قراءة في ديوان همس الصدى للشاعرة اللبنانية وفاء الأيّوبي.. بيان شعري من أجل اللغة والحب والحياة

حين نقرأ أدبًا، فإنّنا نقوم بعمليّة تشريحٍ لجسد النّصّ الماثل أمامنا فوق السّطور، نترك المِبضَع التّأويليّ يخطّ طريقه في مكنونات الكلمات، فنكتشف أحيانًا نقطة الإبداع ونتوه أحيانًا أُخرى، فلا نستطيع أن نحدّد النّقاط الإبداعيّة لكثرتها، نُبحر تارّةً في بحرٍ لا برّ له، ونحلّق تارّةً أُخرى في السّماء، هي الحروف تأخذنا معها إلى حيث تريد، فنقف آخر الأمر مذهولين أمام ما خطّه الشّاعر أو الأديب من جمالٍ فوق الورق.

إنّ القارئ النّاقِد تقع فوق عاتقه مسؤوليّةٌ كُبرى، فهو يحمل قبل كلّ شيء أمانة ما يقدّمه للجمهور، ومن بعدها أمانة إنصاف الكاتب أو الشّاعر، فلا يظلمه ولا يجرّح فيه، وذلك ابتغاء وضع قراءةٍ موضوعيّة بنّاءة تكون شعلةً يُضيء بها الآخرون الدّروب المخفيّة التي لم يتنبّه إليها هذا النّاقد في قراءته.

بدايةً، سأسمح لنفسي أن أضع مقدّمةً أتحدّث فيها باقتضاب عن معرفتي بصاحبة الدّيوان الأستاذة الدّكتورة “وفاء الأيّوبي”، هذه المقدّمة هي مجرّد عربون وفاء بسيط لمن علّمتني حرفًا ولم تعلّمني أن أكون عبدًا، بل حرّرتني بتعاليمها من عبوديّة الخوف المُحبِط والتّقوقع، كما علّمتني كيف يكوّن الطّالب، طالب الأدب العربيّ، شخصيّته النّقديّة فلا يخاف أن يبدي رأيه، بل يُحارب من أجله من دون أن يخشى أحدًا.

إنّ معرفتي بالشّاعرة البروفيسورة وفاء الأيّوبي بدأت منذ دخولي الجامعة اللّبنانيّة، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الثّالث، من أجل دراسة الأدب العربيّ، لقد بدأت معي بجولةٍ سياحيّةٍ في الأدب ومذاهبه في السّنة الأولى، ثمّ انتقلت لتأخذني معها بجولةٍ فكريّةٍ عبر قضايا النهضويّين وأعمالهم وأفكارهم في السّنة الثّانية، وشرّعت أمامي وأمام زملائي أبواب التّفكير والنّقد من دون أن تضع قيودًا على فكرنا تجاههم، ومن ثمّ نقلتني وزملائي في رحلةٍ شاقّةٍ وممتعة إلى عالم الأديان الوضعيّة والسّماويّة في السّنة الثّالثة، ففتحت أمامنا طرق التّفكير السّليم بكلّ ما وُضع بين أيدي البشر من دياناتٍ وضعيّة وسماويّة، وبعد تلك الرّحلة أخذتنا إلى عالمٍ واسعٍ خلقته مناهج النّقد الحديث في مرحلة الماستر، فعلّمتنا كيف نقرأ النّصّ انطلاقًا منه وانتهاءً به، وفي نهاية المسيرة وضعتنا على سكّة الكتابة الإبداعيّة الصّحيحة بعد أن وضّحت لنا الأسس الصّحيحة لكتابة جميع الأنواع الأدبيّة.

إنّ حديثي عنها مقتصرٌ على ما تعلّمته منها، لكنّها على الصعيد الشّخصيّ قد فتحت في عقلي وروحي آفاقًا كانت قبلها مظلمة، وفي هذا الصّعيد، ما تعلّمته منها من صقل لشخصيّتي الإنسانيّة لا يُعدّ ولا يُحصى، وليس له ميزانٌ أستطيع أن أضعه فيه حتّى أفيها جزءًا ممّا صنعته بي.

لقد طالعت ديوانها الشّعريّ، المعنوَن “همس الصدى” وسأكتب القليل عن هذا النّهر الغزير الذي وقعت عليه يدي.

بدايةً، لقد وضعت الشّاعرة “وفاء الأيّوبي” ديوانها الشّعريّ عام 2018 بحروفٍ من شعور، وكانت قد سبقته بإخوةٍ له، هما: ديوان “ظلال على الورق” عام 2005، وديوان “رحيق الأعاصير” عام 2007، كما وقد حطّت رحالها في الشّعر كعِلم فوضعت ثلاثة كتب هم: “الوزن والقافية ومصطلح عمود الشّعر” عام 2010، “مفهوم عمود الشّعر وتجلّياته عند العرب” عام 2010 أيضًا، و”الشّعر ومنافذ التّعبير الأدبيّ والفنّيّ والفكريّ” أيضًا في العام 2010، ولا ننسى ثلاثة كتب أخرى متنوّعة هي: “القصّة العربيّة: دراسة قصّة العاصفة تهبّ مرّتين للكاتب أحمد مختار بذرة” عام 2012، و”الحضارة والعولمة إلى أين؟” عام 2017، و”سياحة فكريّة في حرم الفنون والمذاهب الأدبيّة” عام 2017.

نعود إلى الحديث عن الدّيوان الذي بين أيدينا، إنّه “همسُ الصّدى”، أليس للصّدى همس؟ أليس الصّمت هو أبلغ الكلام؟ بلى، إنّه كذلك، يقودنا العنوان المؤلّف من كلمتين اثنتين إلى خيالات وتأمّلات، فالشّاعرة قد استطاعت بهذا الانزياح الدّلاليّ الذي وضعته في العنوان أن تفتح باب قلب القارئ على مصراعيه فتشدّه إلى ما في هذا الدّيوان، من الذي همس؟ الصّدى؟ هل أنسنة الشّيء بالأمر السّهل؟ من منّا لم يشعر بأنّ همسًا يمرّ في أذنيه حين يكون حزينًا وحيدًا؟ أو حين يكون سعيدًا هادئًا؟ فهل هذا الكتاب يحمل الحزن أم التّأمّل أم الفرح؟ حسنًا، ما الذي سيهمس به الصّدى في آذاننا؟ هل كلماته مسموعة؟ هل يحذّرنا أم يخدّرنا؟ هل يشي لنا بسرّ أم يحيل إلينا وعودًا مخبّأة في الغيب؟ كلّ هذه التّساؤلات وأكثر، يقودنا إليها العنوان، هذا “النّص الموازي” كما يسمّيه عالم اللّغة الفرنسيّ “جيرارد جينيت” يحملنا إلى مشهدٍ تأمّليّ فلا يمكننا سوى أن نغوص في أوراق هذا الدّيوان لنصل إلى تساؤلاتنا.

في طيّات هذا الكتاب يظهر لنا الهمس صارخًا بعض الأحيان وصامتًا بلغته البليغة في أحيان أخرى، إنّه اللّغة التي تحكيها الأنثى الشّرقيّة المتمرّدة الدّاعية إلى الحقّ وإلى الثّورة في الحبّ والوطنيّة وفي الدفاع عن الأرض وعن اللّغة العربيّة والعائلة.

سأقوم بدوري بتقسيم مواضيع هذا الدّيوان إلى عناوين صغيرة لكي يتسنّى للجمهور من بعدي الغوص في هذا البحر أكثر وأكثر، فالكتابة عن ديوانٍ يحمل هذا الكمّ الهائل من المواضيع والمشاعر يحتاج لأيّامٍ وشهور يُمضيها القارئ النّاقد في الكتابة، ولن يستطيع أن يُحيط بكلّ ما فيه.

في العربيّة والعروبة

لقد حملَت سيفًا لتحكي عمّا يعتري نفسها من حبٍّ للّغة العربيّة، تلك اللّغة التي صاغتها بقصيدة “اللّسان العربيّ” الأصيل لتحكي قصّة لغتنا التي تداعت عليها الأمم، فكأنّها بقصيدتها هذه تدقّ ناقوس الخطر لتحيي الأرض المَوات، أرض المتحدّثين باللّغة العربيّة الذين هجروها، فصارت تستنجد وما من سامع للصّوت، وهي التي تقول:

يا لسانًا عربيًّا، بنا يستغيث

به نستبين الحقّ واليقين

ثمّ تقول:

وا خجلة التّاريخ!

الحبيبةُ تُغتَصَب،

يتقاذفها الكنّاسون

ثمّ نراها في قصيدةٍ أخرى، صرخت هامسةً للصّدى: “لغة الضّاد في خطر” وهي اللّغة المتأرجحة “بين الغفلة والزّئير” فكأنّ الشّاعرة تنزع اللّثام عن خوفها على اللّغة، فتطرق الأبواب وتصرخ بحروفها، أنقذوا اللّغة العربيّة، فهي حياتكم، اسمعوا أنين لغتكم يا أبناء الأمّة العربيّة، إذ تقول:

أقبلت تدقّ على السّكون

رنين ناقوسِ خطير

وعيوننا متشابكات في سبر أغوار الغيوم

تخطو إليّ

وخَطوُها ما ضلّ يومًا عن مصير

وبكت الغفلة

ولم أجد إلّا المدى.. إلّا المدى

فردّدت همس كلماتها قصيدة “أبجديتنا والصّدى” في اللّوح المحفوظ لتقول أنّها لغة العصر والهويّة، هذه اللّغة التي تحملها الشّاعرة أمانة في عنقها، نراها صارخةً في وجوه المحبَطين، تنهرهم، تستحثّهم على القيام، فاللغة تحتاج لأمّةٍ واعيةٍ ناشطةٍ تحملها، لا أمّة نائمة تنعيها، وهي التي تقول:

أيّتها الحروف اهدري

زمجري في الذّاكرة وازعقي

ألا من قيامةٍ لأمّتنا الرّاكدة؟

كما انتقلت في بعض السّطور لتهدي العالم العربيّ الذي تنتمي إليه أغنية “طرابلس الحبيبة”، المدينة التي تنتمي إليها الشّاعرة، مدينة العلم والعلماء، التي شبعت من القهر والتّعب ولم تنكسر، والتي تكالب عليها المخرّبون ليلبسوها ثوبًا لا يليق بها، فخلعته وبصقت في وجوههم وظلّت عروسًا تحارب التّهميش المقصود والمنظّم لثقافتها وتاريخها، وتقول الشّاعرة في القصيدة:

طرابلس الفيحاء

أيقظي الأحلام فينا

أجّجينا

حرف شوقٍ وطمأنينة

تستحقّين السّكينة

ثمّ نراها تبارك عبر “حشرجة” الصّوت فلسطين الأبيّة، هذا الجرح المتجذّر في روح كلّ عربيًّ ثائر متمرّد يعرف عدوّه ويلعنه ويقاومه، وتستنهض الهمم وتتساءل عن الذين تركوا هذه الأرض ولم يثأروا لكلّ الشّهداء من أطفال ونساء وشيوخ، وها هي تقول:

فلسطين، يا جرحي المتجذّر

في مدّي، ينهشُهُ أنيني

تلوكه أيدي المعتدين

بالدّم تتسربلين

أبناء آدم، أعَن الأمّ تغفلون؟

أخيّتي، لا تفكّكي جدائلك،

عصماء أنتِ

مهد الرّسالات أجمعين

ثمّ تنادي غزّة قائلةً لها “إليكِ يا حبيبة”:

نُهدي ابتهالاتنا

لأطفالك الجرحى

لليتامى

لورودٍ ما تفتّحت إلّا للحريق

لغرسٍ ضلّت عنه الطّريق

وما ارتوى ديمةً

إنّه الخريف

في الإنسانيّة.. الإيمان والوجود

راحت تتغنّى بالإنسانيّة والنّفس البشريّة والطّبيعة على ضفاف “نهر الحياة”، وانطلقت من قصّة بين النّهر والغيمة لتوصل ما أرادت من فكرٍ إذ تقول:

إنّها الحياة تجري

وإلى المصير نسير

فهطلت الدّيمة

وربت في الأرض نُضرة

وتشقّق اليباس

عن ضحك الزّهور والياسمين مردّدة:

نعمة الاتّكال على ربّ العالمين

وقالت للعمر في قصيدتها “في يوم ميلادي”، تناديه بين تشاؤمٍ وتفاؤل، وتؤكّد على الإحساس الصّادق المتأرجح الذي يحسّه الإنسان بمرور ذكرى مولده، ذلك الشّعور الممزوج بين حزنٍ وفرح:

يا نهارات الضّياع

ترفّقي بالطّيوب

كروم من نجوى

أثقلها الهجير

حاورها النّدى السّليب

وكان النّسيم

ومولدٌ جديد

لن أدع حريق الياسمين يعبث بما أريد إنّي “أنا الإنسان” منذ بدء الخلق ولن أتغيّر، وفي هذه القصيدة تعيد قصّة الخلق أمامنا لتنير في درب العقل الظّلمات، فينقشع ضوء التأمّل والتّفكّر، فكأنّها تدعو الإنسان لمحبّة أخيه الإنسان، فبدون الحبّ لن نصل إلى الطّريق الصّحيح:

اسرُج للحلم الرّوح، عصاك قبس الإله

من صخرةٍ صمّاء

استنبت الخمائر

ضَحِّ بالمِنجَل والمِعوَل

بسباتٍ لطيفٍ في الأكناف

سطّر بلا وجَل

كنتُ هنا، أنا الإنسان

فما زالت “الرّوح تناجي” العام الجديد فتقول:

أيّها المخزون في ذاكرة التّشظّي

تستهدي أنوارَك مُقَلي وتضيع في متاهاتك الحروف

يا عامي الشّريد

ثمّ تنتقل إلى قصيدة “ترنيمة” فنشعر معها بشعلة الشّغف الحلو اللّذيذ الذي يصيب الإنسان فيجعله محلّقًا بأجنحةٍ من سعادة وإرادة، وهي التي تقول:

هُبّ يا نيسان، اشتعِل،

عطّر، بالشّغف، دروب الورود

قبّل الأقاحي

صدّع جليد السّنين

فَيضَ بيادر

اغمر متاهات العمر

براعم ياسمين

ثمّ نراها في قصيدة “إنّه الخريف” تحيا حياة التّأمّل مع الطّبيعة والوجود فتقول:

أحنّ إلى ورقٍ يتناثر

عند الهجيع

وفي زاويةٍ أخرى ذهبت نحو مناجاة الخالق، فالإنسان ضعيفٌ ليس باستطاعته البقاء من دون سندٍ لا يغيب ولا تؤوده سِنةٌ أو نوم، إذ خطّت قصيدة غنائيّة ذات موسيقى رنّانة جزلة بعنوان “رحماك ربّي”:

شفّ المدى بصدى الحلا

صَهَلَ النوى

ذُهِل الرّدى

شوقي هفا

دربي احتمى

ثمّ تصيح بقصيدة “من أنا؟” على لسان الرّجل فكأنّها تمنح صفاتها لهذا الرّجل الذي في سطورها إذ تقول:

لا يعرفُني من ليس يُكابِد

أسير في طريقي

ويلحقُني

ألف سهمٍ ثاقب

أتلفّت وترصدني الأخوة

باسم المعانِد

أنا من أسرج للخيل حروفَه

أطلق في المدى صهيله

وتسأليني من أنا؟

ثمّ حين راح المرض يفتك بها في فترةٍ زمنية خطّت ما كانت تشعر به بوجود الموت مقتربًا منها، “أنا والموت على أكفّ الضياع” فاستذكرت أحبّ النّاس إليها، وأدخلتهم صلب القصيدة ثمّ نراها تقول:

أفراشةٌ أنا تأبى الفرار

إلى اللّهب تمضي لا تستفيق

يجذبها النّور العميم؟

أم قطرة من ألق، والشّمس تلهبها

تهفو إلى السّماء

تنعقد مع الغيوم، لتهمي من جديد

وتلتحق بقاع المحيط؟

ناجت أمّها وناجت الله، ناجت كلّ من تحبّ، وشعرت أنّ للحلم “جنازة” فقلبت الموازين وصرخت بملء حنجرتها:

الحب لا يحيا في قوقعة

تسرّبت الحياة

من عمق الجذور

ليت للرّوح جنازة وقت الشروق

وفي قصيدة “كفن” تسترجع اللّحظات الرّاحلة فتتمدّد كما العتمة فوق خيوط النّور، وها هي تقول:

أسلّط شغفي على نارٍ

وتحتضن نيراني أنوار البيدر

الأهزوجة مريرة

والقالب سُكّر

وسيخرج من صلب الألم “زئير” يدوّي في فضاء الكون، يدعو الإنسان الوحش أن يسقط وأن يخرج منه الملاك الذي سيبقى أبد الدّهر، إنّها دعوةٌ للخروج من حالة الشّر والدّخول في الخير، فالإنسان جُبِل على فطرة الخير، وها هي تقول:

ردّد ردّد

فليسقط الوحش الإنسان

كما أنّها تطرّقت لموضوع الكِبَر بصرخة قصيدة “الله أكبر” فلا ترتدوا الأقنعة أيها البشر.

في الحبّ والتمرّد

وللحبّ نصيبٌ من الأحرف المشعّة، فقالت حين “زارني طيف” من ألق وأرق وقلق، قلت له: كن من تكون ودعني أبقى كما أنا فقد ولدت لأكون أنا، وسألته “أين العبير” فخطّت كلماتٍ برّاقة في هذه القصيدة أَنسنَت فيها الجماد الصّلب، وها هي تقول:

في خاصرة الرّوح تلوّى البوح

تحبسه الأزاميل

يا عابثاً بأحداق الغيوم، وأين “العسل الهجين” منكَ أيها المارّ على أجنحة اللّقاء والصدفة والقدر، فتستذكر عبر كلمات الحنين ذاك القابع في الحلم والذّاكرة، فتقول:

كفكف دموع الزبد

الشّهقة قاتبة والبعد دخان

يا هذا القابع في حلمي

لا تستدِر

امضِ نحو اللّهب

الصّدى هبّ كالنّسر

اخترق الأنفاس

إنّ نفسها التّوّاقة للحبّ فيها “خليةٌ مستوحِدة” فلا يحاول أحد فكّ لغزها وتغييرها، فهي في الحبّ مجبولةٌ على الثّورة أيضًا ولن تترك “الانكسار المرّ” يعكّر صفوَ كبريائها اللّامتناهي، وتقول هنا:

كنتُ أنتظر وأنتظر

واللؤلؤ على خدّي

يزيّله العلقم

فهي الأنثى الشّرقيّة وبـ “شهقة حرفٍ” منها ترتعش ورقةٌ ويصطكّ حبرٌ وترقص الممحاة في شدوٍ، فنراها تبدأ قصيدتها بـ:

كيف يمرّ اليوم ولا أدري؟

وتنهيها:

كيف يمرّ العمر ولا أدري؟

ثمّ كان “حلم” جميلٌ ردّدت صداه الرّوح، إذ تقول:

سنابل النّور تململت

في مقل النّرجس، صفا الصّقيع

وهاك الحلم

تكسّر ضوءًا واحترق

وفي الرّوح

أورق من جديد

وفي قصيدة “صهيل” خيل أصيل همس فارسه في أذن معشوقته: “عصيّةٌ أنتِ” فقال وقالت وقالت وقال وكلٌّ كان على شخصيّته دون أن يغيّر ما فيها من ثورات، فمن لا يجيد مع الأنثى الشّرقيّة فهم “فنّ العبث” لن يستطيع سبر أغوارها وهي الثّائرة العاشقة التي تطلب منه أن يكون رجُلًا، إذ تقول له صارخةً:

انثر العبق

روِّ الحدق

تعلّم تعلّم فنّ العبث

ثمّ في قصيدة “قالت” تطلب من الآخر أن يكون ذا أثر وصدى، صاحت به:

هشّم جدار عُزلتي

لملم أطياف الورود

موّج رحلتي

في عالم الخلود

ثمّ “قالت كفى” حين أمسكت زمام الأمور بأنوثتها وعنفوانها، إذ قالت:

صُلب الملتقى

على جدار الأمس

إلى الفرقدين… هفا

في مدّ

في جزر

وترنّمت على صدى أغنية الطّبيعة حين زارتها “ضيفة الصباح: يا ملهمتي”، حيث تقول:

كيف تقوى الزّهور

تتمرّغ في كأس العطور

أتسلم من زغردة الطّيور؟

وحملت العتاب بين يديها كما تُحمل “الأيقونة” خشية أن تُخدش، لتكتب قصيدةً تأمليّة حِكميّة وعظيّة في الحبّ والقوّة والعنفوان، فها هي تقول:

من يُرِد الآمال العِذاب

يكمّ الأنين، يُنشد المحال

ثمّ نادت “أيّها المهاجر” بكلماتٍ تحاكي الأحلام، ولا بدّ أنّ الأحلام كانت ماثلةً أمام عينَيها حين كتبت هذه القصيدة، إذ تقول:

وحدها الأحلام تجرؤ اقتحام خلوةِ الفكر

وحدها الأحلام تقتنص من السعادة موعدًا

ثمّ في قصيدة “ثائرة”، صرخت بوجه الذّكر المتغطرس وقالت في وجهه: لا، فكانت صرخة مزلزلة:

لا سيدي وألف لا

هدرْت نَزْعًا في الدّم

ورغبةً مجنونةً

في صرخةٍ تزلزل

بحرفها تهدّد

فألقموني حجرًا

في تقديس العائلة والصّداقة

لم تنسَ نصيب العائلة والأحباب حين ذكرت اسم “مريومتي الصغيرة”، حيث تقول:

دمعك الدّلال

يرصد المحال ممكنًا

ما أمرّ بكاءكِ طفلتي البريّة

بدرًا سال على وجنتَي الورد

شلّالاً تدافع والنّجوم

للقيا الضّحكة تتفجّر

على الشّفاه الملائكيّة

وفي قصيدة “نور الهدى الأيّوبي” تتغزّل بها كأجمل طفلةٍ في الكون، هل أجمل من أن تكتب الشّاعرة عن طفلةٍ تعشقها، فها هي تقول:

اسمك نغم، حسنك وتر

أرتّل وأمجّد

كيف اهتدى اسمك لأنوار أمّي

وشمخَ بسلالة أبي

وفي قصيدة “ناقوس النّسيان” بانزياحٍ دلاليٍّ خلّدت ذكرى المربّي الفاضل المحبّ، إذ تقول:

حمل منجله مع الصباح

وانطلق يجدل من بين الأشواك باقات من أمل

يلوّنهن لمستقبل زاخر بالعطاء

هديّةً لفلذات الأكباد ذخيرةً من حلمه بهنّ

إشراقة نور

ختامًا، يحار الواحد منّا أن يحدّد شخصيّة واحدة للشّاعرة التي تبدو في حين ثائرة كموجٍ هائج، وفي حين آخر هادئة كنسيم حلو، مُقاوِمة حتّى النّفس الأخير، مؤمنة بالموت، متمرّدة كفلسطين. هذه المرأة الصارخة، كيف جعلت للصّدى همسًا، وصوتها يكاد يُسمَع من بعيد؟ كيف حملت، وما زالت، القضيّة على كتفها كأمانة ومشت بها ولم تتعبها، وإلى الآن ما توقّفت؟

ورغم الرّمزيّة الطّاغية على الدّيوان، لم تبخل الشّاعرة على زرع الرّومانسيّة فيه، إذ استخدمت الطّبيعة في كلماتها، بارزة عواطفها التي أوضحت الجانب الوجدانيّ الذي لا تستطيع امرأة التّخفّي وراءه، لنتوصّل في نهاية الأمر إلى نتيجة علّمتنا إيّاها، مفادها أنّ الرّمزيّة والرّومانسيّة، مذهبان غير منفصلين عن بعضهما.

الشاعرة الأستاذة الدّكتورة وفاء الأيّوبي، زادك الله ما زلنا ننهل منه، فلتبقَ حروفك ودروسك معنا أينما حللنا.

وحيد حمود - كاتب من لبنان

وحيد حمود - كاتب من لبنان

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
مصر تُفنّد مزاعم استعدادها لتهجير نصف مليون فلسطيني إلى سيناء شركة "أزان إنيرجي" تصدر أول شحنة من الكوابل الكهربائية نحو الطوغو مؤرخ فرنسي يدعو إلى فتح الأرشيف بخ استخدمت أسلحة كيماوية في الجزائر 7 قتلى في حوادث المرور خلال يوم واحد نسبة جاهزية موزعات البريد الآلية بلغت 96 بالمائة عبر الوطن 10 بالمائة من الأوروبيين فقط يثقون بالولايات المتحدة لضمان أمنهم! سكن.. هذا موعد انطلاق أشغال إنجاز 196 مرفقا عموميا طقس.. هبوب رياح قوية على ولايات عدة أسعار النفط تتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية "جريت وول موتورز" تستعد لإطلاق مركز تقني للتصديق والاعتماد في الجزائر ردًا على مجازر غزة.. المقاومة تستهدف عمق الاحتلال برشقات صاروخية وزير النقل يوجه بتوسعة مطار بجاية وتحسين ظروف استقبال المسافرين إطلاق شبكة 5G في الجزائر.. التحضيرات جارية وزارة التربية.. إجراءات صارمة ضد مقاطعة صب العلامات شركة صينية رائدة تعتزم إطلاق مصنع للسيارات وقطع الغيار في الجزائر انقلاب ناعم في الأفق.. هل وقّع زيلينسكي وثيقة النهاية؟ إطلاق تطبيق "تاكسي سايف" لتحسين خدمات سيارات الأجرة المحرقة قادمة.. آلة الحرب الصهيونية تستعد للانقضاض على غزة النيابة توجه تهمًا خطيرة له.. التماس 10 سنوات سجنًا نافذًا وغرامة مالية ضد صنصال هزة جديدة في المدية.. زلزال بقوة 4 درجات دون خسائر