قراءة في ألف ليلة وليلة “الألمانيَّة”.. الدكتور “أبو العيد دودو”.. وقافلة “فيلهلم هاوف” (الجزء الثاني)

انتشرَت حكايات “ألف ليلة وليلة” في المُجتمعات الغربيَّة انتشارًا واسِعًا وكبيرًا، لا سيما خلال القرن التَّاسع عشر، وذلك من خلال الطَّبعات الشعبيَّة التي صدرَت لها بشكل كاملٍ أو لمُختارات منها. وهذا الانتشار الشَّعبي اعتبره الدَّارسون تأثيرًا للأدب العربي في الآداب الأوروبيَّة.

وقد تُرجِمت حكايات “ألف ليلة وليلة” تحت عناوين مُختلفةٍ، ومنها: مُسامرات الليالي العربية، الحكايات العربية، الليالي العربية.. وحقَّقَت نجاحًا تجاريًّا مُذهِلاً، فقد ذَكَر الكاتب “ماهر البطوطي” في كتابه “الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن” بأنَّه “وبحلول عام 1793، كانت قد صدَرَت 18 طبعة من الترجمات الإنجليزية، وتضاعف ذلك العددُ في الأعوام الأربعين التالية”.

أثَّرَت حكايات “ألف ليلة وليلة” في الأدباء الإنجليز – مثلاً – منذ أواخر القرن الثامن عشر، وذكَر “البطوطي” أنَّ البروفيسور “كراكشيولو” أصدَر كتابًا تضمَّن قائمةً بأسماء الأدباء الإنجليز الذين تجلَّى أثرُ “ألف ليلة وليلة في أعمالهم، منهم: “جوناثان سويف، جوزيف أديسون، ألكساندر بوب، لورانس ستيرن، توماس كارلايل، إدوارد جيبون، والتر سكوت، وردزورث، كولردج، روبرت سذي، تشارلز ديكنز، ويلكي كولنز، وليام ثاكري، روبرت لويس ستيفنسون، جورج ميريدث، جوزيف كونراد، ﻫ. ج. ويلز، هنري جيمس، وليام بتلر ييتس، جيمس جويس، ت. س. إليوت”. بل ذهبَ “البطوطي” إلى القول بأنَّ: “بل إنَّ من النقَّاد من قال إن الحركة الرومانسية أصلًا قد تفجَّرت في إنجلترا نتيجة «اكتشاف» الكتَّاب والفنانين لحكايات ألف ليلة”.

تواصلَ تأثير “ألف ليلة وليلة” في الآداب الأوروبيَّة والغربيَّة عمومًا، وعلى كثيرٍ من مشاهير الأدباء العالميين حتى الذين حازوا على جائزة “نوبل للآداب”، فهذا

الأديب الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز” يكتبُ تحت عنوان “عشتُ لأروِي” في مذكراته: “تعلّمتُ من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبدًا، بأنَّه يجب أن نقرأ فقط الكتبَ التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها. إنَّ ألف ليلة وليلة هو ما صنَع مني أديبًا، بعد أن سحرتني الحكاياتُ داخله، وأكثر ما شغفتُ به هو دور الرَّاوي”.

أبرزَ كلُّ أديب غربيٍّ تأثُّرَه بحكايات “ألف ليلة وليلة” بطريقته الخاصة، فالكاتب الألماني “فيلهلم هاوف” ألَّف كتابه “القافلة” أو ما يُمكن تسميَّته “ألف ليلة وليلة” الألمانيَّة، حيث أنَّ كل حكاية من حكايات قافلته هي عبارةٌ عن تجميعٍ لعددٍ من حكايات “ألف ليلة وليلة”، مع “التَّعديل” عليها وإعادة سبكها وصياغتها بشكلٍ مُغايرٍ ولكنه لا يُخفي المَصدر الأصلي.

وفيما يلي، نواصلُ الغوصَ مع القارئ في هذه “القافلة” التي كَتَب عنها الدكتور الجزائري “أبو العيد دودو” بمجلة “المعرفة” السُّورية، في الأول فيفري 1978، ضِمنَ عددٍ مُمتاز حول “تأثير الأدب العربي في الآداب الأجنبية”، ونؤكِّدُ بأنَّ هذا “التأثير الأدبي” هو التأثير الوحيد الذي يعترف به الغربُ للعرب، وأمَّا الاعتراف بالتأثير العلمي والحضاري فهو من “المَمنوعات” التي لا يجب أن تلقى طريقها إلى المعرفة الجماهيريَّة الأوروبيَّة..

حكاية السّفينة الشبحِيّة

في حكاية السَّفينة الشبحِيَّة، يحدِّثنا بطلُها “أحمد” عن مغامراته في البحر وعودته إلى مدينة “البصرة”، مسقط رأسه، بعد أن جمَع أموالاً طائلة، جعلت الناس يعتقدون أنَّه قد عثَر على كنوز السندباد البحري الشهير. ووجود هذه العبارة في حكاية “هاوف” يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّه عرَف حكاية السندباد معرِفةً تاَّمة، وتأثر بها وهو يكتب حكايته، بل هو يشير بذلك إلى مصدرها. فالواقعُ أنَّ ما وقَع لبطله عندما غرقَت سفينته يشبه ما وقع لعبد الله بن فاضل من ناحية، وما وقع للسندباد البحري في سفرته السادسة من ناحية أخرى. فبطل حكاية السفينة الشبحية من البصرة مثل عبد الله بن فاضل. وقائد السفينة، يعلن أنَّه لا يعرف طريقَ البحر حتى يستطيع أن يتجنَّب العاصفة التي ستهبُّ بعد حين، ومن ثم يأمر بطّيِّ القُلوع، فتستمرُّ السفينة في سيرها، ثم تهبُّ العاصفة، فيهتف: “لقد ضاعَت سفينتي، فها هو الموت قد نشَر شراعه هناك!” وهكذا غرق رُكَّاب السفينة، ولم ينج من ذلك سوى أحمد وخادمه مولاي.

السّندباد الألماني اسمه أحمد

وفي حكاية عبد الله بن فاضل يوضِّح قائد السفينة للمسافرين أنَّه قد تاه عن الطريق ولا يعرف طريقًا آخر. وذلك ما فعله أيضًا قائد سفينة السَّندباد، حيث هتَف قائلا: “اعلموا، يا جماعة، أنَّنا قد تُهنا بمركبنا، وخرجنا من البحر الذي كُنَّا فيه، ودخلنا بحرًا لم نعرف طُرُقَه”. وحاول هو الآخر أن يتجنَّب الكارثة، ولكن بدون جدوى، ولم يبق له في النهاية إلاَّ أن يصيح: “لا يقدر أحدٌ أن يمنع المَقدور، والله إنَّنا قد وقعنا في مَهلكةٍ عظيمة، ولم يبق لنا منها مَخلَصٌ ولا نجاةٌ”، وكان أن غرَق رُكَّاب السَّفينة ولم ينج من الغرقِ غير السندباد.

وقد لجأ السَّندباد إلى جزيرة، أخدَ منها “كثيرًا من أصناف الجواهر والمعادن واليواقيت واللآلئ الملوكية”، وسلَك بعد ذلك نهرًا ليصل إلى مكانٍ آهلٍ بالسُّكان. أمَّا أحمد فقد لجأ إلى سفينة شبحِيَّة، استحوَذ بدوره على كل ما فيها من خيراتٍ، وسلَك نهرًا أيضًا ليصل إلى مدينة.. يسرع إلى نجدته فيها ساحرٌ يُدعى مولاي، كما أسرع جماعةُ الهنود والحبشة إلى نجدة السندباد. وهذا رغم ما هنالك من اختلاف في التفاصيل.

حكاية اليد المقطوعة

وفي حكاية “اليد المَقطوعة”، يزداد تأثُّرُ “فيلهلم هاوف” بحكايات “ألف ليلة وليلة”، وهذه الحكاية تروي لنا قصَّة نصراني يوناني، يُدعَى “زوليكوس”، ولِد في القسطنطينية، وأرسله أبوه، بناءً على نصيحة بعض أصدقائه، إلى باريس ليدرس الطِّب. ولمَّا عاد إلى بلاده بعد ثلاث سنوات، وجد أباه قد مات، فقرَّر عندئذ أن يعود إلى أوروبا ليمارس مهنة الطب والتجارة في آنٍ واحدٍ. وبعد أن طاف بعدة بلدان استقر أخيرًا بإيطاليا. وفي إحدى اللَّيالي، اتَّصل به للمرَّة الثانية رجلٌ حرص على ألاَّ يلتقي به إلاَّ في الظلام، واستردَّ منه رداءه الأحمر الذي كان قد خطفه منه في المرَّة السابقة، وطلب منه أن يساعده في قطعِ رأس فتاة ميِّتةٍ، هي أخته، لأنَّ العُرف يقضي في بلاده بأن يُدفَن رأسها مع أبيها. فوافق “زوليكوس” على ذلك طمعًا في المال، ورافق الرجلَ الغريب إلى أحد القصور، ودخل على الفتاة، وراح يحزُّ رأسها، وإذا به يكتشف أنَّها لم تكن ميِّتة، وأنَّها لم تلفظ أنفاسَها إلاَّ تحت مبضعه، فترك كل شيء وفَّر هاربًا دون أن يرى أثرًا للرَّجل الغريب. وعثرَت الشرطةُ على أشيائه في القصر، فاتُّهِم بقتل ابنة الحاكم وأودِع السجنَ، ثم قُدِّم إلى المحكمة فحكمَت عليه بالإعدام، إلاَّ أنَّ أحد أصدقائه تدخَّل في الأمر، فرضِيَ الحاكمُ بأن تُقطَع يده اليُسرى.

زوليكوس والشّاب المَوصِلي.. حكاية واحدة في كتابين

ولهذه الحكاية ما يُماثلها بطبيعة الحال في “ألف ليلة وليلة”، فهناك أولاً حكاية الشاب “المَقطوع اليد”، التي يرويها النَّصراني كما روى ذلك النصراني “زوليكوس” قصَّتَه، فقد سرَق هذا الشاب (سترة) جندي، فألقِيَ عليه القبض، فحُمِل إلى الحاكم، وأعترف بفعلته أمامه.. فأمر بقطع يده، فقُطِعت يده اليمنى.

وهناك ثانيًا حكايةُ الشَّاب المَوصِلِي، وهذه الحكاية تبدو أقرب بكثيرٍ إلى حكاية “هاوف”، فقد رُويَت أيضًا من طرف طبيبٍ، وهو هنا يهوديٌّ وليس نصرانِيًّا. لقد أغرِم الشَّابُ المَوصِليُّ بمصر من خلال حديث والده وأعمامه عنها، مثلما أغرِم “زوليكوس” بباريس من خلال حديث والده وأصدقائه عنها أيضًا. ولكن الشاب الموصلي لم يصل إلى مصر، وإنَّما انتهَت سَفرتُه في دمشق، واستقرَّ بها.

وفي أحد الأيَّام اتصلَت به صبِيَّةٌ كانت ترتدي أفخر الملابس (كان الرجل الغريب في حكاية هاوف يرتدي رداءً فاخرًا)، وقدَّمَت له المال ليشتري ما لذَّ وطاب من المأكل والمشرب (عرَض الرجل الغريب المال على زوليكوس للقيام بالعملية). وعادَت إليه في اليوم الرَّابع، وكانَت برفقتها صبِيَّة أجمل منها، وقضتَا الليل عنده. وعندما نهَض من نومه في الصَّباح، وجَد يده مُلوَّثة بالدَّم، فأراد أن يُوقِظ الصبِيَّة الصغيرة، وإذا برأسها يتدحرج عن جسدها، ولم يجد للصبِيَّة الأولى أثرًا، ولم يشك في أنَّ الغيرة هي التي دفعتها إلى قتلها بهذه الصورة البشعة.

ودفَن الشابُ الموصليُّ الصبيَّةَ، ليُخفي آثار جريمةٍ لم يرتكبها. وبعد أيَّامٍ خرجَ ليبيع عِقدًا عثَر عليه تحت مِخدَّتها (وقد خرج زوليكوس ليبيع الرداءَ الأحمر الفاخر عندما خطفه من صاحبه في المرة الأولى حين ظنَّه يسخر منه)، فاتُّهِم بسرقة العِقد من ابنة حاكم دمشق، وقُطِعت يده. وحُمِل إلى الحاكم بعد ذلك، فروى له قصَّتَه الأولى.. (وكان الرجل الغريب ينتقم من حاكم مدينة فلورانس بقتل ابنته على يد زوليكوس البريء). فأخبره الوالي أنهما ابنتاه، وأنَّ ما حكاه صحيح. وأشفق الحاكمُ عليه، فطلب مِمَّن عاتبه بقطع يده أن يدفع ديَّته، وزوَّجه من ابنته الصغرى واعتبره ابنًا له.

ومن الطبيعي أن يكون هناك اختلافٌ بين الحكايتين في بعض أجزائهما، فقد حاول “هاوف” – كما نلاحظ – أن يُغيِّر ويبدِّل، فالحاكم في “ألف ليلة وليلة” كان أقلَّ قسوةً من حاكِم “فلورانس”، إذ أصرَّ هذا على معاقبةِ المُجرم رغم صِحَّة ما رواه المُتَّهم أمام القضاة، ولولا حرصه على أن يبقى ماضي ابنته مجهولاً لأصرَّ على إعدامه، ولَما كفاه أن تُقطع يده. غير أن زوليكوس قد كوفِئَ على عمله.. من طرفٍ آخر. فعندما رجع إلى بلاده، بعد فترة الاستجمام في بيت صديقه، عرَف من أحد جيرانه أنَّ رجلاً، كان يرتدي رداءً أحمرًا، قد اشترى له منزلاً، وترك له رسالة أخبره فيها بأنَّ كلَّ ما في المنزل مِلكٌ له، وأنَّه سيُحوِّل له كل سنةٍ مبلغًا من المال يعيش منه.

تجميع حكايات شرقيّة في حكاية غربيّة

وهناك بالإضافة إلى ذلك حكايةٌ ثالثة لها أيضًا، كما أشارَت إلى ذلك “إينغه فورطاس”، علاقة بحكاية “هاوف” هذه، وهي حكاية “علاء الدين أبي الشَّامات”. فعندما سُرِق من الخليفة منديلَه ومِصباحَه ومِسبحتَه ومِنشَّتَه، واغتاظ لذلك غيظًا شديدًا ولبِسَ بدلةَ الغضب وهي بدلةٌ حمراء، وكذلك كان لِباس الرَّجلِ الغريب! ووقعَت التُّهمةُ كذلك على “علاء الدين أبي الشَّامات” وحُكِم عليه بالإعدام رغم براءته، ولكن “أحمد الدَّنَف” أنقذَه من الشَّنق في آخر لحظةٍ، وهو نفس ما وقع لـ “زوليكوس”. وهكذا نرى أن “هاوف” يجمعُ عناصر حكاياته من عِدَّةِ قصصٍ، لا من قصة واحدة من قصص “ألف ليلة وليلة”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
ردًا على مجازر غزة.. المقاومة تستهدف عمق الاحتلال برشقات صاروخية وزير النقل يوجه بتوسعة مطار بجاية وتحسين ظروف استقبال المسافرين إطلاق شبكة 5G في الجزائر.. التحضيرات جارية وزارة التربية.. إجراءات صارمة ضد مقاطعة صب العلامات شركة صينية رائدة تعتزم إطلاق مصنع للسيارات وقطع الغيار في الجزائر انقلاب ناعم في الأفق.. هل وقّع زيلينسكي وثيقة النهاية؟ إطلاق تطبيق "تاكسي سايف" لتحسين خدمات سيارات الأجرة المحرقة قادمة.. آلة الحرب الصهيونية تستعد للانقضاض على غزة النيابة توجه تهمًا خطيرة له.. التماس 10 سنوات سجنًا نافذًا وغرامة مالية ضد صنصال هزة جديدة في المدية.. زلزال بقوة 4 درجات دون خسائر جبهة التحرير:" اليمين الفرنسي المتطرف يوظف ملف الهجرة لأغراض انتخابية" الشعب ضد التطبيع.. متى يُنصت المخزن؟ ملف المؤثّرين الجزائريين يعود للواجهة.. فرنسا تعتقل "دوالمن" مجددًا تمهيدًا لترحيله جرافات المخزن تدهس حقوق المواطنين.. المغرب لمن يدفع أكثر تقلبات جوية ورياح عاتية في هذه الولايات حملة انتخابية أم عداء ممنهج؟ نائب فرنسي يكشف دوافع تصريحات روتايو رسائل من ساحة المقاومة في عيد نصر الجزائر.. الذاكرة التي تتحدى فرنسا وتُلهم حركات التحرر فرنسا ترفض تسليم بوشوارب.. لعبة الابتزاز ومنطق حماية الفاسدين إطلاق الطبعة الأولى لجائزة رئيس الجمهورية للباحث المبتكر.. إليك رابط التسجيل السلطة المستقلة لضبط السمعي-البصري توجه إعذارات لهذه القنوات