قالوا: الخَطُّ لسانُ اليَد.. القلمُ والورقة في مَهَبِّ التِّقْنيَّة

هل يأتي يومٌ على الإنسان العربي يفقدُ فيه القدرةَ على الإمساك بالقلم والكتابة على الورقة بخطٍّ مقروءٍ وفيه بعضُ الجَمال، أم أنَّ الأمرَ سينتهي إلى الكتابة على طريقة الوَصفات الصيدلانيَّة أو كتابة التَّمائمِ والطَّلاسم؟ لقد قدّمتْ التِّقنيَّةُ خدمات جليلةٍ إلى اللغة والخطِّ العربي، وفي الوقت نفسه أشرعتْ بوَّابات الأسئلة حول مستقبل هذا الخطّ الذي يُمثُّلُ رُوحَ اللغة العربيّةِ وحامِلَ أسرارِها عبر العصور، بل هو جوهرُ الهويَّةِ الثقافيَّة للأمّة العربية.

توجَّهت جريدة “الأيَّام نيوز” بجُمْلة من التساؤلات حول الخط العربي إلى خطّاطين ومُصمّمين وكُتّاب، وحاولتْ أن تستشرف رؤاهم حول مستقبل الخط وعلاقته بالتِّقنية. ومن أمثلة تلك التَّساؤلات: أثّر عصر التقنية والنّشر الرقمي على علاقة الإنسان بالقلم والكتابة على الورق، فكيف ترون مُستقبل الخط العربي من هذه الوُجهة؟ وهل تعتقدون بأن “التقنية” يُمكنها أن تُبدع خُطوطًا أكثر جمالية ومُشْبعَة بالروح والحيوية كتلك التي يُبدعها الخطّاطون ومُبدعو الفنّ الحُرُوفِيُّ؟ وكيف ترون الخطَّ من وجهة الفن التشكيلي وتأثيره على الثقافة اللونية لدى الإنسان العربي بالمقارنة مع تأثير الفنون التشكيلية الأخرى عليه؟ وهل يؤثِّر غياب الخطِّ العربي عن المناهج المدرسية على اللغة العربية باعتبار أن الخطّ ليس مجرّد وسيلة لكتابة حروفها وكلماتها بل هو أبرز عناصرها الجمالية و”الروحيّة”؟ وما علاقة الكُتّاب والمبدعين مع الخطّ والكتابة اليدوية في عصر النّشر الرّقمي؟

الخطُّ العربي قضيَّةٌ “وجوديَّةٌ”

الحديثُ عن الخَطِّ العربي ليس ترفًا فكريًّا بل هو قضيَّةٌ “وجوديّة” تتعلّقُ بالهويّة والتّراث والانتماء إلى الأمّة العربيَّة التي تُسمّى أيْضًا “أمَّة الضّاد” والمُنتمي إليها يُشترطُ فيه أن يكتب من اليمين إلى اليسار بخطٍّ عربيٍّ أو هكذا كان الحال، على الأقل، خلال عُصورٍ سحيقةٍ سابقةٍ. وقديمًا قال “أبو الهندسة” الفيلسوف اليوناني “إقليدس”: “الخطُّ هندسةٌ روحانيَّةٌ، وإنْ ظهرت بآلة جسمانية”. وجاء في كتاب “صبح الأعشى في صناعة الإنشا” لصاحبه “القلقشندي”: “قال عبيد الله بن العباس: الخط لسان اليد. وقال جعفر بن يحيى: الخط سَمَطُ الحِكْمة، وبه تُفصَّل شُذورها، وينْتَظم منْثورها. وقال النَّظّام: الخطُّ أصْل الروح، له جسدانية في سائر الأعمال إلى ما يجري هذا المجرى. وقال إبراهيم بن محمد الشيباني: الخط لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووصيّ الفكر، وسلاح المعرفة، وأُنْس الإخوان عند الفُرْقة، ومحادثتهم على بُعْد المسافة، ومُستوْدَع السّر، وديوان الأمور. وقال مسلم بن الوليد: من عجائب الله تعالى في خَلْقه، وإنعامه عليهم من فضله، تعليمه إيّاهم الكتابَ المفيد للباقين، حِكَم الماضين، والمخاطب للعيون بسرائر القلوب، على لغات مُتفرّقة، في معانٍ معقولة، بحروف مؤلّفة”.

مُسافرٌ في كلِّ الدُّنيا

لم يكن للأمّة العربية ذِكْرٌ بين الأمم حتى أعزَّها اللهُ بالإسلام، فاتشرتْ لغتها في مشارق الأرض ومغاربها، وكان الخطُّ عماد ذلك الانتشار، داعيةً ومُعلِّمًا وتاجرًا وفارسًا ورمزًا حضاريًّا أبْهرَ الدُّنيا بجماليَّاته وروحانيَّته وما حمله من معارف وعلوم وآداب.. “فالإسلام هو السّببُ الوحيدُ في انتشار الخطّ العربي، إنْ لم نقل هو مُحْيِيه ورافعه إلى أوْج الظُّهور حتى انتشر هذا الانتشار الهائل بين الأمم الإسلامية وغيرها في آسيا وإفريقيا وأوروبا، حتى بلغتْ حدوده من أقاصي الهند وماليزيا شرقًا إلى أقاصي بلاد المغرب وبحر الأدرياتيك غربًا، ومن أعلى تركستان وأواسط روسيَّةُ أوروبا شمالاً إلى أداني زنجبار جنوبًا. وقد تخطَّى الآن خضَمات الإقيانوس، وبلغَ قارة أمريكا وغيرها من جُزُر البحار. فهو يضمُّ بين دفَّتيْه أمَمًا مُختلفة الأجناس والعادات، مُتعدِّدة اللغات واللهجات..”. لقد أوردْنا هذا الاقتباس من مقال نشرتْه مجلة “الهلال” المصرية سنة 1912 تحت عنوان “الخط العربي وانتشاره في العالم الشرقي الغربي”، وذلك للتأكيد بأنَّه لم يتحقّق لأيّ أمّة أنْ انتشَر خطُّها في العالم مثلما تحقّقَ للأمة العربية، في عصورٍ لم يكن فيها حتى تنقُّل الناس والبضائع ميْسورًا، فضْلاً عن أمور أخرى مثل الخط، كما هو الشأن الآن في عصر الإنترنت والبثِّ الفضائي والتَّواصل الإنساني عبر أمواج الأثير.. وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ أممًا كثيرًا كانت تكتب لغاتَها غير العربية بالخطّ العربي، ولعلَّ بعضها ما زال مُستمرًّا إلى أيّامنا هذه.

آراءٌ حول أصْل الخطِّ العربي

قد يتساءل القارئُ عن أصْل الخط العربي وبداياته الأولى، وهو تساؤل مشروعٌ اجتهد العلماءُ منذ قرون طويلة في البحث عن إجابة له، غير أنّهم لم يتوصَّلوا إلى اتِّفاق يطفئُ ظمأَ السائل إلى الجواب القاطع. وظلَّتْ أجوبتهم تُراوِح بين الأسطورة والتَّخمين والنَّظريات التي زعمت اعتمادها على الآثار المادية..

في عام 1935، نُشِر كتابٌ بعنوان “أصل الخطِّ العربي وتاريخ تطوُّره إلى ما قبل الإسلام”، حاول كاتبه “خليل يحيى نامي” أن يُناقش الآراء، التي كانت شائعة حتى زمانه، حول أصل الخطِّ العربي. ومِمَّا جاء في الكتاب: “تتلخَّصُ آراء العرب في نشأة الخط العربي في رأييْن مشهوريْن:

الخطُّ توْقيفٌ إلهيٌّ

الرأي الأوَّلُ: أنَّ الخطَّ توقيفٌ أيْ أنَّه ليس من صنع البشر بل إنَّ الله سبحانه وتعالى قد علَّمه لآدم فكتَب الكُتبَ كلَّها، فلمَّا أصابَ الأرضَ الغَرقُ، وجَد كل قوْمٍ الكتابةَ التي يكتب بها، وكان من نصيب إسماعيلَ الكتابُ العربي.

جاء في كتاب (الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها) لابن فارس ما يلي: يُرْوى أنَّ أوَّل من كتب الكتاب العربي والسّرياني والكتب كلها آدمُ عليه السلام قبل موته بثلاثمائة سنة، كتَبها في طينٍ وطبَخَه. لمَّا أصاب الأرضَ الغرقُ، وجد كل قوْمٍ كتابًا فكتبوه، فأصابَ إسماعيلُ عليه السلام الكتابَ العربي. وكان ابن عباس يقول: أوَّلُ من وضَع الكتابَ العربي إسماعيلُ عليه السلام، وضَعَه على لفْظه ومَنْطقه”.

الخطُّ اختراعٌ بشريٌّ

أمَّا حول الرَّأي الثاني، فيقول صاحبُ كتاب “أصلْ الخطِّ العربي”: “إنَّ الخطَّ اختراعٌ ولهم في ذلك روايتان مشهورتان وهُما: إنَّ العربَ قد أخذتْ خطَّها عن الحيرة، والحيرة أخذته عن الأنبار.. وجاء في “أدب الكتاب” للصولي: سُئِل المهاجرون من أن تعلَّموا الكتابَ؟، فقالوا: من أهل الحِيرة: فسُئِل: أهل الحيرة من أين تعلّموا؟ فقالوا: من أهل الأنبار.. وقال الألوسي في “بلوغ الإرب”: وسُميَّ خطُّ العرب بالجزم، لأنَّ الخط الكوفي كان أولاً يُسمَّى الجزم قبل وجود الكوفة (مدينة)، لأنه جزَمَ أيْ اقتُطِع ووُلِد من المَسْند الحِمْيَري و”مرامر” (شخص) هو الذي اقتطعه”.

والرواية الثانية تقول: “إنَّ العرب قد أخذتْ خطَّها عن ملوك مَدْيَن الذين كانوا من العرب العاربة. قال ابن النديم في الفهرست ما يلي: ‏ اختلف الناسُ في أول مَنْ وضعَ الخطَّ العربي، فقال هشام الكلبي: أولُ من وضع ذلك قومٌ من العرب العاربة نزلوا في عدنان بن إدّ وأسماؤهم: أبو جاد، هواز، حطي، كلمون، صعفص، قريسات – هكذا من خط ابن الكوفي بهذا الشكل والإعراب – ‏ وضعوا الكتاب على أسمائهم. ثم وجدوا بعد ذلك حروفًا ليستْ من أسمائهم وهي: الثاء، الخاء، الذال، الظاء، الشين، الغين.. فسمُّوها الرَّوادف. قال: وهؤلاء ملوك مَدْيَن..”.

الخط العربي 3

ابن خلدون.. الكتابةُ أساسُ العمْران البشري

ما أوْردناه سالِفًا هو بهَدفِ تقديم أمْثلةٍ حول الآراء التي تناولتْ “أصل” الخطِّ العربي، والتأكيد بأنّ هذا المَبْحث قد شغَل العقلَ العربي عبْر مختلف العصور إلى الدّرجة التي جعلتْ العلاَّمَة “ابن خلدون”، وهو من أكبر الخطّاطين في عصره، يُولي عنابةً كبُرى بالخطِّ ويعتبره من أسُس العمران البشري. وقد خصًّص في كتاب “المقدّمة” فصلاً بعنوان “فصلٌ في أنَّ الخط والكتابة من عِدَاد الصَّنائع الإنسانية”، ومن الأقوال التي جاءت فيه: “وهو (الخطُّ) صناعة شريفة؛ إذْ الكتابةُ من خواصِّ الإنسان التي تَميَّزَ بها عن الحيوان”. “إذْ هو (الخط) من جملة الصنائع، وقد قدَّمْنا أن هذا شأنها، وأنها تابعة للعمران”. “وعلى قَدْر الاجتماع والعمران والتَّناغي في الكَمالات والطلب لذلك؛ تكون جودةُ الخط في المدينة”.

لكلِّ خَطَّاطٍ أسْرارُه

وقد اشتهر عددٌ كبيرٌ من الخطَّاطين في مختلف أقطار الأمة العربية، عبْر مختلف عصورها، ذلك أن الخطَّ كان مُرتبطًا بدواوين الدّولة، وصناعة المخطوطات، والمُراسلات، وفنون الِعمارة وتزْيين المباني.. فقد كان “مُرافقًا” للدُّول والنّاس في مختلف شؤون حياتهم اليومية.

كان للخطِّ أسرارُه حتى في صناعة القلم من القصب أو أنواع أخرى من عيدان الأشجار، وطُرُق برْيِه ليتلاءم مع المادَّة التي يُكتبُ عليها مثل: جلود الحيوانات وعظام أكتافها.. وُصُولاً إلى الورق الذي مثَّل ثورةً كُبرى لا تختلفُ في قيمتها عن ثورة تكنولوجيا المعلومات وما أحدثتْه من تحوُّلات جذرية في شؤون النَّشر والكتابة خاصّةً. وتروي المصادرُ التَّاريخيّة بأنَّ كل خطّاطٍ كانت له أسراره في أدوات الكتابة: (القلم، الحِبْر، الورق). وقيل أنَّ خطَّاطًا مثل “ابن البوّاب” قد كتب قصيدة ضمّنها بعض أسراره في الكتابة والخطّ، إضافةً إلى أخلاقيات الكتابة ومسؤولية ما يخطُّه الخطّاط.

ابن البَوَّاب.. عبقريُّ الخطِّ العربي عبر العصور

وابن البَوّاب هو “أبو الحسن علي بن هلال بن عبد العزيز”، من أهْل بغداد في القون الحادي عشر الميلادي (961 – 1002) كما ذهبتْ بعض المصادر، اشتهَر بأنَّه من أعظم الخطّاطين حيثُ أنَّه كتب بخطِّ يده “أربعًا وتسعين مصحفًا، لم يصل منها إلاّ نسخة واحدة كتبها في بغداد سنة 391هـ، وهي محفوظة اليوم في مكتبة شِسْتربِتي في دبلن بإيرلندة، وقد كتب الباحث (س. رايس) دراسة قيمّة عنها وعدّها الأثر الصحيح الوحيد الباقي لابن البواب” (وفق موقع الموسوعة العربية). وقد كتَب عنه الباحث العراقي “هلال ناجي” كتابًا بعنوان “ابن البواب: عبقري الخط العربي عبر العصور.. مجموعة نفيسة من خطوط ابن البواب”.

رائِيَّةُ ابن البوَّاب في الخَطِّ والقَلَم

يا منْ يريد إجادةَ التَّحرير — ويرُوم حُسْن الخطِّ والتَّصْوير

إن كان عزمُك في الكتابة صادقًا — فارغبْ إلى مولاك في التَّيْسير

أعْدِدْ منَ الأقلام كل مُثقفٍ — صلْب يُصوغ صناعةَ التَّحْبير

وإذا عمدتَ لبَرْيِه فَتَوَخَّهُ — عند القياس بأوْسط التَّقدير

انظرْ إلى طرفيْه فاجعل برْيَه — من جانب التَّدقيق والتَّخْضير

واجعل لجِلْفَته قَوامًا عادلاً — خُلُوًّا عن التَّطويل والتَّقصير

والشِّق وسطَه ليبقى برْيُه — من جانبيْه مُشاكِل التَّقدير

حتى إذا أتقنتَ ذلك كله — فالقَطُّ فيه جُمْلة التدبير

لا تطمعن في أن أبوح بِسرِّه — إني أضنُّ بسرِّه المستور

لكن جملة ما أقول بأنه — ما بين تحْريف إلى تدْوير

وألقِ دَواتَك بالدخان مُدبِّرًا — بالخلِّ أو بالحصْرم المَعْصور

وأضفْ إليه مغرة قد صُوِّلَتْ — مع أصْفر الزِّرْنيخ والكافور

حتى إذا ما خمرتْ فاعمدْ إلى — الورق النقي الناعم المخبور

فاكْبسه بعد القطع بالمعصار كي — ينْأى عن التَّشْعيث والتَّغيير

ثم اجعل التَّمثيل دأْبك صابرًا — ما أدْرَك المأمولَ مثل صَبور

ابدأ به في اللوح مُنْتضِيًا له — عَزمًا تُجرِّده عن التَّشمير

لا تخجلن من الرَّدى تَختطُّه — في أول التَّمثيل والتَّسطير

فالأمر يصعب ثم يرجع هيِّنًا — ولرُبَّ سهْلٍ جاء بعد عسير

حتى إذا أدركتَ ما أمِلْتَه — أضْحيتَ ربَّ مَسرَّةٍ وحُبور

فاشكرْ إلهك واتبعْ رضوانه — إنَّ الإله يُجيب كل شَكُور

وارغبْ لكفِّك أنْ تَخُطَّ بَنانُها — خيرًا تخلُفُه بدار غرور

فجميع فعل المرء يلقاه غدًا — عند الشَّقاء كتابةُ المَنشور

الخط العربي 2

 

محمد منير المحمود (مدير مركز "القلم المحمود" وباحث ومدرب في الخط العربي من لبنان)
محمد منير المحمود (مدير مركز “القلم المحمود” وباحث ومدرب في الخط العربي من لبنان)

أمام سُلطة التِّقنية.. هل يفقِدُ الخطُّ العربي روحانيَّته؟

يُعتبر الخط العربي، بشكل عام، من أهمِّ وأرقى الفنون على الإطلاق علميًّا وثقافيًّا وفنيًّا، وهو من صميم الهوية الإسلامية والعربية. كما يُعتبر أيضًا من أهم الفنون الفكرية واليدويَّة في الثقافة الإسلامية.

أهميَّةُ الخط العربي

لا يزال الخط العربي وفنِّه مَحطَّ أنظار العرب وحتى الغرب، فهو يحتلُّ مكانة مرموقة في أنحاء العالم، ويُلفِت أنظار المُفكرين والكتَّاب والرسامين والتشكيليِّين من عمالقة الفن وحتى لدى المُعلمين والطلاب وغيرهم من فئات المجتمع المختلفة لبعده القاعدي التقليدي الروحي، حيث يتبيَّن لنا بأن للخط العربي جماليَّةً خاصة بارزة غير موجودة في باقي الفنون، وقد يكون أيضًا، وفي كثير من الأحيان، لتصحيح الكتابة بشكل دقيق ومنها اللغوية، مِمَّا يُسَهِّل على القارىء ماهيَّة المقصود من الكتابة والنصوص بشكل واضح وجليّ.

الخطُّ بين قلَمِ القَصَب ومفاتيح الحاسوب

مِمَّا لا شك فيه أنَّ الخطَّ العربي أصبح اليوم للتَّزْيين عبر لوحات الخط التقليدي والمركَّب، ولوحات الفنون التشكيلية، وكتابة اللافتات والجداريات.

بعد دخول الحاسوب والتقنية الرقمية، وحاليًا عصر الذكاء الاصطناعي (ولا شك أنه يقوم ببعض الإيجابيات)، فقد أخذ حيِّزًا كبيرًا في عدة مجالات منها التصميم والهندسة والطب وغيرها… ومنها الخط العربي في بعض البرامج الرقمية، وقد أثَّر هذا الأمر كثيرًا على فن الخط العربي أو الكتابة اليدوية بشكل عام، بعد أنْ كانت الخطوط والكتابات والخطابات والرسائل يدوية (بالقصب والحبر) وقد تمَّ تغييبُ الخطِّ عن تلاميذ المدارس والمعاهد وطُلاب الجامعات، بعد أن كانت هناك حصصٌ خاصة بالخط العربي.

وأنا هنا أقول أنَّ التقنية الرقمية والنشر الرقمي قد أتْعب الخط العربي، وبالتأكيد إن هذه التقنية لا تأخذ مكان الخط العربي اليدوي حتمًا، حيث الإبداع لدى الخطَّاط بقلمه وفكره وحركة الحرْف بين أصابعه. أضِفْ إلى ذلك جوهرَ الفن ألاَ وهو الرّوح التي لا يُمكن توافرها في الآلات مهما بلغتْ أقصى درجات التطوّر.

تأثير التِّقنية على الخط العربي

كيف أثَّرتْ التقنية، وما هو هذا التأثير؟ بالتأكيد أثّرت التقنية كثيرًا بمفهومها المادي فقط، أما الرُّوحانية في الحروف وجمالها الأخّاذ فلا يُمكن للتقنية الرقمية تأمينها، ولا يُمكنها أيضًا أنْ تحتلَّ مكان القلم الحي، وبالتالي فإنَّ حركة يد الخطَّاط الفذ والتشكيلي المبدع تكون مُحرَّرة من القيود الرقمية خطًّا ولونًا وكتابةً وحركة. فللخط العربي (بأنواع خطوطه) انحناءات وزوايا ليِّنة وزوايا شديدة وقياسات، وكما يقال: الخطُّ لسان اليد، لما لديه من قدرة على التواصل ونقل فكرة أو صورة معينة بأسلوب جذاب ومنمَّق.

الخط العربي 1

انتشارٌ خجولٌ يخشى الاندثار

من المؤسف أننا في لبنان نجد في أيامنا هذه تراجعًا كبيرًا في الاهتمام بالخط العربي الفني أو تحسين الخط العادي اليومي بما يسمى اصطلاحًا “الدَّارج” (بالقلم العادي) خاصةً بين طُلابنا في أولى مراحل التنشئة، على الرغم من ذكاء الطلاب وتفوُّقهم، إلاّ أن خطوطهم أصبحت بالكاد تُفهم وتكاد لا تُقرأ في كثير من الأحيان بسبب الإهمال لهذه المادة الأساسية التي كانت فيما مضى أساسًا ضمن المنهاج الدراسي.

غير أن هذه الثقافة (الثقافة الخطيَّة) كادت أن تندثر… لولا وجود هِمَّة وطموح بعض شبابنا من الجيل الحديث الذي ورث عن آبائه وأجداده حب البلاد وثقافتها وتعلُّقه بهويته العربية وأرضه ووطنه، ولولا وجود بعض الخطاطين الأفذاذ ومحبي هذا الفن العريق وسعيهم ونشاطهم بإقامة الورش والدَّورات الخطية المستمرة، وحثّ الطلاب وفئات المجتمع على تطوير خطهم وكتاباتهم، لاندثر الخط تمامًا، عندها لا سبيل لاسترجاعه في ظل العولمة الرقمية.

بما أنّ المدارس والمعاهد والجامعات اللبنانية ألغتْ مادة الخط العربي المهمة من مناهجها التعليمية، فهناك بعض الخطاطين والمدربين المُعتَبَرين في الخط العربي قد أخذوا على عاتقهم ومجهودهم الخاص نشْر وتعليم وتدريب من يرغب في هذا الفن، وحتى لتحسين كتاباتهم اليومية بما يُسمى اصطلاحًا (الخط الدارج).

أقسامُ الخط العربي

ينقسمُ الخط العربي إلى قسمين، هما:

  • الخط الفني: أيْ الكتابة بالقصب والحبر على الكواغد والورق المقهر، ونجده في اللوحات الفنية.
  • الخط الدارج: أيْ الكتابة اليومية بالقلم العادي الذي يستخدمه الطلاب وجميع الفئات والطبقات الاجتماعية في حياتهم اليومية، وقد يكون أحد أنواع الخطين: الرُّقْعة أو النَّسْخ.

أمَّا ما وقَع عليه الاختيار من حيث السهولة والمعتمد عليه فهو خط “الرقعة” الذي استُخدم لبساطته وسهولة الكتابة فيه وجمال حدته وانحناءاته وترتيبه بين السطور. فوجدنا الكثير يكتبون (من غير معرفة) الرقعة والنّسخ معًا، وتُعَدُّ هذه الكتابةُ مُشكلةً أساسيّة في خلط نوعين من الخط، الأمر أشبه بوجود شخصيّتيْن في جسد واحد!

كُرَّاس “القلم المحمود”

من هنا يرى الفنان اللبناني والمدرب “محمد منير المحمود” وولده المدرب “هادي محمد المحمود” أنه لا بد من تضافر الجهود وبالسرعة الممكنة لنشر وتنشيط هذه الثقافة الرئيسة وهذا العلم الأساس بين الطلاب، كي لا نُساهم في هذا السقوط والانحدار، وبالتالي الاندثار شيئًا فشيئًا. لذلك كخطوة أولى من مركز “القلم المحمود” في لبنان أصدر كراسة تعليمية للكتابة اليومية (الخط الدارج) ذات أسلوب سلس وقريب من لغة القارىء والمتعلم فأطلق عليها اسم: “الهادي إلى تحسين الخط العادي.. خط الرقعة بالقلم العادي”، وهي من تأليف المُدرب “هادي محمد المحمود “، والكراسة هذه أُلِّفَت وفق منهاج مُتطوِّر وسهل مُوجهةً إلى جميع الفئات الاجتماعية، خاصة الفئة المهمّة للجيل القادم (الطلاب). المبادَرة التي تُعَدّ محاولة لنشر وتنشيط هذه الثقافة وإعادة إنتاجها واستمرارها، وأيضًا بهدف الحفاظ على المعرفة العلمية في فهم الخط العربي وأنواعه والقدرة على التمييز فيما بينها.

رائدة العامري
د. رائدة العامري (أستاذة الأدب الحديث ونقده في جامعة بابل، وأديبةٌ من العراق)

الخَطُّ رُوحُ الهويَّةِ الثقافية العربية

التِّقنيةُ الرَّقمية والتكنولوجيا الحديثة إِضفاءُ حيويةٍ وروحٍ جديدة وفْقَ آلية مليئة بالتحديَّات ذات تأثيراتٍ ثلاثية الأبعاد تُجسِّد الحركةَ والحيوية بطريقة مبتكرة تُسهم في تعزيز الوعي والاهتمام، مِمَّا له بالغ الأثر في تفاعل وتلاقح القلم والكتابة على الورق. لأنَّ ذلك التفاعل يعطي فرصةً للتعبير عن الأفكار والمفاهيم في محتوى مكتوبٍ مُنظَّم بآلية تخزين واسترجاع المعلومات، وفي الوقت نفسه يمكن الاستفادة من القلم والكتابة على الورق لصقل المهارات الفكرية وإضفاء قيمة وأهمية في مختلف السياقات الإبداعية.

ومن جانب آخر، يتعامل الخط العربي مع إنشاء خطوط جمالية إبداعية مليئة بالروح والحيوية من خلال آلية برامج التصميم وأدوات التصميم وابتكارات الخط العربي. ولكن لا يمكن إنكار دور مُبدعي فنِّ الحروف في تشكيل التراث الثقافي وتطور الخط العربي عبر العصور، لأنه يسهم في الالتزام بالقيم والمبادئ الأساسية والعمق والأصالة، واحترام التراث وجمالياته.

تلعب التكنولوجيا دورًا في ترجمة الجماليات التقليدية للخط العربي إلى تقنيات رقمية عالية الجودة يمكنها تعزيز الوعي بالخط العربي. فضلاً عن ذلك، فإنَّ النَّشرَ الرقمي يمنح الكُتّاب والمبدعين مِنصَّةً للتعبير عن أعمالهم الكتابية، مِمَّا يعزِّز إبداعهم وتفرُّدهم في التفاعل والتواصل مع الآخر وتبادل خبراتهم ومهاراتهم، مما يؤدي إلى توسيع دائرة المعرفة والوعي والإدراك والاهتمام لخلق الإبداع، والجمال الذي يوازن بين استخدام التكنولوجيا الرقمية والحفاظ على التراث المخطوط في فن الخط العربي.

الخط العربي ليس مجرد وسيلة لكتابة حروف اللغة العربية، بل هو شكل فني يعكس الفخرَ ويُعزز الانتماءَ والتعبير عن الهوية الثقافية والتقليدية للغة العربية، وجمالها الروحي وثقافتها، واستيعابها الأدب العربي في إثراء النصوص وتزيينها، إذ يحافظ على التراث والتاريخ العربي الغني.

إنَّ غياب الخط العربي من المناهج الدراسية يؤثر سلبًا على اللغة العربية لأنَّه يحمل في داخله القيم الروحية والتأمُّليَّة التي تُميِّز اللغة العربية وتمنحها جوهرًا فريدًا وعمقًا أدبيًا وثقافيًا في فهم وتحليل النصوص الأدبية والشِّفرات التأويلية في تراث الماضي والحاضر في إحياء التراث الثقافي والحفاظ على التراث العربي في الأجيال القادمة.

يجب إدراج الخط العربي في بعض المناهج الدراسيَّة كمادة فنية لتنمية مهارات الصبر والتركيز وتعزيز الثقة بالنفس والوعي الثقافي لدى الطلاب، وتعلُّم أساسيات الخط العربي وتقنياته المختلفة من خلال التراث الثقافي العربي، وكذلك تعلُّم الزخرفة والتصاميم الجمالية المرتبطة بها، وتدريب الطلاب على استخدام أدوات الكتابة بالخط العربي وحفظ الحروف والكلمات وتطبيقها بشكل فني على الورق.

ريهام كرم
ريهام كرم (مِعْماريَّة ومُصمِّمة شعارات من مصر)

الخطُّ اليدوي والتقنية.. علاقةُ تكامُلٍ جَميل

بدايةً أعرِّف بنفسي، “ريهام كرم” من مصر درستُ الهندسة المعمارية بكلية الهندسة جامعة القاهرة دفعة 2008 وعملتُ في المجال لمدة 4 سنوات ثم اتجهت إلى دراسة الجرافيك والعمل بمجال الإظهار المعماري ثم العمل بالدِّعاية والإعلان. جذبني الخطُّ العربي وعلاقته بالتصميم فالتحقت بوِرَشٍ لتعلُّم الخط ودمجه بالرسم واستخدامه في التصميم. وتخصَّصْتُ في تصميم الشعارات الخطية. أعملُ كمصممة شعارات منذ 10 سنوات قمت بالالتحاق بمدرسة نظامية لدراسة الخط العربي بشكل أكاديمي لتطوير عملي وصقله.

أثّر عصر التقنية والنّشر الرقمي على علاقة الإنسان بالقلم والكتابة على الورق، فكيف ترون مُستقبل الخط العربي من هذه الوُجهة؟ وهل تعتقدون بأن “التقنية” يُمكنها أن تُبدع خطوطا أكثر جمالية ومُشبعة بالروح والحيوية كتلك التي يُبدعها الخطّاطون ومُبدعو الفّ الحُرُوفِيُّ؟

أؤمن تمامًا بأنَّ أثر اليد في أيّ حرْفةٍ له جمال وانطباع في النفس وقيمة لا يمكن أبدًا أن يتساوى معه مُنتَج آلي، لكنني أرى أنَّه على أي فن أن يواكب التطور، والخط العربي لا يقتصر فقط على لوحات مُعلقة على الحوائط، ولكنه فنٌّ متفاعلٌ مع الحياة اليومية للإنسان، تجده في المنتجات المختلفة والإعلانات في الطرقات وما شابه، ويتعامل معه الإنسان يوميًّا، لذا عليه أن يواكب التطوُّرَ الذي يحدث في الحياة مثله مثل أي مجال.

كمِثالٍ في مجال الدعاية والإعلان، يتمُّ توظيفُ الخط بشكل يسمح باستخدامه في التطبيقات المختلفة وبشكل يتناسب مع التطور في هذا المجال.. استخدام الكومبيوتر والبرامج المختلفة في تصميم الخط ساعدتْ على انتشاره بشكل أكبر بين فئات مختلفة من الفنّانين ربما كثيرٌ منهم لم يكن لديه اهتمام بالخط العربي، وأيضا تطبيقه في مجالات متنوعة.

لكنني لا أرى أبدًا أنَّ التقنيّة تؤثر على الخط العربي بالسلب، بالعكس أنا كمصممة بالخط العربي – ولست خطاطة – قمتُ بدراسة الخط العربي بشكل أكاديمي لكي يكون أساس عملي صحيحًا، وأتعلم تشريح الحرْف ورسمه والتراكيب المختلفة لكي أستطيع تطويعها بعد ذلك في عملي بما لا يخلُّ بالنسب والمقروئية.

عملي يجذب الكثيرين من مجالات وأعمار وثقافات مختلفة والسؤال الدائم المشترك “كيف أقوم بتعلم هذا الفن؟”، ونصيحتي دائما للسائل أن يقوم بدراسة الخط العربي حتى ولو من خلال ورش مُبسَّطة والتي أصبحت منتشرة الآن بشكل أكبر عن بداياتي في 2012 وبعضها منهجها يقوم على ربط الخط بالتصميم، وليس دراسة الخط فقط لأنَّ هناك أماكن كثيرة تقوم بتعليم الخط، لكن القليل من يربط الخط بالتصميم.

الكومبيوتر وبرامج التصميم هي أدوات مساعدة في الإخراج الفني، ولا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل والاستغناء عن القلم والورقة فهما أساس الإبداع والابتكار. في عملي كمصممة شعارات استخدم الورق والقلم في صُنع الأفكار ورسم الاسكتشات الأولية وتهذيبها ثم إخراجها باستخدام الكومبيوتر ببرنامج الإليستريتور لتقديمها نسخةً يستطيع العميلُ استخدامها في التطبيقات المختلفة حسب مجاله..

في رأيي أنه على الخطاط الكلاسيكي – الذي يريد مواكبة سوق العمل – أن يُتقن بعضًا من مهارات استخدام الكومبيوتر لمساعدته في عمله، وكذا على أيّ مصمم حُروفيَّات أن يقوم بدراسة الخط حتى ولو بشكل مُبسَّط لكي يطور من عمله ويصنع أساسًا قويًّا له.

مارون الماحولي
مارون الماحولي  (شاعر وباحث من لبنان)

علاقتي بالورقة والقلم

على الرّغم من وجود المياه والصّابون منذ القديم، فإنّ الأوساخَ ما زالت تكسو أبدان الناس وقلوبهم. وعلى الرّغم من الرّسالات السّماويّة، ما زال الشّيطان يُفسدُ المَسكونة.  لذلك كان الشِّعر، ذلك الجمال الذي يحارب البشاعات على هذا الكوكب.. وكانت الورقة وكان الحبر وكان القلم.

يقول الشاعر الفرنسي “شارل بودلير”: “سوف أحاول استخراجَ الجمال من الشّر”. وأنا أحاول أن أهزم الظّلامَ بوساطة شمعة وحيدة هي قلمي ومساحة بيضاء هي الورقة.

إنّي أتيتكِ من حبري ومن قلمي — ومن مُعلَّقةٍ في الصّدرِ لَمْ تُقَلِ

علاقة الكاتب بالقلم والورقة علاقة عضويّة وحميمة وسامية جدًّا. في البدء كانت وسيلةُ التعبير بدائيَّةً كالنقوش أو الرُّسوم، ثمّ تطوَّرت مع تراخي الوقت لتصبح عبر الكتابة على الجلود، أو على وسائط أخرى، لتصل إلينا عبر الحبر والقلم والورقة. وتكرّسَ هذا الأسلوب لمدة طويلة من الزمن كما أقول في إحدى قصائدي بالمحكية اللبنانية:

وصار القلم متل النحل عتّال — يزقّ الحلا من البال ع الورقة

إلى أن شهدْنا تطوُّرًا في التكنولوجيا من الآلة الكاتبة، إلى الحواسب الآلية، إلى ما هنالك من الأساليب المتطورة والتطبيقات الذكيّة، أو التي يمكن أن تُبتكر مُستقبلاً.

إن الكتابة على الورق مرتبطة ومتأصِّلة في الذاكرة الجماعية للمجتمعات؛ فقد أصبحت من الطقوس المقدَّسة لكل من يريد أن يُدوّن ما ينتجه فكره أو عقله أو خياله، لذلك أجدُني أحِنُّ إلى لمسة القلم وتفشِّي نقاط الحبر على أصابعي وثيابي، وإلى صوت الورقة ورائحتها التي تخترق الروح. نعم أحِنُّ، وأحبّ أن أمارس هذه الطقوس عندما أبدأ باجْتراح القصائد.

ولكن الكوْنَ في تطوُّر مستمر، وفي ديناميكية لا تساير القابعين على مفارق المطارح والأزمنة: انكسار الضوء لا ينتظر العيون النائمة. لذا أرى أصابعي بدأت تعتاد على لمس شاشات الحواسيب الآلية ولوحات المفاتيح، والأحرف التي تأتي مخططة ومرتبة كما هي الحال عند كتابة هذه الحروف. نعم يا سادة، الأصل في الكتابة هو الفكر والإبداع والابتكار، أما وسائل التدوين فهي ليست جوهرًا.

أمَّا كيف ستكون هذه العلاقة في المستقبل القريب؟

في الحقيقة الجواب في يد الوقت والتطور التكنولوجيا، لكنني أعتقد أن الوسائط الإلكترونية ستتمدد على حساب الورقة والقلم من دون أن يعني ذلك انقراضًا؛ فالطاقة النوويّة اليوم التي توِّلد الكهرباء أو الحرارة لم تُغنِ عن استعمال الفحم، وإنارة البيوت بالكهرباء والوسائل الجديدة المتطورة لم تجعل من الشمعة أمرًا مرّ عليه الزمن.. بل إن إضاءة الشموع قد تزيد من قُدْسيَّة اللقاء والمكان والطقوس والرومانسية.

بكلمة، الإنتاج الفكريّ والإبداعيّ والأدبي هو الأصل، أمّا الوسائل فقد تتعرض إلى التغيير من دون أن تنْمحِي، وتبقى لها مساحات من الحنين في الذكريات والقلوب.

خضر الدرج
خضر الدرج (خطّاط ومُصمِّم جرافيكي من لبنان)

الخطُّ العربي.. رؤيةٌ تاريخيَّةٌ وفنيَّة

قد يقول قائل إن الخطوط الطباعية وفنون التصميم الزخرفي قد أغنت عن الأساليب القديمة وعن الخطاطين بالطريق التقليدية القديمة، غير مدركٍ أن ما وصلت إليه الخطوط التقليدية هو نتاج مئات من السنوات من التطوير والتقدم والتحسين، بدأت حين دعتْ الحاجة إلى لكتابة والتدوين عند العرب منذ أتى الإسلام، حيث بدأ المسلمون يدوِّنون المصاحف والعلوم على مختلف أنواعها.

ومع كوْن الخطوط الأولى عسيرة على النسّاخ، وتحديدًا التي كُتِبت في العصر الأموي، حيث كانت تتطلَّب مجلدات كثيرة لملء نصوص قليلة، وكانت الحاجة إلى خطوط أكثر عملية وأسرع إنتاجًا ملحةً مع الخوف من ضياع العلوم والمُتون والتاريخ، أتى العباسيون بحل مثالي وكتبوا بخطوط ليِّنة ونوَّعوا خطوطهم لتصل إلى ستَّة أقلام (أنواع) كانت هي الأساس لكل الخطوط، وهي: الثلث والنسخ والمحقق والريحان والرقاع والتواقيع. وكانت بينهم خطوط تأخذ من هذا وذاك وتجمع ما بين خصائصها، ومن هنا بدأ يتشكَّل الخطُّ كفنٍّ مستقل وحاجة أساسية في المجتمع الإسلامي.

ثم مع تغيُّر العصور وتقدُّم الأمم، سعتْ كل أمة إلى التحسين والتطوير على هذه الخطوط بدءًا من المماليك مرورًا بالتيموريين والإلخانيين والفاطميين والصفويين والسلاجقة، وانتهاءً بالعثمانيين الذين كان لهم الحظ الأكبر في تطوير الخطوط بل والإضافة عليها وابتكار خطوط جديدة أيضاً، فأضيف: الديواني، والتعليق، والديواني الجلي، والرقعة، والثلث الجلي الذي بلغ أوْجه في عصرهم. بل ووضعوا نظامًا تعليميًا لهذه الفنون ما زال ساريًا حتى وقتنا الحالي، ووضعوا له إجازة تُعطى إلى الطالب عند بلوغه مرحلة القدرة على التحليل البصري والتنفيذ المتقن للحروف، والفهم الحسن لصورة الحرف وتشريحه.

في تلك الأزمنة الماضية، لم تكن الصورة حاضرة بالهيئة نفسها والشكل التي هي عليه الآن في عصرنا، وكان إيصال المعنى والرسالة يعتمد على النص المباشر، فكان الاهتمام بإخراج النصوص بأبهى حلة مُمكنة هو الهدف عند المصممين في تلك العصور – حيث كانوا هم أنفسهم الخطاطين – ولا نتكلم هنا عن النواحي الميتافيزيقية التي مثَّلها الحرف عند أهل تلك الحِقب بعد، فهم وضعوا لاحقًا قداسةً للحرف استقوها من قداسة الكتاب المُبين، وتشرَّف بحمْله الحرف العربي الذي أصبح فيما بعد محطَّ اهتمام فنَّاني هذه الأمة جميعهم. وحيث أن الرسم والتصوير كان بموْضع الحُرمانية في الإسلام، كان التَّجريد هو المنحى الأساسي الذي نَحاه الفنانون المسلمون ومن كان في المناطق التي تقع تحت حكم المسلمين.

وفي عصرنا الحالي ومع تطور أساليب التصوير وإيصال المعلومات، ومع سطوع نجم المصمّمين والمتخصصين في فنون التواصل البصري، بقيت الصّورة الإعلانية بحاجة إلى مضمون كتابي واضح، فلم يتم الاستغناء عن الحرف المطبوع في العملية الإبداعية، ولم يتم الاستغناء عن الكتابة بشكلٍ من الأشكال.

وهنا استأنف الخط رسالته القديمة ليكمل ويُتمِّم العمليةَ الإبداعية بأفضل الطّرق الإيضاحيَّة. فمن خلال اللجوء إلى الحرف تتم المعاني ويصبح التواصل البصري أجودَ وأكثر وضوحًا، فأصبح من الممكن إيصال رسائل وتكوين علامات بصرية بديعة من دون اللجوء إلى عناصر إيضاحية تكميليّة، مثل تصميم الهويّات البصريّة، أو مثل الملصقات الإعلانية والشعارات التي تحتاج الحرْفَ وتسعى إلى تجميله وتمييزه بُغْية الحصول على نتائج إبداعية تلبِّي الغرض من هذه التصاميم.

فنستطيع القوْلَ أنَّ الخط عاد جزءًا لا يتجزأ من عملية التواصل البصري الفني أو التصميم الزُّخْرفي، لأنه شكل الأساس في علم رسم الحرْف، وشكَّل المتكأ الذي يعتمد عليه المبدعون في تشكيل ما نراه حولنا من إعلانات وأشكال وتصاميمَ تملأ الفضاء الحقيقي والإلكتروني.

ومن هذا المنطلق وبناء على ما سبق، وجبتْ العناية بفن الخط والحفاظ عليه وتوريثه إلى الأجيال القادمة بكل أشكاله، وتحديدًا شكلَه التقليدي القديم الذي بُنِي عليه كل ما وصلت إليه الفنون الرقمية الحديثة، وكل ما يعتني بإيصال المعلومات أو الرسائل إلى المتلقين.

ناجي مهدي آل معيوف
ناجي مهدي آل معيوف
(باحث في الخط واللغة العربية من السعودية)

أيُّ مُستقبلٍ للخطِّ العربي؟

تتعاضد الأفعال أو تتعاضل بتماسِّها مع ثلاثية الوقت: الماضي، الحاضر، المستقبل، بآليتيْن اثنتين، هما:

  • التَّزامن وهو التوازي مع الزمن في إحدى حالاته الثلاث، ما يحُدُّ من فعاليَّة الفعل أثرًا.
  • التعاضل وهو التعارض والتقاطع بين تقدُّم الزمن وتراخي الفعل، ما يُآكل من حدَّة الأخير.

ففي مُجمل الآثار الملموسة والمحسوسة، تعدُّ الحضارات الشاهدة والثقافات المتداولة نتاجًا لتفاعل الأثرين: الزمني الظرفي والبشري الحِرَفي، كما أنها (الآثار) تمثل ما خَفِي من جمال وذائقة النفس البشرية لأيّ أمة كانت.

ومن تلك الأمم الفاعلة، أمَّتنا العربية بلغتها التي انطلقت من رحم الصحراء ومركز التَّحضُّر فيها لتدفع في بيدر الثقافة العالمية بكرم السنابل الملآى بالآداب وبالفنون التي أبدعها ناطقو العربية (أخوة المكان وخاتم الأديان) من فرس، وأكراد، وأمازيغ، وبدو، وشعوب على امتداد جغرافية المنطقة منذ بزوغ الإسلام حتى وقتنا الراهن (أوائل القرن الحادي والعشرين الميلادي).

وضمن تلك الفنون والمعارف التي أنتجتها أمَّتنا بمختلف أعراقها: الفنون البصرية ومنها الخط العربي بلا ريب، ولي حول ذلك دراسة بين سيماء الحرف ونغمة صوته؛ وقد عرَّفتُ الحرْفَ العربي المخطوط بأنَّه: “أجمل صورة مكتوبة للصوت العربي”، مع الأخذ بالحسبان أنَّ الحرْف ما كان مكتوبًا مقروءًا، وأنَّ الصوت ما كان منطوقًا مسموعًا. وقد لاحظت في هذه العلاقة ما يُمثِّل تناغُمًا أخَّاذًا يُدلل على علاقة الحرف بالصوت، وهنا بعضٌ من دراستي:

  • العلاقة بين رسْم حروف المَدِّ والحركات القصيرة لها (الألف والفتحة، الواو والضمة، الياء والكسرة)، وبين حركة أعضاء النُّطق عند إصدار تلك الأصوات.

فرسْم الألف يعني الفتح والتَّصاعد، ونُطق الواو يعني الالتفافَ، والياء تعني الانحناءَ الصوتي، فكان الرسم مناسبا للنطق (أ، و، ي).

  • الزيادة الصوتية تعني زيادةً في الرسم، فالدَّال والذال يتقابلان مَخْرجًا، ويختلفان أن الذَّال أغنى صوتًا وأكثر مساحةً ومَلمسًا، فزِيدتْ عليها النقطة، وكذا الطاء والظاء، والسين والشين.
  • الحِدَّة والرِقَّة:

فالحاء أوضح الأصوات العربية فكان رسمه حادَّ الطَّرف (ح)كأنه يشير إلى حدة وضوحه.

  • الصَّفير والتفشِّي والعلاقة بينها (نُطقًا بالصوت ورسْمًا للحرف): السين والشين، رُسِمتْ الأولى بأسنان تُدلِّل على تكاثف صوت السين، ورُسمتْ الأخيرة مثلها مع إضافة نقاط ثلاث لتُشير إلى تفشِّي الصوت (الشين).

وغيرها من مظاهر جماليةٍ للخط العربي مَخْطوطًا وأصواته المسموعة؛ ليُبرِز بعض مُكنوِّناته مُمثِّلاً أحَد أجْمل الفنون البصرية السمعية على الإطلاق؛ ناهيك عن مُجْمل المشاعر التي يُضْفيها على الخطَّاط والمُتذوِّق للخط كالصَّبر والهندسة المُعتمدة على الدِّقة والرقة في آن معًا.

ويبقى التساؤل: ما هو مستقبل الخط العربي في عالم يتنامى معرفةً وتواصلاً عبر علوم التقنية في إطارٍ من زمن متسارع؟

أعود حيث بدأت: لا نستطيع فصل ثلاثية الوقت (الماضي، الحاضر، المستقبل) ذلك أن المستقبل سيكون حاضرا بلا ريب، وأنَّ الحاضر سيعود ماضيَّا.. وهنا أؤكد ما يؤكده غيري بداهةً أنَّ الأعمال اليدوية البشرية تظلُّ صورةً معبرة عن حيوية العمل أو الفن وبث الروح في تفاصيله التي تأبى الموت.

سيظل الخط العربي فنًّا خالدا وإن أنتجته أرحام الآلة، وسيعيد الإنسان كتابته بروحه قبل يده.. ولن يموت الخط العربي وإِنْ أُهْمِل في المناهج وإنْ زاحمته الآلة. لن يموت وأمَّتنا تقرأ حروفَه من القرآن الكريم حُبًّا للثواب، ومخافةً العقاب.. خلود الخط العربي مناطٌ ببقاء كتاب الله الخالد وإن أبَى كلُّ جاحد.

ناجي مهدي آل معيوف 1
د. وسام علي الخالدي
 (أديبة من العراق)

القلم والورقة لن يَمُوتَا أبدا

بين يدي الشاعر والكاتب، تنسابُ علاقةٌ روحيَّة عميقة كجمال غروب الشمس على شاطئ البحر. إنها علاقة تتجلى في القلم والورقة، وهما مرآتان تعكسان أعْمَق المشاعر والأفكار.. فالورقة تجسِّد بياضَها النقي استعدادًا لاستقبال الأحلام والأفكار الرائعة التي يسكبُها رحيق القلم.

والقلم، هو أداة الإبداع والتعبير، تنطلق منه الكلمات كأنها نجوم تتلألأ في سماء الأدب. والورقة، هي الساحة البيضاء التي تعطي الكلمات مأوى وجمالًا. إنهما يتشابكان كروحيْن متلاحمتيْن في رقصة لا نهاية لها بين الكتابة والإبداع.

ومع تطور التكنولوجيا وظهور الأجهزة الإلكترونية والشاشات الذكية، يطرح السؤال عن مستقبل هذه العلاقة الرومانسية بين القلم والورقة. هل ستتلاشى هذه العلاقة مع مرور الزمن؟

لا يمكن للتكنولوجيا أن تطمس هذه الروحية الفريدة. القلم والورقة سيظلان حاضريْن بقوة في عالم الإبداع. وستُزيِّن التكنولوجيا هذه العلاقة بالتحديث، حيث يصبح بإمكان الكُتَّاب أن ينقلوا أفكارَهم بشكل أسرع وأوسع إلى العالم.

سيكون للورقة الورقية مكانتها الخاصة في قلوب العديد من الكتّاب والشعراء الذين يجدون فيها روح الرومانسية والتأمل. أما الأجيال الجديدة فستعتاد على الكتابة الإلكترونية والتعبير عبر الشاشات.

في الختام، فإن القلم والورقة لن يموتَا أبدًا. إنهما جزء من تاريخ الإنسانية، وسيظلان حاضرين في عالمنا بأشكال جديدة ومبتكرة.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا