في حالة المعارك الوجودية والمحطات الفاصلة في تاريخ البشر، فإنّ النصر لا يقترن بالعدة المادية ولا بالتعداد العسكري، ولكن بالقدرة على التضحية والصمود، حيث المغانم الحقيقية، ليست في مساحة الزحف الجغرافية ولا في سيطرة مؤقتة على مواقع الخصم، ولكنها في أقدام راسخة هي التاريخ حين يستدعي مثلا، شيخ المقاومين “عمر المختار”، وهو يقف “جبلا” أمام شانقه، مخاطبا مقصلته بشموخ ورسوخ القادمين من صلبه، أن “سقوطه”، ليس هزيمة أمّة ولكنه “تَرجُّل” فَردٍ من على صهوة “قضية” هي الأم والأمة معا، قضية اختزلها التاريخ في أجيال قادمة..
توّهم الضابط الإيطالي الذي لفّ الحبل حول عنق الشيخ “عمر المختار” أنّه شنقها – القضية – في شخص العجوز، فيما كان شيخ ليبيا آنذاك، يبتسم من سذاجة “جلّاده” وهو يلمح من على مقصلة شنقه، طيف القادمين من صلبه، وقد ترك لهم “تركة” عظيمة وكنزا أعظم، عنوانهما: «نحن لن نستسلم.. ننتصر أو نموت”، وهو الحال الذي كان، حيث التاريخ لم يحفظ لحظات الرقص والطرب الايطالي على جثة الشيخ المقاوم حين سقط “شنيقا”، ولكنه حفظ فقط، أنّ صناعة الأجيال كما النصر، مرتبطة بالقدرة على التضحية وكذا بحجم الثبات والصدق اللذين يمكنهما أن يغيّرا حتى معادلة الموت لتكون مقصلة “الجلاد” هي لحظة الولادة كما هي رحمها الذي حبل بجيل كان في حالة الشيخ “عمر المختار”، كما كان في حالة “غزة”، وما جرى فيها، هو الجيل المختار، جيل عمر وجيل الشيخ “أحمد ياسين”، وجيل كلما رقصوا على جثث شهدائه طربا بنهايته، ابتسمت ذاكرة الراحلين، بأنّه الولادة التي لا تنتهي..
كرة الثلج والأصح كرة “غزة” وكرة الشهيد “عمر المختار”، وكرة المليون ونصف الميلون شهيد بجزائر الثورة، تدحرجت من عَلٍ، ولا مجال كما لا فرصة لإعادتها إلى سيرتها الأولى، فرغم كل الوحشية الصهيونية التي حدثت في أقذر تصفية عرقية وإنسانية لوجود كان يُسمّى “غزة”، ورغم المؤامرة المُعولمة التي كانت الفصل الآخر من مسرحية الرقص على ناصية المذبحة، إلا أن واقع الآن، لسان كما صورة حاله، ما يعيشه العالم من تحوّل ومخاض عسير لولادة جديدة عنوانها الثابت، أنّ صمود “غزّة” بكل دمارها ومأساة أهلها، كان هو الولادة القيصرية التي وضعت العالم بعربه وعجمه، أمام حقيقة وكابوس التغيير القادمين، فإمّا تجدّد أو تبدّد..
واقع اليوم تجسِّده مقولة أنّه “لا قيمة للخشب أمام الذّهب، ولكن عند الغرق تختلف الحسابات”، وهو الحال بزواياه المختلفة وكرات ثلجه المتدحرجة من أعالي أمريكا وفرنسا وما يجري فيهما من دوران في حلقات مفرغة، فيما الغرق حقيقة طافية للعيان، والنتيجة أنّ “طوفان الأقصى”، لم يجرف فقط مُسمّى لكيانٍ صهيوني فَقَدَ كل مؤهِّلات استمراره، ولكنه الغرق الذي نراه في أمريكا من خلال صراع “رئاسيات” قطط الشّوارع بين جناح “جو بايدن” و”دونالد ترامب”، كما نراه في كابوس اليمين المتطرّف بفرنسا في معارك الدّيكة بين ضفة “إيمانويل ماكرون” و”ماري لوبان”، وذلك في صراع سياسي يعني سقوط الجمهورية الخامسة..
والمهم من هنا إلى هناك، ومن جنون رئاسيات “العجول” والقطط الأمريكية المشردة إلى إنفلونزا انتخابات “الدّيكة” الفرنسية، فإنّ الكرة ذاتها المتدحرجة من قمّة التراكمات والصراعات العالمية المتواترة، لمرحلة ما بعد “غزّة” وما بعد طوفانها، قد ألقت بظلالها على “ضّلال” أنظمة وعروش أعرابية، لتكون الفاتورة والكابوس القادمين، تهاوٍ شبه مؤكد لكل أنظمة العمالة والخنوع، ليس لأنّ الشعوب العربية تريد، ولكن لأنّ الكيل فاض بما حوى وما فيه، وكما استنفذت “دويلة” الكيان الصهيوني رصيدها، فإنّه من “مصر” التي تعيش مخاض “ثورة” قادمة على نظام “الشاويش”، إلى مملكة “ابن سلمان”، وصولا إلى مخزن “محمد السادس”، ناهيك عن الأردن والإمارات، فإنّ كل معطيات التململ ومؤشرات التحوّل الجذري على مستوى العالم، يصبّون في خانة واحدة مختزلها أنّ مسألة الانهيار الشامل لمُسمّى العروش الأعرابية، ليست إلا قضية وقت، وكل ذلك، وفق منطق: “لقد استنفذ جميعهم رصيده ولا بديل عن مواجهة حقيقة”..
إنّ كرة “غزة” قد جَبَّت كل ما قبلها من “كيانات” عائلية، كانت تتقمّص دور الجمهوريات والإمارات والأنظمة، فيما حقيقتها ما عرّاه “طوفان الأقصى” من تبعيتها لكيان كان “إسرائيل” ولم يعد، وذلك بشهادة واعتراف واضحين من الكاتب الإسرائيلي “مردخاي غيلات” الذي شنّ هجوما كاسحا على “نتنياهو” وطاقم حكومته، حين أقرّ من على صفحات “هآرتس” العبرية، أن “نتنياهو” قد وقّع فعلا “شهادة” وفاة “إسرائيل”، وأنه لا مناص من الاعتراف بأنّ النهاية قادمة، وهو ما يعني بالضرورة، أنه إذا كانت الوفاة دويلة الكيان، فإن “الدفين” لن يكون إلا توابعها، من ممالك وأنظمة “قشّ” وخمّ أعرابيين، وطبعا، هي كرة الثلج وكرة غزة وكرة شيخ المقاومين “عمر المختار”، من لم تفهمهم وتفكّ شفرة “تدحرجهم” لعبة النظام الدولي الجديد، لتكون النتيجة الظاهرة اليوم، أن: جَنَت “البَراقش” على عروشها..
حين نتذكّر أنّ “الكرامة” كما “المهانة” لا يُورَّثان ولكنهما يصنعان بقرار مُخاط بـ”كفن” الرجال المرفوع في وجه من لا آخرة له، نفهم معادلة الصراع وكذا “ماهية” المفاهيم التي غيّرتها دماء “غزة” بعد طوفان أقصاها على مستوى العالم، فالتحوّلات الجذرية والمفاهيمية في الوجدان الانساني والتي صنعتها “مقاومة” بضعة أشخاص في رقعة جغرافية لم تكن شيئا مذكورا قبل السابع من أكتوبر، تلك التحوّلات كانت رسالة واضحة من طينة بشر، رسّخوا في عالم اليوم، أنّه حين يتعلق الأمر بمصير الأمم فإنّ الولادة كما كانت في زمن شيخ المقاومين “عمر المختار” مقصلة فإنها في زمن أحفاده كفن مرفوع ومحتضن، وقد فعلها “الكفن” طوفانا أعاد صياغة كل شيء على مقاس أنّ للكرامة أهلها في “غزة”، وأن للمؤامرة مساحتها في العالم، كما أنّ للمذلة أعرابها في عروش خمّ تطبيعي، انتهت صلاحية فقسها وبيضها معا..
آخر الكلام ومنتهاه في هكذا منوال من نهاية وتحوّل قادمين، أنّ كل الذي نراه ونعايش أحداثه ومتغيّراته من زخم مواقف بشقّها المقاوم في ساحة غزة ورفح ولبنان واليمن، وبشقّها المتخاذل في ضفة خليج النفط وممالك الحشيش، أنها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يقف فيها جيل من زمن الطوفان، ليعتنق له من روح شيخ المقصلة “عمر المختار”، أنه لا خيار إلا نصر أو موت، فيما في ضفة الخيانة الأعرابية، لا زالت خيبة أمٍّ وكذا “أمة” في ابنها، وهي تردِّد من على سفح أندلس: ابك، وأبكوا، كالنساء على مُلك، وطوفان، لم تصونوه كالرجال..