في تناوله “المسألة اليهودية” من خلال ما أورد في كتابه الأشمل “وجهة العالم الإسلامي”، وفي خضم الصراع القائم حينها بين المعسكر السوفييتي الشيوعي من جهة، والمعسكر الرأسمالي الغربي الأمريكي على الجهة المقابلة، وقف المفكر “مالك بن نبي” بين حقبتين ونارين وعصرين، وقفة المتأمل المتفحص والمستشرف المتنبئ، ليحكم بالنصر والتفوق للمعسكر الثاني، مرددا عبارته الشهيرة: “سيكون القرن العشرون قرن اليهود والدولار والمرأة..”، وهي المعايير الثلاثة التي استهل بها القرن الحادي والعشرون مسيره بكل عزيمة وثبات.
“.. ولدتُ في بلد وفي عصر يدرك بوضوح نصف الذي يُقال، لكن الذي يقول كلمة حول النصف الثاني سوف يُحاكم بكل قسوة..” يسترسل “مالك” في التعبير عن مستوى الإحباط الذي عاشه وعايشه، والذي ازدادت حدّته ولم تفتر إلى يوم الناس هذا. فالبلد صار عالما والعصر أصبح دهرا.
فما الذي حدث ويحدث للعالم حتى تناسى قيمته الإنسانية، ومزق كل علاقاته المفعمة بشتّى روابط الودّ والسلام.. ما الذي جدّ واستجدّ حتى انقلب الغرب كل هذا المنقلب، وتحوّل قادته إلى مجرد مسوخ بشرية مجرّدة من الروح والأخلاق، تمارس أعتى عمليات الإجرام بحق القيم والإنسان؟…
إن اليهودية فكر “كلبي” وإن الصهيوني مذهب “سادي”، وقد تناكحا فأنجبا نظاما “مكيافيليا” حكم الغرب كله وهيمن على المشهد العالمي، وهو “النظام الرأسمالي”، الأب الشرعي للحركة الاستعمارية والإمبريالية العالمية، التي لا تؤمن إلا بالقوة والقهر والسيطرة.
على هذا النهج وبهذه الفلسفة، عاد “دونالد ترامب” ليحكم “العالم” مرة أخرى، لتتحقق به وفيه نبوءة المفكر الراحل “مالك بن نبي” التي ألف فيها منذ سبعين عاما. فقد لا يكون “ترامب” على سابق معرفة بالمفكر “مالك بن نبي” ولا حتى بفكره، لكنه حتما يعرف جيدا بأن كسب الدولار هو هيمنة على الجاه والجيوب، وأما كسب النساء فهيمنة على الأضواء والقلوب، وأما إذا أراد كسب الاثنين معا فعليه باليهود.
حضر “إيلون ماسك” و”جيف بيزوس” و”مارك زوكربيرغ” حفل تنصيب الرئيس المنتخب “دونالد ترامب” هذا الاثنين، وكان لهم المكان البارز بين الحضور، رفقة مرشحي “ترامب” للمناصب الحساسة والثقيلة في الدولة، من وزراء ومسؤولين سامين ونافذين وتنفيذيين.
لقد سبق وأن حاول عمالقة التكنولوجيا الثلاثة، كسب تأييد “ترامب” أثناء حملته الانتخابية، حيث تبرع “ماسك” بأكثر من ربع مليار دولار لتمويل الحملة، وذلك ليس بصورة شخصية، ولكن بصفته الرئيس التنفيذي لشركتي “تاسلة” و”سبيس إكس”، فحظي بمنصب رئيس مشارك لهيئة استشارية جديدة لإدارة “ترامب”، سُمّيت “إدارة الكفاءة الحكومية”، حيث أصبح كثير الظهور رفقة الرئيس المنتخب.
من جهته، قام “زوكربيرغ”، الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا”، هذا الشهر بتعديل طاقم إدارته وفق ما تقتضيه السياسة الجديدة للإشراف على المحتوى وجعلها تتماشى وتوجهات الإدارة الجمهورية بقيادة الرئيس الجديد “ترامب”، كما كان قد قدم مليون دولار باسم شركة “ميتا” لصندوق “ترامب” الافتتاحي. كما يشارك “زوكربيرغ” أثناء حفل الاستقبال الرسمي هذا، المتبرعة الجمهورية “ميريام أديلسون”، بحسب ما أوردته شبكة “بوك نيوز”.
“جيف بيزوس” مؤسس شركة “أمازون” ورئيسها التنفيذي، وأثناء الحملة الانتخابية أصدر قراره بأن تدعم صحيفة “واشنطن بوست” التي يملكها، المترشح “دونالد ترامب”، متجاوزا رغبة وإرادة أعضاء فريق الاستشارة والرأي الذين أرادوا تأييد نائبة الرئيس “كامالا هاريس”.. كما أسهم باسم شركته “أمازون” أيضًا بمنح مبلغ مليون دولار لصندوق “ترامب” الافتتاحي.
وزن الرجال الثلاثة؛ بيزوس، وزوكربيرغ وماسك، يقارب ألف مليار دولار من الثروة المتاحة، فهم أغنى أثرياء الأرض، وقد اعتمدوا في تحصيل ثرواتهم على الطفرة التكنولوجية التي سادت العقدين الماضيين. ويحتل “ماسك” المرتبة الأولى، مسبوقا بـ “بيزوس” ثانيا، ويتبعهما “زوكربيرغ” ثالثا، وفق مؤشر “بلومبيرغ” لإحصاء المليارديرات، والذي قدر ثروة الثلاثة بـ “885” مليار دولار حتى يوم الاثنين هذا.
المتابعون للشأن الأمريكي، يجمعون على أن هذا التقارب لا بد وأن يكون له ما بعده خلال فترة ولاية “ترامب” الثانية، ليس تقديرا للتغييرات المحتملة في السياسة الضريبية والتجارية، ولكن أيضًا بسبب قضايا خاصة بأعمال هذه الشركات. فشركة “ميتا” تواجه محاكمة محتملة بتهمة الاحتكار، بسبب دعاوى من لجنة التجارة الفيدرالية، على أنها تصرفت بشكل غير قانوني للحفاظ على احتكار الشبكات الاجتماعية الشخصية.
وبهذا الحضور الرسمي لسادة النساء –من خلال شركات الإعلانات والخدمات التي يستحوذون عليها- سادة المال والتكنولوجيا والأعمال، يكون “ترامب” قد أسس لمنظومة حكم جديدة لم يسبقه إليها أحد من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، وهي “حكم الأوليغارشية الرأسمالية” على غرار “الأوليغارشية الإقطاعية” البائدة، والتي ستخضع سياسة البلد بشكل عام، لإرادتها الخاصة وبما يتماشى وسياساتها الاقتصادية والتجارية. للإشارة، وعلى الرغم من تداول عائلات بعينها على ولوج البيت الأبيض، إلا أن الأمريكان ظلوا يتحاشون هذا التوصيف المرتبط عضويا بالنظم الدكتاتورية المنغلقة وبالطبقية الاجتماعية غير العادلة.