يكاد الحديث عن السعادة أن يكون “كفرًا” أو خطيئة لا يغفرها ضحايا شيطان العصر (التحالف الصهيوني – الغربي) على خارطة الأوجاع العربية، بل يكاد الحديث عنها أن يكون “خيانة عظمى” لدماء الأبرياء في غزّة ولبنان وكل مكان في هذا العالم الذي يوشك أن يُحوّل “الإنسانيّة”، بكل معانيها وقيمها، إلى مُجرّد تراثٍ روحي.. السعادة كما يفهمها البسطاء من عامة النّاس الذين يرون فيها الفرح والبهجة والسّرور، وأمّا السعادة كما يفهمها الفلاسفة والمفكّرون والأدباء فهي قضيةٌ أخرى ستتناولها هذه الأوراق.
السعادةُ كلمةٌ يتداولها الناس بـ “شراهة” في حياتهم اليومية، غير أنّ معناها يختلف من إنسان إلى آخر، فهناك من يعرّفها بمظاهرها الآنية الظرفية مثل: الفرح، البهجة، السرور.. وهناك من يعرّفها بأضدادها فهي ضدّ: الشقاوة، الضّنك، الألم، الحزن.. وهناك من يرى فيها حالة نفسية مرتبطة بالرضى والطمأنينة والمصالحة مع الذّات والحياة! أما الفلاسفة والمفكّرون والأدباء فقد اختلفوا في تعريف السعادة باختلاف انتماءاتهم إلى البيئة: المجتمعية والدينية والمرجعية الثقافية والفكرية.. فهي إشكاليةٌ في الفلسفة وعلم الأخلاق، وهي قضيّةٌ في فنون الشِّعر والنثر، وهي مادةٌ للدراسة في علم النفس وعلومٍ أخرى، وهي فكرةٌ جميلة يتقاسمها حالمان بغدٍ سعيد!
ومن أجمل ما قرأنا عن السعادة في فكر الأدباء، ما قاله الأديب “توفيق الحكيم”: “لن يسعد الانسان لو تحقَّقت کل أهدافه ومشتهياته، إنّه عندئذٍ يشعر أنّه في ركود.. إنّه يملُّ الحياةَ إن لم يجد هدفًا يجدُّ ويشقى في تحقيقه وكله أملٌ أن يحقّقه بالمثابرة والتعب. إنّ الكفاح الذي يُغذّيه الأمل هو الطريق الوحيد الذي يجعل الإنسان يتخيّل أنّه سيسعد، وعندئذ يحسّ أنّه حيٌّ ويشعر بنبضات الحياة التي يحملها الأمل”.
توجّهَت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من كتّابنا وأدبائنا بهذه التساؤلات: ما هي السعادة في اعتقادكم؟ وما هي معاييرها أو مظاهرها أو حالاتها كما عشتموها أو عايشتموها؟ وما هي السعادة في الأدب العربي، وعند الأديب الذي يُقال بأنّ رسالته في الحياة هي إسعاد مجتمعه وأمّته؟ ثم إنّ دواعي الألم والتوجّع والحسرة والخوف من المستقبل.. تُحاصرنا من كل الجهات، حتى لتبدو السعادة بأنها آخر أمرٍ يُمكن أن نعرفه ونتحدّث فيه، فجرحنا النازف منذ عقود في فلسطين، والمجازر وحرب الإبادة المُعلنة على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، والآن في لبنان.. تجعلنا نفرّق بين نوعين من السعادة: سعادةٌ فرديةٌ “طارئة”، وسعادة جمعيّة أو سعادة أمّة مُثخنة بالجراح! فما دور الأدب والأديب في التبشير بالسعادة في مثل هذه الظروف؟
وأنت عزيزي القارئ! هل سألت نفسك يومًا: ما هي السعادة؟ وهل حاولت أن تفهمها أو تبحث عنها؟ ندعوك إلى الاستغراق في هذه الإضاءات القيّمة التي قدّمها نخبة كُتّابنا من زاويا أدبية ودينية وتاريخية وعلميّة.. لعلّك تصل معنا إلى القناعة بأنّ سرّ سعادة الإنسان في إسعاد غيره، فلا أحد يحيا من أجل نفسه إلاّ إذا كانت الماديّة الغربيّة قد افترسته وحوّلته إلى مجرّد شيء تمامًا مثل الأشياء التي يستهلكها ثم تنتهي إلى مكبِّ النفايات!

أنا السعادة ولا تعريف آخر عندي!
إسراء نزال (كاتبة ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين)
أنا السعادة ولا تعريف لديّ للسعادة! والسؤال الأكثر إلحاحًا، كيف أدركنا وجود شيء يُسمّى: سعادة؟ فمن المُحتمل أن الفلاسفة أسقطوا المفاهيم المتداولة عن السعادة على مُسمّى آخر، لكن توارث العلم والمعنى قد أدّى إلى خطأ في فهم المقصود، فمثلا تبنّى “أرسطو” أن “اليودايمونيا” باليونانية هي غاية الفكر والأفعال البشرية، ويُترجم مصطلح “اليودايمونيا” عادة إلى “السعادة”، لكن “الازدهار البشري” قد تكون ترجمة أكثر دقة، ومع ذلك فإنّ الواقع العلمي والإنساني والأدبي والحياتي وأهمّها الفلسفي يتطلّب تعريفًا للسعادة كأيّ مصطلح لا بدّ من إدراجه في قاموس الحياة المعرفي!
المفاجئ هو وجود ستّمائة تعريف للسعادة، وكل مُتخصّص يتناول التعريف من زاويته، فالطبيب النفسي يتناول السعادة من خلال علم النفس الإيجابي، وقد تجد الكيميائي يتناول السعادة من خلال هرمون السيروتونين.. ولكل إنسان تعريفه الذي يختلف باختلاف تجاربه وخبراته ووعيه، فليس الكلُّ واحدٌ وليس الكل قادر حتى على فهم مشاعره. وأمام مشهد القيم الإمبريالية والرأسمالية التي حوّلت الإنسان من كائن مُفكّر إلى مستهلك، بل ومدمن على الاستهلاك، وإصابة المعاني الإنسانية والفلسفية بزلزال سقط فيه الإنسان ولم ينهض من ركام المعاني المُشوّهة، أصبح لزامًا على الفلسفة أن تعيد تعريف السعادة. لكن، منذ اليونانيين والفلسفة تبحث وتحاور السعادة لاستنطاق المعنى، ما الداعي إلى ذلك الآن؟ لم لا نستحضر مفهوما من المفاهيم الستّمائة ونختار واحدا منها يناسب مع عصرنا؟
إن أبحرتَ في فلسفة فلاسفة اليونان حول السعادة وصولًا إلى مفاهيم الفلسفة الحديثة ومن ثم المعاصرة، تجد التّباين الهائل في التعريفات التي يصل عددها إلى ستّمائة تعريف، وإن كان أغلب الفلاسفة القدماء – خاصة اليونانيين منهم – يرون أن السعادة تتجاوز الجسد إلى الروح والعقل، فإنّ هناك تباينا واختلافا يعود إلى اختلاف جوهر وماهية كل فيلسوف، ولو قارنّا فلسفة اليونان بالفلسفة الحديثة والمعاصرة منها، لوجدنا أن عناصر الحقبة الزمنية مثل: الوعي الجمعي للمحيط البشري للفيلسوف، الواقع السياسي والإنساني والاقتصادي والمعرفي، المعتقدات الدينية السائدة، قيمة الإنسان، الثورات وإمكانية حدوثها، جوهر وماهية الفيلسوف وغاية الفيلسوف من الفلسفة.. كلها عوامل تؤثر تأثيرًا عميقا في التعريف. فمثلا الفلسفة اليونانية يمكن القول أنّها ربطت السعادة بالفضيلة (سقراط)، أو بالقيم الأخلاقية (أفلاطون)، والرضا والممارسات الأخلاقية والاعتدال (أرسطو).
وأما الفلسفة الحديثة، فتتراوح المعاني ما بين الوعي (سبينوزا)، القدرة على تحقيق الرغبات والأهداف (جون لوك)، القدرة على الحصول على الرغبات والاحتياجات (ديفيد هيوم)، أو الرضا الدائم بعد تلبية متطلبات الحياة الجيدة (إيمانويل كانت). لكن في الفلسفة المعاصرة الأمر مختلف قليلا عن الفلسفة الحديثة، فـ “نيتشه” يرى السعادة أنها أمر داخلي شخصي مرتبط بتحقيق الأهداف والغايات والإنجازات، أما “سارتر” فقد صوَّر السعادة أنها النتيجة التلقائية عند تحقيق الغايات والانسجام مع الذات والعالم، وهذا يختلف عن “راسل” الذي يرى السعادة بالرضا عن الذات والحياة والابتعاد عن الألم، وهذا يتفق قليلا مع “جيرمي بنثام” الذي يصف السعادة بأنها تجنب الألم وزيادة المتعة.
هذا التّباين والصعود والتراكم في المفاهيم، من فضيلة وقيم أخلاقية إلى وعي وحاجات ورغبات ومن ثم الحديث عن الألم، يصوّر لنا كيف أنّ للحقبة الزمنية تأثيرا واضحا على المعاني، فالفلسفة اليونانية تطرّقت للوجود مع الطبيعة ومن ثم الإنسان، في حين أن الفلسفة الحديثة والمعاصرة جعلت من الإنسان محور بحثها، والسبب يعود إلى أن الفترة الزمنية خلال الفلسفة اليونانية كان يملؤها الحرية السياسية والاقتصادية والثقافية والانفتاح الجغرافي لليونان.. جعلها نبعا يرسل علومه إلى كل من حوله..
فمن مميزات حقبة فلاسفة اليونان خلال القرنين الثامن والسابع والسادس قبل الميلاد أن ازدياد الكثافة السكانية قد أدّى إلى زيادة في هجرة العديد من اليونانيين لتشكيل مستعمرات في “ماجنا جراسيا” (جنوب إيطاليا وصقلية)، وآسيا الصغرى، وفي مناطق أبعد من “ماجنا جراسيا”. توقفت الهجرة فعليًا في القرن السادس قبل الميلاد، وفي ذلك الوقت أصبح العالم اليوناني، ثقافيًّا ولغويًّا، أكبر بكثير من مساحة اليونان الحالية. لم تكن المستعمرات اليونانية خاضعة للسيطرة السياسية من قبل المدن المؤسسة لها، على الرغم من أنها احتفظت في كثير من الأحيان بروابط دينية وتجارية معها. وخلال القرن السادس قبل الميلاد، ظهرت العديد من المدن كمهيمنة في الشؤون اليونانية: أثينا، إسبارتا، كورنثوس، طيبة. كل واحد من هذه المدن قد وضعت المناطق الريفية المحيطة والبلدات الصغيرة تحت سيطرتها، وأصبحت أثينا وكورنثوس قوى بحرية وتجارية رئيسية أيضًا.
وهذه أسباب مهمّة وجوهرية في سبيل الحرية الفكرية الفلسفية، وهذا لا يعني البتّة أنّ تاريخ اليونان القديم كان خالٍ من الحروب! لكن انتقالا إلى الفلسفة الحديثة والتي تبدأ من عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر وتنتهي بوفاة “هيجل” سنة 1831، فإنّ العوامل تختلف كلّيا تماما عن عوامل فلسفة اليونان، فهناك عدة أسباب منها أسباب تاريخية: استرداد الأندلس، حركة الكشوف الجغرافية. أسباب علمية: ازدهار العلوم التجريبية، الثورة العلمية خاصة المتعلقة بعلم الفلك، تطور فنون الصناعة. أسباب ثورية وحربية: عصر النهضة الأوروبية وقد كانت نهضة شاملة، فكرية وأدبية علمية، ظهرت بدايات عصر النهضة عندما غزا الأتراك القسطنطينية واستردّ الإسبان آخر جزء من الأندلس، وانتقل بذلك التراث اليوناني والروماني إلى غرب أوروبا، فظهرت حركة واسعة لإحياء الآداب اليونانية واللاتينية. أسباب دينية: في حركة الإصلاح الديني بقيادة “مارتن لوثر” و”جون كالفن”.
وقد بدأت النهضة الأوروبية في إيطاليا لأنها كانت هي الإقليم الأقرب اتصالاً بالشرق العربي، ففيها تم انتقال التّراثَين اليوناني والعربي الإسلامي إلى أوروبا، كما أن إيطاليا آنذاك قد شهدت جمهوريات مزدهرة من الناحية التجارية بسبب مراكز التجارة البحرية المزدهرة مع شرق المتوسط مثل: البندقية، فلورنسا.
أما الفلسفة المعاصرة والتي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن لها عواملها: استقلال عن العلوم عن الفلسفة على عكس ما كانت عليه، تعقّد مفهوم الواقع نتيجة تراكم الحروب والشر والعلم والتطور، الحرب العالمية الأولى والثانية وأزمة قيمة الإنسان، الثورة التقنية..
يتّضح لنا ممّا سبق أهمية الاستقرار الاقتصادي لظهور الفلسفة، فاليونان كانت مزدهرة سياسيا واقتصاديا ولديها انفتاح جغرافي متنوّع يمكّنها من تشارك العلم والمعرفة مع الجوار، وكذلك الإمر بالنسبة إلى إيطاليا التي كانت مركز الفلسفة الحديثة، كما يتضح لنا أن اختلاف العوامل أدّى إلى اختلاف في مفهوم السعادة بشكل تراكمي يوضح تراكم المعرفة الإنسانية ويُظهر تباين الألم الإنساني الذي ألمَّ بالبشرية، فالحقبة التي تناولَت السعادة والقيم الأخلاقية – كما في فلسفة اليونان – هي ليست الحقبة التي تناولت السعادة باستخدام مصطلحات الرغبة والرضا والهدف نظرًا للظروف المحيطة بالواقع البشري آنذاك.
لكن ماذا عن الفلسفة المعاصرة؟ كيف لها أن تقدِّم تعريفا فلسفيًّا تراكميًّا للسعادة في ظل القيم الإمبريالية الرأسمالية التي جعلت الإنسان كائنا استهلاكيا منسلخا عن حقيقته الفضولية نحو المعرفة ومنغمسا في لذة الشراء والمظاهر التي توَّجتها التقنية والتكنولوجية؟ كيف للإنسان أن يجد تعريفًا للسعادة في ظل واقع الجمود الفكري والفلسفي وواقع الحروب والأزمات التي لم تتوقف منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟ أين هذه الدولة التي تشابه “أثينا” أو إيطاليا لتصبح مركزا حقيقيا للفلسفة المعاصرة في ظل التدهور الاقتصادي العالمي؟ هذه الأسئلة تستدعي إجابات بحيث تكون ثورية فكرية فلسفية مُكمِّلة للفلسفات السابقة، وتقدّم دواء من الحكمة كعادة الفلسفة، فهذا العالم المليء بالبؤس يتطلّب تعريفًا للنقيض منه “السعادة”.
هذا الواقع الذي زاد المسافة ما بين الإنسان وجوهره، بحيث أصبح الإنسان يرى السعادة من خلال قشور الأمور أو يتّجه إلى التطرف، فالأمر الذي يشكّل له سعادة ينغمس فيه، فأصيب الإنسان والكون باختلال طاقي، نتيجة التّباعد ما بين الإنسان والإنسان، وسيطرة التفاهات والحروب والهرطقات الفكرية والضوضاء المعلوماتية والحكم المُسبق المُقدّم للإنسان حول كل الأمور والقضايا التي من المفترض أنها تعنيه كإنسان.. هذا يستدعي مفهوما يحتاجه الإنسان ويناسب الفترة العصيبة الدموية التي أثقلت الأرض.
ولكي يدرك الإنسان حقيقة إن كان سعيدا بذاك الشيء أم تمّ برمجته على أن يكون سعيدا بذاك الشيء، عليه الاقتراب من نفسه! أي لن يدرك الإنسان أيًّا من تلك الأمور هي سعادته دون أن ينفُض عن كاهله الثقل المعرفي المُزيّف الآتي من عصر الحرب والتقنية والبرمجة، فعلى قدر اقتراب الإنسان من جوهره وماهيّته يدرك حقيقته التي تحدِّد سعادته، التي قد يجدها بعمل خيري أو إجرامي، كتابًا يقرأه أو يكتبه! فالخيارات كثيرة ومتنوعة على قدر اختلاف البشر.
ولذا، فالسعادة هي تعرّف الإنسان على نفسه بحيث يفهم خيره وشرّه، لينطلق نحو معاني الحياة بشفافية غير مُبرمجة ومُشوّهة للفكر الإنساني، ينتقي ما يمثلّه حقيقة من خير وشر، فيتحرّر من فكرة أنه يعيش في وهمٍ وخديعة قدّمت له الاستهلاك كمفهوم للسعادة، في حين أنّ الإنسان هو أسمى مِن أن يكون مستهلكًا فقط، بل قد يكون مُفكِّرًا أو عالما أو فيلسوفا أو منتجا سينمائيا أو راقصا إن أراد!
فهذا العصر الذي أفقدَ الإنسان عنصر الاحترام للجوهر، يتطلب النضال ضدّه بأن يكون الإنسان متناغمًا مع جوهره وماهِيَّته، وهذا يؤدّي به إلى احترام أنّ لكل إنسانٍ اختلافًا يميّزه، ويتقبّل الاختلاف دون التّنميط والتعميم الذي يعاني منه الإنسان بسبب الإنسان!
في الختام، لكل عصر عوامله التي تميّزه عن الآخر، لكنها تراكميّة، فلا يمكن الانطلاق من الصفر، بل كل تعريف للسعادة قد جاء نتيجة عوامل محيطة بواقع المُعرّف والواقع الذي يعيش الواقع، وهذه العوامل هي تراكميّة لأنّ الإنسان يتوارث العوامل والأسباب التاريخية والعلمية عن الشعوب الأخرى، فتصبح مُركّبة بتقدّم الزمن نتيجة تعقّد الواقع، وعلى قدر التعقيد، يحتاج التعريف إلى تبسيط، ولهذا كانت الحاجة الأولى أمام عصر الاستهلاك والانسلاخ عن الإنسان أن يفعل الإنسان النقيض وهو الاقتراب من الإنسان. وبالاقتراب من نفسه سيوازن ما بين الاستهلاك والإنتاج بمختلف أنواعه وأشكاله.

انتبه.. قد تكون أمام عينيك وأنت غافل عنها! السعادة في مرايا الأدب والفلسفة والحياة
د. شعبان عبد الجيِّد (كاتب من مصر)
قالوا عن السعادة:
- السعادة الحقيقية ليست على هذه الأرض.
- السعادة: صحة جيِّدة وذاكرة ضعيفة.
- السعادة أن يكون لدى الإنسان الحدُّ الأدنى من كلِّ شيء، وهذا هو الحدُّ الأقصى من القناعة.
- كلُّ إنسان يمكنه، إذا أراد، أن يخلق لنفسه السعادة التي يستحق.
- من كان شقيًّا في حياته، فَليَلُم نفسَه، لأنه السبب في هذا الشقاء. وما خلق الله الناسَ إلا ليكونوا سعداء.
- البحث عن السعادة أحد مصادر عدم السعادة.
- لقد وجدت أن نصيب الإنسان من السعادة يتوقّف في الغالب على رغبته الصادقة في أن يكون سعيدا.
- إنما السعيدُ من ظنَّ نفسَه سعيدا.
- خيرٌ لك أن تكون سعيدًا من أن تكون حكيما.
- الفرق بين السعادة والحكمة، هو أن من ظن نفسَه أسعد الناس فهو أسعدُهم في الحقيقة، ولكن من ظن نفسَه أحكمَ الناسِ فما هو إلا أشدُّهم جنونا.
- كثيرون من الناس يفتّشون عن سعادتهم كما يفتشون عن نظَّاراتهم، وهي على أنوفِهم.
- السعادة كالفراشة، تهرب منك إذا لاحقتَها، وقد تأتي وتجلس بقربك إذا لم تعبأ بها.
- السعادة هي الرضا الأسمى للعقل الذي ينتج عن ممارسة الفضيلة.
- لا سعادة تعادل راحة الضمير.
- سعيدٌ هو من لا يحلم بشيء؛ فلن يخيبَ رجاؤه.
- ليس من أحمقَ سعيد، ولا من حكيمٍ ليس كذلك.
ونحن صغار قرأنا قصة ذلك الملك الذي كان يعيشُ في رغدٍ ورفاهية وترف، وقد أوتيَ من كلِّ شيء، ولكنه رغم غناه وكثرةِ أملاكِه وضِياعِه لم يكن سعيدًا في حياته على الإطلاق، وظلَّ طولَ عمره لا يعرف معنى السعادة ولا طعمَها، وذات يومٍ جمع وزراءَه وحكماءَ مملكتِه ليستشيرَهم في أمرِه، وعبثًا حاولوا أن يخفِّفوا عنه ما يُحِسُّه من تعاسة، وكاد ييأس ويستسلم لما هو فيه، ولكنَّ أحدَ الحكماء اقترح عليه أن يبحث عن أسعدِ رجلٍ في مملكته ويرتدي قميصَه، فوافق الملك. وظلوا يبحثون ويبحثون، وفي كل مرة يخيب ظنهم فيمن يحسبونه أسعدَ الناس؛ فلا هو الغني، فقد يكون مريضًا، ولا هو القوي، فقد يكون غضوبًا، ولا هو الوسيم، فقد يكون نرجسيًّا، ولا هو صاحب الجاه والسلطان، فقد يكون ظالمًا، ولا هو كثير الأموال والأولاد، فقد يكون فخورًا. وأمثالُ هؤلاء لا يمكن أن يكونوا أبدًا سعداء.
ثم سمعوا عن رجلٍ زاهد، يعيش في كوخٍ متواضع على أطراف قريةٍ نائية، راضيًا بحاله، قانعًا بقسمته، يحبّ الجميع ويساعدهم، ولا يبخل عليهم بما يمكن أن يكون معه. لا يكره أحدًا، ولا يحسِد أحدًا، ولا يَغضب من أحد، فذهبوا إليه، وأخذوه إلى الملك، وقالوا له: إننا بعد البحث الطويل لم نجد في طول المملكة وعرضِها أسعد من هذا الرجل. ولَشَدَّ ما كانت دهشة الملك حين رآه عاريًا، بلا قميص؛ فقد أعطاه لمن كان أحوجَ إليه منه. هنالك أدرك الملكُ أن السعادة ليست في أن نملك الأشياء؛ ولكنها في ألا تملكَنا الأشياء، وأنها تتحرك باتجاهكَ في اللحظة التي تبدأ فيها ضخَّها نحو الآخرين.
وقد استلهم الأديب الفرنسي الكبير “أناتول فرانس” هذه الحكاية في قصته الرائعة “قميص السعادة”، وصاغها بأسلوب آسرٍ أخَّاذ، وقد نُشرت مترجمةً في مجلة “الآداب الأجنبية”، أكتوبر 1991. تتفق هذه القصة، إلى حدٍّ كبير، مع ما يعرِّفون به السعادة، وهي ضدُّ الشقاوة، من أنها حالةُ ارتياحٍ تامٍّ وشعورٌ داخليٌّ عميقٌ بالرضا والقناعة والسرور والانبساط، أو أنها طِيبُ النفسِ وصلاح الحال، أو بتعبير الفلاسفة والمتصوفة: حالةٌ تنشأُ عن إشباع الرغبات الإنسانية كمًّا وكيفًا. وهو المعنى الذي قصد إليه الدكتور “فيكتور بوشيه” في كتابه “طريق السعادة” (سلسلة كتاب الهلال، يوليو/ جويلية 1955) حين قال: إن السعادةَ الحقيقية هي الرضا عن كلِّ شيء، وألّا ترى في الأشياء كلِّها إلا الجانبَ الجميل. وألا تذمَّ أحدًا لأنك لا ترى في أحدٍ مَذَمَّة، وأن تُظهِرَ المودَّة لكلِّ إنسان، ولا تنتقد أو تغار أو تحسد أيَّ إنسان. وأن تتقبَّلَ الحوادثَ وصروفَ الأيام في غير تَذَمُّر، وأن تطالعَ الدنيا بابتسامةٍ عريضة، تُشِعُّ السرورَ فيما حولَك.
لم تَرِد مادة “س ع د” في القرآن كلِّه إلا مرّتين، كلتاهما في سورة (هود)، تبيّن أولاهما زمن السعادة: “يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ” (105)، وتبيّن الثانية مكان السعادة “وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ” (108)، وهذه هي السعادة الحقيقية الخالدة الباقية، وفي ذلك إشارةٌ لطيفةٌ إلى أنه لا جدوى من البحث عن شيءٍ في غير مكانه، أو انتظار شيءٍ في غيرِ أوانه.
ولا أدري لماذا أتخيّل أن أكبر سبب لسعادة المؤمنين في الآخرة هي ما أخبر عنه ربُّنا جلَّ شأنه مرتين، إحداهما في قوله: “وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ” (الأعراف: 43)، والثانية في قوله: “وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ” (الحِجر: 47). ولا أحد يستطيع أن يتخيّل مدى هذه السعادة، ولا طبيعة النعيم الذي سوف ينعم به أصحاب الجنة، ورأيي أن كل ما جاء عنه في القرآن هو من باب التقريب؛ ففيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وإن كان “ابن سينا” في نظريته عن السعادة قد ذكَر أن الناس في الآخرة على ثلاثة أحوال:
الحال الأول هو حال البالغين في فضيلة العقل والخلُق مرتبةً عالية، فهؤلاء لهم الدرجة القصوى من السعادة. والحال الثاني هو حال الجهَّال إلا أن جهلَهم ليس مُضِرًّا لهم، فهم من أهل السلامة، وإن كانوا ليس لهم ذخرٌ من العلم. والحال الثالث هو حال الذين كثُر شرُّهم وعظُم أذاهم في الدنيا، وهؤلاء ليسوا من أهل النجاة.
والسعادة كما يراها “أبو نصر الفارابي”، في كتابه “تحصيل السعادة”، هي آثَرُ الخيرات وأعظمُها وأكملُها، وأنها إذا حصلت لم نحتج معها إلى شيءٍ آخر غيرِها، وما كان كذلك فهو أحرى الأشياء أن يكون مكتفيًا بنفسه. إنها أجمل أملٍ في الحياة يداعب خيال كلِّ إنسان، وقد فتَّش الناسُ عنها في كل زمانٍ وفي كل مكان. منهم من وجدها، وهؤلاء قلة في أغلب الأحوال، ومنهم من قتله سوء الظن وغلبه الهمُّ، فقضى حياته كلَّها وهو يحسب أنه شقيٌّ محروم، مع أن السعادة كانت بين يديه وأمام عينيه، ولكنه كان من الغافلين.
وما أعظم “أبكتاتوس”، وقد كان عبدًا فقيرًا، حين قال لمن يسألون: كيف لرجلٍ مُعدَمٍ لا يملك من حطام الدنيا شيئًا أن يعيشَ آمنًا مطمئنَّا في الحياة؟!… قال: لقد ضرب الله لكم بي مثلًا فأصغوا إليّ… أنا الفقير، أفترش الغبراء وألتحف السماء، لا بيت لي أطمئن إليه، ولا زوج ولا ولد، ولا عقار ولا مال ولا رياش ولا أثاث، ومع ذلك فإني سعيد.. ماذا أطلب من الحياة؟ لقد أمِنت الدهرَ ومصائبَه، فعدت لا أخشاه ولا أتوقع شرَّه. إنني في جوٍّ طلْقٍ أنعم بالحرية، فمن منكم بعد ذلك يراني فاقدًا لشيءٍ من مُتَع الحياة؟ إن الأرض والسماء كلَّها لي. هل عهدتم فيَّ السخط على الله وعبادِه؟ هل شكوتُ أحدًا؟ هل رآني أحدُكم حزينًا كئيبًا؟ إنكم لو رأيتموني عندما أقابل من تخِرُّون لهم سُجَّدًا وتُقَبِّلون الأرضَ بين أقدامِهم، لعرفتم مقدارَ عظمة الحياة التي أحياها، وَخُيِّلَ لكم أنني سيّدُكم، بل ملكٌ عليكم.
ولعل هذا ما أشار إليه الحطيئة حين قال:
وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ — وَلَكِنَّ التَقيَّ هُـــــوَ السَعيدُ
وَمـــا لا بُدَّ أَن يَأَتي قَــــــريبٌ — وَلَكِنَّ الَّـــذي يَمضي بَعيدُ
وجُماعُ القول في هذا المعنى هو ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من بات آمنًا في سِربه، معافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه، فقد حِيزَت له الدنيا بحذافيرها”، وهو يتّفق مع أكثر ما قاله الفلاسفة وعلماء النفس الذين تحدّثوا عن أسباب السعادة ومصادرها.
ويرى أحدُ المُفكِّرين أن من أراد السعادة فما عليه إلا أن يكون سببًا في سعادة الآخرين، وألا يقصر همَّه في الحياة على حبّ نفسه، وألا يضحي بالمصلحة العامة في سبيل المصلحة الخاصة، وألا يكون عبدًا لشهواته، وألا يرمي بنفسه في بَيداءِ الأحزان، وألا يستولي عليه اليأس والقنوط إذا كَبَا الحظُّ العاثرُ به.
وكان “مصطفى لطفي المنفلوطي” يرى في نظراته أن أسعد الناس في هذه الحياة مَن إذا وافته النعمة تنكَّرَ لها، ونظر إليها نظرة المستريب بها، وترقَّبَ في كلِّ ساعةٍ زوالَها وفناءَها؛ فإن بقيَت في يده فذاك، وإلَّا فقد أعدَّ لِفِراقِها عُدَّته من قبل.
وأذكر أنني قرأت منذ أكثر من ثلاثين سنة مقالًا ممتعًا عن “أسرار السعادة” (SECRETS OF HAPPINESS) في مجلة “الثقافة العالمية” (يوليو/ جويلية 1993) لعالِم النفس الأمريكي “دافيد مايرز”، ذكر فيه أربع سمات يتميّز بها الأشخاص السعداء عن غيرهم من الناس:
1- تقدير الذات؛ فالسعداء راضون عن أنفسهم.
2- التفاؤل، فالسعداء هم الممتلئون بالأمل.
3- الانبساط؛ فالسعداء هم الودودون.
4- التحكم في النفس؛ فالسعداء يعتقدون أنهم يختارون مصائرهم.
ولقد حَرَصَ الفلاسفة والحكماء منذ أقدم العصور على أن يوفّروا على الناس عناء البحث عن السعادة، وأن يجنّبوهم عواقب الفشل في ذلك البحث، فنصحوا لهم، لكي يَسعَدوا، بأن يؤمنوا بحقائق الحياة، وبألّا يُعلّقوا آمالَهم بالأوهام، بل يحرص كل منهم على صرف جهده وعنايته وتفكيره إلى حاضره الذي يعيش فيه، فلا تذهب نفسُه حسراتٍ على شيءٍ فات، ولا يُضيع وقته عبثًا في التعلق بما هو آت. كما نصحوا لهم بالعمل الدائب لإسعاد مَن حولَهم، وبتوخِّي البساطة وطرح التكلف في حياتهم، وبأن يكون شعارُهم دائمًا: “إذا لم يكن ما تريد فأرِد ما يكون”.
ويذكر لنا الأديب الفرنسي “أندريه موروَا” في كتابه “فن الحياة” أن السعادة هي الحالة التي يودُّ المَرءُ أن يظلَّ فيها دون تغيير على الإطلاق. ولا شك أننا إذا استطعنا أن نصل إلى حالةٍ فكريةٍ وجسديةٍ تجعلنا نقول لأنفسنا: “أتمنى لو بقيَ كلُّ شيءٍ على حاله إلى الأبد!”. وكما قال “فاوست” لِلَّحظةِ التي كان فيها سعيدًا: “امكثي حيث أنتِ، أيتها الجميلة، فائقة الجمال”. إذا استطعنا ذلك فنحن سعداء بغير شك.
وذهب “جورجي زيدان” إلى أنّ السعادة ليست بالغنى، والشقاء ليس في الفقر؛ فإن كلًّا من الأغنياء والفقراء قد يكون سعيدًا وقد يكون شقيًّا. وإذا بحثت عن سبب تلك السعادة أو ذلك الشقاء فلن تجد له علاقة بالغنى ولا بالفقر. ولكنه يتوقّف على أحوال داخلية، ترجع إلى علاقة أفراد العائلة بعضهم ببعض، وإلى أخلاقهم الخصوصية، وخصوصًا المرأة، فإنها أمُّ العائلة ورئيستُها، ومصدر شقائها وسعادتها.
وفي مقاله “سألت عن السعادة”، (مجلة الهلال، فبراير 1951)، يتخيّل الدكتور “أحمد زكي” أنه سأل الفيلسوف الألماني “شوبنهور” عن رأيه في السعادة فقال له: إنها ليست في كسبِ اللذائذ، ولكنها انتفاء الآلام. ويكفي ألمٌ واحدٌ لتعكير صفو الحياة. فالصحة سعادة، والصحة لا يحسّها أحد، ولكن دمَّلًا واحدًا صغيرًا مؤلمًا يحسّه الرجل فيذهب بسعادته، ولا يُغنيه عن ذلك صحة سائر الأعضاء. وسأل الفيلسوف الفرنسي “فولتير”: ما تقول في اللذة والسعادة؟ فأجابه: “الأفراح أحلام، والأحزان يقظة”. والحياة لا يمكن أن تكون حلمًا متّصلًا؛ فلا بدّ للراقد من قيام، والقائمُ من النوم لا يكاد يذكر ما كان فيه من حلو، ولكنه يذكر ما كان فيه من مُر. وحين سأل الشاعرَ الإنجليزي “جول سميث” عنها ردَّ عليه في ضجر: “إنك تسأل عن السعادة، وتسأل الشيوخ، والشيخوخة تَذهَب بحلاوة الحياة فلا يبقى إلا مرارتُها”.
ثم ختم الدكتور “أحمد زكي” كلامَه برأيٍ لأحد المعاصرين، قال فيه إن السعادة شيءٌ لا يمكن تعريفه بمعادلة رياضية. والسعادة ليست تفّاحةً تُؤكَل. إنها صفةٌ من صفات العَيش الهنيء. إنك إن حاولت تعريفها قلَّ نصيبُك من فهمِها. إنها كالكهرباء تُحسُّ ولا تُعرَف. وكالموسيقى التي تشجو، كل ما يتقن الناس من عرفانها شَجْوَها. والسعادة لا تعرف الحدود ولا تعرف الظروف ولا تعرف الطبقات ولا تعرف المستويات. وكلُّ رجلٍ يعرف السعادة، ولكن ليس منهم من يعرف على التحديد ما هي..
وأذكر أنني قرأت في عددٍ قديمٍ من مجلة “الهلال”، مارس 1956، أن السعادة تكمنُ في أشياء كثيرة شائعة في الحياة، فهي ليست مقصورة على المواهب النادرة التي لا تتوافر إلا لقليلين. وليست في الثروات الضخمة، أو العلم الواسع، أو العبقرية الفذَّة، أو القوة العاتية، بل إن هذه الأشياء النادرة كثيرًا ما تعجز عن إسعاد أصحابها، بينما توجد السعادة في سلامة الجسم، وفي الاستمتاع بضوء الشمس، والهواء الطّلق، ومباهج الطبيعة، كما توجد في السلام النفسي، وفي تبادل المودة والصداقة، وفي حياة الأسرة الهادئة، وما يتخلّلها من حبٍّ وتعاونٍ بين الزوجين، ومن أصوات الأطفال ومداعباتهم، كما توجد السعادة في كثيرٍ من أمثال هذه النّعم الشائعة المتوافرة لكل إنسانٍ في كل مكان.
وفي كتابه “علم اسمه السعادة” يرى الدكتور “أحمد مستجير” أنّ السعادة هي إحساسٌ بالغبطة الحقيقية الطويلة الأمَد، هي درجة رضا الفرد عن حياته. ليست السعادة ضحكة طيبة، أو لهوًا قصيرًا، أو سرورًا زائلًا، ليست بضع لحظات هانئة نقضيها قبل أن نعود إلى الحياة القاسية. إننا نخلِط كثيرًا بين السرور والبهجة والضحك والانبساط والسعادة. نستخدم أيًّا من هذه الكلمات لنخلق صورةً عامةً لأناسٍ يتمتعون بالحياة. لكن السعادة شيءٌ مختلف. هي لا تروح وتجيء. السعادة باقيةٌ معنا بغضّ النظر عن الانفعالات اللّحظية. يمكنك أن تضحك من قلبك وأنت سعيد، يمكنك أن تندب ضياع حبيبٍ وأنت سعيد. السعادة حالة من حالات الشخصية، تبقى مع الفرد وهو يمور بشتّى الانفعالات. أمُّنا الطبيعة تقولُ إن السعادةَ في راحة البال. راحة البال هي أفضل هدية تهديها لنفسك. أنت السعيدُ إذا كنت تقدِّرُ ذاتَك، إذا كنت تعترف بقصورك، إذا قبِلتَ ألَّا حقَّ لك في أن تحكم على الآخرين، إذا كنت واثقًا بقدرتك على التعامل مع الحياة، إذا تقبّلت كل إهانات الحياة بصدرٍ رحب، إذا أدركت أن النجاح والثروةَ لا علاقة لهما بالسعادة..
والسعادة بهذا تختلف كثيرًا عن اللذة؛ فالسعادة مطلقة، بينما اللذة نسبية، والسعادة دائمة، بينما اللذة مؤقتة، والسعادة كلها حقيقة، واللذة أكثرُها وَهم. وحينما قال بعض فلاسفة اليونان إن “السعادة” هي “الخيرُ الأسمَى” أو “الخير المطلَق”، فإنهم لم يكونوا يعنون بالسعادة مجرد “خيرٍ نسبي” متغيرٍ كاللذة، بل كانوا يعنون بها تلك الغاية القصوى التي ليس بعدها غاية. ومعنى هذا أنهم كانوا يعدّون اللذة جزئية، في حين أنهم كانوا ينظرون إلى السعادة على أنها كليَّة، فضلًا عن أنهم كانوا يرون في اللذة مجرد ظاهرة تجريبية، في حين أنهم كانوا يَعُدُّون السعادة عاليةً على التجربة، أو عقلية صِرفَة.
معنى هذا، كما يقول الدكتور “زكريا إبراهيم” في كتاب “المشكلة الخُلُقيَّة”، أن السعادة لا تصاحب نشاطًا جزئيًّا بعينه، بل هي تقترن في العادة بالتآزر الشامل لكل مظاهر النشاط البشري، وبالتالي فإنها تجيء مصاحبة لحالة “الانسجام” الكليِّ الذي قد يتحقّق بين الوظائف النفسية للفرد. وعلى حين أن “اللذة” نَهْبٌ للتغيُّر والتحوّل المستمر، نجد أن “السعادة” أقلُّ تغيُّرًا وأشدُّ استقرارًا. هذا إلى أن من شأن السعادة أن تكون أكثر ارتباطًا وأشد التحامًا بتلك النشاطات التي تواكبها، بحيث قد يحقّ لنا أن نعد تلك النشاطات نفسها جزءًا لا يتجزَّأ من هذه السعادة. وفضلًا عن ذلك، فإن “السعادة”، بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لا يمكن أن تُنسَب إلا إلى حياة بأكملِها (أعني: من حيث هي “كُل”)؛ وهو ما عبَّر عنه “صولون” بقوله: “لا تَدْعُ أحَدًا سعيدًا، اللهمَّ إلَّا بعدَ مماته!”.
ولا يعني هذا في الوقت نفسِه أن ثمَّةَ لونًا، أو شكلًا، واحدًا من السعادة؛ فالتجربة شاهدةٌ على قيام أنماط مختلفة من السعادة. ولا شكَّ أننا لو نظرنا، مثلًا، إلى سعادة الوعي البليد الذي لا حظَّ له من الترقّي أو النضج، فإننا لن نريد لأنفسِنا مثل هذه السعادة، لأننا سوف نَعُدُّها بالضرورة ضربًا من الانحلال البشري. ولو أننا لاحظنا أن السعادة قد تقترن، في نظر البعض، بمعاني الذهول أو الغيبوبة، أو التخدير العقلي، فإن من المؤكد أننا لن نتحمسَ كثيرًا لمثل هذا النوع من السعادة. والمهم أننا نميِّز في العادة تمييزًا واضحًا بين سعادةٍ وأخرى، لأننا لا يمكن أن نضع سعادة “الرجل الأنانيِّ” على قدم المساواة مع سعادة “الرجل الغيريِّ”، كما أن أهل العصور القديمة لم يكونوا يضعون سعادة “الأحمق” أو “الجاهل” على قدم المساواة مع سعادة “الحكيم” أو “الفيلسوف”. ولعلَّ هذا ما عبَّر عنه “أبيقور” قديمًا حين قال: “إنه لخيرٌ لك أن تكون شقِيًّا وعاقلًا، من أن تكون سعيدًا وأحمق”.
والسعادة لا تأتينا بمجرد أن نطلبها، ولا تتحقّق لنا بمجرد أن نتمنّاها، إنها تراودنا وتراوغنا، تظهر لنا وتهرب منَّا، تغرينا وتتأبَّى علينا، ولقد نراها في أحلام نومنا أو يقظتنا، طيفًا جميلًا وخيالًا رائعًا، ثم نستيقظ فلا نجد غير آلام شقائنا وأصداء تعاستنا. وكثيرًا ما يجيء “البحث عن السعادة” فيفسد على الفرد ما لديه من حساسية أو “قابلية للسعادة”، وكأن من شأن السعادة أن تَنِدَّ عن كل جهد يُرادُ من ورائه الحصول عليها، أو كأن من طبيعتها أن تجيء على غير ميعاد، في وقتٍ لم يكن في الحسبان. وإن السعادة لتدَعُنا نحِنُّ إليها ونتحرّق شوقًا في سبيل الظفر بها، ولكنها قلّما تسمح لنا بأن نتملَّكَها عن طريق السعي المتواصل أو البحث المستمر.
وليس من شأن السعادة أن تهرب من مُطارديها فحسب، بل هي لا بدَّ أيضًا من أن تترك في نفوسهم مشاعر القلق والتلهف والتعطش المستمر. وهذا هو السبب في أن أشقَى الناسِ على هذه الأرض، كثيرًا ما يكونون هم أكثر أهل الدنيا بحثًا عن السعادة. وعلى العكس من ذلك، كثيرًا ما تجيء السعادة فتدنو منَّا، ولكن من الجانب الآخر الذي ما كنا ننتظر أن تجيئنا منه. وهي عندئذٍ لا بدَّ من أن تجيئنا كهِبَة أو منحة، لا كمكافأة أو جزاء. وهكذا نخلُصُ إلى القول بأن المذهب الأخلاقي الذي يدعو إلى “السعي وراء السعادة” لا بدَّ من أن يكونَ مذهبًا يهدِمَ نفسَه بنفسِه، ما دام من شأن كل جهد يُبذَل في سبيل الحصول على السعادة أن يقودَنا إلى العجز التام عن التمتع بالسعادة.
ويبدو أنه لا توجد في الدنيا سعادة كاملة، وأن هناك دائمًا ما ينغِّصُها ويُعَكِّر صفوَها، وغالبًا ما تكون عوامل خارجية، بعيدًا عن إحساس المرء الذاتي بسعادته، ويرى “أرسطو” في كتاب “الأخلاق” أن بعض الأشياء إذا أعوزَت السعيدَ كدَّرَت سعادته: مثل جودة الحسَب، وإنجاب الأولاد، والجمال؛ فإنه ليس سعيدًا مَن كان في غاية القُبح والسّماجة، أو من ليس جيّد الحسَب، أو من كان وحيدًا، أو لا ولَدَ له، وخليقٌ أن يكون أقلَّ سعادةً من كان له أولاد شُرَّار أو أصدقاء شُرَّار، أو كان له أولاد خيار فماتوا أو أصدقاء خيار فماتوا. فيشبه أن يكون الأمر كما قلنا: إن السعيد يحتاج إلى مدَدٍ من خارج.
ويذهب الفيلسوف الإنجليزي “برتراند رسل”، في كتابه “الطريق إلى السعادة”، إلى أن السعادة تتوقف على ظروف خارجية من جهة، وعلى ذات المرء من الجهة الأخرى. ويشير إلى أن كثيرين يعتقدون أن السعادة مستحيلةٌ بدون عقيدة ذات طابع ديني، كثيرٍ أو قليل. فالإنسان الشقي يعتقد عقيدةً تعسة، أمَّا السعيد فيعتنق عقيدة سعيدة. ويؤكدُ ما ذهب إليه “أرسطو” من قبل، فيقول إن هناك أشياء معينة، لا غنى عنها لسعادة معظم الناس، ولكنها أشياء بسيطة، مثل الطعام والمأوى والصحة والحب والعمل الناجح، واحترام القطيع الذي ينتمي المرء إليه. والوالديّة (الأبوة أو الأمومة) أساسية بالنسبة لبعض الناس. وحيث تُفتَقَدُ هذه الأشياء يصعب، إلا على الشخص الاستثنائي، أن يحقق السعادة.
ولعل هذا يذكِّرنا بما قاله المفكر والأديب الفرنسي “أندريه موروا”: إن أول شرطٍ يجب على المرء مراعاته لكي يضمنَ السعادة هو أن يُنزِلَ السِّتارَ على الماضي ولا يفكر فيما مرَّ به من أفراحٍ وأتراح. فذكريات الأفراح تُنشِئ في نفسِه الأسفَ على ما فات. وذكريات الأتراح تفتح في قلبه جروحًا قد لا تقبل الاندمال. أضِف إلى ذلك أن الإصرار على ذكريات الماضي قد يُنشِئُ في النفس أفكارًا سوداء. والخطر كل الخطر أن يظل المرء يفكِّر في كل مصيبة نزلت به، وخسارةٍ نُكِبَ بها، وإهانةٍ وُجِّهَت إليه، وكلمةٍ أفلتت منه. والمثل الإنجليزي يقول: لا تبكِ على اللبن المسكوب. أي لا تَحزُنكَ المصيبة إذا لم يكن في وُسعِك تلافيها.
و”أندريه موروا” نفسُه هو الذي قال في حديثه عن “فن السعادة”: وكما أن الحب الجارف العنيف، إذا أقدَمَ المرءُ على تحليل لحظاته المنفصلة، تبيَّن له أنه عبارة عن خلافات بالغة الصّغَر، يتولَّى تسويتَها الإخلاصُ على الدوام… فكذلك الحال في السعادة، إذا حلّلها الإنسانُ إلى عناصرها الهامة، وجد أنها تتألّف من صراعاتٍ وأحزان، وأن الأملَ يتولَّى إنقاذها على الدوام.
ويبدو أن ثمة تلازمًا بين المعرفة والشقاء، فكلما زاد حظ الإنسان من العلم قلَّ نصيبه من السعادة، وهذا ما قرره “ماكس شِلَر” حين قال: إن الرجلَ البدائي لا يكاد يعرف كل تلك الآلام العديدة المتنوّعة التي تجيء بها الحضارة البشرية كلما أوغل الإنسان في سبيل التقدم والتحضّر، في حين أن الرجل المتحضّر يعاني الكثير من ضروب الآلام والشقاء، بسبب ترقّي حساسيته ونُضج وعيه ورقة شعوره. والواقع أن الإنسان البدائي (الجاهل) يكاد يحيا في شبه سرورٍ دائم، لدرجة أنه يجهل الكثير من الآلام الأولية البسيطة التي يعانيها الإنسان المتحضّر.
وقد سبق “تميم بن مقبل العامري”، وهو شاعرٌ جاهليٌّ، إلى هذا المعنى حين قال:
ما أطيبَ العيشَ لو أنَّ الفتى حَجَرٌ — تنبُو الحوادثُ عنهُ وهو مَلمومُ
ثم جاء من بعده “المتنبي” فاقترب من هذا المعنى أكثر حين قال:
ذو العقلِ يشقَى في النعيم بعقلِهِ — وأخو الجهالةِ في الجهالة يَنعَمُ
وحين قال أيضًا:
تَصفو الحَياةُ لِجاهِلٍ أَو غافِلٍ — عَمّا مَضى فيها وَما يُتَوَقَّعُ
وقدَّم لنا علاجًا ناجعًا لننجوَ من التعاسة والشقاء حين قال:
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ — مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَـكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ — وَلا يَـرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَــــزَنُ
ولعلَّ الشعراءَ، في جملتهم، لم يبعُدوا كثيرًا عمّا قاله الفلاسفة والمفكّرون، بل إنّ منهم من وصل بعبقريّته الملهَمة إلى ما كدَّ فيه الفلاسفة عقولَهم وأتعبوا أذهانهم، ولم يصلوا إليه إلا بعد طول نظرٍ وتفكير. وإن منهم من لم يسمع بما قاله “أرسطو” في “الأخلاق”، ولم يقرأ ما كتبه “الغزالي” في “كيمياء السعادة”، ولم يطالع ما تخيّله أصحاب المدُن الفاضلة عبر التاريخ، منذ “أفلاطون” إلى الآن، ومع ذلك تجد عنده فلسفةً شعرية عميقة للسعادة.
ولن أستطيع في هذه المساحة أن أحيط بهم، ولا أن أفصِّلَ القول في رؤاهم ونظراتهم، ويكفي أن أقدّم للقارئ الكريم خمسَ قصائد رائعاتٍ لخمسة شعراء كبار، أراهم يقدّمون لنا فيها زادًا فنيًّا، بل ومعرفيًّا، عميقًا عن “نظرية السعادة”، لا يقلُّ في قيمته وفائدته عمّا قدَّمه كبار الفلاسفة والمفكرين. أمَّا إن غلبَ عليهم شيءٌ من التشاؤم في تصورهم لوجود السعادة الحقيقة، وتردَّدُوا في الإيمان المطلق بها؛ فليس ذلك لضيق أفقهم وسطحية تفكيرهم، معاذ الله أن نصفهم بهذا واصفٌ، ولكن لأنهم يعبِّرون عن تجاربهم الخاصة ورؤاهم الذاتية، وهم في نظري أقربُ إلى صوت الحياة المائجة المضطربة، وأعرَف بإحساسات النفس الثائرةِ القُلَّب. وسوف أقدِّم هذه القصائد بلا تمهيدٍ ولا تعليق؛ فهي تشرح نفسَها بنفسِها، وسوف أقدّمها بتمامها حتى تكتمل عند القارئ فكرتُها، ولِيستمتعَ بقراءتها كما استمتعتُ، ولتكن هي مسكَ الختام في هذا المقام:
1 – قصيدة “السعادة” للشاعر التونسي “أبي القاسم الشابي”، وقد نشرها في مجلة “أبوللو”، أفريل 1933:
تَرجو السَّعادَةَ يا قلبي ولَــــــو وُجِدَتْ — في الكونِ لم يشتعلْ حُـزْنٌ ولا أَلَمُ
ولا استحــــالتْ حـــياةُ النَّاسِ أجمعُها — وزُلزلتْ هـــــاتِهِ الأَكـوانُ والنُّظمُ
فما السَّعادة في الدُّنيا ســــِوَى حُلُمٍ — ناءٍ تُضَــحِّي لــــه أَيَّامَـــــها الأُمَمُ
ناجتْ به النَّاسَ أَوهــــــــــامٌ مُعَرْبِدةً — لمَّا تَغَشَّتْهُمُ الأَحـــــــــــلامُ والظُّلَمُ
فَهَبَّ كلٌّ يُنـــــــاديـــــــــــــهِ ويَنْشُدُهُ — كأَنَّما النَّاسُ مَا نامـــــوا ولا حلمُوا
خُذِ الحَيَاةَ كما جـــــــــاءتْكَ مبتسماً — في كفِّها الغارُ أَو فــــي كفِّها العَدَمُ
وارقصْ على الوردِ والأَشواكِ متَّئِداً — غنَّتْ لكَ الطَّيرُ أَو غنَّتْ لكَ الرُّجُمُ
واعملْ كمــا تأمُرُ الدُّنيا بلا مَضَضٍ — والجمْ شُعوركَ فيـــــــها إنَّها صَنَمُ
فمنْ تأَلَّمَ لمْ تُرْحَـــــــــــمْ مَضَاضَتَهُ — ومنْ تجلَّدَ لـــم تَــــــــهزأ بهِ القِمَمُ
هذي سعادَةُ دُنيانا فكنْ رجــــــــلاً — إنْ شئْتَها أَبَــــــــــــدَ الآباد يَبْتَسِمُ
وإنْ أَردتَ قضاءَ العيشِ فـــي دَعَةٍ — شــعـــريَّةٍ لا يُغَشِّي صَفْـــوَها نَدَمُ
فاتركْ إلـى النَّاسِ دُنياهُمْ وضَجَّتَهُمْ — وما بنوا لنِظامِ العيشِ أَو رَسَــــموا
واجعلْ حياتَكَ دوحاً مُزْهراً نَضِراً — في عُـــــــزْلَةِ الغابِ ينمو ثمَّ ينعدمُ
واجعلْ لياليكَ أَحـــــــــلاماً مُغَرِّدَةً — إنَّ الحَيـــــــــــَاةَ وما تدوي به حُلُمُ
2 – قصيدة “السعادة” للشاعر المهجري “إلياس قنصل”، قد نشرتها مجلة “أبوللو” أيضًا في أكتوبر 1934:
قل ما تشاء عـن السعادة غــــــابطًا — من كان ينعم فـــــوق ليِّن مهــــدِها
وابحث عليها في التصابي والهوى — أو في التــــي يهفو البخــــيلُ لِعَدِّها
أو في اشتهارك بالفضـــائل والتُّقى — أو في اهتمامك بالعـــــلوم ومجدِها
أو في اكتفائك بالـــــذي قسَمَ القَضا — ورضاك من صابِ الحياة وشهدِها
قل مــــــــا تشا عنها فلست بمُقنعي — يومًا ولست بمانعي مـــــــن نقدها
إن السعادة لا تسرُّ بوصــــــــــــلها — أحدًا ولا تـــــــــــــرنو إليه بودِّها
فإذا سعدت وما عــــــــــرف بأنني — أمسيت أرتشف المنى مـن رِفدِها
فالجهل في حـــــــــال التعاسة كلها — تطفو على قلبي بكامل حــــــقدها
وإذا عــــــــــــــرفت بأنني قد نلتها — أصبحت في همٍّ مخافةَ فقــــــدِها
والخوفُ من فقد السعادة خـــــاطرٌ — يكفي إذا لمس الفــــــــؤادَ لفقدِها
3 – قصيدة “السعادة” للشاعر الكبير “إيليا أبي ماضي”:
قُلتُ السَعادَةُ فـي المُنى فَرَدَدتَني — وَزَعِمتَ أَنَّ المَـــــرءَ آفَتُهُ المُنى
وَرَأَيتُ فـــي ظِلِّ الغِنـى تِمثالَها — وَرَأَيتَ أَنتَ البُؤسَ في ظِلِّ الغِنى
ما لي أَقولُ بِأَنَّها قــــــــَد تُقتَنى — فَتَقــــــــــــولُ أَنتَ بِأَنَّها لا تُفتَنى
وَأَقولُ إِن خُلِقَت فَقَـد خُلِقَـت لَنا — فَتَقولُ إِن خُلِقَت فَلِم تُخــــــلَق لَنا
وَأَقولُ إِنّي مُؤمِنٌ بِوُجــــــودِها — فَتَقولُ ما أَحـــــــراكَ أَن لا تُؤمِنا
وَأَقولُ: سِرٌّ سَوفَ يُعلَنُ في غَدٍ — فَتَــــــقولُ لا سِـــرُّ هُناكَ وَلا هُنا
يا صاحِبي هَــــذا حِوارٌ باطِلٌ — لا أَنتَ أَدرَكتَ الصَـــوابَ وَلا أَنا
4 – قصيدة “السعادة في أساطير اليونان” للشاعر السوري الدكتور “زكي المحاسني”، وقد نُشِرَت في مجلة “الهلال”، يناير/ جانفي 1954:
أنتِ يا أسطورة السعدِ الكميــن — كيف أشعلتِ قلوبَ الـــهائمين؟
أتَمُـــــرِّين ببابي مـــــــــــــرةً — ويدي منك عــــلى فرع الجبين
قيل من “أولمب” طـافت غادةٌ — تنثر الحظَّ علـــى كَـــرِّ السنين
كلُّ إنسانٍ له مِـــــــــن وجهها — مرَّةً في العمر لمــــحُ العابرين
ركبِت أجنحــــــــــــةً دولابُها — مثلُ سهمٍ ينبري فــي الخاطفين
عينها معصــــــــوبةٌ في كفها — قرنُ وعْـــلٍ فيه أموالُ القرون
نصفُ صلعاءَ فــــلا شَعرَ لها — من قفا الرأسِ وتسبي الوالهين
بالذي انساب عــــــلى غُرتها — أشقرَ الضَّفرةِ مَـــــوَّاج الفتون
أرصُدُ الغيداءَ لا بُـــــــــد لها — من هبُــــوبٍ معه السعدُ رهين
أنتَ إن أنشتَ في طُـــــــرَّتها — كفَّ وعيٍ كنت خير الكاسبين
وإذا فاتتك لَـــم تلْـــــــــق لها — مَمْسَكًا فالشَّعرُ من خلفٍ مَهين
حـــــــدِّثوني عن لقاها، إنني — دائم المَرقَبِ وثَّاب الحنـــــــين
أقبلت؟ كلَّا! فهـــــــذي غَيمةٌ — أتُرَى أُنظـــــرُها حتى المنون
أملًا كانت وتبقَـــــــــــى أملًا — رقصَت أحــلامُ تحت الجفون
5 – قصيدة “السعادة” للشاعرة العراقية الكبيرة “نازك الملائكة”:
قد بحـــــــــــــــــــــثنا عن السعادة لكن — ما عثَــــــرنا بكوخها المسحورِ
أبدا نسأل الليالي عنـــــــــــــــــــــــــها — وهـــــي سرّ الدنيا ولغز الدهورِ
طالما حدّثوا فـــــــــــــــــــــؤادي عنها — فـــــــــي ليالي طفولتي وصبايا
طالما صَـــــــــــــــــــــوّروا لعينيّ لقيا — ها وألقَــــــــوا أنباءها في رؤايا
فهي آنا ليست سوى العـــــــــطر والألـ — ـوان والأغنــــــــيات والأضواء
ليس تحـــــــــــــــيا إلا على باب قصر — شيّدته أيدي الغنى والرخـــــــــاءِ
وهي آنا في الصـــــــــوم عن متع الدنـ — ـيا وعنــــــــــد الزّهاد والرهبانِ
ليس تحـــــــــــيا إلا على صخر المعـــ — ـبد بيــــــــــــن الدعاء والإيمان
وهــــــــــي حينا في الإثم والمتع الدنـــ — ـيا وفي الشرّ والأذى والخصام
ليس تصفـــــو إلا لقَـــــــــــلب دنيء — لآئذ بالشــــــــــــــرور والآثامِ
وهي فــــــي شـــرع بعضهم عند راع — يصرف العمر في سفوح الجبال
يتغنّى مع القطيــــــــــــــــــــــع إذا شا — ء تحت الشــــــــــــذى والظلال
وهي في شـــــــــرع آخرين ابنة العز — لة والفنّ والجــــــــــــمال الرفيعِ
ليس تحـــــــــــــــيا إلا على فم غرّيــ — ــد يغني أو شـــــــــاعر مطبوعِ
وهي حيـــــــنا في الحبّ يلهمها سهـ — ـم “كيوبيد” قلبَ كلّ مُحِــــــبّ
ليس تحــــــــــــيا إلا على شفة العا — شق يشدو حيـــــــاته لحن حبّ
حـــــــــــــــــدّثوني عنها كثيرا ولكن — لم أجدها وقد بحثــــــــت طويلا
لم أزل أصْــــــــــــــرف الليالي بحثًا — وأغّني بها الوجــــــــود الجميلا
مرّ عمري سُـــدى ومــا زلت أمشي — فوق هذي الشواطئ المحــزونه
لم أجـــــد في الرمـــال إلا بقايا الـــ — ـشوك! يا للأمنية المغـــــــــبونه
أين أصــــــدافك اللوامــــــــع يا شطّ — إذن أين كنــزك المـــــــــــوعود؟
هاته رحـــــــــــمة بنا هات كَــــــنزا — هو ما يرتجــــــــــيه هذا الوجود
هــــاته حسب رملك البــــــــارد القا — سي خِـــــــداعا لنا وحسبك هزءا
يا لحلم نريد مـــــــــــــــــــنه اقترابا — وهــــــــو ما زال أيّها الشطّ ينأى
لم تعد قصّـــــــــــــــــة السعادة تغر — يني فدعني عـلى شاطئ الآهات
عبثا أرتجي العــــــــثور على الكنـ — ـز فلا شيء غيــــر صمت الحياةِ
أين من هذه الحيـــــــــــــاة ابتساما — ت الأماني ونشوة الأفــــــــراح؟
كيف يحـــــــــيا فيها السعيد وليست — غير بحـــر تحت الدجى والرياح
طال بحثي يا ربّ أيــــــــن ترى ذا — ك السعيد الجــــــــذلان أين تراه؟
ليس حـــــــــولي إلا دياجير كون — ليس يفنى بكـــــــاؤه وأســـــــــاهُ
كل يوم ميت يسير بــــــــــــه الأحـ — ــياء باكين نحــــــــو دنيا الظلامِ
يا لأسطورة الخـــــــــــلود فما الخا — لد غــــــــــــــــير القبور والآلام
يا دويّ النّــــــواح في الأرض أيّا — ن يكفّ البـــــاكون والصارخونا؟
ومتى ينتهي الشقاء؟ متـــــــــى ير — تاح كَـــــــون ذاق العذاب قرونا
عالم كلّ من عـــــــــلى وجهه يشـ — ـقى ويقضي الأيام حُـــزنا ويأسا
جـــــــــرّعته السنين حنظلها المرّ — فعاف الحــــــــــــــياة عينا ونفسا
إيه أسطــــــــــــورة السعادة هاتي — حدّثيني عــــن سِــــــرّك المنشودِ
أين ألقاك؟ أين مسكنك المَـــــــــر — موق؟ في الأفق أم وراء الوجـود؟
سرت وحدي تحت النجوم طويلا — أسأل الليل والدياجـيـــــــــــر عنكِ
أسفًا لم أجدك في الشاطئ الصخــ — ـريّ حــــــــــيث المياه تفتأ تبكي
حيث تبقى الأشواك والــورد يذوي — تحــــــــــــت عين الأيّام والأقدار
حيث يفنى الصـــــــفاء والليل يأتي — بجنـــــــــــون الأنواء والأعصار
حيث تقضي الأغنــــــام أيّامها غر — ثى ولا عشب في جديب المراعي
أبدا تتبع الســــــــــــــــراب وتشكو — بخل دهـــــــــــــــر مزّيف خدّاع
حيث يحـــــيا الغراب، والبلبل المو — هوب يهـــوي في عشّه المضفور
ويغّني البوم البغيض علــــــى الدو — ح ويثوي القُـــمريّ بيـن الصخور
حيث تبقى الغيوم فـــي الجوّ رمزا — لحـــــــــياة ســــوادها ليــس يفنى
حيث تبقى الرياح تصفر لحــــــــنًا — هـــــــــــــو سخــرّية المقادر منّا
حيث صوت الحياة يهتف بالأحــــ — ــياء: ماذا تحت الدجَـــى تبتغونا؟
انظروا كلّ ما على الأرض يبكي — فأفيــــقوا يا معشر الحـــــــــــالمينا !
أُدرِكُ أنني أطلتُ على القارئ الكريم أكثرَ مما يجِب، وربما أكون قد أثقلتُ عليه، وأعترفُ بأنني قصدت إلى الأولَى قصدًا، ولكنني لم أعمد إلى الثانيةِ أبدًا؛ وما كان ذلك إلَّا ليقضيَ، وأقضِيَ معه أطولَ وقتٍ ممكنٍ … مع السعادة!

توازن السعادة والفضيلة في الفكر الفلسفي
ختام زاوي (كاتبة من تونس)
كان الإنسان هو الحقيقة المبدئية التي تناولها الفيلسوف وبذل أقصى جهده لدراسة هذه الذات المتغيّرة مع كل حدث زماني مختلف، مع دراسة أعمق للعقيدة ومدى تأثيرها على النفس الباطنة. وهكذا يمكن التحدّث عن مبدأ عظمة “المرونة الذهنية” أو العقلية (flexibilité cognitive)، مع الأدلة في تحريك الزمن واستمرار الكائن في ملائمة بيئته.. إن فشل كائن في أن يلائم بين نفسه وبين بيئة متبدلة، فإنه يتهدّم، وكلما كان الكائن أسمى كانت قوته أعظم في ملائمة الظروف المحيطة الدائمة التغيّر والزائدة التعقّد، وهذه حقائق بيولوجية معروفة.
إلّا أنّ السمو بالذات لم يكن قيمة مجردة وثابتة تفوق التصوّرات، إنما هو قيمة نبيلة وجليلة كانت فوق متناول التأثيرات الهدّامة للإنسان، والتي أثبتت عظمته وقوته وجماله ومزاياه بل أكدت فيه صفات العالمية وقدرته على الصراع من أجل البقاء والخلود.. لذلك كان للإنسان أن يتمتع بهذا التقدير والتّسخير الإلهي، ويصبح الكون في خدمته وتحريره.. أي أنه سيحقق له الإلهام الروحي والفكري الذي يُضفي معنى لوجوده ويحقق له السعادة..
وإذا تناولنا مفهوم السعادة في رحلتنا الفلسفية مع “أرسطو” و”أبيقور” وهما الفيلسوفان الإغريقيان اللذان جعلا من موضوع السعادة موضوعا مركزيا في فلسفتيهما.. حيث يؤكد “أرسطو” في كتابه “الأخلاق” على أن السعادة هي الهدف الأوحد الذي نبحث عنه دائما لذاته وليس لأيّ غاية أخرى أبدا.
ولنفترض أننا نتوق إليها في كل مرحلة، ولكن تناولها من هؤلاء مختلف تماما مع معيشتنا الإنسانية، المألوفة فالفلسفة الإغريقية تتميز بالعقلانية والمنطقية والتي تتعارض مع الإنسان الذي يظن أن مفهوم السعادة خالٍ من المأساة.. بينما كانت التراجيديا المفرحة أو المأساة المبهجة هي التي تؤدي إلى النمو والتطوّر العميق ممّا يؤول بنا إلى تحقيق السعادة.. فكان لا بدّ من خلق الاستثارة والغموض والسر والغرابة واللذة لنشعر بالرضا.. وهذه هي نقطة التحول في فلسفة “أرسطو” الذي يرى أن السعادة هي الشعور باللذة..
واللذة في حدّ ذاتها هي شعور لطيف بإشباع رغبة وهي أمر غريزي لدى الكائن البشري يغذيها بمؤثرات خارجية، فأنا مثلا أشعر بلذة الشرب لأنني أروي بذلك ظمئي، وبلذة النوم إذا كنت مُتعبا، وبلذة التعلم لأنني متعطّش للمعرفة.. وعلى الضدّ من ذلك، فإن اللذة قد تخدم طبيعة العواطف الإنسانية المبهمة والغامضة، ولا يمكن أن تُقيّد أو تخضع أو تتجرد من المأساة..
أما بالنسبة للفلسفة الأبيقورية في تعريفها المحايد بأن اللذة هي النواة الأولى للشعور بالسعادة إلا أنها معارضة للنظريات القديمة في بعض الأحيان، وإلى هدم وتحطيم لهذه النظريات في أحيان أخرى.. فإن كان العالم يعتبر أن السعادة تقتصر على إشباع رغبة فإنه حتمًا غير جاهز لفكرة الثورة أو التغيير.. وجاء في قول هرقليطس: “الحمار يفضّل التين على الذّهب”، فلو كان الإنسان بدون عقل حتما فهو لن يحقق القيمة الوجودية التي سخّر من أجلها الكون، وربما يمضي دون عقل في تبديد الوعي لأغراض حيوانية جاهلة. مثال على ذلك هو قصة “ماكبث” لـ “شكسبير”، “ماكبث” كان جنديًّا طموحًا أراد أن يحقّق سعادته من خلال السلطة والعرش. ولكنه لتحقيق ذلك، اختار قتل الملك “دنكان”، معتقدًا أن هذا الفعل سيجلب له المجد والسعادة. ومع ذلك، بدلاً من أن يجدها، واجه مشاعر متزايدة من الذنب والخوف، ممّا أدّى إلى انهياره النفسي وتدمير حياته وحياة من حوله
وفي هذا الصدد يقول الأصفهاني: “الخيرات ثلاثة: نافع وجميل ولذيذ… وكل واحد من ذلك ضربان؛ فأحدهما مطلق، وهو الذي يجمع الأوصاف الثلاثة في شيء كالحكمة فإنها نافعة جميلة ولذيذة. والثاني مُقيّد وهو الذي جمع شيئا من أوصاف الخير وشيئا من أوصاف الشرّ، فرُبّ نافع مؤلم ورُبّ نافع قَبِح”.
وهنا نتحدّث عن نظرية الوسط الفاضل (mesotes) ونشهد بالقول على ما يعتقده الإنسان، فالبعض يرى أن السعادة هي الثروة، وبعضهم يرى أن التمتع باللذات هو السعادة، وبعضهم يرى أن الرياسة هي السعادة، لكن الفلاسفة أقرّوا بأنها أعظم خيرًا من هذه المعتقدات..
فالعاقل هو من يتوسّط في جميع السلوكيات، ويقود وجودًا فضيلاً تكون فيه الفضيلة هي مصدر السعادة، بحيث تُعرف هنا بوصفها: “الحدّ الأوسط” بين طرفين نقيضين (نقيضتها الرذيلة).. لذلك فإن تحقيق السعادة هو تحقيق للفضيلة، وتُكتسب هي الأخرى بتوسّط العقل، وتتعزّز بالممارسة، حيث يؤكد “أرسطو” بذلك أنّ السعادة هي نشاط الروح بما يتوافق مع الفضيلة، وأنّ ما يصنع عظمة وسعادة الكائن البشري هو قدرته، باستخدام عقله، على أن يصبح فاضلاً وأن يجمع، من خلال الفعل الطّوعي، العديد من الفضائل المتنوّعة مثل: الشجاعة، الاعتدال، الجود، الشّهامة، الرّفق، الدّماثة، العدل، وما إلى ذلك من هذه الفضائل.

السعادة غاية لا تدرَك بسهولة..
سعادتي في إدخال السّرور على غيري
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر)
السعادةُ كلمةٌ كان الناس يتداولونها بـ “شراهة” في حياتهم اليومية منذ عقود، ولكنها الآن صارت عملة نادرة أو كما نسمّيها في مصر عملة صعبة، ويمكن أن نقول إنها أمست عملة ملغاة أو ممنوعة من التداول، لما طرأ على الحياة من تعقيدات وتشابكات وأزمات محلية على مستوى المجتمع ووطنية على مستوى الوطن، وعربية على مستوى الوطن العربي الكبير وإسلامية على مستوى العالم الإسلامي بدوله الخمس والأربعين وسكانه الذين ناهزوا المليارين، بل على مستوى العالم كله بملياراته الثمانية.
ويختلف معنى السعادة من إنسان إلى آخر، فهناك من يعرّفها بمظاهرها الآنية الظرفية مثل: الفرح، البهجة، السرور… لحادث فردي يطرأ على الإنسان كنجاح في الدراسة أو زواج أو إنجاب أو ما شاكل ذلك، وللإنسان الحق كل الحق في أن يسعد ويفرح ويبتهج ويسر لذلك أو لغيره مما يسعد المرء، ولعل أسباب السعادة ومظاهرها تتعدّد بتعدد البشر منذ خلقهم الله تعالى، وأكاد أقول إنها تشبه البصمة في تفرّدها، فما يسعدني قد يحزن غيري خصوصا إذا كنا في تنافس أو مباراة فردية أو جماعية، أو إذا كنا من مشجعي فريق معين ينافس فريقا آخر، وهنا يأتي مَن يعرفون السعادة بضدّها كالشقاء والضنك والألم والحزن، فبضدها تتميّز الأشياء.
وهناك مَن يرى في السعادة حالة نفسية مرتبطة بالرضى والطمأنينة ومصالحة الذّات والحياة! وهؤلاء هم العامة والدهماء وبخاصة الذين يتمتعون بالعيش في ظلال الإيمان، فهم يسعدون حتى بما يعدّه الآخرون مصدر شقاء وألم وحزن لأنهم يرون ذلك سبيلا يوصلهم إلى السعادة الأبدية في الدار الآخرة التي هي الحيوان، أي الحياة الحقيقية، فالحياة الدنيا هي قنطرة يعبرون عليها إلى الحياة الآخرة ومَثَلُها ـ الحياة ـ كما ضربه لنا النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل رجل اسظلّ بشجرة ثم تركها وانصرف.
والسعادة لغة ضد الشقاوة والسعد اليمن ونقيض النحس وفي المثل: في كل واد بنو سعد، ويضرب بوجود سوء المعاشرة في كل مكان. وسعدَيك بلفظ التّثنية أي أسعدت إسعادا بعد إسعاد، وفي: المثل أسعد أم سُعَيد، ويضرب في طلب تعيين أحد الفريقين، وبنت سعد هي البكارة.
وقد اختلف الفلاسفة والمفكّرون والأدباء في تعريف السعادة بحسب اختلافهم في انتماءاتهم إلى البيئة: المجتمعية والدينية والمرجعية الثقافية والفكرية.. ولو بحثنا عن السعادة في القرآن الكريم، لوجدناها في آيتين فحسب من سورة “هود” في سياق واحد، فقد ورد الاسم “سعيد” في قوله تعالى عن يوم القيامة “يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ” (سورة هود، آية 105). فالسعادة الحقيقية هي السعادة في الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة، وذلك في قوله تعالى “وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا” (سورة هود، آية 108).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء. ولا شك في أهمية هذه الأشياء التي حدّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحقيق السعادة للإنسان في الحياة الدنيا.
ومن أفضل ما قيل عن السعادة؟
- إنَّ السعداء بالدنيا غدا، هم الهاربون منها اليوم.
- كن إيجابيًّا وتذكر أنَّ قليلا من التفاؤل قد يصنع ألف طريق نحو السعادة.
- ازرع البسمة في وجهك، تحصد السّعادة في قلوب الناس.
- لو كنت تبحث عن السعادة في أمور الدنيا، فلن تجدها إلا مع الله، وكلما كنت أقرب من الله كلما زادت سعادتك وإن قل ما تملكه من هذه الحياة.
ويرى “ابن القيم”، رحمه الله، أنَّ اللذة التامة والفرح والسرور، وطيب العيش، والنعيم، إنما هو في معرفة الله، وتوحيده والأُنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهمِّ عليه، فإنَّ أنكد العيش عيش مَنْ قلبه مُشتّت، وهمه مُفرَّق، فاحرِص أن يكون همُّك واحدًا، وأن يكون هو الله وحده، فهذا غاية سعادة العبد، وصاحب هذه الحال في جنة مُعجلة قبل جنة الآخرة وفي نعيم عاجل. وقال أيضا: التوحيد يفتح للعبد باب السعادة.
ويرى كثير من العلماء أنَّ السعادة تكمن في اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال “الحسن الجوزقاني” رحمه الله: من علامات سعادة العبد: موافقة السنة في أفعاله. وقال شيخ الإسلام “ابن تيمية” رحمه الله: السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال العلامة “ابن القيم” رحمه الله: فلا نجاة للعبد ولا سعادة إلا باجتهاده في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علمًا، والقيام به عملًا، وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين: أحدهما: دعوة الخلق إليه، والآخر: صبره وجهاده على تلك الدعوة.
وهناك عشرات الكتب قديما وحديثا عرضت للسعادة وماهيتها وأهميتها في تحسين جودة الحياة وأسبابها وكيفية تحصيلها، ولعل ذلك يرجع إلى بحث الإنسان عن السعادة، وتختلف مناهج هذه الكتب وبرامجها في تحصيل السعادة باختلاف كُتّابها ومناهجهم وتوجهاتهم ومفهومهم للسعادة.
وفي اعتقادي أنَّ السعادة في الدنيا نسبية وأنَّ السعادة الكاملة والحقيقة هي سعادة الآخرة التي نصّ عليها القرآن الكريم، لأنَّ سعادة الدنيا مؤقتة وسعادة الآخرة أبدية، فالسعادة في الدنيا بين أمرين أحلاهما مرّ، فهي إما أن تتركك فتشعر بضدها وهي التعاسة أو الشقاوة، وإما أنْ تتركها بانقضاء الأجل، وفي كلا الحالين فهي محدودة بزمن معين، أما السعادة في الآخرة فهي مقيمة ملازمة للإنسان، وتلك هي السعادة الحقيقية.
وللسعادة في الدنيا معاييرها أو مظاهرها أو حالاتها، التي تختلف من إنسان إلى آخر كما قلتُ، وكما عشتها أو عايشتها، فقد تكون السعادة في الزواج وأحيانا يكون فيه الشقاء، وما المشاكل الأسريّة التي تقع كل لحظة والتي يتردّد صداها في أروقة المحاكم إلا دليل على ذلك. وقد تكون السعادة في إنجاب الأولاد، وقد يكمن الشقاء في طي هذه السعادة، إذا كان الولد شقيًّا، وما ورد في سورة “الكهف” من قتل العبد الصالح الذي صاحبه سيدنا موسى، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، خيرُ دليل على ذلك. وقد يجدها بعضهم في المال، والمال ظل زائل وعارية مسترجعة، فقد يفتقر الإنسان بعد غنى، فيحدث له من الشقاء أضعاف ما يصيب الفقير. وقد تكون السعادة في منصب يتولّاه الإنسان، فتعقبه التعاسة والشقاء إما بزوال المنصب عنه، وإما بعدم التوفيق فيكون الشقاء في الدنيا والآخرة… وهكذا كل نعمة قد يكون في طيّها نقمة، وكل سعادة قد تحمل الشقاء في تضاعيفها.. فأية نعمة وأيُّ سعادة تلك؟!
وقد عرض الفلاسفة للسعادة في بحوثهم لأنها تدخل ضمن اهتمامات فيلسوف الأخلاق، إذا أخذنا فلسفة الأخلاق على أنها البحث في مبادئ الســلوك الإنساني وغاياته؛ لأنَّ الســعادة تدخل في نطاق غايات هذا السلوك.
ولا تختلف تصوّرات الفلاسفة المسلمين عن مفهوم السعادة عند فلاسفة اليونان إلا أنَّ الســعادة في التصور الإســلامي لا تقتصر على الحيــاة الدنيا، بل أن يعمل الإنســان فــي دنياه من أجــل الحصول علــى الجزاء فــي الآخرة، أي الحصول على الخير والســعادة القصوى، وذلك بالعمــل على إعمار الأرض وحســن عبادة الله فيها، وإحياء المجتمعات الإنســانية على القيم الأخلاقية بالتعاون والإخاء والمحبة، فإذا جمع الإنســان بيــن الفضيلة والحكمة، وبين الأخلاق ومعرفة الله وعبادته تحقّقت له السعادة في الدنيا والآخرة.
وطالما بحث الناس عن السعادة الزوجية، فهي هدف يسعى إليه الكثير من الأزواج، وكل منهم يبحث عن وجود طُرق وأسباب تساعد على استمرارية الحب بالحياة الزوجية بعد أن تسببت الانشغالات الكثيرة في النسيان وفقدان الشغف غير المقصود بالعلاقة، فترى “ريهام عبد الرحمن”، خبيرة العلاقات الأسرية، أن أهم طرق الحفاظ على الحياة الزوجية:
التغافل من أجل بقاء الود: بمعني التغاضي عن الخطأ ونشر ثقافة التسامح والاحتواء بين الزوجين، فكسب القلوب أولى من كسب المواقف، فالمواقف قد تُنسى لكن الحب والاحتواء لا ينسى.
لغة الحوار: فأكثر ما يؤرّق الحياة الزوجية تراكم المشكلات وعدم حلِّها ممّا يزيد من الضغوط النفسية وعدم التفاهم بين الطرفين.
تبادل الهدايا والمفاجآت: وليس المقصود هنا تقديم الهدايا باهظة الثمن، ولكن المقصود التعبير عن تقدير كل منكما للآخر وكسر الملل والروتين داخل الحياة الزوجية، وفهم المرأة لسيكولوجية الرجل من الأشياء الضرورية في الحياة الزوجية، فالرجل بحاجة للتقدير والاهتمام ويحتاج تشجيعا، أما المرأة فهي دائما بحاجة للأمان والراحة وبحاجة لسماع كلمات الإعجاب والتقدير من الزوج.
الخروج في الإجازة: حيث أثبتت الدراسات العلمية أنَّ مجرد الدخول في تجربة جديدة يحفّز إنتاج هرمون الإندروفين في المخ، وهو الهرمون المسؤول عن السعادة وتقليل التوتر، لذلك فخروج الزوجين معا في إجازة قد يحسّن كثيرا من فرص استعادة الشغف في التواصل والمشاعر بينهما.
الاهتمام بالمظهر: فالاهتمام بالمظهر العام يحافظ على الحب والمودة بين الزوجين ويجعل كلا منهما يشتاق إلى الآخر كما لو كان يراه لأول مرة.
المشاركة في بعض الأنشطة: فالاهتمام يزيد بشكل ملحوظ عندما يتشارك الطرفان في بعض المهمات؛ كأن تهتم الزوجة بممارسة الرياضة التي يحبها زوجها أو النشاط الفكري الذي يمارسه كقراءة شعره أو مقالاته.
ثقافة التسامح والاعتذار: فنّ التسامح وتقديم الاعتذار إلى الطرف الآخر من الفنون الزوجية التي ينبغي على الزوجين تعلّمها، وكذلك كلمة “آسف” أو تقديم الاعتذار بالأفعال، فالشريك الذكي هو الذي يبادر بالاعتذار دون الحاجة أن يطلب الشريك الآخر منه ذلك، وهنا لا ينبغي أن تطول فترة الخصام بين الزوجين، حتى لا يحدث الجفاء والجمود العاطفي بينهما.
التقدير: عندما يشعر شريك الحياة بالتقدير تزيد مشاعر الحب الحقيقية التي يعجز الكلام عن وصفها، فلا يجب أن ينسى الزوجان أثر التقدير في تبادل الحب والاهتمام بينهما، فهو مفعول سحري يساعد على استمرارية العلاقة.
وكما اختلف الفلاسفة في مفهومهم للسعادة فقد اختلف الشعراء أيضا، وقد تناول الكُتّاب موقف الشعراء من السعادة من خلال شعرهم، فهم يشتركون فيه مع غيرهم من البشر من حيث التنوّع والتناقض والاختلاف، وما يميّزهم عن غيرهم هو أنهم استطاعوا صياغة نظرتهم للسعادة شعرا حفظه لهم ديوان العرب، فنرى “ابن أبي حصينة” يرى السعادة فى طول العمر فيقول:
لا تعدم الدنيا بقاءك إنما — طُول السعادة أَنْ تعيش طويلا
وهذا “أبو الفضل الوليد” يرى السعادة مجرد خدعة يغرينا بنيلها نزق الشباب بينما هي مجرد سراب، فيقول:
إنَّ السعادة خدعة قتّالة — نزقُ الشباب بنيلها يغرينا
ويشاركه في هذا الرأي “أبو القاسم الشابي الذي يرى السعادة حلما تسعى إليه الأمم وتبذل أيامها لهذه الغاية، فيقول:
فما السَّعادة في الدُّنيا سِوَى حُلُمٍ — ناءٍ تُضَحِّي له أَيَّامَها الأُمَمُ
بينما يرى “أبو العلاء المعري” أنَّ السعادة ينالها من ينأى بنفسه عن الطغاة، فيقول:
يتشبّهُ الطاغي بطاغٍ مثله — وأَخو السعادة بينهم مَن يسلم
ويرى “أبو العتاهية” أنَّ السعادة هي الابتعاد عن صغائر الأمور، واكتساب صفة الكرم، مع الكفّ عن أذى الآخرين:
وَمِنَ السَعادَةِ أَن تَعِفَّ عَنِ الخَنا — وَتُنيلَ خَيرَكَ أَو تَكُفَّ أَذاكا
وفى نظرة غير بعيدة عن نظرة “أبي العتاهية” نجد “ابن الأبار الأندلسي” يقول:
واحرص على نيل السعادة جاهدا — بالبر والتقوى فنعم النائل
وهناك قول مشهور في السعادة يردّده الوُعّاظ والخطباء:
ولستُ أرى السَّعادةَ جَمْعَ مالٍ — ولكنَّ التَّقِيَّ هو السَّعيدُ
ويوجّه “أبو الفتح البستي” مَن يرغب في السعادة أن يريح فؤاده من مطالعة العلائق والعوائق، وأن يفزع إلى الله ويتجنب الخلق، فيقول:
إن كنتَ ترغبُ في السعا — دة والإحاطة بالحقائق
وتريدُ أن تفضي إلى — سعة الفضاء من المضائقُ
فأرح فؤادك من مطا — لعة العلائقِ والعوائِق
وافزع إلى اللَهِ الكري — مِ ودع مواصلة الخلائق
إن السعيدَ هو الغنيُّ — عن العلائِقِ والعوائق
ويرى “نفطويه” أن السعادة في الصحة والقوت وأن من رزقهما فلا ينبغي أن يغبط المترفين، فإن الدهر يسلب منهم على قدر ما يعطيهم فيقول:
إذا ما كساك الدَّهْرُ ثوبَ مَصحَّةٍ — ولم يخلُ من قوتٍ يُحلَّى ويَعْذُبُ
فلا تَغْبِطَنَّ المُتْرَفِينَ؛ فإنه — على حسب ما يُعْطِيهمُ الدَّهْرُ يَسْلُبُ
وكأني به ينظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”، وهل هناك سعادة للمرء أفضل من حيازة الدنيا؟!
وأقوال الشعراء في السعادة وماهيتها وطرق الوصول إليها كثيرة ومتعددة فلكل وجهة هو موليها بحسب ميوله ورغباته ومفهومه الخاص للسعادة.
فموضوع السعادة؛ من الموضوعات الإنسانية الكبرى التي اندفع بعض الباحثين في البحث عنها ليجدها في العروض الزائلة، فالقزم يظن السعادة في العملقة، والعائل يظن السعادة في الغنى، والدميم يظن أنَّ السعادة في الجمال، والوضيع يظن أنَّ السعادة في الجاه، وهنالك من يظن السعادة في الجنس أو في الكأس، وكل ذلك من أنواع السعادة الموقوتة التي تزول بزوال أسبابها، وقد تعقب ندما وتعاسة وسوء عاقبة في الدنيا أو في الآخرة.
ويرى الشاعر الدكتور “عدنان علي النحوي” في قصيدته “مع الهجير” ألوانا من السعادة فيقول:
حنّ الجمالُ إلى الجمال — وتواثبت صور الدلال
رباه! كم درجت خطا — ي على المروج على التلال
ولكم هُرعت إلى الجنا — ن وربوة وندى الطلال
ولكم هربت من الهجيـ — ـر أغيب في برد الظلال
ولممت من بين الجدا — ول همستي وصدى خيالي
وجمعت من بين الحصى — زُهر الجواهر واللآلي
وقطفت من حلو الثما — ر هجعت في فيء الدوالي
وركضت أمعن في الحقو — ل وبين زاهرة التلال
ونزلت ودياناً وسا — بقت الخطا قمم الجبال
أجري وأوهامي وأحـ — ـلامي تلفت بالسؤال
وأظل ألهث خلفها — شوقاً إلى دنيا الجمال
دنيا الحقيقة من يفتحـ — ـها مضمخة الجلال
وأمد من كفيّ أبـ — حث عن رؤى بين الليالي
وأمزق الدرب الطويـ — ل خطا مشتتة الأمالي
وأسير والأيام تر — كض والمنى تجري حيالي
وتغيب أشباح وتط — ـوى بين أجفاني الليالي
وتفر أحلامي وتُفـ — ـلت من يدي تلك اللآلي
وأكاد أمسك بالطيو — ف فتختفي وأرى خيالي
يا حسرتاه فكم جري — ت وراء كاذبة النوال
وأصب من عرقي وأد — فع لهفتي بخطا عجال
كم قيل لي دنيا الحقيـ — ـقة في المروج مع الظلال
ومع الجِنان مع الورو — د مع الشواهق والعوالي
ومع الرغاب الماجنا — ت مع الهوى واهاً لحالي
ونظرتُ في كفيّ َفا — رغتين والدنيا حيالي
وأكاد أجمعها فولـ — ـت كالطيوف إلى زوال
قد لوثوا طهر الجما — ل وروعوا خفر الغزال
داسوا على حلو الورو — د على الجِنان على اللآلي
سحقوا الأزاهير التي — رويتها بدمي ومالي
سرقوا الجواهر والكنو — ز وكل حالية وغالي
جفت فروعك يا جِنا — ن وأجدبت خضر التلال
وتساقطت دنيا الخريف — على التراب على الرمال
وكأنها وهم السرا — ب كأنها ومض الخيال
ورجعت في حمى الهجيـ — ـر وبين أطياف وجال
ويكاد يقتلني الظما — وتكاد تطرحني رحالي
قدماي ترتجفان منهكـ — ـتين من طول ارتحالي
وتكاد تغلبني الشكا — ة من الضياع من الملال
ورميت يا رباه آ — مالي على وهن الكلال
وتركت خلفي كل أحـ — ـلامي وأشباح الضلال
وتركت أوهام السرا — ب ركام أيامي الخوالي
ورجعت أبحث في الحقيـ — ـقة في الطهارة في الجمال
فوجدتها في النفس في الأ — عماق في شرف الفعال
في رفة الإيمان في الأنـ — ـداء في عقبى مآل
إنّ دواعي الألم والتوجّع والحسرة والخوف من المستقبل.. تُحاصرنا من كل الجهات، حتى لتبدو السعادة آخر أمرٍ يُمكن أن نعرفه ونتحدّث فيه، فجرحنا النازف منذ عقود في فلسطين، والمجازر وحرب الإبادة المُعلنة على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، والآن في لبنان وسوريا واليمن.. تجعلنا نفرّق بين نوعين من السعادة: سعادةٌ فرديةٌ “طارئة”، وسعادة جمعيّة أو سعادة أمّة مُثخنة بالجراح!
ويلعب الأدب دورا كبيرا في التبشير بالسعادة في مثل هذه الظروف، فعلى الأديب شاعرا كان أو كاتبا أن يدعو إلى كل ما يحقق للبشرية السعادة والطمأنينة والسكينة والأمن والسلام، ويحذّر وينفّر من كل ما يحقق الشقاء والتعاسة والخوف والفزع والخوف، لتنعم البشرية وتسعد بدلا من الشقاء الذي ينال الضعفاء أفرادا وشعوبا على يد الأقوياء الذين تجردوا من الإنسانية.
ويمكن القول إنَّ السعادة في الدنيا شيء بعيد المنال يسعى إليه كل إنسان منذ خلق الله آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهي جماع آمال الإنسان، وقد يسعى الإنسان إلى حتفه بظلفه، فقد يكون العطاء في المنع ونحن لا ندري، ونسأل الله السعادة الدائمة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ويسعدني أن أعلم القارئ بأنني أجد سعادتي فيما يدخل السعادة والسرور على غيري ممّن أتعامل معهم سواء من أهل بيتي من زوج وأولاد وأحفاد، أو من إخوتي وأخواتي وأبنائهم وأحفادهم، أو من أصدقائي أو من تلاميذي وتلميذاتي، أو من جيراني، وقد ورثت ذلك عن والدي يرحمه الله الذي كان خدوما للناس في عمله وخادما لهم في محيطه الاجتماعي، يباشر العمل العام في خدمة الناس منذ تفتّح وعيي وحتى لقي الله، كما ورثته عن أمي ـ يرحمها الله ـ التي كانت تؤثر غيرها على نفسها عملا بقوله تعالى: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (سورة: الحشر، الآية: 9).
وقد قلت في والدي حين أحيل إلى التقاعد من قصيدة بعنوان “لمسة وفاء”:
عبد العظيم اهنأ بما قدمته — للناس من عطف ومن إحسان
كم دق ملهوف علينا بابنا — حينا بإذن أو بلا استئذان
فأغثته وقضيت حاجته بلا — من وكنت به الرؤوف الحاني
علمتنا أبتاه أن لأهلنا — حقا علينا من بني الإنسان
فبك اقتديت وما اعتديت وإنما — منك التمست معالم الإيمان
ضحيت بالغالي النفيس لأجلنا — حتى تحقق للجميع أماني
يا رب بارك في أبي واحفظه لي — ولإخوتي نبعا من التحنان
وفي أمي الحبيبة ـ يرحمها الله ـ قلت أثناء غربتي:
أمي إليك تحية المشتاق — ومحبة نشرت على الآفاق
كم كنت يا أماه راحة متعب — ولأنت يا أماه درعي الواقي
ضحيت يا أماه دوما بالذي — تهوى الملاح من الهوى البراق
وصبرت يا أماه صبرا طيبا — ولكم جرعت مرارة الأشواق
ودفعتنا للعلم دفعا مثلما — يدعو المشوق وحيده لعناق
وغمرتنا بالحب فابتسمت لنا — دنيا غدت كالجدول الرقراق
وفي رثاء أخي الحبيب ـ يرحمه الله ـ طوفت حول هذه المعاني الموروثة من الوالدين فقلت:
نعى الناعي أخي فعلمت أني — نعيت وليس ذلك بالتجني
أخي قد كنت لي سندا وعونا — وأكثر خبرة بالناس مني
سداد الرأي عندك أبتغيه — إذا جمحت خيول الرأي عني
رزقت محبة ورزقت برا — وإخلاصا ونبلا دون ظن
عطاؤك يا أخي للناس دوما — يفيض على الجميع بغير مَنِّ
بأمك يا أخي قد كنت برا — فيا بشراك في جنات عدن
حنوت على أبيك حنو شيخ — على أبنائه لعلو سِنِّ
بذلت العون للإخوان دوما — ولم تقلب لهم ظهر المجن
وكنت لنا جميعا كهف أمن — نلوذ به فنلقى كل أمن
ولم تخفض جناح الذل يوما — لدى باغ، كذا من صغر سِنِّ
رُزِقت بلاغة ورُزِقت فقها — فكنت تسير سير المطمئن
حباك الله عقلا ألمعيا — فخضت به بساحة كل فن
وفي زوجتي قلت مُعبّرا عن سعادتي بها وممتنا لها، داعيا الله أن يجمعنا في جنات النعيم كما جمعنا في الدنيا على المحبة والسعادة، وعنونت القصيدة “دعوت ربي”:
فداك نفسي وروحي — وخافقي وحياتي
فأنت قرة عيني — وأنت صورة ذاتي
وأنت نبع حنان — يفيض بالمكرمات
وأنت باقة ورد — إريِجَّة النفحات
غمرتنا بوداد — فيما مضى والآتي
جزاك ربك خيرا — يا آية الآيات
فلست أنسى حياتي — صنيعك المعجزات
بذلت وقتا وجهدا — ضحيت باللذات
وقفت جنبي كثيرا — في أحلك الأوقات
أيام كنت فقيرا — مروع اللفتات
صبرت صبرا جميلا — على عسير الحياة
وكنت ظلال ظليلا — يا أجمل الواحات
بالحب عشت سعيدا — على مدى السنوات
رزقت منك بأشهى — وأطيب الثمرات
فأحمد هو بكري — محمد بعض ذاتي
دعوت ربي يبارك — لهما بكل صلاة
وأن يكونا ظهيرا — صلبا لدى الأزمات
وأن يعيشا بحب — ويعشقا المعلوات
وأن يحبا إلها — يغمرهما بالهبات
حتى يفوزا بدنيا — وينجوا في الممات
بذا أكون سعيدا — وأنتشي بحياتي
ولا أبالي كثيرا — متى تحين وفاتي
أدعوك ربي حبيبي — يا واسع الرحمات
بأن نكون جميعا — في أرحب الجنات
وأن تمن علينا — بلذة النظرات
لوجه رب كريم — ربي أجب دعواتي
وقد حياني أخي وصديقي الحبيب د. جمال مرسي بأبيات وقد بدأت عامي الستين، تؤكد عمق المودة بيننا وفي ذلك منتهى سعادتي، فقال:
عام عليك أيا بسيم عظيم — يحلو به الإنشاد والترنيم
عام يجيء وفيه يرقى سلما — للمجد.. رغم الكارهين.. بسيم
عام تدوم به الصداقة والرضا — وكأنه يا ابن الكرام نسيم
ماذا أقول لمن أشعت شمسه — في الروح وهو بناظري مقيم
وإذا كتبت فهل أوفي حق من — أعطى بكل الحب فهو كريم
شهم شجاع مخلص لرفاقه — وهو الذي يسمو به التكريم
يا صاحب القلب الكبير تحية — والحب في قلبي إليك عظيم
فاقبل فديتك أحرفا من خافقي — والله بالقلب النقي عليم
ويطيب لي أن أختم مقالي بقصيدة حققت لي من السعادة ما لا يقدر بمال وهي دليل صدق المودة بين الأصدقاء، أهداني إياها أخي وصديقي د. شعبان عبد الجيد حين بلغت عامي الستين، وجعل عنوانها “ستون في الخيرات”، يقول فيها:
سِتُّـــــون في الخيرات يا صاحبي — منذ ارتقى في النور عقلُ الصَّبِي
سِتُّــــــــــــون والأحلامُ لا تنتهـي — مهما توارَى الحُــلْـمُ في الغَيْـهَبِ
هـــــــل تذكـــرُ الأيامُ قلبَ الفتــى — في زحـمة الأطفال فـــي المكـتبِ؟
كيف استثار الوحـــيُ في رُوحِـه — أسرارَه بالمنطـــقِ اليَــــعرُبـــــي؟!
كيــــــف انتشت بالذِّكْرِ أنفاسُـه — يَشْـــدو مع المَــــدَّاحِ باسْـمِ النـبي؟
يدعــــــو مع الداعين في لهفةٍ — أن يغفـــرَ الـــــــرحمـن للــــمـذنبِ
ويردَّدُ الأورادَ في خَلْــــــــــــوةٍ — تحــــــــلو بها الأذكـــــــارُ للمتعَبِ
فسما إلى الآفاقِ وجـــــــــدانُه — ورأى جَـــــــمالَ الـعالَـمِ الأرْحَــــبِ
وسَعَى يُغِذُّ الخطوَ يبغي العُلا — وأدارَ ظَـــهْـــر الجِـــــــــــدِّ للـملعَـبِ
في الدرس والتحصيل أيامُه — أَكْــــــرِمْ بـــــــــذاكَ الطالِبِ الأنْــجـَبِ
كم صاحبَ الأوراقَ لا يبتغي — لذات هــــــــــذا الأكــــــلِ والمشـرَبِ
من أجل عين العلمِ مصروفُهُ — بسواه لم ينعَــــــمْ ولـــــــــم يَــطرَبِ
هو وحدَه ورفـــــــــاقُ أيامه — كتُبٌ بهـــــا المكـــــنونُ والمخْــتَـبي
هو وحدَه يمضي رفيقَ السُّها — يا أُنْسَهُ في دَربِـــــــــــه الأصْــعَـبِ
يا فرْحَـــــهُ حين استقامتْ له — أوزانُـــــــه بالـــــــــــرائع المطـرِب
فشدا يروضُ الحرفَ حتى أتى — بعد امتلاكِ القـــــــــــولِ بالمعجِـبِ
كم عارضُ الشادين في فــنِّهم — كم سابــــــقُ السارين في الـــموكبِ
يرنو بعيـــن الفن للبحتــــــري — ويريدُ بالأخـــــــــــــرى أبا الطيِّبِ
أنغامُــــه تتلو أمانـــــــــــــــيَّه — للعالم الحيــــــــــــرانِ في الكوكَـبِ
لا تعرفُ الأغلالَ أشـــــــعــارُهُ — لكــــــــــــنَّه يـــــأْتمُّ بــــالمـذهبِ
يَجلو قديمَ الشكلِ فـــــي نظمهِ — ويجـــــــــــيءُ في معـناه بالأخلَبِ
دعْ ذا وحدِّثْ عنــه في دَرْسِه — عن عالمٍ فـــــــــــــــذٍّ ومستـوعِبِ
أبكارُ أفكارٍ ولا مثْـــــــــلُـــها — لم يُــــــــــــــوفِها مَهرٌ ولمْ تُخـطَبِ
فَــــرَّتْ من الأسفار تعنو له — وكأنَّــــــــــــها حُفــــظِتْ ولم تُكتَبِ
تتحيرُ الأسماعُ في ســــرِّها — يا لاقــــــتــدارِ الحُـــــــــوَّلِ القُلَّبِ!
يمضي يصَرِّفُها إلى قصــدِهِ — هــل يملكُ المأســـــورُ من مهربِ؟
أستاذ فن القولِ حلَقاتُــــــــه — للقاصديـــــنَ نهـــــايـــــةُ الـمـأرَبِ
يجدون فيها كلَّ مــا تشتهي — ألبابُـــــهم مــــــن ثمـره الطيِّـــــبِ
فإذا انتهى الأستاذُ من دَرْسِهِ — فانظر لما يجنُـــــون مـن مكــسبِ
من عطفه من دفءِ إحساسه — من حبِّــه من مَكْـــــرُمــات الأبِ
هو ذاكَ أستـــاذاً وسل صحبَهُ — ينبئْكَ مَــــن تلقاه بـالأعجــــــبِ
عن أريحيِّ الطبعِ إن تأتـــــه — ترجــــو عطاءَ السحْبِ لا يَهرُبِ
يعطي بلا مَنٍّ ولا يــــــرتجي — إلا ثواب المُــــنعِمِ المُــــــــوهِبِ
لم أُوفِهِ بقصيــــــدتي حـــــقَّه — كلا.. ولم أدركْ بــها مطلبـــــي
وعـــــــــــزاؤها أني بأبياتها — أظهرتُ مــــا أُخـفِي ولم أحجُــبِ
بعضَ الذي عاينتُ من فضلِه — وصدى عطاءِ المــوردِ الأعذبِ!
فهل هناك سعادة تعدل محبة الأصدقاء؟!

للسعادة مُشتقّاتها أيضا!
سامر المعاني (كاتب من الأردن)
لقد ظهر مصطلح السعادة المطلقة في الحياة بمفاهيم تقاربية وحالات جسدية ونفسية وروحية جزئية بنسب متفاوتة من حيث الحالة والظروف والواقع، فوُجد هناك كثير من المصطلحات تحدّد مفهوم الحالة النفسية التي ربّما تصل إلى ما يقارب لمفهوم السعادة وليس السعادة المطلقة.
ذُكر مصطلح السعادة في القرآن الكريم فقط في الجنة، فالسعادة المطلقة أو الجزئية مرهونة بعدّة عوامل تحقق النتيجة والارتباط بالإنسان والمكان وكل العوامل المحيطة به.
من هنا السؤال العام للمصطلح: هل السعادة شعور مُكتمل بالرضا والقبول أم هي مؤقتة تأتي مع النجاح وتحقيق الإنجاز والأمنيات أو الانتصار؟ وهل السعادة مطلقة أم جزئية تنتهي بانتهاء الوهج والنشوة للحالة والأشياء؟
هناك عدة مصطلحات وكلمات لا يميّز الإنسان بينهما مثل الفرح والسرور والسعادة والبهجة.. واستخدمت في كثير من الأعمال الأدبية على أنها متشابهة وتؤدي الغرض والمعنى نفسه! ومن هنا نذهب إلى مفهوم السعادة وما تشعّب منها في أكثر من جانب.
في مجال الإبداع الأدبي والفني، يُعدّ أيّ عمل أدبي يحمل وجهين، وجه الإمتاع، ووجه الهدف أو الرسالة، للوصول إلى مقاصد المُنتَج الإبداعي الذي يستهدفه الكاتب فيكون عمله مميّزًا وناضجا يحمل هدفا ويسعد روّاده وقُرّاءه في أيّ جنس أدبي وفني.
من الجوانب الأخرى التي تجعل رسالة السعادة في الأمل.. أنها تترافق مع مفهوم الانتصار كالحرية وفك الحصار والتحرير والانتصار من الإنسان الذي يتعرض للظلم الفردي والجماعي أو على مستوى الوطن.. كما يرتبط مفهوم السعادة النفسية بمفهوم الارتباط الذي يتواجد في العلاقات الإنسانية، في الأسرة والصداقة والزواج والحب الذي يعتقد الطرفان أنه بلغ السعادة والمتعة بالتوافق والتجانس والارتباط الجسدي والنفسي والروحي.
وفي المفهوم المادي، فإن التحقّق يكون من جهة الكسب والربح من خلال نجاح البيع والشراء، أو من خلال الإنتاج والاختراع الذي يجعل المكسب المادي يجلب التميّز والتفرّد والقوة التي تعطي للمنجز سعادة تتحقق بالمكسب المادي.
وفي الباب الأخير من أشكال الحالات التي تُفرح الإنسان وتقدّم له التميز والمتعة والنشوة الأقرب إلى دروب السعادة.. مفهوم الشهرة أو المنصب الذي يعتقد الإنسان بهما على أثر وجوده المتميز الذي يجعل منه إنسانا يحتاجه الآخرون، وهو محطّ إعجاب وجاذبية وقبول، فتكون هيبته وكلمته وتأثيره كبير جدًّا على الإنسان.

لا سعادة عربية دون تحقيق النّصر على العدو الصهيوني
وليد عبد الحميد العياري (شاعر وكاتب تونسي)
السعادةُ كلمةٌ صعبةُ التفسير لأنها ببساطة تبقى شيئًا منشودا، فالمريض سعادته في شفائه، والفقير تتحقق سعادته في توفير المال، والمسكين تتمثل سعادته في إيجاد رغيف يسدّ رمقه، والغني سعادته في تحقيق الطمأنينة وراحة البال.. السعادة نسبية وكلٌّ يفسّرها ويحسّ بها طبقًا لتحقيق حاجياته ومتطلباته الحياتية والفسيولوجية والاقتصادية والاجتماعية.
من وجهة نظري، لا أرى سعادة بكثرةٍ في روايات وقصص الأدباء العرب وحتى العالميين، فالأدب الواقعي لكل من: طه حسين، محمود تيمور، نجيب محفوظ، ميخائيل نعيمة.. قد تطرّق في جوانب عديدة إلى مشاكل اجتماعية كالفقر والتهميش وحياة الريف والطبقة الكادحة والاستعمار الإنكليزي وغيرها من المواضيع التي تتخلّص في مظاهر الألم والوجع والأسى والمأساة. فـ “محمود المسعدي”، الكاتب التونسي الكبير، يقول إنّ الأدب مأساة أو لا يكون، إذ نلاحظ في روايته “السد” التي وقع تحويلها إلى عمل مسرحي قد عالج عجز “غيلان” عن بناء السدّ وبالتالي عجز الإنسان عن تنفيذ عدة مشاريع في حياته ومعاناته.
فالسعادة في الأدب لا نجدها كثيرًا، والإنسان أو بالأحرى المُفكِّر أو الشاعر والأديب.. تتحقق سعادتهم من خلال تحقيق الذات والنجاح والتميّز في أعمالهم الأدبية وحتى في حياتهم على المستوى الفردي والجماعي.. فالأديب دوره مهمٌّ جدًّا في صناعة الأمل لدى شعبه ومجتمعه، وبالتالي صناعة السعادة، أو تحقيقها في المستقبل رغم الظروف الاجتماعية الداعية إلى اليأس والإحباط التي تجتاح العالم كله..
فما نراه اليوم من قتل وتهجير وظلم وتنكيل في غزّة وكامل فلسطين وفي لبنان، محبطٌ للعزائم ويجعلنا نعيش الألم ومرارة الخضوع والخنوع، ومن ناحية أخرى يدفعنا إلى التفاؤل والأمل والثقة بالله في تحقيق النصر على العدو.
لكن في زمننا الراهن لا نرى أدبًا يدعو إلى المقاومة، فجلُّ الكتابات اقتصرت على الشعر الذي يدعو إلى المقاومة والنضال والتّحدي لتحقيق الذات والوجود والانتصار على العدو.. بل الأدب قديمًا كان أكثر شجاعة وحماسة كقصائد: محمود درويش، أحمد مطر، بدر شاكر السياب، نزار قباني، وكتابات غسان كنفاني ومظفر النواب وغيرهم…
فالشّاعر يجد سعادته في تحقيق ذاته والاعتراف بإنسانيته دون تمييز ولا عنصرية، إذ يقول الشاعر التونسي “وليد عبد الحميد” في نصه “أنا إنسان”:
أنا.. إنسان
أنا… إنسان
لا تنتقد صمتي
من خاصرة الألم
ولدت ذات وجع..
بلا هوية ولا عنوان..
مُشرّد في سراديب الأنانية..
أجترّ أسطوانات الأرق والمعاناة
أرتشف جرعات الصبر
يرتجف الحرف فوق خلجات الوجدان
أنا… إنسان
لا تضرب بعصاك أحلامي
ولا توقد في خبايا نفسي شعلات بركان
دعني أزرع البسمة
فوق وجه فجري..
وأرسم تقاسيم الفرح فوق جدران زمني
أنحتُ على جبين قدري أجمل الأمنيات
أنا إنسان حر
لماذا تغتصب ثورتي..
وينكح أملي وتسرق ضحكتي..
ويقبر بوحي باسم الديمقراطية
أنا… إنسان
لا تعاملني على أساس ديني أو عرقي
أنسج من الحروف
روايات عشق وأشعار
تسجد لي القوافي
ترقص نشوى بأنغامي في يمّ الهوى الحيتان..
أنا… إنسان
نثرت العلوم والفنون
فوق المنابر والمسارح
كالورود في الجنان..
أنا الخليفة في الأرض..
ولن ينازعني فيها شيطان ولا جان..
لوني أبيض.. أسود
أصفر..
لا تهتم..
أنا كتلة من مشاعر وأفكار
تُضحكني مواقف
تُبكيني مواقف..
عاجز أمام الرّدى
أجمع شتات نفسي
ثرثرتي تؤرّقني..
ماجنا أحيانا
كاهنا.. قدّيسا… زاهدا أحيانا
أرتق جراحي بخيوط أمل كاذب..
في صيفي تحرق أشعة الشمس جلدي…
وفي الشتاء لسعات البرد تنحت التجاعيد في جسدي
أنا… إنسان
في كهف التمنّي
أخيط رداء الانتصار لأفكاري…
ألتحف بعباءة العزيمة
زمن القحط والانهيار..
أنا.. إنسان وكفى
فسعادة الشاعر تكمن في احترامه كإنسان وهذا ما نفتقده في اللحظة الراهنة، وهذا ما نعيشه من انتهاك لحقوق الإنسان في فلسطين ولبنان والسودان وغيرها من بلاد العرب والمسلمين..
فالأدب العربي فشل في تحقيق السعادة للمواطن العربي، فنرى روايات كلّها مأساة وحروب، ولكن من ناحية أخرى حقق الأديب والشاعر لنفسه سعادة فردية أو شخصية وربما تكون آنية لأنّ المثقف العربي أو المبدع العربي الحقيقي يحمل هموم شعبه ومشاغل وطنه ويعيش الحيرة والوجع والقلق ولكن من واجبه أن يعيش على الأمل في غد أفضل ويسعى في كتاباته إلى بعث التفاؤل بغدٍ مزهر ومستقبل أفضل للشعوب العربية..
السعادة لا تتحقق إلا بتحقيق النصر على العدو وتحقيق الأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة في الوطن.. ولكن تبقى السعادة نسبية ومُستبعدة في ظل ما نشهده من حروب ودمار في وطننا العربي الحبيب..

السعادة مفهوم إنسانيّ مثير..
نحن أمام سعادات مُفردة لا تُعدّ ولا تُحصى!
أ.د. صبري فوزي أبو حسين (أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات، جامعة الأزهر – مصر)
“السعادة” لفظة جميلة ذات إيحاء طيب مريح، وهي تمثل غاية كل إنسان في المعمورة كلها. وقد اختلف في تحديدها دينيًّا وفكريًّا وأدبيًّا، ويكاد يكون لكل باحثٍ متعمِّق رؤية خاصة فيها وحولها، حسب عقيدته وأيديولوجياته ومرجعيات بيئته وعصره، فما أكثر المذاهب في البحث عن مفهوم السعادة؛ فهي موضوع إنساني مثير للتساؤلات والنقاشات والحوارات، بعضهم يراها في الغنى، وبعضهم يراها في الجاه، وبعضهم يراها في القوة، وبعضهم يراها في الجمال، وبعضهم يراها في لذات شرابيّة أو طعاميّة أو شهوات جنسية.. وهكذا دواليك! يقول الأستاذ “العقاد” (ت1964م): “وهناك سعادة واحدة تتفق عليها جميع التّعريفات وتتوافى لديها جميع الآراء، تلك هي السعادة المطلقة أو هي سعادة الاكتفاء التام الذي لا يتوق إلى شيءٍ واليقين الدائم الذي لا يعتريه شك ولا اشتباه. وليست تلك السعادة منَّا ولا نحن منها؛ لأنها فيما نظن هي السعادة الربوبيّة الغنية عن كل أملٍ والخلود الآمن من كل آفةٍ، وهل نطمع نحن في هذه الأمنية؟ بل هل نريد نحن في هذه الحياة أن نكتفي فلا نأمل وأن نوقن فلا نرتاب؟ كلا، هذا ما لا نحبه ولا نريده ولا نناله إذا أردناه، فإنما طلبتنا نحن معلقة بغير السعادة التي تتفق عليها التعريفات وتتوافى لديها الآراء، وإذا تركنا هذه السعادة المطلقة جانبًا فقد بقيت لدينا سعادات كثيرة بغير حصرٍ ولا تعريفٍ وليس سعادة مفردة يحدها تعريفٌ واحد”.
وكلما تطورّت حياة الإنسان تغيّرت رؤيته لمفهوم السعادة ومعالمها، ومن ثم فنحن أمام سعادات مُفردة لا تُعدّ ولا تُحصى. وهذا يدعونا إلى معايشة هذه الرؤى حول مفهوم السعادة عند طوائف من المُفكِّرين، على النهج الآتي:
السعادة لغويا
ولنبدأ باللغويين باعتبارهم أصحاب الفكر المعتمد على قواعد رصينة ثابتة في التفكير، فالجذر اللغوي (س/ ع/ د) ذو دلالة كلية حدّدها العلّامة “ابن فارس” (ت395هـ) بقوله: “السين والعين والدال أصلٌ يدلّ على خير وسرور، فالسعد اليُمن في الأمر”، وهي عند “ابن منظور” (ت711هـ) صاحب “لسان العرب”: “اليُمْن، والسعودة: النحوسة، و(السعادة): خلاف الشقاوة، وقد سَعِد يسعَد سعْدًا وسَعادةً، فهو سعيد: نقيض شقي، وسعد: فهو مسعود، والجمع سعداء. قد سعده الله وأسعده وسعد جدُّه وأسعده: أنماه، وسعِد الشَّخصُ: أحسّ بالرِّضا والفرح والارتياح، عكس شقي. يقال: قلبٌ سعيد وعمرٌ مديد”، فكل ما يُدْخِلُ البَهْجَةَ وَالفَرَحَ عَلَى النَّفْسِ سعادة، ويقال في الخطاب الحديث: “يَا صَاحِبَ السَّعَادَةِ: كَلِمَةُ تَعْظِيمٍ وَإجْلاَلٍ، لِذَوِي الْمَنَاصِبِ الكُبْرَى: الْمُدِيرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ وَالوُزرَاءُ وَرُؤَسَاءُ الحُكُومَاتِ: أصْحَابُ السَّعَادَةِ، سعادة السفير، صاحب السعادة”، فـ (السعادة) لغويًّا تدور حول الفرح واليُمن والبركة والسرور والرضا والارتياح والتوفيق ونيل الخير.
السعادة في الخطاب الإسلامي
“السعادة” في الخطاب القرآني الكريم أخروية، لا تكون إلا بعد القيامة، ولا تكون إلا لفئة معينة من البشر، وضدها الشقاوة. يقول ربنا عزوجل في سورة “هود”: “يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ” (الآيات: 105 إلى 108). والسعيد هو من وعده الله بقوله في سورة “النحل”: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (الآية: 97). والشقي هو من قال عنه ربنا عز وجل في سورة “طه”: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ” (الآية: 124).
أمّا “السعادة” في الخطاب النبوي الشريف فيشير الرسول- صلى الله عليه وسلم – إلى أنواع أو أسباب من السعادة في الدنيا قائلاً: “مِنْ سعادَةِ ابنِ آدمَ ثلاثَةٌ ومِنْ شِقْوَةِ ابنِ آدَمَ ثلاثة. مِنْ سعادَةِ ابنِ آدَمَ المرأةُ الصالحةُ، والمسْكَنُ الصالحُ، والمركبُ الصالحُ، ومن شِقْوَةِ ابنِ آدَمَ المرأةُ السوءُ، والمسكنُ السوءُ، والمركبُ السوء”، وهذه الأشياء الدنيوية بلا ريب ذات أثر طيّب في حياة كل إنسان؛ فكل ما يحقق راحة وطمأنينة وسكينة وألفة في الدنيا، ويتفق مع التصوّر الإسلامي للحياة والأحياء فهو “سعادة”. و”السَّعادتان” في الخطاب الإسلامي هما: السَّعادة الدِّينيَّة والسَّعادة الدُّنيويّة، والسعادة الدنيوية محطة ومركب إلى السعادة الدينية الأخروية، والناجح حقًّا مَن رُزِق السعادتين معًا..
السعادة فكريا
و”السعادة” في اصطلاح الفلاسفة والمتصوُّفة: حال تنشأ عن إشباع الرغبات الإنسانيّة كمًّا وكيفًا، عكس الشقاوة. وبعض المفكرين يرى السعادة حسن الأخلاق والقدرة على التعامل الإيجابي مع الحياة والأحياء، وبعضهم يراها أن تحبّ ما تعمل، وأن تعمل ما تحب. وبعضهم يراها ذلك الشعور الغامر المرتبط بالانتشاء والراحة النفسية، والشعور بالمكافأة والاكتفاء، وبعضهم يراها أن تعيش كل يوم بأمل جديد وبعمل جديد، وأن تعيش حياتك دون أن تنظر إلى الوراء إلّا إلى الذكريات السعيدة، وسعادة الإنسان تكون بالذِّكر والشُّكر والصبر والاستغفار.
وسعادتي شخصيًّا في الإنتاج والتعمير في الكون لا سيما كل نتاج علمي أو أدبي أضيفه إلى مجال تخصصي، وهو الأدب والنقد، سواء بطريقة شفهية عن طريق الخُطب والمحاضرات والدروس أو المتابعة الحوارية لجهد بحثي لآخرين وأخريات ممّن أشرف عليهم وعليهن، أو بطريقة كتابية عن طريق المقالات والأبحاث والمنشورات الرقمية. ولعل أقرب المقولات لمفهومي هذا ما نُسب إلى الإمام علي- رضي الله عنه – من قوله: “إن كنت شاغلاً نفسك بلذة فلتكن لذتك في محادثة العلماء ودرس كتبهم، فإنه ليس سرورك بالشهوات بالغًا منك مبلغًا إلا وإكبابك على ذلك، ونظرك فيه بالغة منك غير أن ذلك يجمع إلى عاجل السرور تمام السعادة، وخلاف ذلك يجمع إلى عاجل الغي وخامة العاقبة، وقديمًا قيل: أسعد الناس أدركهم لهواه إذا كان هواه في رشده، فإذا كان هواه في غير رشده فقد شقي بما أدرك منه، وقديما قيل: عَوِّد نفسك الجميلَ فباعتيادك إياه يعود لذيذًا”.. والسعادة أنواع منها السعادة قصيرة الأمد، والسعادة طويلة الأمد. والسعادة الفردية، والسعادة الزوجية، والسعادة الأسرية، والسعادة الاجتماعية، وكلما أحس الإنسان بالرضا في كل زمان يعيش فيه، وفي كل مكان يتحرّك فيه، ومع كل مجموعة بشرية يجاورها ويحاورها، فهو في (السعادة بأنواعها)!
مفهوم السعادة في الشعر التراثي
عندما نطالع لفظة “السعادة” في مُدوّنة الشعر العربي نجد مفهومًا جزئيًّا لها عند الشاعر الجاهلي “ذي رعين الحميري” في قوله:
ألا من يشتري سهرا بنوم — سعيد من يبيت قرير عين
فأما حمير غدرت وخانت — فمعذرة الإله لذي رعين
فالغدر والخيانة من مُسبّبات الأرق والقلق والهم، ومن ثم تمنى الشاعر المغدور به أن يجد من يعطيه سعادة تتمثل في النوم قرير العين!
ويأتي مفهوم السعادة إسلاميًّا محددًا عند الشاعر المخضرم “الحطيئة” (ت26هـ) في قوله:
ولست أرى السعادة جمع مال — ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرًا — وعند الله للأتقى مزيد
وما لا بد أن يأتي قريب — ولكن الذي يمضي بعيد
فهذه رؤية مُحدّدة للسعادة في أنها مرادف التّقوى، وأنها خير الزاد، وأنها تقتنص في الزمان القريب، ولا يُبحث عنها في الماضي البعيد! ويسير “أبو العتاهية” (ت211هـ) السّير نفسه فيقول:
الحَمدُ لله، طُوبَى للسّعيدِ، وَمَنْ — لم يُسعِدِ الله بالتّقوَى، فقَد شَقِيَا
ويجعل الشاعر العباسي “علي بن الجهم” (249هـ) السعادة مرتبطة بالقدر في الحياة بقوله:
هي الأيام تكلمنا وتأسو — وتجري بالسعادة والشقاء
فلا طول الثواء يرد رزقا — ولا يأتي به طول البقاء
ويسير “المتنبي” (ت354هـ) سيرًا ذاتيًّا في موقفه من السعادة، فالسعادة لديه في تحقيق مراده من الحياة، يقول:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني — ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تلق دهرك إلا غير مكترث — ما دام يصحب فيه روحك البدن
فما يدوم سرور ما سررت به — ولا يرد عليك الفائت الحزن
فالسعادة المطلقة غير مُتحقّقة ولا منجزة لأحد في هذه الحياة، وعلى هذا النحو سار معظم الشعراء التّراثيين، حيث يرون الدهر قُلَّبًا والأيام دولاً، فالدنيا قائمة على التغيّر في الأحوال، لا سعادة فيها دائمة ولا شقاء فيها دائم؛ فهي حقًّا متاع الغرور، وسعادة متقطّعة! وهذا ما أوجزه “أسامة بن منقذ” (ت584هـ) في نتفته:
كل شيء تراه في هذه الدنــــ — ــــــيا خيال إذا انتبهت يزولُ
ما يدوم النعيم فيها ولا البؤ — سُ، متاعُ الدنيا متاعٌ قليلُ
والذي يصرف الهموم إذا ما — ضقت ذرعًا بهن صبرٌ جميلُ
ويقول الشاعر الصوفي الكبير “محيي الدين بن عربي” (ت638هـ):
إنَّ السعادة َ بالإيمانِ قدْ قرنتْ — والسعدُ يسعدُ ما وهمي يصوِّره
السعادة في الشعر الرومانسي الحديث
وإذا ما انتقلنا إلى الشعر الرومانسي الحديث نجد رؤية أخرى للسعادة عند الشعراء الكبار من الديوانيين والمهجريين والأبولليين. فهذا الأستاذ “العقاد” يقف كعهدنا به – مفكّرًا جبّارًا وفيلسوفًا عميقًا – في بيان مفهوم السعادة وأنواعها ومعالمها فيدبّج مقالة (السعادة) وينشرها في مجلة الرسالة سنة 1941م، يقول فيها: “والسعادة إن أردتها سعادة لذات معهودات فأنت واجدها لا محالة في وقت من الأوقات. أما إن أردتها سعادة العمر أو سعادة في كل شيء لا نظير له ولا انقطاع لها فتلك هي الاستحالة التي تنفرد بها السعادة، ولا فرق بين تعذُّرها وتعذّر كل مطلوبٍ على تلك الشريطة… فالسعادة طبقات وأصناف. والصنف الرخيص منها موجود وموفور ومبذول، والطبقة القريبة منها على متناول الباع الطويل والباع القصير.. لأن السعادة الملازمة للإنسان في كل حالة وكل مطلب هي المثل الأعلى، وهي الحلم، وهي الغاية التي لا تدرك، والبغية التي لا تنال”.
ويقول في مقالته (صورة السعادة) في كتابه “مراجعات في الآداب والفنون” معترفًا بحالته الخاصة من السعادة شابًّا وكهلاً، أما موقفه من السعادة شابًّا فيقول عنها: والحقُّ إننا إذا بحثنا عن السعادة بالتعريفات والحدود فقد نطلبها، وهي تطرق بابنا وقد نُعرِض عن طلبها ونحن أحوج الناس إليها، وأحسب أن سعادات الصبا كلها من قبيل تلك السعادة المتنكّرة التي نستمتع بها ولا نعرف ما اسمها ولا يخطر لنا أن نرفع القناع في تلك اللحظة عن مُحيَّاها، وكأنني كنتُ في حالةٍ قريبةٍ من هذه الحالات يوم قلت في نحو الثامنة عشرة أخاطب السعادة:
مَه يا سعادة عني — فما أنا من رجالك
لا تطمعي اليوم مني — بالسعي خلف خيالك
فقد سألتكِ حتى — مللتُ طول سؤالك
وقد جهلتكِ لما — سحرتِني بجمالك
… ثم علمتُ لما انقضَت تلك الأيام أن سعادة من السعادات التي نطلبها ونلحّ في طلبها قد زارتني يومئذٍ مِرارًا، وسألتني حتى ملت طول سؤالي خلافًا لما زعمتُ من أنني قد سألتها حتى مللتُ سؤالها… وكان خطئي أنا أنني لم أستقبلها بحفاوتها التي تستحقها، وكان خطؤها هي أنها لم تعلن لي حقيقة اسمها، ومضت كما قلت بعد سنين “كأنها قُبلَة في ثغرٍ مخمورٍ”!
أما عن مفهومه للسعادة كهلاً فيقول: “ولما جاوزتُ الثلاثين وضح لي رأيٌ جديدٌ في السعادة الإنسانية فقلتُ: إنها هي شيء خُلِقَ لنفسين اثنتين تشعران بها معًا لا لنفسٍ واحدةٍ تشعر بها منفردة، وإننا إذا طلبناها وحدنا فقد شطرناها شطرتين فلا تقع في حوزتنا إلّا وهي سعادة ميّتة…! وذاك إذ أقول:
يـا سـائلي أين السعا — دة أين صفو العيش أين؟
إن السعادة لن ترا — ها في الحياة بمقلتين
خلقت لأربع أعين — تخلو بها ولمهجتين
لك مقلتان ومهجة — أترى السعادة شطرتين؟
وضبابية مفهوم السعادة نجده عند الشاعر المهجري الفيلسوف “جبران خليل جبران” (ت1931م) في قصيدته “المواكب”، حيث يقول:
وما السعادةُ في الدنيا سوى شبحِ — يُرجى فإن صار جسماً ملّه البشرُ
كالنهر يركضُ نحو السهلِ مكتدحاً — حتّى إذا جاءه يُبطي ويعتكرُ
لم يَسعد الناسُ إلا في تشوّقهم — إلى المنيع فإن صاروا به فتروا
فإن لقيت سعيدًا وهو منصرف — عن المنيع فقل في خلقه العبرُ
وهذا الشاعر الأبوللي “أبو القاسم الشابي”(ت1934م) يبدع قصيدة يعنونها بالسعادة، فيقول:
تَرجُو السَّعادة َ يا قلبي ولو وُجِدَتْ — في الكون لم يشتعلْ حُزنٌ ولا أَلَمُ
ولا استحالت حياة ُ الناس أجمعها — وزُلزلتْ هاتِهِ الأكوانُ والنُّظمُ
فما السَّعادة في الدُّنيا سوى حُلُمٍ — ناءٍ تُضَحِّي له أيَّامَهَا الأُمَمُ
ناجت به النّاسَ أوهامٌ معربدة ٌ — لمَّا تغَشَّتْهُمُ الأَحْلاَمُ والظُّلَمُ
فَهَبَّ كلٌ يُناديهِ وينْشُدُهُ — كأنّما النَّاسُ ما ناموا ولا حلُمُوا
ثم يقدم رؤيته لسعادة الحياة قائلا:
خُذِ الحياة َ كما جاءتكَ مبتسماً — في كفِّها الغارُ، أو في كفِّها العدمُ
وارقصْ على الوَرِد والأشواكِ متَّئِداً — غنَّتْ لكَ الطَّيرُ، أو غنَّت لكَ الرُّجُمُ
واعملْ كما تأمرُ الدُّنيا بلا مضضٍ — والجم شعورك فيها، إنها صنمُ
ولعل تشبيهه الدنيا بالصّنم لا يحمل دعوة إلى عبادتها بل هو تعبير عن جمودها وحَجَرِيّتها وعدم قدرتها على النفع أو الضر! ويقدّم منهجه في التعامل مع الحياة، ذلك المنهج الذي يكون سبب السعادة فيقول:
فمن تألّم لم ترحم مضاضتهُ — وَمَنْ تجلّدَ لم تَهْزأ به القمَمُ
هذي سعادة ُ دنيانا، فكن رجلاً — إن شئْتَها أَبَدَ الآباد يَبْتَسِمُ!
وإن أردت قضاء العيشِ في دعَةٍ — شعريّة ٍ لا يغشّي صفوها ندمُ
فاتركْ إلى النّاس دنياهمْ وضجَّتهُمْ — وما بنوا لِنِظامِ العيشِ أو رَسَموا
واجعلْ حياتكَ دوحاً مُزْهراً نَضِراً — في عُزْلَة ِ الغابِ ينمو ثُمّ ينعدمُ
واجعل لياليك أحلاماً مُغَرِّدة ً — إنَّ الحياة َ وما تدوي به حُلُمُ
ويقول عن نفسه بعد مماته:
فأنا السعيدُ بأنني متحولٌ — عن عالم الآثام والبغضاءِ
لأذوبَ في فجرِ الجمالِ السَّرْمَدِ — يِّ وأرتوي مِنْ مَنهل الأضواء
ولعل أدلَّ نصٍّ على تلك الحيرة في تحديد مفهوم السعادة قول الشاعر الفيلسوف المهجري الشاعر “إيليا أبو ماضي” (ت1957م) مُحاورًا صاحبه المتشائم عن السعادة:
قُلتُ: السَعادَةُ في المُنى فَرَدَدتَني — وَزَعمتَ أَنَّ المَرءَ آفَتُهُ المُنى
وَرَأَيتُ في ظِلِّ الغِنى تِمثالَها — وَرَأَيتَ أَنتَ البُؤسَ في ظِلِّ الغِنى
ما لي أَقولُ: بِأَنَّها قَد تُقتَنى — فَتَقولُ أَنتَ: بِأَنَّها لا تُفتَنى
وَأَقولُ: إِن خُلِقَت فَقَد خُلِقَت لَنا — فَتَقولُ: إِن خُلِقَت فَلِم تُخلَق لَنا
وَأَقولُ: إِنّي مُؤمِنٌ بِوُجودِها — فَتَقولُ: ما أَحراكَ أَن لا تُؤمِنا
وَأَقولُ: سِرٌّ سَوفَ يُعلَنُ في غَدٍ — فَتَقولُ لا سِرُّ هُناكَ وَلا هُنا
يا صاحِبي هَذا حِوارٌ باطِلٌ — لا أَنتَ أَدرَكتَ الصَوابَ وَلا أَنا
ولعل البيت الأخير دالٌّ على هذه الحيرة في تحديد مدلول السعادة وموطنها!
وهذه الشاعرة العراقية “نازك الملائكة” (ت2007م) تعلن عن ضبابية مفهوم السعادة وعدم وجودها قائلة:
قد بحثنا عن السعادة لكن — ما عثرنا بكوخها المسحور
أبدا نسأل الليالي عنها — وهي سرّ الدنيا ولغز الدهور
وقالت أيضا:
أين من هذه الحياة ابتسامات — الأماني ونشوة الأفراح
كيف يحيا فيها السعيد وليست — غير بحر تحت الدجى والرياح
انظروا كل ما على الأرض يبكي — فأفيقوا يا معشر الحالمين
وهذا الشاعر الداعية الإصلاحي الجزائري “إبراهيم أبو اليقظان” (ت1973م) ينحو منحى وعظيًّا في بيانه مفهوم السعادة فيقول:
إن السعادة روضة غناء في — قمم الجبال ودون كل غاب
إن الحياة كجنة قد أقفلت — مفتاحها الأوصاب والأنصاب
من يجتهد يبلغ ومن يصبر يصل — وينله بعد بلوغه الترحاب
أما الكسول أو الملول فحظه — الآساد في غاباتها وذئاب
ويذهب مذهبًا مخالفًا الشاعر الكويتي “عبد الله آل نوري” (ت1981م):
تعست هذه الحياة فما يسعد — فيها إلا الجهول ويرتع
هي الدنيا في كل يوم ترينا — من جديد الآلام ما هو أوجع
وهكذا نجد التنوّع الرُّؤيوي في تبيُّن مفهوم السعادة بين طبقات مختلفة من الباحثين والعلماء والأدباء والشعراء، وممّا يكاد يكون متفقًا عليه هو أن السعادة المطلقة لا يمكن أن تتحقق لبشرٍ، وأن السعادة الدنيوية الحقيقية تكمن في رضا الله تعالى ورضا النفس وحب البشر، وهو ما عُبِّر عنه بالسكينة والطمأنينة والحب والود والألفة والحياة الطيبة التي ينبغي أن تؤدي إلى السعادة الأخروية الحقيقية الدائمة، فاللهم اجعلنا من عبادك السعداء المُسعِدين!