفرنسية، وكانت هذه المظاهرات من وجهة نظر تنظيمية دليلا واضحا على قوة الثورة ومؤشرا على نهاية الاستعمار الحتمية.
أما على الصعيدين الدبلوماسي والإعلامي، فقد عززت هذه المظاهرات، بفضل صداها الدولي، مواقف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، بصفتها الممثل الشرعي للشعب الجزائري في المفاوضات من أجل نيل الاستقلال.
ويعتبر الملاحظون هذه المظاهرات بمثابة “استفتاء” لصالح الاستقلال بالنظر لأثارها الفورية على الصعيد الدولي، وما تسببت فيه من عزل فرنسا في الساحة الدولية. وقد تمت ــ خلال انعقاد الدورة الـ15 للجمعية العامة للأمم المتحدة ـ المصادقة بتاريخ 20 ديسمبر 1960 على لائحة تعترف للشعب الجزائري بحقه في تقرير المصير والاستقلال وكذا ضرورة إيجاد حل سلمي على أساس الوحدة الترابية.
مناسبة لاستلهام القوة والعزيمة
وبالمناسبة، أكدت مجلة الجيش في عددها الأخير أن مظاهرات 11 ديسمبر 1960 تشكل مناسبة لاستلهام القوة والعزيمة من أجل مواصلة بناء الجزائر الجديدة التي تسير بخطى ثابتة نحو وجهتها السليمة، بعد أربع سنوات من انتخاب رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون.
وأوضحت المجلة، في افتتاحيتها لشهر ديسمبر الجاري تحت عنوان “الجزائر الجديدة.. توجه وطني”، أن هذا الحدث التاريخي يعد “مناسبة نستلهم خلالها من أسلافنا الميامين أروع العبر في قوة الإرادة ونكران الذات والتصميم على بلوغ الأهداف والمرامي مهما كانت التحديات”.
كما يشكل هذا الحدث – تضيف الافتتاحية – “سانحة لتجديد العهد لهم بالثبات على نهجهم وصون وديعتهم، وذلك بأن تعود ذاكرتنا دوما، لاسيما الشباب منا، إلى ماضي بلادنا المجيد لنستمد منه القوة والعزيمة لمواصلة بناء الجزائر الجديدة التي تسير، بعد أربع سنوات من انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية، بخطى ثابتة نحو وجهتها السليمة على مختلف المستويات وفي شتى المجالات في كنف الأمن والاستقرار والسكينة”.
سقوط مشروع ديغول
وكان عالم الاجتماع الفرنسي “ماتيو ريغوست”، قد أكد عام 2020 ـ أن المظاهرات الشعبية التي اندلعت يوم 11 ديسمبر 1960 في مدن جزائرية عديدة ، ألزمت كلا من فرنسا ومنظمة الأمم المتحدة بالاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير الذي مكنه من افتكاك استقلاله عام 1962.
أوضح كاتب المقالات والباحث في العلوم الاجتماعية ـ في تصريح له ـ يقول: “الانتفاضة العامة للطبقات الشعبية الجزائرية طيلة ثلاثة أسابيع تقريبا من شهر ديسمبر 1960، عبر جميع مدن البلاد، أجبرت الجنرال ديغول والدولة الفرنسية على التخلي عن مشروع الاستعمار الجديد (الطريق الثالث) المسمى (الجزائر جزائرية)”.
كما أظهرت هذه الانتفاضة التي “أفشلت مشروع الانقلاب العسكري لليمين المتطرف الاستعماري” أخيرا أمام منظمة الأمم المتحدة والملاحظين الدوليين التمسك القوي للشعب الجزائري بالاستقلال وتقرير المصير.
في هذا الصدد، أوضح الكاتب أنه توصل – بعد تحقيق حول المظاهرات الشعبية 11 ديسمبر 1960،استغرق 7 سنوات في إعداده تحت عنوان “بطل واحد: الشعب” – أنه بعد “معركة الجزائر” عام 1957، كانت فرنسا تدعي أنها “قضت على جميع أشكال المعارضة في الجزائر، ليقوم بعد ذلك الجزائريون بتنظيم مظاهرات شعبية واسعة يوم الأحد 11 ديسمبر 1960 من أجل افتكاك استقلالهم”، مشيرا إلى أن “هذه المرحلة التاريخية الرئيسية تبقى غير معروفة”.
وقد ذّكر المختص بعلم الاجتماع أن 11 ديسمبر 1960، أي بعد مرور ثلاث سنوات على معركة الجزائر، “فاقت مظاهرات عارمة للشعب الجزائري القمع العسكري الفرنسي، وغيّرت مجرى الثورة الجزائرية”، مشيرا إلى أن “الشعب الجزائري خرج بالاعتماد على كبار السن والنساء والأطفال في الصفوف الأولى، قدموا بالآلاف من الأحياء القصديرية والأحياء المعزولة إلى وسط المدن الكبرى المُستعمرة حاملا الأعلام واللافتات”، وقد لقيت هذه المظاهرات ” قمعا وحشيا كالعادة” لم ينجح في تفرقة المظاهرات.
من جهة أخرى، ذكر ماتيو ريغوست أن هذه المظاهرات تزامنت مع الزيارة التي قام بها الجنرال ديغول إلى الجزائر من 9 إلى 12 ديسمبر ، 1960 حين كان يعتزم “الترويج لمشروعه الاستعماري الجديد (الطريق الثالث)”.
واسترسل يقول إن “هذا المشروع الذي صيغ على شاكلة نماذج فُرضت في المستعمرات الفرنسية القديمة، كان يسعى لوضع طبقة مديرة موالية للدولة الفرنسية في السلطة، لتُكلف بتطبيق شكل جديد من الإخضاع الاقتصادي”، حسب قوله.
استقلال انتزعه الشّعب
وأضاف عالم الاجتماع أن “الفصائل المهيمنة في الجيش الفرنسي تؤكد أن الدولة قد أُرهقت لأنها لم تسمح للجيش بالمشاركة في مواجهة التمرد”، وتابع قوله “لقد تم نشر القوات في كل مكان تقريبا، وبموافقة السلطات السياسية، حيث أطلقوا النار وقتلوا واعتقلوا وعذبوا”.
كما أشار إلى أن “الدولة الديغولية لم تمنع أساليب الحرب البوليسية، ومع هذا استطاع الشعب الجزائري أن يتغلب عليها”، مذكرا أن السلطات الفرنسية اعترفت إذاك بـ “120 قتيلا بينهم 112 شهيدا جزائريا ومئات الجرحى”. وتأسف، في السياق ذاته، لاعتقال واستجواب عشرات الجزائريين من بينهم مراهقون، اختفى البعض منهم في الأيام والأسابيع التي تلت ذلك.
وبعد الانتفاضات، قال عالم الاجتماع، “تم تخفيف الضغط في الجبال، إذ أمر شارل ديغول بإنهاء عمليات الإعدام وتخلى عن مشروع (الطريق الثالث)، واضطر إلى التفاوض مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية”. وفي 19 ديسمبر من السنة ذاتها، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على اللائحة 1573 (15) التي تعترف للشعب الجزائري بحقه “في تقرير المصير والاستقلال”.
كما أشار ريغوست إلى أن مظاهرات ديسمبر 1960 “هي جزء من التاريخ الطويل للمقاومة الشعبية للاستعمار الفرنسي، وهي تتويج لـ 130 سنة من المقاومة الفردية والجماعية، ولكنها أيضًا ثمرة اكتساب معارف عملية ونظرية بفعل الاحتكاك مع الحركة الثورية طوال حرب التحرير”.