قراءة في “أنا الإمام” للشاعر الدّكتور “محمّد حبلص”.. رحلة شعريّة في عالم الخلود والتّحديّات وأسرار العشق

تعدّ قصيدة “أنا الإمام” للشاعر الدّكتور “محمّد حبلص” واحدة من أبرز الأعمال الأدبيّة التي تجمع بين عمق الفكر وحسن الأداء الشعريّ. تنتمي هذه القصيدة إلى الشِّعر العربيّ التقليديّ، حيث يتميّز أسلوبها بالبلاغة، والدّقة، والإيقاع الموسيقيّ الذي يشدّ القارئ، فيغمره في رحلة شعريّة تجمع بين التّأمّل الفلسفيّ والتعبير العاطفيّ. وفي هذا النّص، ينسج الشاعر ببراعة صورة للإمام الذي يُجسّد الحكمة، والتّحدّي، والقدرة على الصّمود في وجه المعوقات.

تسبر القصيدة أغوار العديد من المواضيع الإنسانيّة العميقة كالحياة، والموت، والشرف، والعلاقات الإنسانيّة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على مفهوم العشق كقوة دافعة يمكنها أن تكون مصدرًا للسمو والإلهام. ومن خلال استخدامه المتقن للتشبيهات والاستعارات، يمزج الشاعر بين الفكر والفن، مما يجعل النّص غنيًّا بالمعاني والرؤى الفلسفيّة التي تُعزز الفكرة وتُضفي عليه أبعادًا جمالية وفنيّة غير تقليديّة.

من خلال هذه الدراسة الأدبيّة والنّقديّة، سأتناول هذه القصيدة بعمق وأسلّط الضوء على الأساليب البلاغيّة المتنوعة التي اعتمدها الشاعر، ومدى تأثيرها على تجسيد المعاني، بالإضافة إلى كيف أنّ هذه الأساليب تتداخل مع رؤى الشاعر الفلسفيّة والتّأمليّة، ممّا يجعل “أنا الإمام” نصًّا شعريًّا مميّزًا يتجاوز حدود التّقليد إلى آفاق التّأثر والجمال.

يبدأ الشاعر قصيدته بتقديم نصيحة فلسفية عميقة، حيث يعبّر عن رؤيته في الحياة من خلال قوله في البيت الأول: “اِصنعْ خلودَكَ، لا تمنعْكَ أسبابُ/ وعِشْ يقينَكَ، لا يخدعْكَ كذّابُ”، يدعو فيه القارئ إلى العمل على “صناعة الخلود” وعدم الانشغال بالأسباب التي قد تحول دون ذلك. كما ينصحه أن يعيش يقينه الخاصّ دون أن ينخدع بالكاذبين أو الأكاذيب التي قد تضلله.

“صناعة الخلود” هي صورة رمزيّة تُمثّل السّعي لتحقيق قيمة حقيقيّة تدوم عبر الزمن، بينما “لا يخدعك كذّاب” يُحذّر الشّاعر من التّضليل والخداع.

في البيت الثاني، يقدّم “حبلص” استعارة تُجسّد حتميّة الحياة والموت كعنصرين متلازمين لا يمكن الفكاك منهما، حيث يقول: “إنّ الحياةَ قطارٌ مُسْرِعٌ سَفَراً/ والموتُ سائقُهُ، والناسُ رُكّابُ

الشاعر هنا يُقدّم الحياة كمركب سريع لا يمكن إيقافه (القطار) والموت هو السّائق الذي يتحكّم في مسار هذا القطار. النّاس هم الرّكاب الذين لا يستطيعون تغيير وجهة القطار. هذه صورة شعريّة تعكس فكرة الحياة السّريعة والموت الذي لا مفرّ منه.. أضاف حبلص من خلال هذه الصور عمقًا فلسفيًّا للقصيدة.

يواصل قصيدته قائلًا: “والعيشُ خمرٌ، ونحن الشاربون لها/ والعمْرُ دنٌّ، كما الأيّامُ أكوابُ”.

الشاعر هنا يُعبر عن الحياة كأنّها خمر، شيء يستهلكه الإنسان ويشربه بشغف، لكنّ في النّهاية كلّ شيء ينتهي، تمامًا مثل الخمر الذي يتمّ شربه حتّى ينقضي. العمر كذلك يُقاس بالأيّام التي تمرّ كالأكواب (الأكواب) التي تفرغ.

“العيش خمر” و”الأيام أكواب” صورة استعاريّة هدف الشاعر من خلالها أن يعكس الحياة كشيء لذيذ ومغري، لكنّه في النّهاية ينتهي ويترك الإنسان في حالة من الفقد.

ثمّ يقوم “حبلص” بتشبيه الدّهر بالذئب، الذي لا يُرجى منه مودّة أو رحمة، بصورة تعكس نظرته صوب الزمن بقوله “الدهرُ كالذئبِ، لا تُرجى مودّتُهُ/ وما لهُ في دروبِ العيشِ أصحابُ”. هذه صورة قاسية تعكس نظرة الشاعر السلبيّة للزمن الذي لا يتوقف ولا يرحم.

“الدّهر كالذئب” استعارة تعكس فكرة الزمن الذي لا يمكن الوثوق به أو الاعتماد عليه.

يعكس “حبلص” صورة الوحدة والاغتراب العاطفيّ حتّى في علاقات الحبّ إذْ يقول: “تَراهُ يجمعُ أغراباً على مَضَضٍ/ كذا الأحبّةُ هم في الحبِّ أغرابُ”.يشيرحبلص” هنا إلى أنّ الدّهر يجمع بين النّاس، لكنّهم لا يجدون السّعادة أو الألفة الحقيقيّة؛ حتّى الأحبّاء في الحبّ يشعرون بالغربة عن بعضهم البعض.. “الأحبّة أغراب” صورة يعكس “حبلص” من خلالها الفجوة العاطفيّة بين النّاس، حتّى أولئك الّذين يظنون أنّهم مقرّبون من بعضهم البعض.

ثم يلفت انتباهنا الشاعر بتحذير يعبّر عنه بقوله: “يا صاحِ – حِذْرَكَ – لا تدفعْكَ طامحةٌ/ إلى الدنايا، ولا تغرُرْكَ ألقابُ”، يُحذّر حبلص هنا من الطّموحات الزائفة التي قد تدفع الإنسان إلى التّطلع إلى الدنيا والرفاهية الماديّة، محذرًا من أنّ الألقاب لا تجلب السّعادة الحقيقيّة.. “الطّامحة” و”الألقاب” يُحذّر الشاعر من خلالها من الطموحات المضللة التي قد تضلّ الإنسان عن هدفه الحقيقيّ.

بمقارنة فنيّة مُلفتة يستعين بها الشاعر موضحًا التّباين بين النّسر والزرارير، يقول: “النسرُ يسبحُ في الآفاق منفرداً/ وللزرارير جَمْعاتٌ وأسرابُ”

يُميّز “حبلص” في هذا البيت بين النَّسر الذي يطير منفردًا في الآفاق وبين الزرارير (الطيور الصغيرة) التي تسافر في جماعات. النّسر هنا يُمثّل الشّخص المستقلّ والقويّ الذي لا يحتاج إلى الآخرين، بينما الزرارير تُمثّل الأشخاص الذين يفضلون الانتماء إلى الجماعة..”النسر يسبح منفردًا” و”الزرارير جَمْعات” هي مقارنة بين الاستقلاليّة والانتماء الجماعيّ.

ثمّ يشدُّ انتباهنا بقوله: “لن يُدركَ الفوز مَنْ في روحه وَصَبٌ/ كما الجسومُ، فللأرواح أوصابُ”، إذ يعمد “حبلص” هنا للإشارة إلى الشخص الذي يعاني من الهمّ والقلق الداخلي الذي لن يحقق النّجاح الحقيقي. كما أنّ الجسد قد يعاني من التّعب، فإنّ الرّوح يمكن أن تعاني أيضًا من الأوجاع الداخلية. “الأرواح أوصاب” تعكس هذه الصورة المعاناة النفسيّة التي قد تؤثّر على نجاح الشّخص في الحياة.

يُلفت الشاعر انتباهنا من خلال أسلوبه الفريد إلى التنوّع والاختلاف في الثّقافات والفنون، حيث يقول: “تميّز الناس في الأنسابِ واختلفوا/ وللقصيدة مِثْلُ الناسِ أنسابُ”. يربط الشاعر بين تميّز النّاس في الأنساب واختلافاتهم، وبين القصيدة التي تملك هي أيضًا أنسابًا أو جذورًا مختلفة.

“القصيدة مِثلُ الناسِ أنساب” استعارة يشير الشاعر “حبلص” بواسطتها إلى أنّ القصيدة أيضًا تحمل تنوعًّا في أسلوبها وأصولها كما هو الحال مع البشر.

يواصل الشاعر قائلاً: “يا أيّها القائلون الشعرَ- مهلَكمُ/ تاللهِ – لا تستوي في الذوق أعنابُ”. هنا، يخاطب الشاعر الشعراء أو المتذوقين للشعر، مؤكدًا على التفاوت في ذائقة الشعر وتقدير جماله.. محذرًا إياهم من الاستعجال في الحكم على الشِّعر. استخدام كلمةعنبهنا كاستعارة تشير إلى التّفاوت في الأذواق، فكما لا يمكن مقارنة حبّات العنب من حيث الطّعم والجودة، فإنّ الشعر أيضًا لا يمكن الحكم عليه بشكل موحد.

“لا تستوي في الذوق أعناب”: استعارة يُمثّل “حبلص” من خلالها التّنوّع في الذوق الشعريّ بين الأفراد، فكأنّما يختلف النّاس في تفضيلاتهم كما يختلف العنب في طعمه.

يقارن “حبلص” بعض الناس الذين يتبعون الموضة أو الأزياء الحديثة بـ “البدو” الذين يرتدون الملابس التّقليديّة وذلك بقوله: “كالبَدْوِ إذْ لبسوا أزياءَ حاضرة/ وقد تباهَوْا، وهم في الروحِ أعرابُ”، لكنّه يشير إلى أنّ هؤلاء النّاس في “الروح” هم “أعراب” أي أنّهم يظلّون في جوهرهم بعيدين عن التّطور والتّمدّن، وهم يتفاخرون بمظاهرهم الخارجيّة فقط.

“كالبَدْوِ إذْ لبسوا أزياءَ حاضرةٍ”: تشبيه يوظّف صورة البدو الذين يرتدون الملابس التقليديّة ليوضح التّناقض بين الشكل والمضمون، وفي هذا البيت يأخذنا الشاعر إلى الجدليّة القائمة بين الشكل والمضمون والتي أبرز فيها موقفه في عدّة حوارات ونقاشات.

“وهم في الروحِ أعرابُ”: استعارة قاسية يُشير “حبلص” من خلالها إلى أنّ هؤلاء الأشخاص يظلّون على حالهم في جوهرهم دون تطور داخلي رغم تبنيهم للمظاهر الحديثة.

يتابع حبلص قائلاً: “دعوا الفصاحةَ قد فاضتْ عباءتُها/ فللفصاحةِ أسيادٌ وأربابُ”. في هذه الأبيات، يدعو “حبلص” الناس إلى ترك الحديث عن الفصاحة، مؤكداً أن لها أهلها وأربابها الذين يتمتعون بقدرة فائقة على إتقانها. ويُظهر أنّ الفصاحة الحقيقيّة لا تحتاج إلى التّفاخر أو الادّعاء، بل هي أمرٌ يتّسم به القلّة الذين يعرفون كيف يستخدمونها بشكل صحيح. “عباءة الفصاحة” تعني أنّ الفصاحة قد أصبحت شيئًا مفرطًا أو مبالغًا فيه.

“فللفصاحةِ أسيادٌ وأربابُ”: تشبيه استخدمه “حبلص” ليشير من خلاله إلى أنّ الفصاحة الحقيقيّة مملوكة لأناس معينين فقط، لا للجميع. يُشبّه الشاعر هؤلاء “الأسياد” و”الأرباب” الذين يمتلكون الفصاحة ويعرفون كيف يتعاملون معها.الشاعر هنا يشير إلى أن بعض الناس كالزهور الجميلة العطرة بقوله “بعضُ الأنامِ – كبعضِ الزهْر- ذو أَرَجٍ”، لكن الغالبية منهم لا يملكون هذه الصّفات، بل هم “بُهْمٌ” (أي غامضون أو بلا خصائص واضحة) و”أوشاب” (أي غير ناضجين أو ليس لهم قيمة واضحة)، وذلك بقوله” لكنّ أكثرَهم بُهْمٌ وأوشابُ”.

“كبعضِ الزهْر – ذو أَرَجٍ”: صورة تشبيهيّة تُعبّر عن أولئك الذين يمتلكون صفات حسنة، مثل الزهور التي تنبعث منها الروائح العطرة.

لكنّ أكثرَهم بُهْمٌ وأوشابُ“: استعارة يُبيّن الشاعر بواسطتها أنّ الأغلبية لا يمتلكون هذه الصفات الحميدة. “البُهْموالأوشابيعبّران عن الغموض والضعف أو عدم النضوج.

يقول “حبلص”: “ولي حبيبٌ، به الضدّانِ قد جُمِعا/ في قدِّه الحُسْنُ أخّاذٌ ووهّابُ”. الشاعر هنا يتّحدث عن حبيبه الذي جمع بين المتناقضات؛ ففيه من الجمال ما هوأخّاذٌ” (أي ساحر ومغري)، وهو في الوقت نفسه “وهّاب” (أي سخي ومعطاء). هذه الصورة تعكس التوازن المثالي في شخصيّة الحبيب.

“به الضدّانِ قد جُمِعا”: يُعبّر “حبلص” من خلالها عن الجمع بين التناقضات في شخصية الحبيب، مما يخلق تميزًا وجاذبية.

“في قدِّه الحُسْنُ أخّاذٌ ووهّابُ”: تشبيه يعكس الجمال الجذّاب والحسن الأخّاذ، ممّا يعزز صورة الحبيب المثالي.

ثمّ يتابع حالته الشعريّة ويقول: “لزِمتُهُ، ورشفتُ الأرْيَ من فَمِهِ/ في حِنْدِسٍ، قد كسانا منه جِلبابُ”. “حبلص” هنا يشير إلى العلاقة الحميمة التي تجمعه بالحبيب، حيث “الرشفة من فمه” تشير إلى التّبادل العاطفيّ أو الفكريّ بينهما. أمّا “حندس” فهو يشير إلى نوع من الشراب أو ربّما نوع من الأجواء التي تعزز من هذه العلاقة. “الجلباب” يشير إلى الملابس أو الحماية التي يوفّرها الحبيب.

“رشفتُ الأرْيَ من فَمِهِ”: استعارة تشير إلى تبادل المشاعر أو الأفكار العميقة بين الشاعر وحبيبه.

“قد كسانا منه جِلبابُ”: تشبيه يعكس الحماية والراحة التي يوفرها الحبيب للشاعر، كما يوفر الجلباب الحماية من البرد.

يتابع حبلص وصفه لجمال حبيبه بقوله: “جَمالُهُ من ترابِ الأرضِ جَبْلَتُهُ/ ومِثْلُهُ أسمرُ السيماءِ جَذّاب”: يصف الشاعر جمال حبيبه بأنّه مستمد من “تراب الأرض”، ممّا يعني أنّ هذا الجمال طبيعيّ وعميق. و”أسمر السيماء” يشير إلى الّلون الداكن للبشرة الذي يزيد من جاذبيته.

“جَمالُهُ من ترابِ الأرضِ جَبْلَتُهُ”: استعارة تعكس الجمال الطبيعي والتأصل في الأرض.

“أسمرُ السيماءِ جَذّابُ”: وصف الجمال الذي يتسم بالجاذبية والتميّز.

ثم يستمر الشاعر في تعميق وصفه، قائلاً “قَوامُهُ الرمحُ، يفري قلبَ ناظرِه/ ولَحْظُهُ من سيوف العُرْبِ قِرضابُ”. الشاعر هنا يصف قوام الحبيب بالقوّة، حيث يشبهه بالرمح الذي يفري (يخترق) قلب الناظر إليه، أما “لحظه” فيشبهه بسيوف العرب القويّة.

“قَوامُهُ الرمحُ”: استعارة تعكس القوة والصلابة في مظهر الحبيب.

“لحْظُهُ من سيوف العُرْبِ قِرضابُ”: استعارة تعكس قوّة وجاذبيّة النظرة التي تجعل القلب يخفق بشدة.

الشاعر يختم قصيدته بتأكيد على مكانته القيادية في مجال الحبّ والعشق، فيقول: “أممتُ في العشق أهلَ العشق قاطبةً أنا الإمامُ، ولي في العِشْقِ مِحرابُ”. “الإمام” هنا يشير إلى التّفوّق في هذا المجال، و”المحراب” يشير إلى المكان المقدّس، مما يعكس التّفاني والقداسة في العشق. فـ “المحراب” تعبير عن قداسة العشق، حيث يكون العشق بالنسبة للشاعر بمثابة عبادة أو طقس مقدس.

– القصيدة متعددة الأبعاد، لا تقتصر على فكرة واحدة، بل ينتقل “حبلص” في قصيدته بين موضوعات متعدّدة مثل: الحياة، الموت، الطّموح، الشرف، ما يجعلها غنيّة من الناحية الفكريّة.

الأبعاد الفلسفية والتوجيهيّة في قصيدة “أنا الإمام” 

– الدّعوة إلى الوعيّ واليقظة: في الأبيات الأولى، يحثّ الشاعر على أن يكون الإنسان واعيًّا لحقيقة الحياة والموت، وأن يعيش بواقعية، كما يحثّ على عدم الانخداع بالألقاب والأوهام التي قد تكون مغريّة، ولكنّها زائلة.

– التّحذير من الطّموح الزّائف: يُحذّر الشاعر من الانجراف وراء الطموحات الماديّة أو السّطحيّة، ويشير إلى أنّ الطّموح الحقيقي يجب أن يكون نابعًا من الداخل وليس من الظواهر الخارجيّة مثل الألقاب أو المال…

– الموت كحقيقة لا مفرّ منها: يتكرّر في الأبيات موضوع الموت الذي يسوق البشر، ممّا يعكس التّصور الكئيب والواقعي للطبيعة البشريّة والمصير المشترك.

الرؤية الإنسانيّة للقصيدة 

– العلاقات الإنسانيّة: من خلال التّشبيه بالأغراب في الحبّ، يعكس الشاعر الصراع بين الحبّ والخيانة، أو بين العلاقات العميقة التي قد تكون غير مستقرّة أو مشوّهة مع مرور الزمن.

– الفردية والتّميّز: من خلال التشبيه بالنسر، يُظهر الشاعر فكرة السّعي نحو التّميّز والتّفرّد، حيثّ يُعبّر عن قيمة الاستقلال الفكريّ والشّخصي في عالم يعجّ بالمجموعة والاتفاقات العامة.

لا بُدّ من قولنا بأنّ القصيدة تتسمُ بالإيقاع الموسيقيّ الجيّد الذي يُعزّز من جمالها، حيث يتناغم الوزن مع المعاني العميقة التي يعبّر عنها الشاعر.

الشاعر يستخدم لغة عربيّة فصيحة، مع العديد من الألفاظ التقليديّة التي تعكس الصّرامة والجديّة في تناول الموضوعات الفلسفيّة.

في الأخير…

تتوازن القصيدة بين التفاؤل والتشاؤم، حيث يلاحظ القارئ تحذيرات من خداع الحياة، بينما يُقدّم الشاعر في الوقت نفسه دعوة للتميّز والبحث عن المراتب العليا. هذه الثنائية تضيف للقصيدة تعقيدًا وجاذبيّة، إذ تجعلها أكثر تعبيرًا عن الصراع الداخلي بين الأمل والواقع.

القصيدة مليئة بالصور البيانية التي تعكس عمق مشاعر الشاعر تجاه الحبيب وتتناول قضايا التّناقضات الإنسانيّة، الفصاحة، والاختلافات الاجتماعيّة. الشاعر يستخدم التّشبيهات والاستعارات بشكل مبدع ليصوّر مشاعر: الفخر، الحبّ، والجمال. هذه الصور البيانيّة تمنح القصيدة طابعًا حسيًّا وعاطفيًّا قويًّا، وتضفي عليها قيمة فنيّة عالية، وهذا ما يميّز قصائد الشاعر محمّد حبلص.

الشاعر “محمّد حبلص” شاعر حكيم يتناول قضايا: الفخر والمجد والحياة والموت، ممّا يعكس ذلك نضجًا فكريًا وروحيًا كبيرًا، حيث شعره يُعبّر عن رؤيته العميقة للعالم، وعن أعماق الإنسان وتجاربه الحياتيّة، وهذا طبيعيّ فالشعر لا يُكتب في فراغ، بل يتأثر بتجارب الحياة والظروف المحيطة بالشاعر.

فقصائده الحديثة تتسمّ بالغموض والتّأمّل العميق، ممّا يُضفي عليها طابعًا فلسفيًّا يجعلها تصلح للتأمل والنّقد. كما أن “حبلص” يواصل استخدام الصور البيانيّة المتنوعة من تشبيهات واستعارات، ليعبّر عن أفكاره بأبهى الصور وأشدّها تأثيرًا.

 

أنا الإمام!

اِصنعْ خلودَكَ، لا تمنعْكَ أسبابُ — وعِشْ يقينَكَ، لا يخدعْكَ كذّابُ

إنّ الحياةَ قطارٌ مُسْرِعٌ سَفَراً — والموتُ سائقُهُ، والناسُ رُكّابُ

والعيشُ خمرٌ، ونحن الشاربون لها — والعمْرُ دنٌّ، كما الأيّامُ أكوابُ

الدهرُ كالذئبِ، لا تُرجى مودّتُهُ — وما لهُ في دروبِ العيشِ أصحابُ

تَراهُ يجمعُ أغراباً على مَضَضٍ — كذا الأحبّةُ هم في الحبِّ أغرابُ

يا صاحِ – حِذْرَكَ – لا تدفعْكَ طامحةٌ — إلى الدنايا ولا تغرُرْكَ ألقابُ

وذاكَ أنّ الذي يُعليكَ مَرتبةً — دمعُ اليراعةِ فوق الطِرْسِ ينسابُ

إذا ترقّيتُ، والبرجيسُ جاورني — طلبتُ أرقى، ولي في النفس آرابُ

وذو الحِجا يبتغي في السرّ حاجتَهُ — فليس للمرء حين الكَسْبِ أحبابُ

النسرُ يسبحُ في الآفاق منفرداً — وللزرارير جَمْعاتٌ وأسرابُ

لن يُدركَ الفوز مَنْ في روحه وَصَبٌ — كما الجسومُ، فللأرواح أوصابُ

تميّز الناس في الأنسابِ واختلفوا — وللقصيدة مِثْلُ الناسِ أنسابُ

يا أيّها القائلون الشعرَ – مهلَكمُ — تاللهِ – لا تستوي في الذوق أعنابُ

كالبَدْوِ إذْ لبسوا أزياءَ حاضرةٍ — وقد تباهَوْا، وهم في الروحِ أعرابُ

دعوا الفصاحةَ قد فاضتْ عباءتُها — فللفصاحةِ أسيادٌ وأربابُ

بعضُ الأنامِ – كبعضِ الزهْر – ذو أَرَجٍ — لكنّ أكثرَهم بُهْمٌ وأوشابُ

ولي حبيبٌ، به الضدّانِ قد جُمِعا — في قدِّه الحُسْنُ أخّاذٌ ووهّابُ

لزِمتُهُ، ورشفتُ الأرْيَ من فَمِهِ — في حِنْدِسٍ، قد كسانا منه جِلبابُ

جَمالُهُ من ترابِ الأرضِ جَبْلَتُهُ — ومِثْلُهُ أسمرُ السيماءِ جَذّابُ

قَوامُهُ الرمحُ، يفري قلبَ ناظرِهِ — ولَحْظُهُ من سيوف العُرْبِ قِرضابُ

أممتُ في العشق أهلَ العشق قاطبةً — أنا الإمامُ ولي في العِشْقِ مِحرابُ

سلوى غيّة - باحثة وناقدة - لبنان

سلوى غيّة - باحثة وناقدة - لبنان

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
جامعة الدول العربية: تجويع الفلسطينيين جريمة حرب وإبادة جماعية وثائق سرية تفضح تورط جنرالات فرنسا في تعذيب الجزائريين خلال الثورة التحريرية مشروع استراتيجي لتعزيز تصدير الكهرباء الجزائرية نحو تونس وليبيا عرقاب في بشار لإطلاق مشاريع طاقوية استراتيجية هيئة اللجان الأولمبية الإفريقية تُكرّم الرئيس تبون بالوسام الذهبي استحداث "بكالوريا مهنية" لتعزيز التكوين المتخصص وتلبية احتياجات سوق العمل الجزائر تُطلق أوّل مصحف رقمي موجّه للمكفوفين احتكار الذكاء الاصطناعي.. كيف تعيد القوى الكبرى رسم خرائط السيطرة؟ وكالة الأنباء الجزائرية: "كفى نفاقًا.. فرنسا هي المستفيد الأكبر من علاقاتها مع الجزائر" إنجاز مركز بيانات مرفق بمركز حوسبة للذكاء الاصطناعي بوهران "برج إيفل" يرتدي الحجاب.. ما القصة؟ في سابقة وطنية.. "صيدال" توفر أقلام أنسولين جزائرية للسوق المحلي التحويلات المالية بين الأفراد عبر الهاتف النقال ترتفع بأكثر من الضعف في 2024 الشيخ موسى عزوني يكسر الصمت: "هذا ما قصدته بحديثي عن السكن والزواج" بلعريبي يأمر بتسريع إنجاز مستشفى 500 سرير بتيزي وزو بلاغ هام لفائدة الحجاج قيود صهيونية جديدة على نشاط منظمات الإغاثة.. الاحتلال يقطع شريان الحياة الأخير عن غزّة حجز 34 حاوية من مادة الموز بميناء عنابة باحثتان جزائريتان تقودان ثورة علمية في مجالي الطب والبيئة.. ما القصة؟ وزارة الصحة تشدد على ضرورة إجراء التحاليل الطبية قبل الختان