لا ذنب للجزائر سوى أنها كانت السباقة دوما لفعل الخير وبذل الكرم، ومد يدها دعما للإخوة الأشقاء وسندا للرفقة الأصدقاء، دون تملق ولا مداهنة ولا حساب، وبعيدا عن كل المراهنات السياسوية التي عادة ما تفسد النوايا وتعكر الأجواء وتلوث المقاصد، كان هذا ولا يزال بمثابة رأسمال أخلاقي لا ينضب، يجتمع حوله كل الجزائريين من مختلف شرائح المجتمع بما في ذلك المسؤولون وأهل الحل والعقد، من رئيس الجمهورية إلى رئيس البلدية، وهذه عملة نادرة لا تملكها إلا الأنفس الزكية والدول الحَرِيَّة، والتي تعرف حقا قيمة القيم الروحية ووزن الأخلاق الإنسانية، في ميزان العلاقات الدولية القائمة.
إن الجزائر التي عانت الويلات جراء الحروب والاعتداءات الخارجية، قد تعلمت جيدا كيف تدافع عن نفسها أرضا وعرضا وشعبا وحضارة، لكنها ـ بفضل قدراتها المتنامية ـ اختارت الانخراط كفاعل في صناعة مستقبل الإنسانية، وذلك بتبنّي المواقف الجريئة التي أهلتها أن تترشّح للفوز بمقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي، وقد نجحت فعلا في مسعاها، على أمل أن تخوض عهدة متميزة، مستفيدة من خبراتها التي شكّلت لها عبر الأحداث المتعاقبة رصيدا نضاليا قل نظيره لدى بلدان أغلبية العالم، كما أغنت زادها الثري من الثبات على المبادئ والتمسك بالمواقف المرتكزة على أسس أربعة لا تتزعزع:
– عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
– رفض استعمال القوة أو التهديد بها، لحل الأزمات والنزاعات الدولية.
– اعتماد الحلول السياسية والطرق الدبلوماسية.
– التأكيد على مبدأ التعاون الدولي بصورة أكثر عدلا وتكافؤا.
إنها الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها المواثيق والأعراف الدولية، منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة ـ غداة الحرب العالمية الثانية ـ والتي على ضوئها كسبت الجزائر الاحترام والتقدير من قبل المجتمع الدولي.
“أنت لا تملك من إفريقيا سوى البشرة السوداء..”، قالها الرئيس الراحل «هواري بومدين» حول أحد الرؤساء الأفارقة الذي كان قد اتفق معه على المرافعة السياسية من أجل تطهير القارة الإفريقية من كل أشكال الاستعمار والعنصرية، لكن الرئيس المعني لم يشر إلى الموضوع المتفق عليه ولو بكلمة، جبنا وخوفا وتزلفا.
“رغم خضرة عينيك إلا أنك أكثر الأفارقة سمرة هذا اليوم..”، عبارة أطلقها الممثل الدائم لجمهورية السنغال لدى الأمم المتحدة «ميدون فال» باكيا، وهو يعانق وزير الخارجية الجزائري ـ آنذاك ـ «عبد العزيز بوتفليقة» بصفته آنذاك رئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1974م.
جاء هذا بعدما تم طرد مندوب نظام جمهورية جنوب إفريقيا العنصري، من القاعة الأممية مطأطئ الرأس يكاد ينفجر حنقا وغضبا، وهو الموقف الذي جعل الجزائر حينها عرضة للتهجم والانتقاد، من قبل الدول الغربية العظمى على وجه الخصوص، قبل أن يحتفل العالم كله بسقوط نظام الميز العنصري سنوات بعد ذلك، وهو الاحتفال الذي جاء في شكل ثمرة من غِراس الدبلوماسية الجزائرية الثابتة على الحق، وقد أنصف التاريخ الزعيم «نيلسون مانديلا» فتحول على إثرها، إلى رمز عالمي للمقاومة والنضال، وهو الذي أثنى على الجزائر دون غيرها، يوم أطلق سراحه من السجن العنصري الذي قبع فيه لأكثر من ربع قرن.
كما استطاعت الجزائر بصفتها رئيسا للدورة الأممية، من خلال وزير خارجيتها آنذاك «عبد العزيز بوتفليقة» إدراج القضية الفلسطينية على لائحة جدول أشغال الجمعية العامة، ومن ثم دعوة المناضل «ياسر عرفات»، الذي ظل مطاردا من قبل الصهاينة وحلفائهم من منطلق أنه إرهابي خطير، لإلقاء كلمته التاريخية أمام دول العالم، والتي ختمها بقوله: “كما أتوجه إليكم سيدي الرئيس، بأن تمكنوا شعبنا من إقامة سلطته الوطنية المستقلة، وتأسيس كيانه الوطني على أرضه، لقد جئتكم يا سيادة الرئيس، بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي، فالحرب تندلع من فلسطين، والسلام يبدأ من فلسطين..”.
سنوات بعد ذلك يعلن الراحل «ياسر عرفات» عن تأسيس دولة فلسطين من أرض الجزائر، بعدما ضاقت به الأرض على رحبها، ليستقبله العالم بعد ذلك كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية. ويثبت التاريخ مرة أخرى حكمة الدبلوماسية الجزائرية ومنطقها السوي، في التعاطي مع كبريات القضايا العالمية، وفي معالجتها للأزمات والصراعات التي دعيت لحلها، حتى سميت بـ”دبلوماسية الأزمات”.
فمن ملف القرن الإفريقي وحرب إثيوبيا وإريتريا، إلى ملف مالي واتفاق الجزائر، إلى الأزمة السورية والرفض القاطع لفرض عقوبات ومقاطعة دمشق، على الأقل في البيت العربي ومنظمته، الجامعة العربية، إلى الملف الليبي والدور المحوري الذي تلعبه الجزائر في عملية حلحلة الخلاف القائم هناك، من أجل الذهاب إلى انتخابات عامة يتفق عليها الإخوة الفرقاء من دون ضغط ولا لغط ولا خلط أجنبي، إلى القمة العربية ولم الشمل الفلسطيني مرة أخرى، وإعادة القضية الفلسطينية إلى قلب الاهتمام العربي، وهو الموقف الذي أحرج كثيرا بقية الأنظمة العربية المهرولة والمطبعة مع الكيان الصهيوني الغاصب.
ستبقى الجزائر إذا، قبلة الأحرار حيث ما كانوا، عربا وعجما وسودا وبيضا، تنافح عن الحق الإنساني وتدافع عن الشرعية الدولية، وترافع من أجل قيم العدالة والسلام، وفي خضم ذلك، قد يلين عودها شيئا أو يذبل، لكنه أبدا لا يكل ولا يمل ولا ينكسر، ولذلك، عبثا يحاول “الشراذم” و”الفلول” ثني الجزائر عن مواقفها الثابتة الشريفة، أو يجبرونها على التخندق ذليلة بين القطيع.