يموت الكاتب عندما ينقطع القرّاء عن تقليب صفحات كتاباته، ونفض الغبار عن أفكاره من حين إلى آخر. وكذلك تموت الكتابات ذاتها إذا لم تجد من يجدّد بعثها وإحياءها بين النّاس. وتكاد المكتبات العربيّة أن تكون مقابر للكُتّاب والكُتب، وكذلك الأمر بالنسبة لمراكز المخطوطات والوثائق، فهي تزخر بثروة هائلة من المجلاّت والدراسات والبحوث.. ولكنها في حُكم “المعدوم”! وإذا كان الإنسان يُولد مرّة واحدة، ويموت مرّة واحدة أيضًا، فإنّ الكاتب يُولد مرّات ومرّات في كل كتابٍ يُصدره أو كتابة ينشرها، وهو أيضا يموت مرّات ومرّات عندما “تُحشر” كُتبه وكتاباته في ذاكرة النسيان!
ومن الكُتّاب مَن يشعرون بـ “الموت” وهم على قيد الحياة، وذلك عندما يرون كتاباتهم أسيرة في سجون النِّسيان، أو هي فقدَت القدرة على “التّنفّس” من تحت ما تراكَم فوقها من كتابات أخرى في زمن يكاد أن يصير فيه الكُتّاب أكثر من جماهير القُرّاء، من فرط التّسهيلات التي وفّرها الأنترنت في مجال النشر الرقمي.. وأيضًا، من الكُتّاب من تتملّكهم الرغبة في تجديد ولادتهم من خلال إعادة طباعة ونشر كتبهم أو جمع ما تفرّق من كتاباتهم ودراساتهم وبحوثهم ونشرها في كتاب يضمّها.. ولكنهم يخشون “الموت” قبل الولادة، فليس أصعب من أن يضحِّي الكاتب بجهده ووقته وماله، ثم يُصدر كتابا أو ينشر دراسة لا تلقى التّقدير الذي تستحقّه، وفي المقابل قد يرى “خربشات” على الجدران “الرقمية” تلقى الرّواج والتفاعل.. ونكتفي بتوصيفها: “خربشات” وفقط!
ولا عجب أن نجد كُتّابًا من أزمة غابرة ما زالوا يعيشون بيننا من خلال كتاباتهم وأفكارهم التي نتداولها بيننا، بينما هناك كُتّاب آخرون من عصرنا لفّهم النِّسيان فلم نعد نسمع لهم ذكرًا كأنّما انقطع “نسلهم” الأدبي والفكري بانقطاع القرّاء عن تصفّح كتاباتهم!
إنّ الكاتب العربي محكومٌ عليه بـ “الموت الأدبي” أو الفكري كلّما جدّد ولادته في إصدار كتابٍ أو نشر كتابة، ولن نغوص في الأسباب ونتعمّق في التفسير والتّبرير، فالقضية تبدأ من أزمة صناعة الكتاب في الوطن العربي وتنتهي بالنشر الرقمي الفاقد لمُدوّنة تُميّز بين الكاتب صاحب الفكر الأصيل، وبين الدّخيل على الكتابة وعالم الأفكار ولكنه وجد من يروّج له “خربشاته” وحتى “سرقاته”.. ولن نخوض في هذه القضية المُعقّدة و”الغائمة” مثل قضايا كثيرة في مجرّة الأفكار والثقافة العربيّة!
في مدار هذه الأفكار، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من كُتّابنا العرب بالتساؤلات التالية: تزخر المكتبة العربية بما لا يُحصى من الكتب والكتابات (مقالات ودراسات وبحوث في الدّوريات على اختلافها) التي طواها الزّمن ولا يُرجع إليها إلاّ في إطار البحوث والدراسات.. وكأنّها أعمالٌ صارت في حُكم الميّتة، رغم أنّ فيها ما هو جديرٌ بإعادة بعثه وإحيائه ونشره بين النّاس. إذا حصرنا هذه القضية فيما يتعلّق بالكاتب.. هل تعتقدون بأنّ لكم كتابات (كتب، مقالات، دراسات، نصوص إبداعية أدبية..) تحتاج إلى إعادة بعث ونشر، حتى وإن تطلّب الأمر إعادة مراجعتها وتنقيحها؟ وهل أنتم مع إعادة نشر الكاتب لكتاباته من حين إلى آخر، كلما رأى بأنّ له كتابة معيّنة تفيد في المرحلة الراهنة مثلا، كأنما هي كُتِبت لليوم وليس للأمس الذي كُتبت فيه فعليًّا؟
وقبل أن نترك القارئ مع رُؤى وأفكار نخبة كُتّابنا العرب، فإنّنا ننبّهه إلى أنّ إعراضه عن القراءة، ونقصد الكتابات الجديرة بالقراءة، فإنّه في واقع الحال يُساهم في “قتل” الكُتّاب و”الحجر” على الأفكار الأصيلة.. بكل ما يعنيه ذلك من إضرارٍ بالأدب والثقافة والعقل العربي! وسوف نتجاوز في القول بأنّ العزوف عن القراءة يكاد أن يكون “جريمة” في حقّ الثقافة العربية ومستقبلها، وأيضًا في حق الأفكار الأصيلة والكُتّاب “الحقيقيين”.
“حياة ثانية”.. هل ينجح بعث الكتابات القديمة في الحفاظ على بصمة المؤلف؟
بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كُتّاب مصر
منذ أن بدأ التّدوين والكتابة، وتمّ تصنيف الكتب وتأليفها، والكاتب يكتب الكتاب على صورة مقالات ودراسات وخواطر يقوم بتسجيلها ثم يجمعها في كتاب بنفسه أو يجمعها تلاميذه ومريدوه، كما أن هناك نوعا من التصنيف القديم يُعرف بالأمالي، مثل كتاب “الأمالي والنوادر” لـ “أبي علي القالي”، و”ذيل الأمالي”، وهناك كتب المجالس مثل “مجالس ثعلب” لعالم اللغة المشهور : “أبو العباس أحمد بن يحيى، المعروف ب: ثعلب”، وهناك كتب المسامرات مثل “محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار” للزمخشري، و”الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي، وهناك كتب الوعظ مثل “صيد الخاطر” لابن الجوزي، وغير هذه الكتب التي كانت في بدايتها على ما ذكرنا، ثم جُمعت في كتب ليستفيد منها مَن يطالعها في حينها في جهات مختلفة من رقعة الخلافة الإسلامية التي امتدت من الصين شرقا حتى الأندلس غربا، وشملت قارات العالم القديم الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتم حفظ مخطوطاتها في المكتبات الكبرى على مستوى العالم العربي والإسلامي، ثم سطت الدول الغربية التي احتلت دول العالم العربي والإسلامي من القرن التاسع عشر على كثير من كنوز المكتبة العربية والإسلامية ونقلتها إلى بلادها، والحق أقول إنَّهم أسدوا لنا خدمة جليلة بحفظهم لهذه المخطوطات، وتحقيق كثير منها، ولو ظلّت في بلاد العرب والمسلمين لأكلتها الأرَضة بسبب انتشار الأميّة وعدم إدراك قيمة هذه الكنوز القيمة من التراث العربي والإسلامي.
وتزخر المكتبة العربية في العصر الحديث بما لا يكاد يُحصى من الكتب والكتابات: (مقالات ودراسات في المجلات والجرائد) التي طواها الزّمن ولا يُرجع إليها إلاّ في إطار البحوث والدراسات.. وكأنّها أعمالٌ صارت في حُكم الميّتة، رغم أنّ فيها ما هو جديرٌ بإعادة بعثه وإحيائه ونشره بين النّاس، وتلك حقيقة واقعة، فكثير من الكُتّاب والمُؤلِّفين والمُصنِّفين ـ وخصوصا الروّاد ـ كتبوا مقالاتهم ودراساتهم وخواطرهم، وقاموا بنشرها منجمة في الصحف والمجلات، ثم جمعوها بعد ذلك في كتب ما نزال ننتفع بها وستظل الأجيال القادمة تنتفع بها مطبوعة أو بصورة إلكترونية، وكان الفضل في ذلك لنشأة الصحافة في الوطن العربي في القرن التاسع عشر.
ومن أمثلة الكتب التي كُتِبت منجمة في العصر الحديث على صورة مقالات في الجرائد والمجلات، كتاب “وحي القلم” للأديب الكبير “مصطفى صادق الرافعي” بمجلداته الثلاث وهو عبارة عن مقالات وقصص كتبت في مجلة “الرسالة”، وكتاب “وحي الرسالة” للأديب الكبير “أحمد حسن الزيات”، مُؤسِّس مجلة “الرسالة”، وكتاب “حديث الأربعاء” لعميد الأدب العربي الدكتور “طه حسين” بأجزائه الثلاث، وهي دراسات في الأدب العربي نُشرت منجمة ثم جُمعت في كتاب ليفيد منها دارسو الأدب العربي، وفيها تسجيل لتغيّر رأي “طه حسين” بخصوص شكّه في الشعر الجاهلي، وكتاب “فيض الخاطر” لأحمد أمين، وكثير من كتب “العقاد” و”المازني” و”محمد حسين هيكل” وغيرهم، وكُتب الأدباء من الصحفيين مثل: مصطفى أمين وعلي أمين وأنيس منصور وأحمد بهاء الدين ومصطفى محمود ومحمود السعدني وجلال عامر وغيرهم..
وأذكر أنني كنت في منتصف السبعينات من القرن العشرين ـ في طريق عودتي من المدرسة الثانوية التي كنت أقطعه سيرا على الأقدام ـ أطالع روايات “مصطفى أمين” على صفحات جريدة “أخبار اليوم” كل يوم سبت، مثل الآنسة هيام والآنسة كاف، وكنت أستمتع بأسلوبه الجميل وصوره الفنية الرائعة، كما كنت أقرأ عموده “فكرة”، وأذكر أنّ الرئيس “السادات” منعه من الكتابة فترة، فكان يكتب فكرة كل يوم ويضعها في درج مكتبه، ثم طبعها في كتاب سماه “أفكار ممنوعة”، والرواية الأشهر لأديب نوبل “نجيب محفوظ”، “أولاد حارتنا” نُشرت كذلك منجمة قبل أن تُطبع بين دفتَي كتاب.
ومعظم كُتب أساتذتنا الأجلاء من الأكاديميين ـ فيما عدا رسائل الماجستير والدكتوراه ـ عبارة عن مقالات وبحوث أدبية أو لغوية كتبوها إمّا للحصول على الترقية العلمية أو الإسهام في المؤتمرات العلمية الأدبية أو اللغوية، أو في التخصّصات المختلفة كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا، واللغات المختلفة كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية والعبرية والتركية وغيرها من اللغات التي تُدرّس بكليات الآداب والألسن واللغات والترجمة.
وقد أطلق بعض أساتذتنا على كتبهم ما يشي بأنها كانت بحوثا أدبية أو لغوية، ومن هؤلاء على سبيل المثال أستاذنا المرحوم الدكتور “رمضان عبد التواب”، أستاذ العلوم اللغوية وعضو مجمع اللغة العربية بالعراق، حيث أطلق على أحد كتبه “بحوث ومقالات في اللغة”، وسمّى أشهر كتبه “فصول في فقه العربية”، وكثير من كتب أستاذنا الدكتور “إبراهيم عوض” ـ حفظه الله ـ عبارة عن مقالات أدبية أو بحوث شارك بها في مؤتمرات علمية وقام بجمعها بعد ذلك، وهكذا كلّ الأساتذة والزملاء بكليات الآداب والألسن ودار العلوم واللغة العربية بالجامعات المصرية، ولا أظن الأمر يختلف عن ذلك في كليات الآداب على مستوى العالم العربي.
وكل كليّة من هذه الكليّات لها مجلة علمية تنشر البحوث المحكمة لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات بغرض تقديمها للترقية، وكثير من هذه البحوث تظلّ راقدة على متون الصحف في تلك المجلات، ولا ينتفع بها إلا الدّارسون والباحثون الذين ينتفعون بها في دراساتهم وبحوثهم ورسائلهم العلمية، بينما تظل بمعزل عن المثقف العادي المهتم بالدراسات الأدبية، ما لم يقم أصحابها بطباعتها في كتاب يكون في متناول القرّاء، وينتشر في عالمنا العربي لتحدث المثاقفة.
وإذا حصرنا هذه القضية فيما يتعلّق بكُتبي المنشورة.. فإن جُلَّ ما أصدرتُ من كتب ـ عدا رسالة الماجستير ـ ما زالت مخطوطة ـ وعنوانها: “الصورة الشعرية عند ابن خفاجة الأندلسي”، ورسالة الدكتوراه التي طبعتها منذ ثلاثين سنة في كتاب عنوانه: “شعر الأسر والسجن في الأندلس: جمع وتوثيق ودراسة” ـ هي دراسات وبحوث أدبية بعضها قُدِّم في ندوات ومؤتمرات أدبية في مصر والسعودية، وبعضها بحوث أدبية ونقدية محكمة نُشرت في مجلات علمية كمجلة كلية “الآداب” جامعة “عين شمس”، ومجلة كلية “الآداب” جامعة “المنوفية”، ومِمّا نشر في مؤتمرات دولية بحثي عن “مكة المكرمة في رؤية أحمد المبارك ومحسن باروم” ضمن منشورات مؤتمر: مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، وقد طبعتُه في كتيِّب مستقل.
ومِمّا كُتِب للمشاركة في ندوات بكلية التربية للبنات بالأحساء، وبعض منتديات الأحساء مثل “إثنينية النعيم الثقافية” و”أحدية المبارك الثقافية” وملتقى السرد الأدبي بالأحساء: “درر أحسائية: نماذج من الإبداع الأدبي النسائي في الأحساء”، و”الأحساء في عيون الشعراء”، و”بوح على بوح البوادي” لعبد العزيز سعود البابطين، و”قراءة في ديوان أغاني الغرباء” لأحمد عبد الهادي، و”حديث الجوهري عن العبقرية ممثلة في محمد إقبال”، و”ظاهرة الإرهاب في الشعر السعودي” المعاصر من خلال شعر عبد الرحمن العشماوي، و”في رحاب الأديبة الراحلة عائدة أبو زهرة”، وقراءة أولى في نصوص “عندما يبكي القمر” لحليمة مظفر، و”جولة في عالم الأديبة الشاملة نوال مهني” وقراءة في ديوانَيها: نبع الوجدان وأغاريد الربيع، و”قراءة في رواية درة من الأحساء لبهية بو سبيت”، و”قراءة في أدب الأميرة سلطانة السديري” و”همسات نقدية قراءة في أدب الكاتبة السعودية د. هيفاء اليافي”، وقد ضم هذه البحوث والمقالات كتابان أولهما: “دراسات في الأدب النسائي”، صدر عام 1425هـ/ 2004 بالاشتراك مع صديقي الأديب السعودي الأستاذ “أحمد بن إبراهيم الديولي”، والآخر “في النقد التطبيقي”، صدر عام 1426هـ/ 2005.
ثم كان كتابي الثالث “دراسات وبحوث أدبية” الذي صدر في طبعة تجريبية عام 2017، ثم صدر في طبعته الأولى عام 1444هـ/ 2022، متضمِّنًا اثنين وعشرين مقالا أدبيا جديدا، وثلاثة مقالات أعدتُ نشرها ـ ربما لأهميتها ـ وهي “بوح على بوح البوادي للبابطين”، و”الأحساء في عيون الشعراء”، و”ظاهرة الإرهاب في الشعر السعودي المعاصر”.
وجاءت الدراسات والبحوث الجديدة على النحو الآتي:
“الشاعر الإنسان حامد رجب”، و”الجغرافي شاعرا.. صلاح عبد الجابر أنموذجا”، و”الحسيني عبد العاطي: طفل يمتشق النور بحثا عن سنبلات الحلم”، و”محمد سالمان الشاعر الإنسان”، و”فوقية السحيمي.. الشاعرة الإنسانة”، و”وشم بقلمي على (وشم في دمي) للشاعرة الدكتورة نجوى يونس”، و”خنساء الأحساء، شاعرة واعدة وديوان طال انتظاره”، و”بعض القيم الإسلامية في أدب الأطفال: قراءة في ديوان أحمد شوقي للأطفال”، و”همس على همس الندى” للشاعر مصطفى فريد، و”مثلث الإبداع: إطلالة على كتاب اتجاهات الصورة في شعر محمد سالمان”، و”الماء في القرآن الكريم والشعر الأندلسي”، و”تصدير موسوعة (أم كلثوم وشعراؤها) للشاعر بشير عياد”، و”شبكة التواصل الاجتماعي وأثرها في القصيدة المعاصرة”، و”التغيرات التي حدثت في الأدب بعد ثورة 25 يناير”، و”المثقف بين هاجس الحضور وهاجس الغياب، و”الأستاذ الدكتور منير سلطان ورحلة البحث عن منهج قويم في الدرس البلاغي”، و”رواية أزيز البركان للأديب الأستاذ أحمد بسيوني: قراءة نقدية”، و”مجموعة في العمر بقية للأستاذ علي الميهي: قراءة نقدية”، و”قراءة نقدية للمجموعة القصصية (حلم أشهب) لسعاد الزامك، و”ملامح دراسة الأدب عند الأستاذ الدكتور محمد زكريا عناني”.
وقد أهديتُ كتابي “دراسات وبحوث أدبية” بعد روحي أمي وأبي، برًّا بهما ووفاء لهما، وبعد زوجي الحبيبة د. كريمة محمد ريحان، تقديرا وحبا فهي التي صبرت عليّ ولا تزال، أهديته إلى أرواح أساتذتي الأجلّاء الذين تعلّمت منهم وما زلت أنهل من علمهم وأدبهم زادا لا ينفد، وأخصّ منهم أستاذي الناقد الكبير العلامة “الطاهر أحمد مكي”، الذي كان لي أبا وصديقا قبل أن يكون عالما ومعلِّما، وأستاذي الذي تعهّدني منذ نعومة أظفاري الناقد الكبير “فتحي محمد أبو عيسى”، يرحمهما الله. وإلى أبنائي وبناتي طلاب قسم اللغة العربية بكليتي الآداب والتربية جامعة المنوفية. وإلى أصدقائي الأحباء الذين كتبت عنهم في هذا الكتاب من الأدباء والأديبات، في مصر والمملكة العربية السعودية، فلولا نتاجهم ما كان هذا الكتاب. وإلى أبنائي وبناتي من الأدباء الشبان، عسى أن يجدوا في كتابي ما يفيدهم على طريق الأدب الجاد الهادف.
وأخيرا إلى أحفادي، عسى أن يحبّوا الأدب شعره ونثره، فيكونوا من أصحاب الذوق الرفيع، ويسهموا في بناء مصرنا الحبيبة بهمّة عالية وعزيمة صادقة، فمصر تستحق منا الكثير، عسى أن يقيل الله عثرتها، وتنهض من كبوتها، بفضل سواعد أبنائها المخلصين.
وقدّمتُ للكتاب بمقدمة قصيرة قلت فيها بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذه مجموعة دراسات وبحوث أدبية، كتبت في مناسبات مختلفة على مدى عشرين سنة أو يزيد، وبعضها نشر في كتب أو مجلات أدبية، وجلّها لم يُنشر، فأردت جمعها في هذا الكتاب، ليستفيد بها أبنائي وبناتي في قسم اللغة العربية بكليتي الآداب والتربية جامعة المنوفية، ثم لمحبي الشعر والأدب من أبنائنا وبناتنا شداة الأدب، ومن يرغبون في الثقافة الأدبية، أو يرومون خوض بحار الأدب شعرا ونثرا، فهي بمثابة نظرات أدبية ونقدية في موضوعات طرحت على الساحة الأدبية والاجتماعية، وقراءات في بعض الدواوين الشعرية والروايات والمجموعات القصصية، أو التعقيب على الكتب، أو التحية والتقدير لبعض أعلام الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية من أساتذتنا الأجلاء”.
وتابعتُ في وصف هذه المجموعة قائلا: “هذه هي المجموعة الثانية ـ عدا كتاب دراسات في الأدب النسائي ـ من البحوث والمقالات، وقد سبقتها مجموعة صدرت في كتابي (في النقد التطبيقي)، وإن شاء الله تتبعها مجموعة ثالثة، إن نسأ الله في الأجل، ونسأل الله أن يلهمنا الصواب في الفكر والقول والعمل، وأن يجنِّبنا الخطأ والزّلل في كل ما نعمد إليه من قراءات أدبية ودراسات نقدية، نهدف من ورائها إلى خدمة الأدب العربي شعره ونثره، الذي هو مادة اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، التي تعاني ضعفا على ألسنة أبنائنا وعلى أسلات أقلامهم، وتشكو إلى الله تخاذل جهود أبنائها في نصرتها والذود عن حياضها، في وقت عصيب تعاني فيه أمتنا العربية والإسلامية من هجمات ضارية شرسة من أعدائها، بله من أبنائها، عن جهل تارة وعمد تارة أخرى. “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”. وكتبتُ المقدمة صباح الخميس 16 من رجب 1438 هـ / 13 من أبريل 2017.
وهناك كما قلتُ مجموعة ثالثة من الدراسات والبحوث، ومجموعة رابعة سوف أضمِّنها البحوث المحكمة التي نُشرت في مجلات علمية.
ومن ثم يتبيّن لنا أنَّ ما يخطّه الكاتب من مقالات وبحوث ودراسات يحتاج إلى إعادة بعث ونشر، حتى وإن تطلّب الأمر إعادة مراجعتها وتنقيحها.
فأنا مع إعادة نشر الكاتب لكتاباته من حين إلى آخر، كلما رأى بأنَّ له كتابة معيّنة تفيد في المرحلة الراهنة وكأنما هي كُتبت لليوم وليس للأمس الذي كُتبت فيه فعليًّا.
وقد شرفتُ بأن دَرَّس لي العلامة الدكتور “محمد مهدي علام” ـ يرحمه الله ـ نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعميد آداب “عين شمس” السابق وأستاذ اللغتين العربية والإنجليزية معا، وكانت له مؤلفات قيّمة كان يوزع علينا بعضها في المحاضرة خصوصا على الطلاب الذين يشاركون معه، ومنها كتاب عن “مي زيادة”، وكتاب “فلسفة الكذب”، و”فلسفة المتنبي”، وكتبه لم تكن مطبوعة سوى هذه الطبعة القدية التي تعود إلى خمسين عاما للوراء، وكنا نطلب منه إعادة طباعتها، فيقول إنَّ كتبه أدَّت دورها في حينها، وكنتُ ـ مع إجلالي له ـ أختلف معه في هذا الرأي أنا وصديقي المرحوم “إبراهيم محمود سليمان”، فمن حق الأجيال الجديدة أن تطّلع على نتاج أسلافها من الباحثين والنقّاد الرائعين المجتهدين من الروّاد.
نسأل الله أن يرحم نقّادنا وكُتّابنا الأجلّاء الذين علّمونا حبّ الأدب وغرسوا فينا حب اللغة العربية، كما نسأله سبحانه أن نكون قريبين منهم في العلم والعمل، وأن نترك أثرا طيِّبًا في طلابنا مثلما تركوا آثارهم الطيبة فينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لماذا يعيد الكتَّاب نشرَ مؤلَّفاتهم؟!
بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد – شاعر وناقد وأكاديمي من مصر
الباحثون في التراث العربي، قديمِه وحديثه، يعرفون جيِّدًا أن ما نُشِر منه أقلُّ بكثيرٍ مما لم يُنشَر، وبخاصةٍ ما كُتب منه قبل أن نعرف المطبعة، وقبل أن تكثر في بلادنا دُور النشر بهذه الصورة التي هي عليها الآن. ولا تزال آلاف المخطوطات، في الأدب والعلم والفلسفة والتاريخ، تنتظر أولئك المُحقّقين الجادِّين الذين يدركون قيمتها، لينفُضوا عنها غبار الزمن ويخرجوها من الظلمات إلى النور. وكثيرةٌ جدًّا تلك الكتب التي لم تُطبَع غيرَ مرَّةٍ واحدة، وربما في نُسَخٍ محدودة، لم يطالعها إلا نفرٌ قليلٌ من القرَّاء، ولم يسمع بها غير طائفةٍ محدودةٍ من الدّارسين والمختصّين، ثم طواها الزمن فيما يطوي، فأهملها الناس، وصارت أثرًا من بعد عين.
ولا أزال أذكر دهشتي الكبرى حين زرت دارَ الكُتُب ذات يوم بعيد، ووقعت عيني على أرفُفٍ مزدحمة بكتبٍ متراكمةٍ لا يعرف عنها أبناء هذا الجيل شيئًا، أزعجني أنهم لم يحسنوا عرضها ولا ترتيبها ولا العناية بها، ولكن هالني تنوُّعُها وتميُّزُها، وقد استعرضت أكثرَ عنواناتها وبعضَ فهارسِها، فوجدتها حسنة التأليف عظيمة الفائدة، وتمنّيتُ أن لو عدتُ بها كلها إلى بيتي، وهو ما لم يحدث طبعًا؛ وإن كنت قد عوّضته بالحرص على اقتناء كلِّ ما تقع عليه عيني ويحتملُه جيبي من الكتب القديمة والطبعات النادرة، وهو ما أشرتُ إليه حين قلتُ في بعض الأبيات عن القديم والجديد:
ويسألُ صــــاحبي لـما رآنـــــي — ومِلْءُ حقائبــي كتــبٌ قديــــمـة
تُرى أين الجديدُ؟ فقلتُ: حـشوٌ — وأكثرُ مــــا بــــه فِكَرٌ عقـــيمـة
وهزلٌ ساقطٌ لا عــمــــقَ فـــيـهِ — وأغـــلاطٌ وأخــــلاطٌ ســـقــيمة
يغرُّك شــــكلُه فــــتراه شــيــئـاً — وليس له إذا محَّصــتَ قـــيــمـة!
ولم أكن أَعنِي أن القديمَ خيرٌ كلُّه، وأن الجديدَ شرٌّ كلُّه، ولا قصدتُ أن أُعلِيَ من شأن القديم على حساب الجديد، فالتّعميم خطأ منهجيٌّ على أيَّة حال، ولكنني أردت أن أؤكد حقيقةً مهمة يتفق عليها أكثر المثقفين، وهي أن الكتب القديمة، أكثر عمقًا ودسامة، وأن أصحابَها كانوا يُتعِبون أنفسَهم في تأليفها وتصنيفها، وفي ضبطها وتصحيحها، وأن لجان المراجعة كانت جادَّة في عملها، فتقرأ الكتاب الكبير فلا تكاد تقع فيه على خطأ مطبعيٍّ أو إملائي، وهو ما لا نجده في أكثر المؤلفات التي بدأت تُطبع منذ أواخر القرن العشرين إلى يوم الناس هذا.
وأذكر بالمناسبة أنّ هيئةَ نشرٍ حكومية كبرى قد أخذت تعيد نشر بعض الكتب القديمة في بعض سلاسلها، ولكنها بدلَ أن تصوِّرها من طبعتها الأولى الخالية من الأخطاء، وهو أسهلُ وأفضل، أسندَت مُهِمَّة كتابتها ومراجعتها من جديدٍ إلى جماعة مِمَّن لا يكادون يحسنون شيئًا، فجاءت ملأى بالأخطاء الفادحة المخجلة، والتي لا يقع فيها طالبٌ نابهٌ في المرحلة الإعدادية. وقد صدَّني هذا عن متابعتها صَدًّا، وفقدت ثقتي فيها تمامًا، ولم أعد أطمئنُّ إلى أكثر إصداراتها التي تعلن عنها، مهما كان الإعلان برَّاقًا ومُغريًا.
وأذكر حين كنت أُعِدُّ رسالتي للدكتوراه، عن “الشعراء نقادًا في مصر في النصف الأول من القرن العشرين”، أنني بحثت كثيرًا عن ديوان الشاعر “محمد الأسمر”، وهو واحدٌ من أكبر شعراء تلك الفترة، فلم أجد له طبعةً جديدة، ولم يسمحوا لي بتصويره في دار الكتب، ولولا مصادفةٌ طيبةٌ أوقعته بين يدَيَّ ما ظفرت به ولا رأته عيني، وشاءت مقادير الله أن أقتنيَ نسخةً نادرةً من طبعته الأولى، التي صدرت عن دار إحياء الكتب العربية، أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، ولا أعرف له غير هذه الطبعة حتى الآن، ولا أزال أعود إليه كلما احتجت إلى كلام يؤنسني ويسليني، وأزعمُ أن بيني وبين صاحبه مشابهَ كثيرةً، لعلها تتلخص إجمالًا في قوله:
شاعرٌ من يومه صفرُ اليدِ — غـــــارقٌ فـــــي دَيْنِهِ للأبـدِ
وهـو في ذلك ما حَطَّ على — وهدَةٍ بل حــــام فوق الفرقدِ
ضــاحكٌ، منتـفخٌ، منتـفشٌ — واضح العِــــزة، جَمُّ الصَّيَدِ
من رآه قال: كم ثـــروتُه؟ — وهي صفرٌ عن يسار العدد
منفِقٌ فــي يومِـه ما عنده — تاركٌ لله تــــدبيـــــرَ الغَــدِ!
لقد كان ظهور المطبعة واحدًا من أكبر عوامل النهضة الأدبية والثقافية، وإلى جانب كتب التراث التي حرَصَ روّاَدُنا على تحقيقها وإحيائها، كانت الجرائد والمجلات خيرَ ما أخرجته المطابع في بداية أمرِها، وكانت الصحف من الكثرة والتنوّع بحيث لا يكاد المرء يصدق ما ذكره الكونت “فيليب دي طرازي” في كتابه عن “تاريخ الصحافة العربية”، من أن مجموع الصحف منذ ظهور أول جريدة عربية عام 1800 حتى نهاية عام 1929 (أي في مدة مائة وثلاثين عامًا) بلغ ثلاثة آلاف وثلاثًا وعشرين صحيفة.
في تلك الفترة البعيدة، لم يكن أبناء ذلك الجيل غافلين عن الفرق بين الجريدة والمجلة، فالجريدة تصدر بشكل يومى لمتابعة الاحداث اليومية، مثل الأحداث السياسية المحلية والخارجية، أو شؤون العالم اليومية العامة. أما المجلة فلا تتابع الأحداث اليومية، بل تعرض للموضوعات العامة، فهي لا تتّصف بصفة الاستعجال مثل ما هو الحال فى الأخبار اليومية، ولكنها تميل نحو توسيع المعرفة والاستمتاع بالتفاصيل، والتحليلات التفصيلية للقضايا المختلفة، وتوشك أن تكون صورةً مختصرةً، سريعةً، متجددةً، رخيصةَ الثمنِ، لدوائر المعارف.
وقد عرَّف الشيخ إبراهيم اليازجي “المجلة” تعريفًا فنيًّا أقرب إلى الدقة حين قال عنها: “إنها صحيفة علمية، أو دينية، أو أدبية، أو انتقادية، أو تاريخية، أو ما شاكلَ ذلك، تصدر تباعًا في أوقات معيَّنة”. وعرَّفها هو نفسُه تعريفًا أدبيًّا إنشائيًّا، حين وصفها بأنها “جليسُ العالِم، وأستاذ المُريد، والموعد الذي يتلاقى فيه المفيد والمستفيد، بل هي خطيب العلم في كل ندوة، وبريدُه إلى كل خَلوة، والمشكاة التي تستصبح بها بصائر أولي الألباب، والمنار الذي تأتمُّ به المداركُ إذا اشتبهت عليها شواكلُ الصواب”.
وفي بعض تلك الجرائد والمجلات نشر كبارُ كُتّابنا مقالاتهم ودراساتهم، وتابعها قرّاؤهم أيامَها بانتظام؛ وكانوا ينتظرونها بشغف شديد، ومنهم من كان يحتفظ بها ويحرص على جمعها، ولكن مع الوقت، سوف تمرُّ السنين، وسوف يظهرُ جيلٌ من القرّاء لم يحظ بقراءة هذه المقالات، وبَعُد العهد بينه وبينها، فلم يعرف عنها شيئًا، ومن هنا جاءت فكرة جمع المقالات في كتابٍ واحد، يضم شتاتها ويجمع متفرِّقَها.
وكان القراء أنفسهم في بعض الأحيان هم الذين يطلبون من الكاتب أن يجمع مقالاته في سِفرٍ واحد، فكان لنا من ذلك مجموعةٌ كبيرةٌ وقيِّمةٌ من خير ما أنشأه أدباؤنا وكتابُنا، من أشهرها: “النظرات” للمنفلوطي، و”حديث الأربعاء” لطه حسين، و”ساعات بين الكتب” للعقاد، و”وحي القلم” للرافعي، و”وحي الرسالة” للزيات، و”المختار” لعبد العزيز البشري، و”فيض الخاطر” لأحمد أمين، و”في أوقات الفراغ” لمحمد حسين هيكل، و”خواطر في الحياة والأدب” لمحمد السباعي، و”من وراء المنظار” لمحمود الخفيف، و”الحديث ذو شجون” لزكي مبارك، وغير ذلك كثير.
وقد أشار الدكتور “منصور فهمي” إلى ذلك صراحةً حين قال في مقدمة كتابه النادر (خطَرات نفس): “حَبَّبَ إليَّ بعضُ أصدقائي أن أجمعَ هذه الخطرات كتابًا أنشره. وكنت أمام رغبتهم أشعر بشيءٍ من الغِبطة كلما تصورت هذه المقالات التي ذهبَت أشتاتًا في أنهر الصحف قد انتظمها سِفرٌ واحدٌ، وأصبحت أدنى إلى الحفظ عند مَن يرى أنها بالحفظ جديرة”.
وقد قال أيضا: “إن ما كان يدعو إلى نشر هذا الكتاب أن بعض ما فيه من الخطَرات يرجع إلى ذكرياتٍ تتّصل بأيام الصّبا، وإن في جمعه وحفظه ما يضمن لي حفظ صورة لهذه الأيام. ومهما امتدَّ بنا الزمنُ وانقطع عنا ماضينا فسالفُ المرءِ عزيزٌ عليه، ومهما يكن في ماضينا من إحسانٍ أو إساءة، ففي رحاب النفس له أهل، وله في باحاتها سهلٌ، عندما يطرق أبوابها متنكّرًا في زي الذكريات، لذَّةً كانت أو مؤلمة، وذلك لأن النفوسَ كما تستطيبُ اللذةَ، يطيبُ لها أحيانًا طعمُ الألم”.
وذهب الشيخ “عبد العزيز البِشري” إلى قريبٍ من هذا، حين صدَّر كتابَه (في المِرآة) بهذه السطور: “سألني صديقٌ لي كريمُ المنزلة عندي أن أتخيَّرَ له صدرًا من تلك (المرايا)، التي أرسلتُها في (السياسة الأسبوعية)، ليطبعَها ويسويَها للناس كتابًا، وتعذَّرتُ عليه دهرًا، لأنني إنما أعانيها على أنها بنت ساعتها وحديث يومها، لا على أنها مما يثبُتُ في الزمان، لتردد الأنظار، واعتياد الأفكار، وما برح يعتريني بإلحاحه الكريم، ويملك عليَّ مذاهب الحجج في مطاولته، حتى لم أجد لي مَفيضًا من التسليم”.
ولعل الأستاذ “أحمد أمين” كان أقرب إلى الحقيقة الموضوعية حين ذكر، في بساطة وتواضع، السبب الذي دفعه إلى جمع مقالاته، حين قال في مقدمة الجزء الأول من كتاب (فيض الخاطر): “هذه مقالاتٌ نُشِرَ بعضُها في مجلة الرسالة، وبعضها في مجلة الهلال، وبعضها لم يُنشَر في هذه ولا تلك، استحسنت أن أجمعَها في كتابٍ، لا لأنها بدائعُ أو روائعُ، ولا لأن الناس ألحُّوا عليَّ في جمعها، فنزلت على حُكمِهم، وائتمرتُ بأمرهم، ولا لأنها ستفتح في الأدب فتحًا جديدًا لا عهد للناس به، ولكن لأنها قِطَعٌ من نفسي أحرص عليها حرصي على الحياة، وأجتهد في تسجيلها إجابةً لغريزة حب البقاء، وهي ـ مجموعة ـ أدلُّ منها مفرقة، وفي كتابٍ أبيَنُ منها في (أعداد).
ثم لعلّي أقعُ على قرّاءٍ مزاجُهم من طبيعة مزاجي، وعقليتهم من جنس عقلي، وفنّهم من فني، يجدون فيها صورةً من نفوسهم، وضربًا من ضروب تفكيرهم، فيشعرون بشيءٍ من الفائدة في قراءتها واللذة في مطالعتها، فيزيدني ذلك غبطةً ويملؤني سرورًا”.
راجت كتب المقالات هذه بين القراء رواجًا كبيرًا، فكُتَّابها من صفوة الأدباء، وأكثرُهم من أصحاب الأساليب البيانية المشرقة، والانتماء العربي الأصيل، وموضوعاتها تتّصل بحياة الناسِ ووجدانهم أعمق اتصال، وشجَّع إقبال الجمهور عليها، واهتمام الأجيال المتعاقبة بها، على إعادة نشرها مرّات ومرّات، فتعددَت طبعاتُها، في حياة أصحابها وبعد رحيلهم، وكانت عنايتهم هم بمراجعتها وإخراجها قويةً وواضحة، وبخاصة في طبعاتها الأولى، وهو ما تغيّر كثيرًا حين خلف من بعدهم خلف لم تكن لهم مواهبهم وملكاتهم نفسها، ولا حتى صبرهم وأمانتهم، فأهملوا في الجمع والضبط إهمالًا ظاهرًا، ووسَّدوا الأمر إلى غير أهلِه، فكثرت الأخطاء المطبعية؛ إملائيةً وفنيّة، وشذَّ من الكتب المعاصرة ما سلم منها، وقلّ من الكُتّاب مَن حَرَصَ على تجنُّبِها.
وأيًّا ما كان الأمر، فإنّ من يجمع مقالاته المبعثرة لا يحتاج إلى إعادة النظر فيها كثيرًا، ولا يعني هذا أن تكون مجرَّد (إعادة تدوير أو تكرار أخطاء) كما يقولون؛ ولكنه في الغالب لا يغيِّر فيها إلا ما يجب عليه تغييره، مِمّا قد يكون قد وقع فيه من سهوٍ أو خطأ أو نسيان، وفي أغلب الأحيان تُطبع كما نُشرت في الجريدة أو المجلة لأول مرّة. وليس كذلك الأمرُ في إعادة طبع الكتب؛ فإنّ لها شأنًا آخر، لاختلاف طبيعتها عن طبيعة المقالات؛ فقد يضطر الكاتب إلى الحذف أو الإضافة، وإلى التّبديل أو التغيير، حسب ما يتبيَّنُ له في بحثه أو يَجِدُّ في موضوعه، وأذكر أنَّ أحد المُؤلِّفين حين أراد إعادة كتابٍ له أضاف إليه فصولًا جعلته في أضعاف حجم طبعته السابقة، وبعضهم غيَّر فيه بحيث صار لا علاقة لثانيه بأوّله، بل إن بعضهم قد يغيِّر عنوان الكتاب نفسه، مثلما حدث حين أعاد الدكتور “طه حسين” نشر كتاب “في الشعر الجاهلي” بعد ما ثارت ثائرة “الأزهر” عليه وقُدِّم إلى المحكمة بسببه، فأصدره تحت عنوان :في الأدب الجاهلي”، وقال في مقدمة طبعته الثانية:
“هذا كتابُ السنة الماضية، حُذِف منه فصلٌ، وأُثبِتَ مكانه فصلٌ، وأُضِيفَت إليه فصول، وغُيِّرَ عنوانُه بعضَ التغيير. وأنا أرجو أن أكون قد وُفِّقت في هذه الطبعة الثانية إلى حاجة الذين يريدون أن يدرسوا الأدب العربي عامةً، والجاهليَّ خاصةً، من مناهج البحث، وسبُل التحقيق في الأدب وتاريخه. وهو على كلِّ حالٍ خلاصَةُ ما يُلقَى على طلاب الجامعة في السنتين الأولى والثانية في كلية الآداب”.
ومن هنا أيضًا تأتي الطبعةُ المُنَقَّحة والمُعدّلة والمَزيدة، وهو ما كان من أستاذنا الكتور “الطاهر أحمد مكي” في كتابه “دراسة في مصادر الأدب”، حين قال في مقدمة طبعته السادسة: “يجيءُ كتاب: (دراسة في مصادر الأدب)، مع هذه الطبعة جديدًا بكل معنى الكلمة، قليلَ الصِّلة بطبعته الأولى التي صدرت منذ ستة عشر عامًا، فقد استطعت في هذه الطبعة، على غير العادة، أن أُصِمَّ أذني عن الإلحاح عليَّ في التعجيل بطبعته الجديدة، بعد أن نفد تمامًا، واشتدَّ الطلب عليه، إذ رأيت أنني بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أن أعيدَ النظر فيه. وكان هذا ما حدث فعلًا.
ألقَيتُ نظرةً على موضوعاته القديمة، فنقَّحت وصوَّبت… أمَّا الإضافات الجديدة فتَعدِل في سعتها حجمَ الكتاب في أول طبعة له، وتجعل منه في أهميتها شيئًا جديدًا يأتي على ما سبقه من طبعات”. وقد فعل أستاذُنا “الطاهر مكي” أيضًا شيئًا مثل هذا في كتابه “دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة” فليرجِع القارئُ الكريمُ إلى مقدمته إذا شاء.
والشيءُ نفسه قد يحدث في الكتب المُحقّقة أيضًا، ولا أزال أذكرُ تلك المقدمةَ الجليلة الضافية التي كتبها شيخنا “أبو فهر”، الأستاذ “محمود محمد شاكر”، في طبعةٍ حديثةٍ لكتاب “طبقات فحول الشعراء” لـ “ابن سلَّام الجُمَحي”، وضمَّنها برنامَجَه الذي يكشف حقيقة منهجه في دراسة الكتب العربية، وليفنّد فيه حقيقة “المنهج العلمي” أو “علم التّحقيق” الذي يختال المختال في طيلسانه، وهو ليس إلا دروسًا أنشأها جماعةٌ من أغتام الأعاجم في زماننا، وليُميطَ الأذى عن نفسِه وعن شيخِه “ابنِ سلَّام”، وعن كتابه “طبقات فحول الشعراء”.
أمّا بالنسبة لي، ولا أريد أن أشغل القارئ بي، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لأعدتُ النظرَ في كل ما كتبتُ، ولتراجعت عن كثير مما قلت، فإنني، علم الله، أخشى أن أكون قد ضيَّعت وقت الناس فيما لا نفع فيه ولا فائدة، ولو خُيِّرت اليوم بين محوه وإثباته لاخترت الأولى على الثانية في غير تردد ولا إحجام، ولولا أنني كنت صادقَ النية في قول الحق ما استطعت إليه سبيلًا، لتبرَّأت من كل ما كتبت واعتذرت للقرّاء عنه.
ولعلَّ خير ما أستشهد به في نهاية هذا المقال، تلك العبارة التي تُنسب إلى “العماد الأصفهاني”، ونجدها في مقدمة كثير من الكتب: “إني رأيت أنه لا يَكتُبُ إنسانٌ كتابًا في يومه إلا قال في غدِه: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يُستحسَن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظمِ العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جُملة البَشَر”.. والله يَهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم!
إحياء الكتابات القديمة بين السَّلَف والخَلَف
بقلم: أ.د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر – مصر
نعم تزخر المكتبة العربية القديمة والحديثة بما لا يُحصى من الكتب والكتابات الكثيرة والمتنوِّعة، التي طواها الزّمن ولا يُرجع إليها إلاّ في إطار البحوث والدراسات.. وكأنّها أعمالٌ صارت في حُكم الميّتة، رغم أنّ فيها ما هو جديرٌ بإعادة بعثه وإحيائه ونشره بين النّاس، ويُعدّ تعامل الكاتب مع كتاباته أو كتابات غيره السابقة مُعضلةً ثقافية تستحق وقفة تدبُّريّة، من خلال طرح الأسئلة الآتية:
– بَمَ تسمّى هذه الظاهرة؟
– ما الموقف النقدي منها؟
– أيّ الكتب والكتابات التي تستحق إعادة النشر؟
– ما الجدوى من إعادة نشر الكتابات الماضية؟
إنّ هذه الظاهرة تُسمَّى بإحياء التراث، وتدرس في نقدنا الحداثي تحت مُسمّى التّناص، أو التّعالق النصي (Intertextuality) منهجًا نقديًّا حداثيًّا بارزًا وفاعلا في مقاربة النصوص الأدبية، ومنه نوع يُسمّى (التناص الذاتي)، ويقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص، من إبداع كاتب واحد. وتشمل العلاقات التّناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة. والتّناص ذو جذور في تراثنا البلاغي والنقدي فيما يُسمّى الاقتباس والتضمين والحل والعقد، والإشارة والإحالة، وباب السرقات بكل اصطلاحاته من سلخ ومسخ ونسخ وإغارة، وانتحال…
أمّا عن الموقف النقدي من هذه الظاهرة الثقافية فقد تكون إعادة نشر الكتابات ضرورة إذا جَدَّ داعٍ وباعثٌ على ذلك، رآه المؤلِّف أو رآه من عاصره أو من كان بعده! وهذا الباعث متنوِّع بين باعث مدرسي تعليمي، وباعث دعوي ديني، وباعث ثقافي إعلامي، وباعث وطني وقومي، أو فني أو غير ذلك، بينه أسلافنا في العصر العثماني فيما نقله “المحبي” (ت1111هـ) عن معاصره “محمد علاء الدين” أنه كان ينهى عن التأليف، ويقول: “التأليف في هذه الأزمان من ضياعة الوقت؛ فإن الإنسان إذا فهم كلام المتقدّمين الآنَ واشتغل بتفهيمه، فذلك من أجلِّ النعم وأبقى لذكر العلم ونشره، والتأليف في سائر العلوم مفروغ منه”، وإذا بلغه أن أحدًا من علماء عصره ألّف كتابًا يقول: “لا يؤلِّف أحد إلا كتابًا إلا في أحد أقسام سبعة، ولا يمكن التأليف في غيرها، وهي: إمّا أن يؤلف في شيء لم يُسبق إليه ويخترعه، أو شيء ناقص يُتمِّمه، أو شيء مُستَغلَق يشرحه، أو طويل يختصره دون أن يُخِلَّ بشيء من معانيه، أو شيء مختلط يُرتِّبه، أو شيء أخطأ فيه مُصنِّفه يُبَيِّنه، أو شيء مُفرَّق يجمعه”، ويجمع ذلك قول بعضهم شرط المؤلف أن يخترع معنى أو يبتكر مبنًى.
وتزداد الكتابة قيمة ومكانة كلما كانت إنشائية بليغة، في شكل فني جمالي قادر على توصيل تلك التجربة، وتقصد إلى التأثير في عواطف القرّاء والمستمعين، وإلى التعبير عن تجربة إنسانية بلغة تصويرية ماتعة وجاذبة وساحرة، وآسرة! فأهلًا بإعادة نشر الكاتب كتاباته من حين إلى آخر، كلما رأى بأن لها فائدة وجدوى، وأنها ما زالت قادرة على أن تعالج مشكلة أو تضيف نفعًا إلى قطاع بشري، ومجال من مجالات الحياة والمجتمعات!
كتابات تراثية فاعلة
أمّا عن اهتمام السّلف بالكتابة والكاتب فنرى هذا باديًا في أول مُدوَّنة نقدية في تراثنا العربي، وهي رسالة “عبد الحميد بن يحيى الكاتب” (ت132ھ) إلى الكُتّاب، التي عنونها بـ: (نصيحة الكُتَّاب وما يلزم أن يكونوا عليه من الأخلاق والآداب)، فقد ضمّنها وصايا مختلفة للكُتَّاب، وذكر أنه لا يحسن وظيفةَ الكتابة مَن ألمَّ بالثقافة الإسلامية، وثقافة العرب الأدبية من خطابة، ومن أيام وغير أيام، وأخبار الأمم الأجنبية ومعارفها، ولا بدّ أن يعرف الحساب، وأن يروي الأشعار ويقف على غريبها ومعانيها، فيفيد منها كما أفاد “عبد الحميد” نفسه في “رسالة الصيد” إذ نثر فيها كثيرًا من معاني الشعر القديم، وينبغي للكاتب أن يدرّب نفسه على سياسة الناس وتدبير شئونهم… ربما كان من أطراف ما نقرؤه في هذه الرسالة أننا نراه يدعوهم إلى تأليف ما يشبه النقابة أو اتّحاد الكتاب في عصرنا؛ فقد طلب إليهم أن يعطفوا على من ينبو به الزمان منهم، وأن يواسوه، حتى يرجع إليه حاله ويثوب أمره. يقول: “وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وآسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره، وإن أقعد أحدًا منكم الكِبَر عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظّموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحفظ منه على ولده وأخيه. فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يضيفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمّة فليحملها هو من دونه. وليحذر السّقطة والزلّة والملل عند تغيّر الحال، فإنّ العيب إليكم معشر الكتّاب أسرع منه إلى الفراء؛ وهو لكم أفسد منه لها….”.
وعلى هدي هذه الرسالة الأدبية والنقدية كُتبت فيما بعد كتب: أدب الكاتب، كـ “أدب الكتاب” لابن قتيبة (ت276هـ)، و”أدب الكتاب” لأبي بكر الصولي (ت نحو336هـ)، و”الاقتضاب في شرح أدب الكتاب” لابن السيد البطليوسي (ت521هـ)، و”شرح أدب الكاتب” للجواليقي (ت540هـ)، و”صبح الأعشى في صناعة الإنشا” للقلقشندي (ت821هـ)… وغيرها من الكتب والمراجع التي تُعنى بتأسيس الكُتّاب وتأهيلهم في فن الكتابة قديمًا وحديثًا.
ولكل زمان ومكان كتاباته وثقافاته، التي تُستَدعى وتُتَمثَّل، ويُستَشهَد ويُستَأنَس بها، وحالتنا الرقميّة الآنية تدلّ على ذلك؛ فأحيانًا تكون المنشورات الفيسية والتغريدات التوترية، والرسالة الماسينجرية أو الواتسآبية، أو الحالة الانستجرامية، قائمة على استدعاء كتابات ماضية كانت ذات رؤى استشرافية، أو كانت معالجة لأمراض ومشكلات اجتماعية وحياتية معاصرة، فنرى فقرات من كتابات: ابن عطاء الله السكندري، أو ابن خلدون، أو الشيخ أبي حامد الغزالي، أو الشيخ الشعراوي، أو الشيخ الطاهر بن عاشور، أو الشيخ البشير الإبراهيمي، أو الشيخ ابن باديس، أو الكاتب الساخر جلال عامر، أو الروائي العراب أحمد خالد توفيق… وغيرهم! وقد تكون هذه الظاهرة الثقافية عبثًا وترفًا وإسرافًا وتبذيرًا حين تُبذَل الجهود وتُصرَف النقود من قبل المبدع أو من يتّصل به في إعادة نشر كتابات هاوية وجامدة وميتة، انتهت جدواها بانتهاء زمنها!
كتابات في مآسي المسلمين الحديثة والآنية
من دوافع الكتابة في زمننا هذا ما نراه صباح مساء من مآسٍ ونكبات ونكسات في بلاد العروبة والإسلام، مثل نكبات: فلسطين على أيدي الصهاينة المجرمين، ومأساة العراق وأفغانستان على أيدي الأمريكان المعتدين، ومأساة البوسنة والهرسك على أيدي الصرب الغاشمين، ومأساة الحروب الأهلية الطاحنة في اليمن، والصومال، والسودان وغيرها، وعندما أتدبّر في قائمة كتبي وأبحاثي أجد نفسي واقفًا بإعجاب أمام عدّة كتابات لي أراها ما زالت حاضرة وذات قيمة في آننا هذا، ويمكن أن تفيد جمهور المثقفين في تتبّع هذه النكبات مثل: كتاب (القدس في شعر عصر الحروب الصليبية)، وبحث: (شعر القدس دراسة فنية)، وبحث: (بغداد في مرآة الشعر العباسي)، وكتاب: (بغداد في شعر الماضي والحاضر)، وبحث: (تراثية الحدث وحداثة الرؤية في مسرحية عودة هولاكو للشيخ سلطان القاسمي)، فهذه الكتب والأبحاث من شأنها أن تعلن عن كل نكبة، وتعرِّف بمظاهر كل مأساة، وتقدّم حلولاً لها من خلال النصوص الأدبية العتيقة والحديثة، فيكون النصر، ويتحقق الفتح، ويتم الخلاص لأوطاننا العربية والإسلامية المنكوبة والمغتصبة!
كتابات في البطولة والأبطال
لي بحث بعنوان: “معالم شخصية الظاهر بيبرس(625 – 676هـ) في مرآة الشعر المملوكي” أردت منه إحياء بطل من أبطالنا في العصر الوسيط، والتّدليل على أنّ أمتنا لا تخلو في أي عصر من عصورها من الفرسان المؤمنين المجاهدين المُعمِّرين الحكماء، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأدّوا أعمالاً جليلة ونبيلة في مجالات حياتية متنوعة، فيها صلاح العباد والبلاد، وخير المعاش والمعاد، بجسارة وبسالة، ومناقب حميدة وسجايا طيبة، متنوعة: عسكريًّا ونفسيًّا وخلقيًّا…وأحدثوا قوة عسكرية وثقافية بارزة، لا سيما في العصر المملوكي (648-923هـ)؛ وقفت في وجه الطُّغاة الهَمَجِيِّين، وحمَلت مِشعل الحضارة في هذا الزمان؛ إذ إنَّ مَن يقرأ دواوين الشعر ومجاميعه، ومصادر التاريخ والسِّيَر والتراجِم، يجد أنّ الشعر العربي قد تابع شخصية ذلكم القائد البطل في أهم مراحل حياته ومجالاتها، وقف على أبرز معالمها من اجتماعية وعسكرية وسياسية وتعليمية، عن طريق قالب إيقاعي فخم غالبًا، وبناء لغوي مباشر وتصويري، يتناصُّ مع “الماجَرَيات” تناصًّا حيًّا وفاعلاً وطريفًا وظريفًا وآسرًا؛ مما يجعل من الشعر وثيقة تاريخية، ذات حُمولة ثقافية مهمّة في تسجيل الأحداث التاريخية؛ بما يحتويه الشعر من ذخائر حيّة تحفظ ذاكرة الشعوب بمختلف تحولاتها الحضارية، والفكرية، والسياسية، والاقتصادية والبشرية؛ انطلاقًا من كون الشعر العربي ديوان الإنسان القديم، فيه سجّل حياته من أحداث ووقائع، ومن كونه يحتوي على الذكريات والبوح والانفعال وقدرة على التعبير السريع عن الموقف والحالة، بالتسجيل والتصوير والتعبير والنقد. فما أجمل أن تجتمع كلمة الأدب شعرًا وسردًا، فصيحًا وشعبيًّا، على إعلاء قيمة البطل المظفّر “الظاهر بيبرس”! الذي نُعِت بأنه صاحب الفتوحات والآثار! وهو نعت يكاد يكون قد أوجز كل حركة هذا القائد التاريخي في وطننا مصر: دفاعًا، وفتحًا، وتعميرًا. وما أصدق قول الشاعر مخاطبًا إياه:
كسرتَ الطغاةَ جبرتَ العُفاةَ قطعتَ الفُراتَ وصلتَ الخِلافهْ
إنه قاهر التّتار والصليبيين، وقامع الباطنية والحَشَّاشين، والمُؤسِّس الحقيقي لدولة “المماليك”، وباعث الخلافة “العباسية” من جديد، والمحيي للأزهر الشريف، والآمر بتعدّد المذاهب الفقهية، وقد خاض، بشخصه وقيادته، في سبيل استقرار مصر والوطن العربي، معارك لا تُحصَى؛ دفاعًا عن الإسلام والمسلمين، وكفاه شرفًا وفخرًا بتلك الجهود والإنجازات، التي تجعله في عِداد الأبطال التاريخيين الحقيقيين، الذين يستحقون أن يُقدَّموا كقُدوات حسنة إلى الأجيال القادمة، في مصرنا والعالم العربي، عن طريق الكلمة المكتوبة، والمسموعة، والمشاهدة، مقاليًّا وسرديًّا!
ويقول “جمال الدين ابن الخشاب” من مدحة بديعة:
ملك تزينت الممالك باسمه — وتجلت بمديحه الفصحاءُ
وترفعت لعلاه خير مدارس — حلت بها العلماء والفضلاءُ
ووصفه شاعرٌ فقال:
ملكٌ بكته أرائك وترائك — وملائك وممالك لا تحصرُ
ولَكم بكتْه حُصنه وحصونه — ونَزيله ونِزاله والعسكرُ
فما أحوجنا في آننا الكسيح الأسيف هذا إلى روح البطولة، وإلى بطل مغوار مجاهد كـ “الظاهر بيبرس”!
الأمن الفكري في البحث العلمي الإنساني
لا شك في أننا نحتاج – حقًّا – إلى وقفة مستقلة ونقدية وحرّة ومتأنّية حالية، ومستقبلية في جميع قطاعات المعرفة البشرية بوطننا وأمتنا، وتسليط الضوء على أسباب الخلل في البحث العلمي الإنساني، ومظاهر هذا الخلل وكيفية معالجته؟ وكيف نقي الأجيال القادمة من الابتلاء به؟
ومن ثم وجبت الدعوة إلى (الأمن الفكري في البحث العلمي الإنساني)؛ وهي رغبة صادقة في استقرار كل مجتمع وحماية أفراده بالتّصدي للأفكار المنحرفة والمتطرِّفة والهدّامة، والجهود الغُثائية السَّطحية، والشهادات العلمية التجارية الهشَّة الفارغة؛ وبثًّا لروح التفاهم والتسامح والمواطنة في المجتمع، مع مختلف الثقافات والأجناس والحضارات الأخرى. وجاء البحث في هيكل علمي مُكوَّن من تمهيد ومبحثين وخاتمة.
أمّا التمهيد: فقد اشتمل على بعض الاصطلاحات المُؤسِّسة، وهي البحث العلمي، والإنسانيات، والأمن الفكري، وقد عرض البحث لبعض السلبيات سواء ما تعلق منها بشكل البحث العلمي الإنساني أو سلبيات تتعلق بالمضمون، ويهدف البحث إلى تأمين الفكري ضد سلبيات البحث العلمي الإنساني.. وإن هذا البحث يذكِّرنا بكُتبٍ طُبعت وأعيد نشرها في طبعات كثيرة لأهميتها، مثل كتاب (كيف تكتب بحثًا أو رسالة) للدكتور “أحمد شلبي”، وكتاب (البحث الأدبي)، وموسوعة (تاريخ الأدب العربي) للدكتور “شوقي ضيف”، وكتاب (لا تحزن) للدكتور “عائض القرني”، وكتاب (مناهج النقد الأدبي) للدكتور “يوسف وغليسي”، وغيرها من الكتب المؤسسة في العلوم والفنون المختلفة! فحقًّا توجد كتابات تفيدنا – في نظري – في المرحلة الراهنة، وجاءت كأنما كُتبت لليوم، وليس للأمس الذي كُتبت فيه فعليًّا!
إحياء الكتب التراثية في مطلع العصر الحديث
كان لشيوخ الأزهر الأوائل الأفذاذ الدّور الأول والأكبر في رعاية الحياة الأدبية في مصر وتوجيهها، وقد ألّف في الدلالة على ذلك كتاب ضخم بعنوان (الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة) للدكتور “محمد كامل الفقي”، وأعادت “مجلة الأزهر” نشر هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء في الأشهر الثالثة الأخيرة من سنة 1445هـ.
ويُعدَ الشيخ المصلح الكبير والمجتهد المنير “محمد عبده” (1849 – 1905) السبب الأول في إطلاع الطلاب على كتب التراث العربي الأدبية الفاعلة ذات الأسلوب الأدبي المتأنق؛ ففي مقامه ببيروت أخذ في شرح كتاب (نهج البلاغة)؛ ليسهل على الناس قراءته والإفادة منه، كما شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني ونشرها؛ حتى تكون زادًا يتغذَّى به طلاب الأدب، ومن ينشدون قوة الأسلوب وسلامة التعبير. ولما عاد إلى مصر كانت دروسه في البلاغة تختلف عن تلك الكتب التي أفسدتها عجمة مؤلِّفيها، واختار من كتب البلاغة “دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة” لعبد القاهر الجرجاني، وكان السبب في نشرهما لينتفع الناس بهما وقد نشرتهما “مؤسسة المنار”.
ولم يكتف الشيخ بهذا الدور التعليمي الفردي بل أنشأ جمعية لإحياء الكتب العربية، نشرت “المخصص” لابن سيده، وفي نشره تيسير على طلاب اللغة؛ لأنه من معجمات المعاني، فقد يكون بذهنك المعنى، ولكن يعوزك اللفظ المُعبِّر عنه فتلتمسه في “المخصص” وفي أمثاله من المعجمات، وقام بتصحيح “المخصص” العالم اللغوي الشهير الشيخ “محمد محمود الشنقيطي”. كما شرع في طبع “الموطأ” للإمام “مالك” بعد أن جاء بنسخٍ خطيّة له من تونس وفاس وغيرهما. كما عهد إلى الأستاذ “سيد بن علي المرصفي” (ت1931) في تدريس الكتب الأدبية التراثية بالجامع الأزهر، أمثال: “الكامل” للمبرد، و”ديوان الحماسة” لأبي تمام، وكانت هذه الدروس غريبة عن الأزهر، ولا عهد له بها… وتوجد كتابات (كتب، مقالات، دراسات، نصوص إبداعية أدبية..) تحتاج إلى إعادة بعث ونشر، حتى وإن تطلّب الأمر إعادة مراجعتها وتنقيحها، مثل موسوعة (الوسيلة الأدبية إلى علوم العربية) للشيح “حسين المرصفي”، وكتاب “الأسلوب” للأستاذ “أحمد الشايب” الذي طبع سنة 1939م، وكتاب “أسس النقد الأدبي” للدكتور “أحمد بدوي”، وكتاب النقد الأدبي الحديث للدكتور “محمد غنيمي هلال”… وغيرها من الكتب الإيجابية في عرض العلوم والفنون المختلفة.
الكتابة الفلسطينية تتحدّى عصر التّتار الصهيوني
بقلم: مروى فتحي منصور – روائية وكاتبة من جنين – فلسطين
تُعدّ الكتابة أحد أهمّ النّواقل الثقافية والعلمية عبر التاريخ، وأحد أفضل العلاجات النفسية التي تعتمد البوحَ والتّعبير عن مكنونات النفس، وإن كانت تتدفّق حروفُها عبر فن من الفنون الأدبية فهي من أهمّ الطُّرق التي يعبِّر عبرها الكاتب عن غيره ومكنوناتهم وأحوالهم، فيصبح ناطقا رسميا للوعي الجمعي.
وتعدَّدت أشكال الكتابة عبر التاريخ في البلاد العربية، فمن الكتابة على أوراق الشجر وجذوعها، وسعف النخيل، وعلى الجدران، والأوراق، ودخول المطابع وظهور صناعة الكتب، وصلت الكتابة بالنقرات على حروف الأبجدية على لوحة المفاتيح في الأجهزة الذكية كبديل للورقة والقلم، وقد تجد كاتبا مرموقًا اليوم لا يملك قلمًا ثمينا أو رمزيا، لكنه حريص كل الحرص على اقتناء الأجهزة الحديثة من الهواتف النقّالة وحواسيب الجيب لممارسة الكتابة من خلالها.
الكتابة وأدواتها قديما
وقد احتل القلم والريشة والحبر والقرطاس وكل أدوات الكتابة سابقا مكانة في الأدب العربي، فهذا شاعرٌ يفتخر ويحتفي بأدوات كتابته، وهناك شاعر يبثّ شكواه إليها علّها تنقل ما في وجدانه حروفًا، وذلك شاعر يتبارز مع غيره في موضوع الكتابة وأدواتها..
مستقبل الكتابة
واليوم، ينظر العالم بترقُّبٍ بالغ إلى مستقبل الكتابة، فبعد أن كان يترقّب نصائح “عبد الحميد الكاتب” إلى الكُتّاب، ويتابع: طه حسين، العقاد، قاسم أمين.. يؤطِّر الكتابة على نهجهم، أصبح ينتظر نصوصًا مُصمَّمة بالذكاء الاصطناعي، فها هو يقرأ نصوصا لـ “نجيب محفوظ” لم يكتبها، لكنها تملك ملامح أسلوبيّة تشبه نصوصه، وفيها القيمة المعنوية والاجتماعية التي كان ينادي بها، يقال له أنه تم إدخال أنموذج من أدبه إلى برمجة ما صنَّفَت ألفاظه وتراكيبه وأصواته ومضمونه ودلالاته إلى خوارزمية تمّ الالتزام بها لصناعة قصة ثانية بمُدخلات ومُخرجات محددة، هذا أمرً قد يؤدِّي إلى تضخّم في عدد الأعمال الأدبية وحتى النقدية المُنتجة، وله عواقبه التأثيرية للأدب، لكنه يحتاج إلى كثير من التحقق، والتمحيص، ويفتح الباب على مصراعيه على أسئلة من نوع: هل هذه العملية البرمجية الهندسية الفضائية تعتبر كتابةً؟ هل لديها ذلك التأثير الوجداني الروحي الذي يخلِّفه الأدب وفنونه في نفوس القرّاء ووعيهم؟ وهل يحتاج الكاتب اليوم أن يكون على علمٍ ودراية واضطلاع بعلم البرمجة ولديه معرفة وافية بالذكاء الاصطناعي كي يكمل مهامّه ككاتبٍ في عالم سريع الوتيرة غزير الإنتاج؟ هل وصل الكاتب إلى مرحلة استبدال المعرفة بالرياضيات والعلوم الأخرى حسب توصيات “عبد الحميد الكاتب” واختزالها بالمعرفة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي التي تؤدّي مهمّة العارف المرشد بأيّ علم وقت الحاجة إليه؟
واقع الكتابة
إن استبدال الأجهزة الإلكترونية بالورقة والقلم له سلبياته، رغم أنني على الصعيد الشخصي لم أكتب بالقلم نصوصا أدبية إلّا تلك المطلوبة في موضع التعلم، وفي مواقف تعليمية، وتلك المحاولات الأولى التي اكتشفت فيها قدرة الحرف على إحياء الروح المنهكة من ثقل ما تعرف وتشعر، في التفاتات الأدب لعناق ما يتطاير من حروف الصِّبا الأولى، في دفاتر المذكرات الخاص بي.. وحتى الأبحاث العلمية والنصوص الأدبية وحتى هذا المقال يتمُّ كليا عبر جهاز رقمي، وللأمر ما له وما عليه، فهو إن كان يبدو سهلا يسيرا لا يترك أثرا للحبر على الثياب أو اليد، يتم في أيّ مكان: في السيارة، وفي المنزل وفي غرف ضيافة أحدهم، وفي الهواء الطلق حيث الطبيعة الغنّاء، إلا أنه قد يختفي برمشة عين، مع أيّ خلل تقني في الجهاز قد تختفي إنجازات الكاتب الفنية والعلمية وأيضا محاولاته المتكررة وتعديلاته وتواريخها، بينما الورقة تحتفظ بملاحظاتك على العبارات والنص الذي تم إلغاؤه..
إنّ التعّامل مع الأجهزة قد يُفقِدك الكثير من البيانات والأعمال، وقد تسهو عن حفظ مادتك فتضيع كلها، وقد يَتلف جهازك أو يضيع، وقد نصل إلى مرحلة لا يوجد فيها كهرباء، فلا نستطيع إلى ما اعتدنا عليه سبيلا، وخصوصا أننا في “فلسطين” مُهدّدون في كل لحظة لاندثار الحضارة من بلادنا، كون المحتل الصهيوني الغاشم يضع يده على منابع الطاقة والمياه فيها ويصادرها ويبتزّنا بها من وقت إلى آخر، في الوقت الذي ينبغي لغيرنا من الكُتّاب أن يسعوا قُدمًا نحو المستقبل بدورات مكثّفة لتعلّم برمجة الذكاء الاصطناعي، ينبغي لنا نحن – الفلسطينيون – أن نحتفظ بالدفاتر الجذّابة والأقلام الجيدة التي تعيننا على نقل الحقيقة ليسطع نور الحق في قلوب العالمين من جديد، وليعرفوا خطر التّتار الصهيوني القادم على كل بقعة في العالم العربي على كافة الأصعدة.