في زمن الملفات الحارقة.. الجزائر تضيء مجلس الأمن

قدرُ الجزائر أن تكون على رأس القارة الإفريقية، ليس من حيث المساحة ومحورية الموقع فحسب، بل في مقدمة البلدان المعروفة بالكفاح والتضحية ـ على الأرض وعبر المنابر الدبلوماسية ـ دفاعا عن كرامة الشعوب وحقها في الحرية والاستقلال، وهذا المبدأ استمر منذ زمن الأمير «عبد القادر»، إلى عهدة الرئيس «عبد المجيد تبون»، وهو مسار مشرّف تكلّل بجملة من الإنجازات الدبلوماسية آخرها ـ أمس الثلاثاء بنيويورك ـ حين تم انتخاب الجزائر من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، خلال الفترة 2024-2025.

حصول الجزائر على مقعد ـ غير دائم بمجلس الأمن ـ للمرة الرابعة ـ بعد عهدات (1968-1969) و(1988-1989) و(2004-2005)، يأتي ضمن مسيرة طويلة أثبتت فيها الجزائر ـ أمام كل العالم ـ تمسّكها الراسخ بالشرعية الدولية، وبالنصوص الأممية الرامية إلى نشر السلام ودعم الاستقرار، وفض النزاعات عن طريق موائد التفاوض ولغة الحوار.

وعلى مرّ التاريخ، لم يحدث أن قامت الجزائر بغزو أرض أو احتلال دولة أو إذلال شعب أو التعدّي على الغير، رغم ما أتيح لها من قوّة وبأس شديد في فترات متباينة من تاريخها المتقلب، كما أنها لم تتآمر ضد جيرانها ولم تتراجع عن عهودها ولم تتأخر عن التزاماتها، تحت كل الظروف، وهو ما منحها قدرا كبيرا من الهيبة والهمّة والمصداقية من قبل المجتمع الدولي، فنالت بذلك فخر الشقيق وتقدير الصديق واحترام الخصوم والأعداء والمناوئين.

قبل أعوام كانت بعثة الدبلوماسية الجزائرية، في «جينيف» السويسرية، قد أقدمت على فتح خزائن الإرث السياسي والإنساني وذلك من خلال تنظيم ملتقى أممي حول مناقب مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر الجزائري للتعريف ـ مرة أخرى ـ بالدور الريادي الذي لعبه الرجل في التأسيس لحوار دائم وشامل وعميق، خاصة فيما تعلق بالحوار بين الإسلام والمسيحية كديانتين مهيمنتين على المشهد الحضاري الإنساني، منذ ما يقرب من ألف وخمسمائة عام.

الأمير عبد القادر الجزائري؛ (رائد القانون الإنساني ومنشد الحوار بين الديانات)، بهذا العنوان الفخم الرفيع، افتتح السفير الجزائري حينها، أشغال الملتقى بكلمة جاء في بعض سياقاتها: “لقد قام الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، بوضع الأسس المتينة للقانون الإنساني الدولي، وذلك منذ عام 1837، وهذا حتى قبل ظهور أفكار «هنري دينون» مؤسس حركة الصليب الأحمر، بل وحتى قبل إبرام معاهدة جنيف التي لم تكتمل إلا في العام 1864..”.

روح الاستشراف

جاء ذلك في حضرة شخصيات هامة من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ومن البعثات الدبلوماسية والجمعيات الإنسانية المختلفة، وقد ألقى السفير رسالة للرئيس الراحل «عبد العزيز بوتفليقة» تضمنت الآتي: “..إنه لشرف كبير لنا معشر الجزائريين، أن يتم إشراك واحد من أبناء الجزائر البررة، رفقة مواطن مرموق من مدينة كالفن، «هنري دينون»، مؤسس منظمة الصليب الأحمر، والذي هو نفسه يحمل شيئا من الجزائر في قلبه، على اعتبار أنه مر بالجزائر وعاش فترة من حياته فوق أديمها، أقول؛ شرف لنا، أن يتم إشراكه في صياغة القانون الإنساني والميثاق الدولي لحقوق الإنسان..”.

فعلا، فالاهتمام الأممي البالغ بشخصية الأمير لم يصدر من فراغ، وإنما جاء بمثابة تحصيل منطقي لما يحفظه التاريخ عن شخصية الرجل، ومن مختلف الزوايا، فهو الأمير زعيم الدولة، والقائد فارس الصولة، والحكيم سيد القولة.. كان أمة قائمة بحالها.

ولأمة يزخر تاريخها بمثل هذا الرصيد السياسي فكرا وحكمة وأخلاقا، لجديرة بقيادة العالم كما كان لها الشأن بالنسبة للدورة التاسعة والعشرين للأمم المتحدة للعام 1974م، وكذا الدورة الاستثنائية السابعة للعام 1975م، الدورتان اللتان قادتهما الجزائر بجدارة وحكمة واقتدار، كُلِّلَتا بإدخال المناضل المقاوم حينذاك؛ «ياسر عرفات»، مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وإلقائه كلمة تاريخية أمام دول العالم، وهو الذي كان قبل ذلك مُطَاردا من قبل القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، كإرهابي منبوذ.

بعد موقف الجزائر هذا، وبعد أعوام من ذلك، حاز “عرفات” جائزة نوبل للسلام، من أيدي الذين بالأمس كانوا يطاردونه، وصار يعرف البيت الأبيض الأمريكي أكثر من معرفته بيته، ليجمع العالم حينذاك، شرقه وغربه، على أن الجزائر كانت قد سبقت الجميع بمواقفها الشريفة حكمة ورزانة واتّزانا.

هذه المواقف ذاتها التي جعلت العالم الثالث كله، يصطف خلف الجزائر في قضية نظام الميز العنصري بجنوب إفريقيا، حين تمكنت، رغم المناورات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، من تمرير الملف أمام الجمعية العامة، وعرضه على التصويت العلني من أجل عزل «بريتوريا» وطرد ممثل جنوب إفريقيا من القاعة الأممية، في لحظة تاريخية حاسمة بلغ فيها الفخر والاعتزاز بمواقف الجزائر وشجاعتها مستوى لا يتكرر إلا نادرا.

وقد اختزل المشهد الممثل الدائم لجمهورية السنغال «ميدون فال» عندما احتضن وزير الخارجية ـ حينذاك ـ «عبد العزيز بوتفليقة» بصفته رئيسا للدورة الأممية، تكريما لنضال الجزائر من أجل الأفارقة السود من أجل الحرية والمساواة.

قبلة الأحرار ومكة الثوار، لقب لم تكتسبه الجزائر منحة ولا منة ولا هدية من أحد، وإنما انتزعته عن جدارة واستحقاق، وهي التي دفعت من خيرة أبنائها شهداء لدبلوماسية الحوار والتفاوض والوساطة؛ من الشهيد محمد الصديق بن يحي الذي غُدِر به في شمال العراق، إلى الدبلوماسي “الطاهر تواتي” الذي اغتيل شمال مالي، طبعا من دون الغوص أكثر في تاريخ شهداء دبلوماسية النضال الوطني والكفاح الثوري.

وعلى ذكر “محمد الصديق بن يحي” لا يمكن المرور من دون الإشارة إلى دوره البطولي، في نزع فتيل حرب كانت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، على خلفية احتجاز الثوار الإيرانيين للدبلوماسيين الأمريكان في طهران، كرهائن للضغط على البيت الأبيض من أجل رفع التجميد عن الأموال الإيرانية المودعة في البنوك الأمريكية في زمن نظام الشاه “رضا فهلوي”، حيث تمكن بالنهاية من جلب الدبلوماسيين الأمريكان على متن الخطوط الجوية الجزائرية إلى العاصمة الجزائر، وتحويل الأموال الإيرانية إلى حساب البنك الوطني الجزائري، وفي الجزائر حدث التبادل من دون عنف ولا صِدام.

كعبة الثوار

وقف الزعيم الإفريقي “كابرال أميلكار” مبتهجا، بعدما تم استقباله في الجزائر كمناضل بطل من أجل تحرير جمهوريتا الرأس الأخضر وغينيا بيساو، قائلا قولته الشهيرة؛ إذا كان المسيحيون يحجون إلى الفاتيكان، والمسلمون إلى مكة، فإن الثوار يحجون إلى الجزائر.

خلال الزيارة الأخيرة للرئيس “تبون” إلى البرتغال، لم ينس البرتغاليون المناضل والمجاهد “جلول ملايكة” أحد أصدقاء “ثورة القرنفل” التي حررت البلد من الدكتاتورية الـ”سالازار”ية، وهو أحد رجال الظل الذي هندس جولات الحوار والتوقيع بين دولة البرتغال “المستقلة” حديثا من عبء الدكتاتورية، وحركات تحرير دول الإرث الاستعماري: الموزمبيق، زيمبابوي، غينيا بيساو، جزر الرأس الأخضر وساوتومي برانسيب، والتي كانت تلتقي دوريا بالمناضل البرتغالي الكبير “مانويل أليغري” الذي كانت الجزائر قد خصصت له ساعة يوميا، لمخاطبة الشعب البرتغالي عبر أثير الإذاعة الجزائرية.

رحل الرئيس “هواري بومدين”، فشعرت – ولو لبرهة – الشعوب المستضعفة باليتم والضياع برحيل السند والدعم والأمل، لكن الجزائر لم تتخلف عن لعب دورها الريادي في نصرة القضايا العادلة في العالم، بكل أمانة وعفوية، وبكل وفاء لروح الرئيس “بومدين”، ولقيم نوفمبر، ولتضحيات ملايين الشرفاء من شهداء الثورة العظمى، الذين استشهدواا على درب حرية البلاد وانعتاق العباد.

عادت الدبلوماسية الجزائرية بعدها، من بوابة الحرب العراقية الإيرانية المدمرة، ثم من “نافذة” الحرب الأهلية اللبنانية والوساطة التي أطفأت جحيم الدماء والدمار، ثم من “شرفة” القضية الفلسطينية مرة أخرى، وإعلان قيام الدولة المستقلة من العاصمة الجزائر، بعدما كانت الأرض قد ضاقت بالزعماء الفلسطينيين.

وتواصل احتضان قضية الصحراء الغربية، وكذلك الوساطة بين إثيوبيا وإريتريا عبر اتفاق الجزائر، إلى مالي وإنقاذها من جحيم التشرذم والحرب الأهلية، إلى تطهير البيت الإفريقي من الوافدين غير المرغوب فيهم، إلى ملف ليبيا فسوريا واليمن، إلى الحرب الأوكرانية الروسية والوساطة الجزائرية المرغوبة والمنتظرة.

في مقابل كل ذلك، لا تزال الجزائر تظهر الكثير من الحِلم ورباطة الجأش، في مواجهة التحرشات الإعلامية الإقليمية والدولية التي تستهدف أمنها واستقرارها، والتي كانت قد بلغت حد اغتيال ثلاثة من رعاياها المدنيين العزّل، بالجنوب فوق أراضٍ دولية محايدة، ناهيك عن الحملات العدائية والعدوانية، التي تمس بسمعتها ومصداقيتها، وتختبر صبرها وتحملها ورحابة صدرها.

علاوة على حرب المخدرات المستعرة، والتي تسعى الشبكات الإجرامية الموجهة من خلالها إلى إغراق البلد بالسموم، لتدمير شبابه وزعزعة مجتمعه، فيسهل اختراقه وتشتيته، ثم تسييره عن بعد وإدارة مصيره، لكن الظاهر أن وعي الشارع ونباهة الجماهير ويقظة المؤسسات وفطنة الأجهزة المعنية، كلها تضافرت لتحبط هذه المخططات الدنيئة، وتخذل بذلك أحلام المتربصين والمترصدين والمتصيدين في مستنقعات الرذيلة والعفن.

لقد عادت الجزائر شامخة إلى مجلس الأمن إذا، مُحمَّلة بهموم الشعوب المستضعفة وآلامها، حاملة لآمال الدول الضعيفة وطموحاتها، كما ظلت دوما، من غير كلل ولا ضجر.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
هذه حصيلة نشاط الرقابة وقمع الغش والمضاربة خلال 24 يوما من رمضان وزارة التربية تنشر جدول التوقيت الخاص بامتحاني "البيام" و"الباك" خيرات الصحراء الغربية.. موارد منهوبة تموّل آلة الإجرام المغربية! مواد مسرطنة في الحلويات الحديثة.. حماية المستهلك تحذّر محكمة الدار البيضاء تفصل غدًا في قضية بوعلام صنصال بعد محادثات الرياض.. واشنطن تعلن عن اتفاقات جديدة بين موسكو وكييف مشاريع ترامب حول العالم.. أرباح في آسيا وخسائر في أوروبا خطة طريق لتعزيز رقمنة قطاع التجارة الداخلية الجزائر تعيد رسم خارطتها الغذائية.. القمح الفرنسي خارج الحسابات بن جامع: "الهجمات الصهيونية انتهاك صارخ لسيادة سوريا ويجب وقفها فورًا" ارتفاع أسعار النفط عالميا وسط مخاوف من تقلص الإمدادات الجزائر والعراق.. شراكة طاقوية استراتيجية في ظل التحولات العالمية برنامج عمل مشترك بين وزارة الشباب ومكتب برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز بالجزائر مولوجي تُشدد على ضرورة "تحيين" مناهج التكفل بالأطفال المعاقين ذهنيا الجمارك تحجز أكثر من ربع مليون "قرص مهلوس" بالوادي  أوابك.. الغاز الطبيعي المسال سيلعب "دورا رئيسيا" في الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون برنامج الغذاء العالمي.. 70 ألف لاجئ كونغولي ببوروندي مهددون بالمجاعة تنسيق جزائري-سعودي خِدمةً للحجاج والمعتمرين الجزائريين الرئيس تبون يستقبل الرئيس الأسبق لجمهورية تنزانيا الاتحادية نحو مراجعة سقف تمويل إنشاء مؤسسات مصغرة