في الذكرى الـ 13 لاندلاع مظاهرات 17 ديسمبر 2010 في تونس، ينصبّ الإعلام العربي على مناقشة كل كبيرة وصغيرة في بلاد يسعى رئيسها المنتخب، قيس سعيّد، إلى إخراجها من التجاذب الإيديولوجي المنطلق من دول الخليج، إذ يريده “التطبيعيون” إلى جانبهم، بينما ـ في الطرف الآخرـ يلومه خصومهم ـ من بقايا ما يسمي بـ “الربيع العربي” ـ لأنه تجرأ على إيقاف نزيف الدولة التونسية تحت مسمّى الديمقراطية التي اتخذتها حكومات سابقة ذريعة للّعب بمستقبل البلاد.
لكن الرئيس سعيّد اختار أن يتصرف بروح من الاستقلالية التامة ـ بعيدا عن هؤلاء وأولئك ـ مستعينا بالدعم الشعبي الذي يحظى به، وبوقوف الجزائر إلى جانب الدولة التونسية المستمرة على نهج مبادئها السامية.
وفي مثل هذا اليوم قبل 13 عاما ـ في 17 ديسمبر 2010 ـ أقدم الشاب محمد البوعزيزي من ولاية سيدي بوزيد على إضرام النار في نفسه، احتجاجا على أوضاع اجتماعية صعبة، ورفضا لظلم اعتبر أنه سلط عليه دون وجه حق.
وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد قرر ـ عام 2021 ـ تغيير تاريخ الاحتفال بذكرى أحداث 2011 من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر من كل عام، معتبرا أن التاريخ الأول “غير ملائم”، وعلّل سعيّد قراره بأن شرارة الاحتجاجات انطلقت “من سيدي بوزيد ولكن للأسف تم احتواء (الثورة)”.
وإثر وفاة البوعزيزي، انطلقت مظاهرات عارمة انتهت بتغييرات عميقة في بنية الحكم بتونس، لكنّ الأوضاع لم تتحسن، وسارت معظم الحكومات في نهج سمح باختراق مؤسسات الدولة التونسية، إلى أن تم انتخاب الرئيس سعيّد عام 2019، ليعلن اعتزامه إعادة تونس إلى نهجها الصحيح.
مواجهة الفساد ولو بالصّلح الجزائي
قال الرئيس قيس سعيّد ـ يوم الجمعة ـ إنه سيصدر مرسوما لتعديل قانون الصّلح الجزائي يفرض على رجال الأعمال الموقوفين في قضايا فساد وجرائم مالية دفع الأموال المطالبين بإعادتها مقابل مغادرتهم السجون.
وعرض الرئيس التونسي ما أسماه بالصلح الجزائي في مرسوم أصدره في 2022، على عدد من رجال الأعمال الملاحقين في قضايا فساد مالي، يفرض عليهم إطلاق مشاريع استثمارية في المناطق الفقيرة.
وقال سعيّد في اجتماع مع رئيس الحكومة ووزيرتي العدل والمالية إنه سيعرض تعديلا في اجتماع مجلس الوزراء المقبل، مضيفا – في كلمته – أنه يتعيّن على الموقوف أن “يدفع أموال الشعب ليخرج من السجن.. تهريب الأموال لا يزال مستمرا.. يريدون تجويع الشعب وخلق المشاكل داخل البلاد”.
وتابع: “المطلوب منا اليوم تطهير البلاد.. لقد طفح الكيل”، ويؤكد الرئيس سعيّد في تصريحاته أن الفساد متفش على نطاق واسع في مؤسسات الدولة، وأنه عازم على محاربته بكل قوة، وأنه لن يقبل بأي ضغط تمارسه قوى أجنبية ضده”.
وسبق أن انتقد الرئيس التونسي أداء لجنة الصلح الجزائي خلال زيارات أداها إلى مقرها، داعيا إلى وضع حد لما أسماه بـ”التراخي” في معالجة ملفات الفساد المعروضة عليها، مشددا على ضرورة أن يستعيد الشعب أمواله التي نهبت منه.
ولم يتم تعيين رئيس جديد للجنة الوطنية للصلح الجزائي بعد أن أقال سعيّد رئيسها “مكرم بنمنا” في مارس الماضي، فيما صدر أمر رئاسي في ماي الماضي بالتمديد لأعضائها مدة ستة أشهر، في خطوة اعتبرها متابعون للشأن التونسي “الفرصة الأخيرة” للجنة لتحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها.
ويعتبر سعيّد أن استعادة الأموال التي راكمها رجال أعمال خلال العشرية السابقة ـ وما قبلها ـ عبر عقود وصفقات ثبت فسادها، من شأنها أن تشكّل أحد المنافذ للأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. وأعلن مرارا أن البلاد تخوض معركة تحرير وطنية ضد المفسدين واللوبيات، وحضّ القضاء على الاضطلاع بدوره في محاسبة كلّ المتورطين في الفساد أيا كانت مكانتهم أو انتماءاتهم، مؤكدا أن لا أحد فوق القانون.
وفي 2021، قدّر حجم الأموال التي يطالب باستعادتها من قائمة تضم 460 من رجال أعمال متورطين في جرائم مالية، بـ13.5 مليار دينار تونسي (حوالي 4.5 مليار دولار أمريكي) نهبت من المال العام.
رؤية مشتركة
ورغم ما يبذله الرئيس سعيّد من جهود لإصلاح الأوضاع في تونس، إلا أنه غالبا ما يتعرض لهجمات إعلامية منظمة بسبب موقفه المتطابق مع موقف الجزائر إزاء مبدأ تأييد القضية الفلسطينية ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وفي أكتوبر الماضي، دعا الرئيس التونسي الشعب إلى الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، مؤكدا أن “المعركة” اليوم هي “ضد الصهيونية العالمية”، وجاء ذلك في كلمة لسعيّد خلال إشرافه على مجلس طارئ للأمن القومي، إثر المجزرة الصهيونية في مستشفى “المعمداني” بغزة وأسفرت عن استشهاد مئات الأشخاص وإصابة آخرين.
وقال سعيّد ـ حينذاك ـ “من حق التونسي ككل الشعوب الحرة في العالم أن يعبر عن موقفه الثابت من الحق الفلسطيني”، وأضاف: “ندعوه إلى الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وألا يتعرض لأحد لا في جسده ولا في ملكه ولا في عرضه”.
وأردف: “هذه مجازر ترتكب كل يوم في حق الشعب الفلسطيني في ظل صمت دولي، والعالم كله يشاهد جرائم إبادة جماعية ومحاولات تهجير قسري”، وأكد أن “المعركة اليوم هي ضد الصهيونية العالمية”.
وكانت هذه العبارات الواضحة والصريحة بمثابة الصاعقة التي نزلت على رؤوس كيانات التطبيع التي تمارس خبثها علنا، وحتى تلك التي تمارسه سرا فيما تدعي عبر منابرها الإعلامية تأييدها للقضية بالكلام فقط.
وكان رئيس مجلس نواب الشعب التونسي، إبراهيم بودربالة، قد أكد يوم الخميس 26 أكتوبر الماضي، بالجزائر العاصمة، توافق الرؤى بين الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، ونظيره التونسي، قيس سعيّد، إزاء القضايا ذات الاهتمام المشترك.
وفي تصريح له عقب استقباله من طرف الرئيس الجزائري، أكد بودربالة وجود “تناغم بين قيادتي البلدين” حول المسائل المشتركة، مبرزا أهمية “بناء علاقات أفقية بين الشعبين الجزائري والتونسي تشمل كافة المستويات”.
وأضاف بودربالة أن “التحليل الذي قدمه الرئيس تبون للواقع الذي نمر به والنظرة الاستشرافية لمستقبل العلاقات “الجزائرية-التونسية” يجعلنا نطمئن على الحاضر ومستقبل أجيال البلدين”، مشيرا إلى أن “اختيار الوفد البرلماني التونسي للشقيقة الجزائر في أول زيارة له خارج البلاد يعود إلى متانة العلاقات التي تربط بين البلدين، وكذا الماضي والحاضر المشتركين والأمل في بناء المستقبل”.
وقبل تصريح رئيس مجلس نواب الشعب التونسي، إبراهيم بودربالة، كان رئيس حكومة التونسية، أحمد الحشاني، قد أكد بالجزائر العاصمة، انسجام مواقف ووجهات نظر رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، ونظيره التونسي، قيس سعيّد، إزاء العديد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.