هذه مقالة نقدية، أقف فيها على جمالية الصورة في قصيدة “ألَمْ يَكْفِ الأَمِيرَةَ بَعْدُ كُحْلُ؟” للشاعر الفلسطيني من جنين “سائد أبو عبيد”، التي يدور موضوعها في حرب الإبادة التي يتعرّض لها قطاع غزّة الصامد منذ السابع من أكتوبر 2023، دون رادع أو اعتبار لأدنى المشاعر الإنسانية، أو مراعاة أبسط القواعد الدولية التي تحفظ حقوق الإنسان في العيش الكريم…!
إنّ الحروب حين تقعُ فإنها تهدم البيوت…! وتقتل الصغار قبل الكبار، وتزرع أسوأ الذكريات في القلوب والعقول. وعلى الرغم ممّا فيها من الوحشية والقسوة ودخّان الموت، غير أنها تُفقد الشعور بالأمن، وتهدم أحلام الإنسان، وتُثير الأحزان ولواعج الشعراء، والأدباء بعامة، فتصبح كتاباتهم باكية، ناقمة ساخطة، وهذا النصّ الذي بين أيدينا هو لون من تلك الألوان التي أفرزتها مجازر حرب غزة الأخيرة.
إنّ الكتابة، بطريقة أو بأخرى، تمرّد على ما هو موجود، لتحقيق ما ينبغي أن يكون. فالكتابة طاقة كونيّة مُتمرِّدة على الواقع، لخلق واقع أجمل، وتحقيق السعادة المنشودة، والمرهونة بتحقيق السلام والاستقرار.
إنّ الحرب الهمجية التي تُحرق كل شيء في غزّة اليوم، يأتي الشعر كَفَنٍّ ليعبِّر عنها، كون الشعر لا يعيش خارج الحس الإنساني وما يتعرّض له من خراب، فالحرب على غزّة بكل ما تحمله من أشكال ومعاني الألم، تدفع الشعرَ إلى الخروج بكامل لياقته، وحضوره، إلى كتابة نفسه على نحو مختلف، يتأسّس في ساحة ضجيج الحرب، ويجتهد للتّعبير عنها من خلال التوحّد مع الألم، كي ينصت أكثر للعميق في الروح، المستتر الخافت، والذي يحاور الدم، ويرسم صورة الجراح في الذات البشرية بجمال.
هذه القصيدة، نظمها الشاعر على بحر الوافر، وتتألف من سبعة وثلاثين بيتًا، وموضوعها حرب غزّة، وما يجري في مُدن الضفة الغربية، من جرائم يرتكبها الاحتلال بحق المواطن الفلسطيني! فالمشهد العام مُستوحى من فلسطين، وهو مأساوي غارق في الحزن والشعور بالخدلان جرّاء صمت الأمّتَين العربية والإسلامية، وتآمر الدول التي تدّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولعل التأمل في مطلع القصيدة يشي بهذا الشعور في قوله:
يُقَالُ إِلَيْكَ: قَدْ وَهَنُوا وَكَلُّوا — وَفِي تَعَبِ الوُصُولِ نَؤُوا وَمَلُّوا
فالصورة العامة في المطلع غارقة في الحزن، فهي متزاحمة في دلالاتها حين جعلت الأنظمة العربية والإسلامية، تنأى بعيدًا عمّا يحدث في غزّة من مجازر، ثم قابلَت ذلك بصور المشرّدين الذين هُدمت منازلهم، وفقدوا الأهل، ونزحوا إلى أماكن أخرى يرجون فيها قليلاً من الأمن! لكنّك تقرأ في وجوههم وعيونهم غير صورة واحدة:
كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ حَمَلتْ ثَكَالَى — وَأَرْهَصَهَا الحُطَامُ وَلَمْ يَذِلُّوا
صحيحٌ أنهم مثقلون بالأسى والشعور بالفاجعة! غير أنّهم صامدون لا يستسلمون، يقاومون بكلّ ما ترك لهم الزمان بقيّةً مِن حياةٍ وقوة على الصبر والصمود. والشاعر بعد ذلك يُعلن صراحةً، وقوفه معهم، وتضامنه الكامل مع ما يتعرّضون لهم من هذه المحن القاسية، وذلك واضح في قوله:
أَنَا باقٍ على إِيقَاعِ ذَاتِي — وَمِنْ تَحْتِ الضُّلُوعِ يَدُقُّ خَيْلُ
وهي صورة جميلةٌ حين عبّر عن هذه المشاعر برسمين؛ الأول ثباته على موقفه وشبّه ذلك ببقائه على الإيقاع الوطني الملتزم نفسه، لا يحيد عنه، والآخر صورة الغضب والسّخط الذي ينتابه جرّاء صمت العالم عن هذه الجرائم، وقد عبّر عن ذلك حين جعل ثورة المشاعر في صدره باضطراب الخيل التوّاقة للنّزال والركض في ميدان المعارك. ونجد هذه الصورة الثورية تتكرّر في قوله:
على الإِيْقَاعِ نَدَّاهَاتُ شَوْقٍ — إِذَا مَا مَاتَ رَتْلٌ قَامَ رَتْلُ
يرسم الشاعرُ بكلماته أجملَ الصور، فهؤلاء الشهداء الذين يخطّون بدمائهم الطاهرة تاريخًا أعمق بكثير من ذلك الذي تسطّره كُتب التاريخ الصماء الكاذبة، هؤلاء فقط يمحون بِدَفق دمائهم آثارَ الطغيان، التي طالما بكَت الديارُ تحت وطأة رجسها بصمت، ويُثبِتون للدنيا كلها أن دماءهم لا محالة ستنتصر على صواريخ الطغيان الصهيوني والأمريكي والخذلان العربي، فمن بذل من دمه وعمره لا بدّ أن يصل إلى هدفه، ومبتغاه فلا يمكن أن يضِلَّ من ضحّى، وإن طال الزمن، وسيهزم صمودُهم وعنفوانُهم قعقعةَ الأسلحة كلّها ولو بعد حين بإذن الله. يقول الشاعر:
هوَ التَّارِيخُ كَاتِبُهُمْ فِدَاءً — وَمَنْ حَمَلَ النَّزِيفَ فَلَا يَضِلُّ
على خِيطَانِ رُؤْيَتِنَا احْتِشَادٌ — وَفِي عَيْنِ المُزَاحِمِ قَدْ أَطَلُّوا
ويمجّد الشاعرُ الشهداءَ أكرم بني البشر، الذي ضحّوا بدمائهم لتحيا أوطانهم حرّة كريمة. ففي هذا الزمن الذي يغصّ بأسماء المناصب والرّتب الفارغة التي خنعَت، أمام مصالحها، وباعت قضيتها، وتخاذلت عن نصرة الحقّ، نجد التاريخ يحفظ أسماء الشرفاء الذي قاوموا واستشهدوا؛ لأنهم هم الباقون، فإذا ذكرت الأسماءَ فلا تجد غير أسماء الأبطال العظماء، المقاومين الذين على الرغم من أنهم فقدوا الأهل والمنازل إلّا أنهم صامدون:
هُمُ الأسمَاءُ كَمْ قَدْ فَاضَ عَنهَا — غِيَابٌ غَائِبٌ مَنفًى وَرَمْلُ
يلحّ الشاعر على مجموعة من الصور، ومشاهد التآمر والخيانة، ويظهر هذا الإلحاح بقوالب لفظيّة مختلفة، من أجل أن يرسّخ في ذهن المتلقِّي تلك الصور التي أراد أن يوصلها له، تلك التي هي جوهر المشهد الذي يسعى الشاعر لبثها للعالم أجمع. كما في قوله:
وَفَاعِلُ والجَرِيمَةُ وَالرَّزَايَا — وَأَيْدٍ خَائِنَاتُ لِمَنْ تَخَلُّوا
وَأَقلَامٌ كَذَبْنَ على المَعَانِي — سَتَذْوِي كَالجَلِيدِ إِذِ اضْمَحَلُّوا
الصورة هنا تحمل دلالات كثيرة، فالشاعر يجمع في مشهدٍ واحد يستوحيه من الواقع الفلسطيني والعربي المرّ، صورة المحتلّ القاتل المعتدي، وما يفعله بحق الأبرياء، والشجر والحجر، وصورة المتفرّجين من المتخاذلين الذين أشاحوا وجوههم عن المشهد، وباعوا ضمائرهم، رغم ما يملكون من العدد والعتاد. ولا ينسى الشاعر أن يعرِّض بطائفةٍ من الكتّاب والسياسيين الذين باعوا الناس الوهمَ، فكانوا يتشدقون أنهم مسلمون عربٌ، ويفخرون بما يحملون من شعارات العزة والإباء والثبات، لأنّ هذه الحرب قد عرّت كذبهم وافتراءاتهم، وقد جعل الشاعر هذه المفاخر والادّعاءات الكاذبة مثل الجليد الذي يذوب حين تطلع خيوط الشمس… وهي صورة جميلة حقًا.
ومن المشاهد التي يقف عندها الشاعر وتستحق التأمل، قوله:
يُزَاحِمُ في المَنِيَّةِ عَيْنُ أُمٍّ — بَدَا في جَفْنِهَا لِلحُزْنِ سَيْلُ
إذ نرى الحزن يملأ وجه كل أمٍّ فلسطينية، ويتجلّى عظيمًا في عينَيها وكأنّ الحزن سيل عظيم، عندما تشاهد أصوات هرولة الأطفال إلى حضن أمّهاتهم ظنًّا منهم أن هذا الحضن الواسع يحمي من طائرات الاحتلال، لكن إذا كان الحجر قد دُمِّر فماذا سيفعل الصاروخ بحضن الأمّ الحريري الدافئ؟! كل هذه الأهوال والمجازر مُوثّقة بالصوت والصورة على مرأى من العالم الذي جفّت الكرامة والإنسانية من وجهه.
ومن المشاهد التي تعجّ بالصور الجميلة، بعد صورة الأمّ، ما رسمه الشاعر للطفل الفلسطيني في غزّة، وهي صورة تراجيدية مثيرة للألم والحسرة؛ فهذا الطفل فقد أبوَيه وأهله ومنزله، لكنّه يتجمّل بالصبر، فالله يمدّه بأسباب البقاء، لذا تراه مبتسمًا راضيًا، هو أعجوبة هذا الزمان!! ولا شك في أنّ هذه الصورة التي رسمَها الشاعر لهذا الطفل قد عرضتها شاشات التلفاز العربية والدولية، ولقِيَت تفاعلًا كثيرًا من المشاهدين، وقد وُفّق الشاعر في رسم ذلك المشهد شعرًا، بقوله:
عَجِيبٌ أَنْ يُغَنِّي فِي التِحَامٍ — على ظِلٍّ بَنَاهُ عَليهِ شِبْلُ
عَجِيبٌ أَنْ يُضِيءَ عَليهِ رَبٌّ — مِنَ البَسَمَاتِ والأَحْبَابُ قَلُّوا
فَيَأْسَى الطِّفْلُ مِنْ هَوْلِ المَنَايَا — وَمَا احْتَمَلَ المَشَاهِدَ فِيْهِ عَقْلُ
سَيَهْذِي أَيْنَهُمْ أَهْلِي وَأَيْنِي — وفي عَصْفِ السُّؤَالِ يَنُوءُ أَهْلُ
نعم، هذه صور مُشبعة بالفزع، كأنها أهوال يوم القيامة، ليس في وسع الإنسان العاقل أن يستوعب تلك المشاهد، لهولها، وفظاعتها، وتجليّات المعاناة والمأساة في أعمق صورها!! أطفال غزّة يموتون قبل أن يستخدموا أسماءهم، وتُكفّن جثثَهم الطاهرة بورقة تاريخ الوفاة بعد يوم واحد في الحياة، ومن نجا منهم ليس بأوفر حظًّا، لأنه مُهدّد بالموت في كل الأحوال. سيموت مرات عديدة خوفا وجوعا وعطشا.
لقد خرج العقل عن طوعه، لم يعد يحتمل هذه المشاهد، فهو يبكي بحرقة على أرواح حصدتها مناجل الطغيان الصهيوني المتوحّش، والصمت العربي والإسلامي، فاليوم فاض بحر غزّة دموعا، بينما ثرى غزّة الطَّهور يستقبل الشهداء الغافين بسلام، وقد نُزِع ما في قلوبِهم من غلٍّ، إخوانا، على سُرر الشهادة والخلود متقابلين!!
كلّ هذه المشاهد مكانها واحدٌ: فلسطين، وغزّة بالتحديد، وما أجمل تعبير الشاعر حين أثبت المكان لتلك الفاجعة التي أصابت غزّة، وكيف صوّر تسارع الدمار والقتل، وانعدام المنقذين على الرغم من هول المشهد:
هُنَاكَ هُنَاكَ أَعْنِي في رَحَاهَا — تَضَاءَلَ لِلنَّجَاةِ يَدٌ وَحَبْلُ
في غمرة مأساوية المشهد، يلوذ الشاعر إلى الله عزّ وجل، يرجوه العون والمدد والصبر والنصر:
وَيَا اللهُ مَا خَيَّبتَ عَبْدًا — دَعَاكَ بِظُلمَةٍ في الحُوْتِ قَبْلُ
فليس أمام الفلسطيني في ظلّ هذا الخذلان المريع، إلّا أن يناجي ربَّه؛ يا ربّ، أنت لم تُضيِّع عبدك، وفي ذلك تناصٌّ خفيٌّ بالإشارة إلى سيدنا يونس عليه السلام في تلك الظلمات حينما نادى ونادى في الظلمات: ألا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. إذ أنّ غزّة قد أصبحت عبارة عن ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات تتجلّى في مظاهر عديدة جدًّا؛ في القتل، والهدم، والنسف، والتجويع، والحصار، فقوله (ظلمة) مُستمدّة من قصة يونس عليه السلام، لكنها تحمل دلالة تنزاح على حال غزّة أيضا.
ويُعرّج الشاعر في وقفة تأمُّليّة لا تخلو من الأسف والحسرة، على حال العرب المُعيب أمام مجازر غزّة، ودمارها، مُذكّرًا إيّاهم بصمتهم هذا، وتخاذلهم القديم.. خانوا العروبة والإسلام، وجراح فلسطين نازفة من خمسة وسبعين سنة، ولم يصنعوا شيئًا!! وهم الذين نصّبوا أنفسهم سادةً وقادةً للعرب:
إِلى السَّادَاتِ قَدْ قَدَّمْتُ مَوتِي — فَمَا انْتَصَرُوا إِلَيهِ وَلَا اسْتَقَلُّوا
عُقُودٌ مِنْ جَرَاحَاتٍ عَلَيْنَا — أَلَمْ يَكْفِ الأَمِيرَةَ بَعْـــدُ كُحْلُ!
وهذه الأبيات يغزلها الشاعر على لسان المُعذّبين المقهورين من أهل غزّة، الذين لسان حالهم يقول: إنّنا يا قادة العرب، نحبّ العروبة تلك التي كانت بمنزلة البيت الكبير يأوي إليه النازحون المظلومون من أبناء الأمّة، لكن هذا البيت لم يعد موجودًا، ولم يعد أحدٌ فيه يسمع صرختنا، لأننا فقدنا البيت، وهربنا إلى الخيام، ولم ننجُ فيها أيضًا، فالمحتلّ يلاحقنا بكل مكان!!
نُحِبُّ البَيْتَ لَكِنْ غَابَ عَنَّا — وَنُسْحَقُ في الخِيَامِ ولا أَقَلُّ
ومن الصور الجميلة في النّص، أنّ الشاعر يستوحي من واقع غزّة، حتى الآمال التي يرجونها!! كما نجد ذلك في أبياته الأخيرة حين يبوح بتطلّعات أهل غزّة الذين دُمّرت منازلهم، وهم يحلمون بالأمن والاستقرار كباقي شعوب الأرض:
مَتَى نَغْفُو على اليَنبُوعِ دَهْرًا — فَنَصْحُو عِنْدَنَا مَاءٌ وَنَخْلُ
وَنَنْسَى الجُوْعَ مَا لِلجُوْعِ فِيْنَا — وَكَانَ لَنَا مِنَ الآلَاءِ حَقْلُ
صورة واقعية جميلة، تعبِّر عن صدق الإحساس والانتماء، فهو ينقل لنا مشاعر أهل غزّة، ولسان حالهم الذي يصيح بكل ألم، متمنِّين أن يتغيّر هذا الواقع إلى حال أفضل، تعود فيه حياتهم طبيعية، في العمل والأمل والسعادة والرخاء، وجميلٌ تعبيره عن هذا حين جعل غزّة وفلسطين وما فيها من خيرات كأنها ينبوع ماء وسعادة، وجميل سؤاله: (متى نغفو على الينبوع دهرًا؟) كناية عن طلب الأمان والسلام، وجوابه: (فنصحو عندنا ماء ونخل) يقصد بها الحياة والرخاء.
والصورة الأخيرة هي ما ختّم بها قصيدته، فهو بعد هذا العرض لمشاهد حرب غزّة، نراه يفخر ويتحدّى! فما أصاب أهل غزّة والفلسطينيين بهذه الحرب، لن يزيدهم إلّا إرادة وعزيمة وإصرارًا على النصر، هم لا يستسلمون، فهذه الجراح والمآسي وما تخلّلها من صمود ومقاومة، هي تاج مُكللٌ بالغار، يعتزّ به كلُّ فلسطيني وعربي حرّ شريف:
يُكَلَّلُ رَأسُنَا بِالغَارِ عِزًّا — لِرَأْسِ الخَانِعِ المَهزُومِ نَعلُ
لَنَا الآيَاتُ والآياتُ مِنَّا — بِهَذَا الصَّبْرِ والتَّمْزِيقِ نَعْلُو
فغزّة آية الله في الدين، والالتزام بالصبر والصمود والمقاومة، قدّ مدّها الله بالقوة، وجعلها أشرف مكان يحفظ واجب الجهاد، فكأنّ الآيات تنزّلت عليها وحدها، فمِن الطبيعي أن تصدر عنها آيات أخرى هي معجزات وعجائب جرّاء ما ظهر من عزيمة وصمود وجَلَد على مقاومة الأعداء.
وفي الختام نستطيع القول أنّ الشاعر في قصيدته هذه واكب ما يحدث في غزّة من مشاهد مؤلمة، وجرائم بشعة، يرتكبها الاحتلال يوميًّا، ليس في غزّة وحسب، بل في فلسطين بأكملها، ويوصينا أيضًا ألّا نعتاد هذه المشاهد، فاعتيادها خيانة، والواجب يدعونا إلى مواصلة مسيرتنا الجهادية حتى الرّمق الأخير، لنزرع في نفوس الخَلَف وعقولهم معنى الجهاد، وأنّ الحق سوف يعود لأصحابه مهما انطوى من السنين، يرونه بعيدًا ونراه قريبا.
ألَم يَكفِ الأميرةَ بعدُ كُحلُ؟
شعر سائد أبو عبيد (جنين – فلسطين)
يُقَالُ إِلَيْكَ قَدْ وَهَنُوا وَكَلُّوا — وَفِي تَعَبِ الوُصُولِ نَؤُوا وَمَلُّوا
يُكَادُ لَهُمْ شِرَاكًا لا يَرَاهَا — سِوَى المَشَّاءِ في قَبَسٍ فَهَلُّوا
كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ حَمَلتْ ثَكَالَى — وَأَرْهَصَهَا الحُطَامُ وَلَمْ يَذِلُّوا
سَنَابِكُ والغَبَارُ هُنَاكَ يَعدُو — فَآلِهَةُ المَجَازِ إِذَا تَجَلُّوا
جُمُوحٌ كَيْفَ يُوصِفُهُ قَرِيضِي — وَقَبْلِي مُعظَمُ الشُّعَرَاءِ زَلُّوا
أَنَا باقٍ على إِيقَاعِ ذَاتِي — وَمِنْ تَحْتِ الضُّلُوعِ يَدُقُّ خَيْلُ
على الإِيقَاعِ نَدَّاهَاتُ شَوْقٍ — إِذَا مَا مَاتَ رَتْلٌ قَامَ رَتْلُ
هُوَ التَّارِيخُ كَاتِبُهُمْ فِدَاءً — وَمَنْ حَمَلَ النَّزِيفَ فَلَا يَضِلُّ
على خِيطَانِ رُؤْيَتِنَا احْتِشَادٌ — وَفِي عَيْنِ المُزَاحِمِ قَدْ أَطَلُّوا
هُمُ الأَسمَاءُ والبَاقُونَ لَثْغٌ — علَى فِيْهِ المُرِيبِ سَبَاهُ هَوْلُ
هُمُ الأسمَاءُ كَمْ قَدْ فَاضَ عَنهَا — غِيَابٌ غَائِبٌ مَنفًى وَرَمْلُ
وَرِيْحٌ في الجِهَاتِ على اتِّسَاعٍ — وَطَلْقَةُ حَتْفِهِمْ رُمْحٌ وَنَصْلُ
وَفَاعِلُ والجَرِيْمَةُ وَالرَّزَايَا — وَأَيْدٍ خَائِنَاتُ لِمَنْ تَخَلُّوا
وَأَقلَامٌ كَذَبْنَ على المَعَانِي — سَتَذْوِي كَالجَلِيْدِ إِذِ اضْمَحَلُّوا
أَخَذْتَ إِلَيْكَ مَعنًى بَعْدَ مَأْسًى — وَقَدْ طَفَحَ الدُّرُوْبَ لَدَيْكِ صَهْلُ
يُزَاحِمُ في المَنِيَّةِ عَيْنُ أُمٍّ — بَدَا في جَفْنِهَا لِلحُزْنِ سَيْلُ
صَبِيٌّ كَامِلٌ مَا بَيْنَ إِلَّا — فَلَا قَدَمٌ لَدَيْهِ عَرَاهُ خَذْلُ
ولا كَفٌّ عَلَيْهِ يلوحُ نَحوِي — فَمَا أَدنَى الوُرُودَ إِلَيْهِ مَيْلُ
عَجِيبٌ أَنْ يُغَنِّي فِي التِحَامٍ — على ظِلٍّ بَنَاهُ عَليهِ شِبْلُ
عَجِيبٌ أَنْ يُضِيءَ عَليهِ رَبٌّ — مِنَ البَسَمَاتِ والأَحْبَابُ قَلُّوا
فَيَأْسَى الطِّفْلُ مِنْ هَوْلِ المَنَايَا — وَمَا احْتَمَلَ المَشَاهِدَ فِيهِ عَقْلُ
سَيَهْذِي أَيْنَهُمْ أَهْلِي وَأَيْنِي — وفي عَصْفِ السُّؤَالِ يَنُوءُ أَهْلُ
بُحُورُ الشِّعرِ وافرُها جميلُ — وأَجْمَلُ لو نَجَا في الهَدْمِ طِفْلُ
هُنَاكَ هُنَاكَ أَعْنِي في رَحَاهَا — تَضَاءَلَ لِلنَّجَاةِ يَدٌ وَحَبْلُ
فَمِئْذَنَةٌ صُدُورُ النَّاسِ تَشْدُو — فَيَا اللهُ هَلْ قَدْ حَانَ وَصْلُ؟
وَيَا اللهُ مَا خَيَّبتَ عَبْدًا — دَعَاكَ بِظُلمَةٍ في الحُوْتِ قَبْلُ
وَيَا اللهُ مَا أَسْبَابُ مَوتِي — وَمَا ذَنْبُ البَرِيءِ وَهُمْ أَغَلُّوا
وَمَا أَسبَابُ سَحقِي فَوقَ رَمْلِي — كَأَنَّ المَوتَ لِلمَقْتُولِ فَضْلُ!
إِلى السَّادَاتِ قَدْ قَدَّمْتُ مَوتِي — فَمَا انْتَصَرُوا إِلَيهِ وَلَا اسْتَقَلُّوا
عُقُودٌ مِنْ جَرَاحَاتٍ عَلَيْنَا — أَلَمْ يَكْفِ الأَمِيرَةَ بَعْدُ كُحْلُ!
نُحِبُّ البَيْتَ لَكِنْ غَابَ عَنَّا — وَنُسْحَقُ في الخِيَامِ ولا أَقَلُّ
مَتَى نَغْفُو على اليَنبُوعِ دَهْرًا — فَنَصْحُو عِنْدَنَا مَاءٌ وَنَخْلُ
وَنَنْسَى الجُوعَ مَا لِلجُوعِ فِينَا — وَكَانَ لَنَا مِنَ الآلَاءِ حَقْلُ
فَصَلُّوا إِنْ رَجَعنَا حَيْثُ كُنَّا — فَشُكْرُ اللَّيْتِ في الأَحْيَانِ عَدْلُ
يُكَلَّلُ رَأسُنَا بِالغَارِ عِزًّا — لِرَأْسِ الخَانِعِ المَهزُومِ نَعلُ
لَنَا الآيَاتُ والآياتُ مِنَّا — بِهَذَا الصَّبْرِ والتَّمْزِيقِ نَعْلُو
سَأَصْمِتُ والقَصِيدَةُ في فَرَاغٍ — فَرَبُّ الظُلْمِ لا يُثْنِيْهِ قَوْلُ