الكتابة عذاب كما يعلم كلّ من يكتب فيما أعتقد، الكتابة جهد لا يني، وفكر لا يتوقّف عن إنتاج المعرفة والأفكار على اختلاف تشكلاتها وتباين توجّهاتها ومراميها.. على أنّ اختلاف الأفكار وإن بلغ أقصى مداه فإنّه لا يعبّر إلاّ عن ثراء الإنتاج المعرفي وعلى زخمه وقدرته على تطوير المعارف الإنسانية بشكل عام والإنتاجات الأدبيّة بشكل خاصّ.
ولسنا في هذا الإطار نبحث في معنى الاختلاف بقدر ما نحن ننزّل عمل المؤلّف “وليد الأسطل” (شيء مختلف) في سياق كتابة نثريّة قصصيّة تهفو إلى أن تكون متفرّدة في سياق جنس أدبيّ تشبّع منه الغرب والعرب منذ عقود بعيدة. نحن أمام كاتب صاحب أسلوب وصاحب تجربة في اللّغة وليس فنّانا قصصيّا وروائيّا فقط. فمنذ العنوان (شيء مختلف) يضعك “وليد الأسطل” أمام عتبة تستفزّك لغة وتركيبا ودلالة، فأنت أمام عنوان مُربك غاب مبتدؤه وتجلّى خبره، يُثير فيك السّؤال.. فالسّؤال يدفعك دفعًا إلى رحلة بين نصوص المجموعة بحثا عن مواطن الاختلاف وكأنّك تهفو إلى أن تُتمّ المبتدأ الذي أخفاه الكاتب ليُثير حيرتك ويُعمّق دهشتك؛ فتخرج من النّحو إلى الدّلالة بحِيرة “سيبويه” يبحث في شأن “حتّى”..
وإذا مات “سيبويه” وفي نفسه شيء من “حتّى”، فإنّك لا شكّ ستخرج بدلالات كثيرة لهذا الاختلاف الّذي يفاجئك منذ العنوان. فالشيء المختلف أشياءٌ، وإن أوهمنا العنوان بالإفراد وكلّما زاد الاختلاف زاد الثّراء أكثر وانفتحت الرؤى على مدًى أبعد وتعالقَت الأفكار والتحمَت، وما أحوجنا إلى تقارب فكريّ عالميّ يُقرّب المسافات ويُقلّص الاختلافات، ألم تُكتَب المجموعة بلغة عربيّة فصيحة، جميلٌ شكلُها وبديعٌ وصفها رغم أنّ أحداثها تدور في عالم غربيّ وشخوصها تعتنق مبادئ علمانيّة إلاّ في أقصوصة واحدة “ثابت العربي” التي تنكّر فيها بطلها لعروبته حتى صار “المستقبل لا يهمّه”، وأيّ مستقبل نريد ونحن ما نزال “نعيش حالة نوم انتيابي”، ننبش في ماض استحال كابوسا بل “صحراء وصراخا وقبيلتين تتقاتلان..”..
هنا يُلامس “وليد الأسطل” عُمق الاختلاف القاتل في فكرنا العربيّ المتجمّد الّذي يأبى التطوّر الذّاتي ويرتمي بين أحضان الغرب المتطوّر مُستسلمًا منهزمًا منكفئًا على ذاته، مُندحرًا أمام حضارة غلبته، فصار مقتدِيًا بها على حدّ عبارة “ابن خلدون” في مقدّمته.
والاختلاف عند “وليد الأسطل” موقف ومبدأ تختزنه شخصيّاته وإن أوهمنا أيضًا أنّه غريب عنها على الأقلّ انتماءً، وليس الأمر عيبًا ولا نقصًا، ولكنّ الاختلاف – كما أشرنا سابقا – حاجة ورغبة كامنة لا فيه فحسب بل فينا أيضا، ألسنا جميعا ومعنا كاتب الأقصوصة “نبحث عن شيء غير اعتياديّ” كما أراد “فرانك”، بطل إحدى قصص المجموعة لحياته أن تكون؟ أليس الاختلاف هو الذي يميّزنا عن غيرنا ويرسم لنا أفقا خاصًّا بنا؟ أليسَت الكتابة عمليّة ذات احتمالات؟ هناك احتمالات كثيرة جدًّا تُواجه الإنسان، عليه أن يأخذ احتمالا واحدا منها في لحظة معيّنة، وتلك هي لحظة المُكاشفة الشعريّة على حدّ عبارة الدكتور “محمّد لطفي اليوسفي”، إذ يُطلعنا “وليد الأسطل” على ماهية الكتابة عنده وكيف يُخلق بطله في أقصوصاته وحتّى رواياته، يتخمّر في خياله ويُحاوره فإذا هو بطل يسعى “جِدّي مثل البابا، ومتشدّد مثل كاتب العدل”، مثلما أقرّ أحد أبطاله بذلك (فرانك).
الكتابة عند “وليد الأسطل” إذًا مغامرة سلاحها اللّغة العربيّة في أرقى تشكلاتها وموضوعها، نتف من حياة الغرب وشواغلهم وهمومهم حتى لتحسب وأنت تقرأ الأقصوصات السبع أنّك أمام نصوص مترجمة لا جهد فيها غير النّقل والتّعريب، بيد أنّك وأنت تُمعن النّظر فيها قراءةً وتأويلا تجد أنّها قصص غربيّة بروح عربيّة لا أعتقد أنّها بريئة ومُحايدة، فكيف لكاتب أيّ كاتب أن يكتب نصّا لا يرى نفسه فيه ولو شزرًا؟ ألسنا نقرأ هذه النّصوص وروح رواية “سقوط” تسكننا وتُحرّكنا وتقرأ معنا لتستنير بها أفكارنا؟
الحقيقة أنّ الكاتب يهفو إلى أن يستكشف رؤيته باستمرار وبالتالي يختبر أدواته في التّعبير عنها ومقدرته أيضا. لذلك أرى أنّ “وليد الأسطل” ذو الأصول العربيّة يكتب عن حضارة الغرب لا بمنطق الانبهار والانصهار بقدر ما هو يُمرّر وخزات نقده لمُجتمع يتساقط أخلاقيًّا وحضاريًّا يوما بعد يوم رغم أنّه يبدو على درجة كبيرة من الحياد. إنّه يُطلعنا على تفاصيل من حياة النّاس في الجانب الآخر من الكرة الأرضيّة، وكأنّه يعقد مقارنة بيننا وبينهم أو هو “يعرّفنا على حقيقتها باعتبارها حياة باردة تفتقد الكثير من حميميتها” كما ذهب إلى ذلك القاصّ والشاعر “الطيّب صالح طهوري”. وأنا وإن كنتُ لا أختلف كثيرًا مع شاعرنا المبجّل، فإنّي أعتقد أنّ الكاتب يرصد لنا مجتمعًا بأكمله بحثًا عن عوامل سُقوطه وتردّيه وإن كان لا يُخفي بطريقة أو بأُخرى هزيمة المجتمعات العربيّة الّتي ما زالت ثابتة ومتقوقعة على نفسها ولم تحمل بعد مشاريع تطوّرها وانطلاقها توازيا وما يشهده العالم من قفزات نوعيّة هامّة.
وإجمالًا فإنّ هذه المجموعة القصصيّة تشدّك إليها لا بطرافة مضامينها وتنوّعها فحسب، وإنّما أيضا بتجانس كلمها ولغتها مع ما تُثيره من شواغل قد لا تراها قريبة منك لكنّك تُمنّي النّفس أن تنتمي إليها لا أن تكونها.. ولكن لتُعيد تشكيلها وفق طُقوسك الخاصّة بملامح وشروط أخرى وأنت العربيّ الّذي يرى العالم ينهار تدريجيّا، يتّجه نحو السقوط والانهيار..
وعلى سبيل الخاتمة رأيتُ ـ والرّأي يخصّني ـ أنّ “وليد الأسطل” في هذه التجربة الإبداعيّة قد وضع لبنات التّجديد في الكتابة القصصيّة لغة وموضوعا وتقنية، إذ وقف الرّجل بلغة الأجداد في فصاحتها ودقّة تعبيرها وحُسن وصفها وتصويرها على تخوم حضارة الغرب يكتبها ويرصدها بل يغوص في تصوير دقائقها وخصوصياتها ليثبت لنا من جديد أنّ اللّغة وإن تقادمت فإنّها لا تموت وإن تباعدت وأبعدوها فإنّها ما زالت قادرة أن تقول ما يُقال وما لا يُقال..