ما الذي تعنيه عبارة: «الزّمن الجميل»؟ هل هي تعني الحنين إلى الماضي لأنه كان جميلاً فعلاً؟ أم هي اعترافٌ أنّ كل الجمال الذي يضجُّ به الحاضر، هو جمالٌ مُزيّف في مظاهره وروائحه ومذاقاته وحتى أفكاره وقِيَمه؟ ربّما هي عبارة لـ «طلب النّجدة» من مُستقبلٍ قد نفقد فيه أصالتَنا وروحانيّتنا وتستسلم للماديّة الغربيّة المتوحّشة؟ ولعلّ العبارة لا تعني الحنين إلى زمنٍ كان جميلاً بقدر ما تعني الحنين إلى زمنٍ أصيلٍ في العمل والمعاملة والتعليم والقِيَم.. وفنِّ «عيش الحياة» بكل محبّة وصفاء وإخاء!
كثيرًا ما نسمع عبارة «الزمن الجميل»، خاصة في مقام «التّحسُّر»، على أمور مرتبطة بالقيم والتقاليد والعادات اليومية للمُجتمع.. كما نسمع تلك العبارة عند مشاهدة فيلم بالأبيض والأسود، أو نستمع إلى أغنية طربيّةٍ جمعَت بين الصوت الغنائي الأصيل، والكلمة الحافلة بالمعاني الراقيّة، واللّحن المُتدفّق الذي يرتقي بالروح إلى السّماوات، أو عندما نقتني أشياء صُنعِت بجودةٍ وإتقانٍ كأنّما الإتقان ذاته صار ماركة مُسجَّلةً للماضي.. ولعله من الطّريف أنّ عبارة «الزمن الجميل» نسمعها أيضًا من جيلٍ لم يعش ما يُمكن أن نسمّيه: «عصر القِيَم المجتمعيّة»، وربّما عايشها سماعًا من أجيالٍ قَبله أو تابع بعض تفاصيل «الزمن الجميل» فيما تمّ حفظه من صورٍ وفيديوهات وكتابات!
ورغم كل ما أتاحته التكنولوجيا من وسائل سهّلَت شؤون الحياة اليومية في التنقّل والمواصلات، والاتصال والتواصل، والاقتصاد في الجهد والوقت في كل الأعمال: من التعليم والبحوث والدراسات إلى الفلاحة والبناء.. وصولا إلى الطبخ وشؤون البيت.. رغم كل ذلك فإنّ الذين عاشوا زمن قناديل الزيت والشموع ووبور الغاز وقسوة الحياة ذاتها.. يحنّون إلى الزّمن الجميل والحياة التقليدية، فأين يكمن السرّ في هذا الحنين؟ وما معنى الزمن الجميل؟
عندما يُذكَر الرّيف والحياة المرتبطة بالأرض، يُذكر الزمن الجميل، وكأن الرّيف ما زال يحتفظ ببعض أسراره! وكأن المدينة جنَت على الزّمن الجميل! فهل الحديث عن هذا الزمن هو حديثٌ عن الأصالة ومنظومة القيم المجتمعية والعلاقات بين الناس؟ أم هو حديث عن المذاقات الطبيعية في عصر تكاد حتى الفواكه أن تفقد مذاقاتها ونكهاتها.. والأطعمة على تعدّد أصنافها وألوانها لا تكاد تُقارن بأطعمة «الزمن الجميل» رغم بساطة مكوّناتها و«بدائية» طُرق تحضيرها وإعدادها!
في مدار فكرة «الزّمن الجميل»، توجّهت جريدة «الأيام نيوز» إلى نخبة من كتّابنا وأدابائنا العرب بهذه التساؤلات: كيف تفهمون الزمنَ الجميل وهل تحنّون إليه؟ وما هي ذكرياتكم عنه؟ وهل تعتقدون بأنّ الزمن ينحدر في سلّم الجمال من سيّء إلى أسوأ؟ وماذا عن الأدب والثقافة في الزمن الجميل؟ أليس في الإمكان استعادة الزمن الجميل بمقوّماته التي جعلَت منه جميلا رغم صعوبة الحياة فيه؟
نزعم أنّ «الزّمن الغربيّ» أفسد «الزمن العربي»، وماديّة الحضارة الغربيّة تسلّلت إلى روحانيّة الشرق فكادَت أن تلوّثها وتعبث بعناصر أصالتها، فكل مظاهر القُبح التي شاعت في المُجتمعات العربيّة، مرتبطةٌ بمنتوجات الغرب وحضارته التي تكاد أن تتبدّى في كل شؤون حياتنا وتفاصيلنا وأفكارنا وفنّ: كيف نحيا الحياة على طريقتنا الأصيلة التي توافق موروثنا الحضاري وبناءنا النّفسي.. ولن نذهب بعيدًا في هذا الاتجاه، فالزمن الجميل مرتبطٌ بالثقافة والحضارة كما يجب أن نفهمهما في سياقنا العربي والإسلامي، وليس وفق الفهم الغربي. ونكتفي بهذه القُصاصة من محاضرة ألقاها «طاغور» في جامعة «طوكيو» يوم الثامن عشر جوان 1916، ونشرتها مجلة «أوت لوك» الأمريكية في شهر أوت من العام نفسه، وحفظ «رومان رولان» بعضًا من فقراتها في يومياته. يقول «طاغور» مُخاطبًا شباب المُجتمعات الشرقية عمومًا:
«إنّكم لا تستطيعون أن تقبلوا الحضارة الحديثة كما هي. إنّ واجبكم أن تُدخِلوا عليها التغيير الذي تتطلّبه عبقريّتنا الشرقية. وواجبكم أن تبثّوا الحياة حيث لا يوجد إلّا الماكينة، وأن تستعيضوا بالقلب الإنساني عن حسابات المصلحة الباردة، وأن تُتوِّجوا الحقَّ والجمال حيث لا سلطان إلّا للقوة الغاشمة والنجاح اليسير. إنّ حضارة أوروبا نَهِمة ومُسيطرة، تلتهم البلاد التي تغزوها، إنّها تُبيد الأفراد والهيئات والشعوب التي تعوق مسيرتها الفاتحة. إنّها حضارة.. تستسيغ لحوم الآدميين. إنّها تقهر الضعفاء وتَثرى على حسابهم، إنّها آلة للطّحن. إنّها تبذر، أينما ذهبَت، الحسدَ والغيرة والشِّقاق.. إنّها حضارةٌ تصنع الفراغ حولها. إنّها حضارة علمية لا إنسانية».
قبل أن تضيع الحكمة في أزّقة المدينة الصاخبة..
من يحمي هويّة الريف من زحف العولمة؟
ختام زاوي – كاتبة من تونس
قد بلغَت الكلاسيكية أوجها، وتسنَّمَت ذروة السيطرة والذُّيوع في الرواية العالمية، والتي تأثَّرت بلا شك بالإيديولوجيات القديمة. وبالرغم من قدرتها الفائقة في تصوير العوامل النفسية والاجتماعية التي عايشها الإنسان الشعبي في ظل الحروب، فإنّ معظمها قصص وروايات وتاريخ قد أكسبها تشريفًا كبيرًا بدورها المعالج لقضية الصراع الآدمي في إثبات هويته الفردية أو الجماعية.
ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إنّ الكاتب أو الشاعر اعتمد أسلوبًا عريقًا، وتغنّى في شعره بالقدماء وبضرورة اتّباع قوانينهم واحتذاء حذوهم. وبذلك اصطبغَت النهضة الأدبية في القرون الوسطى منذ البدء بصبغة التقليد القديم. ونحن إذا قلنا “نهضة”، عنينا بها مدلولًا واسعًا، وهو ذلك الانتعاش الذِّهني الشامل الذي تناول نشاط الإنسان في كافة نواحي حياته ومرافق معيشته. بل هي حركة عظيمة ساهمَت في إحياء العلوم والفنون التي غيّبها الانغلاق المكاني ورفض الآخر. فكانت النهضة تطرح فكرة الانفتاح كأنموذج يساهم في تبديل حالة المجتمع وتطوّر نُظم الحياة.
ولعل من أسبابها الأولى، حين سقطَت مدينة “قسطنطينية”، في القرن الخامس عشر على أيدي الأتراك، فرّ منها علماء اليونان حاملين كُتبهم ومخطوطاتهم الإغريقية، حيث لجأوا إلى إيطاليا وأخذوا يعلِّمون في جامعاتها وينشرون ما معهم من نفائس العلم وذخائر المعرفة. أمّا أوروبا نفسها، فكانت مُتيقِّظة وذات رغبة عظيمة وظمأ شديد للتزيُّد من المعارف والتوسُّع في المعلومات. فما إن حدثَت الهجرة حتى لاقت جوًّا صالحًا للبحث والدراسة وتعضيد الحركة الإحيائية، مِمَّا عاد عليها بالغِنى والأموال والثروة وانتشار الرّخاء ووفرة الأقوات. ولعلهم تنافسوا أيضًا مع أمراء الدويلات العباسية العديدة في اجتلاب الشعراء والعلماء والأدباء. ولكن كيف تناول المُفكِّرون أفكارَهم وآراءهم من العصور الوسطى؟ وكيف خلّدوا هذه الحقائق “البيولوجية” في الأدب؟ وما هي الصلة التي تربط بين عهد ماضٍ منصرم وعصر قادم جديد؟
مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المعاصر “القارئ”
إنّ الذاكرة الأدبية تكاد تخلق شخصيات تاريخية في خيال القارئ، يحدِّثها حينًا ويسامرها أحيانًا، مُتطلِّعًا إلى تلك الحقبات الفائتة، لأنه يرى فيها (الشخصيات) مفهوم “الإنسان”، تلك الطبيعة التي تحكمها العصور الماضية. فتحدَّثت المخطوطاتُ الأدبية عن الانتقال الحضاري مع التشبُّث بالتقاليد. فكانت حبلاً طوّق عقل القارئ. وقد أثبتَت له أن هدم حضارة ما لا يعني أبدًا تلاشيًّا لتاريخها ومقوّماتها الحياتية في ذلك الزمن الغائب. فتعلق بإرثه الثقافي، وأصبح يتوق له ويخلق منه أساطير يفتخر بها أمام الأمم.
وربما تناول الكاتبُ الزمانَ كعنصرٍ هامٍّ داخل بنية روايته، لأنه يدرك سمة ديمومة الزمان في إعطائه وجودًا حقيقيّا. ومَردُّ ذلك إلى أنّ الرواية فن قصصي، و”القَصُّ هو أكثر الأنواع الأدبية التصاقًا بالزمن”. ذلك أنّ “كل قصة تقتضي نقطة انطلاق في الزمن”. ولا بدّ لها من جذور ضاربة في الزمان، وليس أدلّ على ذلك من البداية الاستهلالية لمعظم حكاياتنا الشعبية (كان يا مكان في سالف العصر والأوان)، تلك البداية التي تدلّ على أنّ الزمان هو وسيط الحياة والموضوع الأزلي الذي شغل الإنسان في كل قصة يحكيها، ذلك أنّ هذه الذات تنمو وتتحدّد معالمها في كنفه.
أمّا من جانب آخر، فعنصر الزمان وتشخُّصه في تجليّاته المختلفة هو فن تجميع الأحداث الوجودية الذي يسمح للذات بأن تؤمِّن استمرارية هذا التواصل مع الماضي، نتيجة فرزٍ دقيق بين الذكريات المقبولة والأخرى غير المقبولة، بطريقة سردية لا شعورية. ظهرت من خلاله علاقة جدلية بين الذاكرة وهوية الفرد. ولعل رواية “بين بابين” للكاتب اليمني المبدع “بدر أحمد علي” هي بحث ذاتي سيكولوجي عن الهوية وعن السببيّة والغاية ممّا حدث وما يحدث للبطل/ الذات في الزنزانة.
فإنّ البطل/ الذات يحاول دومًا التغلُّب على وحدته من خلال فضاءات للتأمُّل المنعزل والعيش على ما تجود به الذاكرة ليستطيع أن يتحمّل السجن والظلام الذين يعيش فيهما، يقول الكاتب “بدر أحمد علي”: “ولربما كان للظلام الفضل الكبير في صمودي كل هذه الفترة، في ظل هذه الظروف القاسية! فالظلام يغمرني لساعات طويلة من اليوم، يعقبه أوقات ضئيلة من الضوء. هذا التّعاقب الرتيب غدَا رياضة لذهني، ورياضة لخيالي الذي يحاول الانطلاق بكل جموحه، ليعوّض عن افتقار العقل والحواس إلى الدافع الاجتماعي، والمعايشة اليومية للناس والأحداث”.
إنّ اشتغال الذاكرة هو توليد للهوية بشكل مُتجدّد باستمرار في كل عملية سردية. لذلك فإنّ الحنين إلى الزمن الجميل، وتوظيف الماضي مع تكثيفه ودمجه، والتركيز على الأحداث المفعمة وجدانيًّا، أصبح كفسيفساء تصوِّر مجد الغابرين وتستحضر أرواحهم وآثارهم في كل مكان.
ولكن ما هي الموروثات الثابتة التي ذكرها الروائيّون في نصوصهم؟ وكيف يؤثِّر الحنين في الموروث ويدفعه إلى تشكيل الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات؟
نافذة على ذاكرة الموروث
الذاكرة، في جوهرها الأعمق، تمثِّل آلية مُعقّدة تستدعي التراثَ المادي والروحي لأمّة من الأمم، حيث تنسج خيوط الزمن لتربط الحاضر بالماضي. فالذاكرة التاريخية، على وجه التّحديد، ترتكز بثبات على الأرض التي تشكّل جذر الوجود لكل أمة. ومن هنا، يصبح الهدف الأسمى للأديب، بل وحتى للإنسان العادي، هو التشبّث بأرضه باعتبارها امتدادًا لوجوده الأول ومصدر هويته العميقة. فتظل هذه الأرض راسخة في وجدانه، تنبض في إبداعاته التي تجسد ارتباطه الأزلي بها، سواء كانت تلك الإبداعات أدبية أو فنية أو بأيّ شكل من أشكال التعبير الإنساني.
وبناء على هذه النظرة، فإنّ الرواية الزمكانية التي يتفاعل فيها عنصري: المكان والزمان، تناولت مأساة الشخصية (البطل) وصراعه الأبدي في الخروج من شرنقة العقائد مع تعلّقه بروحانية المكان في آنٍ واحد، ولعل هذا الأنموذج مختلف في طريقة تناول الموضوع، فهو يقدِّم إجابة جزئية على الفرق بين الريف والمدينة، ولا يمكن القول بأنّ أحدهما أهمّ بشكلٍ مطلق، ولكن الأعمق هو الذي يخدم الموضوع المركزي للرواية ويدعم النمو الداخلي للشخصيات، فالرّاوي الحاذق هو من يستطيع استخدام الريف والمدينة بشكل متكامل، للكشف عن أبعادٍ مختلفة للوجود الإنساني ويضفي على روايته غِنى فلسفيًا وفكريًا.
أمّا من ناحية أخرى، فالقطعة الأدبية، في جوهرها، تقوم على نبض العاطفة.. تلك العاطفة التي تتسامى أحيانًا لتصل بنا إلى ذُرى المشاعر، وأحيانًا تنحدر لتلامس أعماق الوجدان. من هنا يتبيّن أنّ الأدب الرفيع لا بدّ أن يكتسي بوشاح الأخلاق السامية، فهو ذلك الفن الذي يوقظ في أرواحنا الأحاسيس السليمة، تلك التي لم تلوّثها شوائب الأهواء، فيغذّي في أعماقنا جوهر الطبيعة الإنسانية، ويُحيي هويّتنا، ويرحل بنا إلى أزمنة مضت، حيث كانت الحياة أصفى وأرقى. وفي هذا الصدد، تبدو الحاجة ماسة إلى الرواية الريفية، تلك التي تغوص في عمق حياة الريف، لا مجرد بيئة طبيعية بسيطة، بل كحالة وجودية تتعارض مع ضوضاء المدينة وضجيجها.
ويمكن أن نقول أنّ الكتابة عن الريف سوف تستمرّ لأنه بمثابة “الأم القديمة” للمدينة، ولأنّ روح المكان تأتي من الذين مكثوا فيه ومَن الذين مرّوا من هنا أيضًا ومنحوه من أرواحهم وحكاياتهم وهمومهم وأسئلتهم.. لتظل ذاكرة فردية وجماعية لا تُمحى بسهولة.
فالرواية الريفية إذًا تُعزّز من قيمة الارتباط بالأرض كجزء لا يتجزأ من هوية الإنسان، وتعتبر هذا الارتباط حكمة بديهية تضيع في أزّقة المدينة الصاخبة. وفي هذا الإطار، يتحوّل الريف إلى رمز للتوازن الطبيعي، للأصالة المتجذّرة، وللحقيقة الزمكانية التي ينشدها الأدب العميق.
ورغم أنّ التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة قد جلبَت أساليب الحياة الحضرية إلى القرى، يظل الريف في الرواية ملاذًا أكثر أمانًا من المدينة. ومع ذلك، يظل الخوف الأكبر هو تآكل الهويّات الريفيّة في ظل العولمة التي لا ترحم.
من أصداءِ الحنين..
ريفٌ سعيدٌ وفلاحون تعساء!
بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد – كاتب من مصر
أنا لست أنسى قريتـي وهوَى الربيعِ يَزورها
ينسابُ فــــي أعماقِها فجــــرًا سقاه سرورُها
فتمُوجُ فيــــه حـــقــولُها ونــخيلُها وطيورها
وعلى صِياحِ دَجاجها الوثَّابِ تصحو دُورُها
تستقبلُ الفـجـــرَ الجميلَ وقد أطلَّ ينيرها…!
هذه مقطوعة من قصيدة “الربيع في القرية” للشاعر “فوزي العنتيل”، كنّا ندرُسها ونحن طلاب في المرحلة الإعدادية، وأذكر أنني كنت مفتونًا بصورِها وموسيقاها، أترنَّمُ بترديدها وإنشادها، وألتذُّ بوقعها وإيقاعِها، وأجد بيني وبين صاحبها مشابه وموافقات؛ فأنا أسكن في قرية تشبه تمامًا تلك القرية التي يتحدّث عنها، وتحيط بي الأجواءُ التي يعبِّر عنها ويصوّرها: الينابيع الشهية حين يرقّ هديرُها، والسواقي الضاحكات حين ينداح خريرُها، وأجنحة النسائم والحنان يثيرُها، وأفراح الحقول، والسنابل الذهبية المتراقصة المترنحة، والأطفال يهيمون على ناي الحقول، ويقفزون فوق أمواج الضحى، ويرتمون في الجدول المتدفّق، ويَطفون بأجنحة كأجنحة الفراش المتعَب:
والعائدون من الحــــقول مع انتفاضات المغيب
وأمامهم أبقارُهم… في خَــطوِها التعَبُ الرتيب
وخُوارُها مِلْءَ الفضاء يعجُّ في الأفق الرحيب
ولكن لا أدري لماذا كنت أحسُّ أنّ القصيدة، كما درسناها، ينقصها شيءٌ ما، وأنّ القرية التي كنت أعيش فيها، ولا أزال، ليست بهذه الصورة الرومانسية السعيدة، وأن ثمة جانبًا آخر محزنًا وموجعًا، يُكمل الملامح ويتمّم اللوحة؛ وكان عليَّ أن أنتظر بضعة أعوامٍ حتى يقع ديوان “عبير الأرض” بين يدَي، وأقرأ فيه ما كنت أنتظره، ممّا لم يكن مقرَّرًا علينا ومُختارًا لنا:
وهناك ليلُ المُتعَبين الكادحين المجهَدين
الجــائعين الظـــــامئين القانعين الهانئين
ثم وجدتُ الأمرَ نفسَه يتكرّر في قصيدة “ذكريات القرية” للشاعر “كمال نشأت”؛ وهو يتحدّث عن أيامٍ ولَّت كما ولَّى الهَناء، حيث ملاعبُ الأطفال تحت النخيل، وظلَّة الليمون، والتّرعة التي تخطر في الأرض الوسيعة:
والبطُّ يَسْبَحُ تحت ظل البُوصِ في البِرَك العَشيبة
والنَّـــورَجُ الــــــدوَّار يلهث فوق أعوادٍ صخوبة
والشايُ تحت شُجيرة الجميز فـــي أصباح طوبة…
وإذا تقشَّعت السماءُ وشحَّت العيـــــــــنُ الصبيبة
نبني من الطين السدودَ ونسرِق الــــذُّرَة الرطيبة
نَشوِي ونأكلُ والـــــرفاقُ كأنـــــــهم قِطَطٌ لَعُوبة
والعيد حيــن نميس في الطرقات بالحُلل القشيبة
وقــــروشُنا بجيـــوبنا ينـــبوع أحـــلامٍ خصيبة
ثم لا يكاد يعرض لنا هذه الذكريات المرحة الفرحة حتى يفاجئنا بأنه لا ينسى أرضَه السمراء وقصصها الدامية، وموسم القطن البئيس حين يركد السوق وتتراجع الأسعار، وقصة الطغيان وعين المراقبين:
والقُـوتَ.. كَدَّ شهورِنا العجفاءِ يؤخَذُ في الضريبة
والسَّوطَ.. سَوطَ الجند.. يحفُر فوق أوجهنا دروبَه
وعــــــويلَنا لمَّا مضَوا بأبي إلــــى بلــــــدٍ غريبة
والقيــــدُ بين يـــديه والطـــرقاتُ خـــــــاليةٌ كئيبة
وعـلى فِــــــراش القَشِّ تسفح أمُّـــنا دمعَ المصيبة
وأذكر، تأكيدًا لهذه المعاني، أن للأستاذ “أحمد حسن الزيات” مقالًا في الجزء الأول من كتاب “وحي الرسالة”، ذهب فيه إلى أن الريف في أيام الخريف يكون بنجوة من الهمِّ وسلامةٍ من الكآبة؛ فالأهراء طافحةٌ بالحَبّ، والمخازن مفعمةٌ بالقطن، والغيطان كاسيةٌ بالزرع، والجيوب غنيةٌ بالمال، والنفوس رخيةٌ بالرجاء؛ ولكنه تساءل: ما بال فِتيان القرية وفتياتها على غير ما نعهد: يمشون ساهمين ويقفون واجمين، كأنما غاب عن كل عينٍ حبيب، ومات في كلِّ نفسٍ أمل؟
وأجاب: ماذا يصنعون يا صديقي والدائن يقتضي (القسط)، والصراف يطلب (المال)، والمالك يريد (الإيجار)، والأسْرة تبتغي (الكسوة)، والقطن وهو سدادُ هذا العوَزِ كله يصبح عقدة المشكلة وغلَق الأزمة؟ فثمنُه البخسُ لا يفي بتكاليف زرعه، بَلْهَ ما يُحمَلُ عليه من الأسباب ويُناط به من المنى؟
ولعلَّ “طه حسين” كان أقرب إلى الواقع حين تجاوز تلك الصورة التي تقدِّم الريف على أنه مَراحٌ ومستراح، يحيا أهله حياة وادعةً هانئة، لا يجدون فيها بؤسًا ولا شقاءً، وحدّثنا في مقدمة كتابه “المعذبون في الأرض” عن فريق الكثرة الكثيرة الذي لا يجد ما ينفق في رزق نفسه وفي رزق مَن يعول، فيشقَى بما يجد من الحرمان، ويشقى أشدَّ الشقاء وأعظمه نكرًا بما يجد عيالُه من الحرمان؛ كانت عينُه بصيرةً إلى أبعد ما يبلغ البصر، وكانت يده قصيرةً إلى أدنى ما يكون القِصَر، كان يرى الطيّبات بين يديه فتتوق إليها نفسُه، وتتوق إليها نفوسُ بَنِيه وبناته، فإذا أراد أن يمدَّ إليها يدَه أبَت أن تمتدَّ كأنما أصابها شلل، أو كأنها شُدَّت إلى سائر جسمه بالأغلال؛ فكان يكظم غيظَه ويصبرُ نفسَه على مكروهها، ويصبر أهله على البأساء والضرّاء، وينتظر العدلَ الذي يبطئُ عليه فيغلو في الإبطاء.
وكان يرى الآفاتِ المختلفةَ تصطلح على جسمه ونفسِه، وعلى أجسام عِياله ونفوسِهم، ويهمّ أن يصلح ممّا تفسده تلك الآفات، فيقصر به همّه ويقعد به عزمه، ويضطر إلى أن يسلم نفسَه وأهلَه لهذه الآفات تعبث بهم كما تريد، وقد وطَّن نفسَه على الجهل لأن أباه لم يستطع تعليمَه، وهمَّ أن يُخرِج عيالَه من الجهل الذي اضطُّرَّ هو إليه، فلم يجد إلى ذلك سبيلًا، فرضيَ الجهلَ لبَنِيه كما رضيَه لنفسه، وانتظر العدلَ الذي يتيح لبنيه من المعرفة ما لم يُتَح له في صباه، ولكن العدلَ يبطئ عليه وعلى بنيه فيغلو في الإبطاء.
وقد عاينتُ بنفسي آخرَ الظلالِ الكئيبة لهذه الصورة البائسة، ورأيت في قريتي الصغيرةِ معاناة كثيرٍ من الفلاحين البسطاء، وهم يكافحون الفقرَ والحرمان، ويتركون القرية التي ضاقت عليهم، وضاقت بهم، ولا يملكون فيها، إذا ملكوا، إلا بضعة قراريط لا تفتح بيتًا ولا تُشبع أسرة، فيخرجون في “التّرحيلة” إلى حيث يشاء مقاول الأنفار، ومنهم من يأخذ أبناءه أو إخوتَه، ولا يبقى في بيته إلا القواعد من النساء أو العجائز من الرجال. ولن أنسى أبدًا ساعةَ كنت أذهب لأراهم وهم يُحمِّلون أمتعتهم من قُفَف ومَقاطِف وفؤوس في عربة التّرحيلة المكشوفة، وكانوا يسمّونها “عربية شعيب”، نسبةً إلى صاحبها، وقد كُتب على كلِّ قفة اسمُ صاحبها، (هل أذكرُ أنهم كانوا يستعينون بي أحيانًا في كتابة هذه الأسماء؟!) ثم يصعدون واحدًا وراء الآخر حتى تكتظ بهم القاطرة، وحين تتحرّك العربة تضطرب القلوب، وتدمع العيون، وترتعش الأصوات، وتعلو نداءاتٌ مُبهمة من هنا وهناك، وحين تختفي عن الأنظار يرتفع النّحيب والنشيج، حزنًا على من سيغيبون عن القرية أربعين يومًا أو ستين.
ولن أنسى أيضًا يوم عودتهم، نعرفه حين ينادي بعضُ الصِّبية: “الترحيلة جَت جَت”، يعني جاءت ووصلت، حيث كان أهلُهم يتجمعون لاستقبالهم في فرح عجيب، كأنهم جاءوا من بلدٍ غريبٍ بعد غيابٍ طويل، وكان بعضهم يحرص على أن يكون حليق الذّقن نظيف الثياب؛ حتى لا يؤذي أهله بما يمكن أن يبدو عليه من آثار التّعب والشقاء، وأكثرهم كان يؤجِّل ذلك إلى ما بعد عودته والأنس بأسرته. ومن الطّريف أنّ بعض الشباب منهم كان يعمد يوم الجمعة الأولى بعد عودته إلى أن يخضّب بطنَ كفيه وقدميه بالحنّاء، ويستحمّ ويتطيّب برائحةٍ نفاذة، ويحرص على أن يلبس جلبابًا أبيض شفافًا، يضع في جيبه الأمامي بعض الأوراق المالية، يجعل فوقها “ورقة بعشرة جنيهات”، يحاول جاهدًا أن يُلفت الأنظارَ إليها، ليؤكد للناس أنه صار يملك ما يكفيه ويغنيه. أمَّا رفاقي وزملائي مِمّن ذهبوا مع آبائهم أو إخوانهم، فقد كنت أنتظرهم في شوقٍ ولهفة، لأنني كنت وحيد أبويَّ، ولا أذهب إلى “الترحيلة”، ولا إلى جمع الدودة، ولا إلى جني القطن، وكانت حكاياتُهم عمّا رأَوه هناك، صحيحةً كانت أم كاذبة، مصدر متعة وإثارة بالنسبة لي، ورغم ما كنت أعرفه عمّا يلاقونه من عناء، كنت أغبطهم على رحلتهم بعيدًا عن القرية، حيث يرَون ما لا أرى، ويعرفون ما لا أعرف، ويجرّبون ما لا أجرّب.
ومن العجيب في أمر هؤلاء الكادحين المكافحين أنهم كانوا يرضون عن حالهم رضًا ساذجًا، لم أجد له تفسيرًا مقنعًا غير إيمانهم الفطري بقضاء الله وقدره، وهو ما ذهب إليه الدكتور “محمد حسين هيكل” في قصته “هكذا خُلِقَت”؛ وهو يتحدّث عن قريةٍ كان سائر أهلها يمضون حياتهم كادحين في غير مَلل، مؤمنين بأنّ الله قسم الحظوظ، وأنَّا “لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” (التوبة: 51). ولم يكن جمال الريف وحده الذي يأخذ بناظري، بل كان لي من الطمأنينة إلى أهله حظٌّ عظيم، وكيف لا أطمئن إليهم وأنا أرى من مظاهر ورعهم وتقواهم ما يثير إعجابي.
لقد كنتُ أخرج مع والدي أحيانًا بعد الغروب، فأرى أحدَهم يقوم لصلاة العِشاء في مُصَلّى ساذج، مفروش بالحلفاء على حافّة التّرعة، بعيدًا عن الأعين، فيهتزّ لذلك قلبي، وتتأثر بهذا المنظر كل مشاعري. فهذا الرجل المُنفرد وسط لا نهايات المزارع في هذه الساعة من المساء، يدعو ربَّه ويستغفره، كان مثال الورع في نظري، ولم يدُر بخَلدي في تلك الأيام من طفولتي وبَدءِ صباي، ما عساه يدور برأسه من أفكارٍ، قد لا يرضى الله عنها، بل كنت أومن بأنه في وَحدته قريبٌ من ربه، وأنّ حرصه على فروض دينه خيرُ شاهدٍ على نقاء قلبه وصفاء سريرته.
ولقد وجدت تفسيرًا معقولًا لهذا الرّضا العجيب حين طالعتُ كتاب “الريف المصري في القرن الثامن عشر” للدكتور “عبد الرحيم عبد الرحمان عبد الرحيم”، ووجدته يتحدّث عن مظاهر الحياة الدينية في الريف، ويقول: إنّ فقيه المسجد كثيرًا ما يربط للفلاحين بين أمور الدين والمظالم الواقعة عليهم، ويحثّهم على الصبر عليها، ويُدلي لهم، في كثيرٍ من الأحيان، ببعض الأحاديث، التي كانت في غالبها مكذوبة، لتفسير أوضاعهم، ومحاولة إقناعهم بالصبر على هذه الشدائد، بل إن بعض الفقهاء، كان يغالي في هذا المجال لإرضاء أجهزة الإدارة وأصحاب السلطان؛ فيحثّ الفلاحين على تقبّل كثير من المظالم التي كانت سائدة، باعتبارها جزءًا من مهام الحاكم الذي تجب طاعتُه، حتى أصبح شائعًا لدى معظم خطباء الريف أن يحثّوا الفلاحين في خطبة يوم الجمعة على الاهتمام بزرع الأوسية (العزبة)، وواجبات رجال الإدارة، كي لا يتعرّضوا للعقاب من جانب الكاشف وأتباعه، كما يحثونهم على القيام بأعباء العونة، لأنها أصبحت على حدِّ تعبير هؤلاء الخطباء، جزءًا من حقوق أولي الأمر على الرعية، ولم يكن أمام المصلِّين من الفلاحين من سبيلٍ سوى أن يؤَمِّنوا على قول هؤلاء الخطباء. ومن هنا تحوَّل المسجد عند الفلاحين إلى مكانٍ يقضون فيه بعض الوقت في “حساب الزرع والقلع” والتحقّق من ميعاد ما عليهم من واجبات نحو أجهزة الإدارة، أكثر من كونه مكانًا للعبادة، وهو ما لا يزال قائمًا إلى يوم الناس هذا، وإن تغيَّرت صورته بعض التغير؛ فما أشبَهَ الليلةَ بالبارحة!
لقد كان الفلاحُ يكدَح وينصَب، ويَكِدَّ ويشقى، ويتحكّم أصحابُ الأرض في رزقه ورزق أولاده؛ يعطونه اليسير ويُمسِكون لأنفسهم الكثير، يأكل خبز الذرَة مؤتدِمًا بالملح والمشّ فيحمد، ويشرب الماء العكِرَ القذِرَ فيشكر، حتى صار مضرِبَ المثل في القناعة والرضا، وجاءنا من يفسّر ذلك بالإيمان والتوكّل على خالق الأرض ورازق الطير، وصبره على الهوان الذي وجد نفسَه فيه، فلم يجد منه مفرًّا، ولا منه مَهربًا، وهو ما صوَّره الشاعر الكبير “محمود حسن إسماعيل” في قصيدة “الكوخ” حين قال:
شهدتُه يذرو دخـــان الأسى ** والوجدُ في كانونه ســـاعرُ
تبكي سواقي الحقلِ أشجانَه ** وما بكاه مَــــــــرةً شـــاعرُ
والبائس الفـــلاحُ في ركنه ** عــريانُ يشكو ضنكَه خائرُ
شــالت بـزرع النيل أكتافَه ** وما رعــــــــاه البلدُ الغادرُ
لها بزيف الغربِ في مُدْنِه ** والريفُ من أوجاعه حائرُ!
هذا الشاعر المبدعُ نفسُه هو الذي وصف “القرية الهاجعة في ظل القمر”، وتحدّث عن ثراها العزيز الذي غذَّى جنى الروض، وارتوى نبتُها من العرق الهامي على ترابها الطهور:
من جباهٍ تعفّرَت في ثــرى الذلِّ ** على مَــــوطئٍ ظَــــلُومٍ قَسِيِّ
رضخَت للسَّـــــراةِ مـــن كلِّ فَظٍّ ** عبَدَ المــــالَ في طِماعٍ زرِيِّ
أنتِ أسعَــــــدتِه وأشقيت أرواحًا ** تهاوَين فـــــــي حماكِ الشَّقِيِّ
نِمْتِ في الضنك والهوانِ وأغفَى ** رافهَ النفْسِ في حريرٍ طَرِيِّ!
إننا نبالغ كثيرًا حين نتصوّر القرية مجرَّد مكان هادئ وادع، يعيش أهلُه حياةً هنية رخية، ونخطئ حين نصدّق “عبد الوهاب” وهو يغني كلمات “بيرم التونسي”، ولم يكن أيٌّ منهما فلاحًا ولا نشأ في قرية:
ما أحــلاها عيشة الفلاح ** مِطَّمِن قلـــــبُه ومِرتاح
يِتْمَرَّغ على أرض براح ** والخيمة الزرقا ساتراه
والحقُّ أنّ القرية كما يقول الأستاذ “الزيات”، (ولا أدري لماذا ذكَّرَني كلامُه بكتاب “هزّ القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف”): لا تزال كما كانت في القرون الخوالي أكواخًا متلاصقةً غرقَى في المناقع والدِّمَن (المستنقعات والمزابل)، لا تُبصر الشمسَ ولا تنشق الهواء ولا تعرف النظافة، تكوَّنت في قاعها أرواث البهائم وزَرق الدجاج، وتراكم على سطحها حطب الوقود وعلف الماشية، وتقاسم الإنسان والحيوان المضاجع في هذه الحظائر المشتركة، ثم راض الفلاح نفسَه مرغمًا على الطعام الوخيم والشراب الكدر والملبس الرث والقناعة المُزرية، حتى مات في حِسِّه إدركُ الجمال، وتَفُهَ في ذوقه طعمُ الوجود.
ذلك، والعواصمُ المصرية تعيش في القرن العشرين تأخذ بمدنيّته، وتقبس من نوره، وتنعم برفاهه؛ كأنّ الصّلة بين القرية والمدينة هي الصلة التي كانت بين العبد والسيّد، يملك ولكن ملكه لمولاه، وينتج ولكن إنتاجه لسواه…
لكن لماذا هذا الحنين الجارف إلى الحياة في القرية، يتغنّى به الشعراء، ويصوّره القصّاصون ويتحدّث عنه المَقاليون، ويجد القارئ شيئًا من تفصيله في كتاب “الفلاح في الأدب العربي” للأستاذ “محمد عبد الغني حسن”، وكتاب “الريف في الرواية العربية” للدكتور “محمد حسن عبد الله”، ويجد شيئًا من تفسيره في الفصل الذي خصّصه الدكتور “مختار أبو غالي” عن ثنائية (القرية/ المدينة) في كتابه “المدينة في الشعر العربي المعاصر”، وذكَر فيه أنّ الحنين إلى الريف، وإن كان ضربًا من من الحنين إلى الوطن، يحمل معاني القلق والضيق وعدم الارتياح في المدينة، وما يلقاه الشاعر الريفيُّ في مجتمعها من صراعات شتَّى، فيهرب الشاعر، ولو في الخيال، إلى قريته بسماتها الإنسانية، وتظل القرية واحةً يفيءُ إليها من الوهج والهجير والقحل المدينيِّ، حتى ولو كانت حياة القرية بطيئة الإيقاع.
لقد ولدتُ في قرية، ولا أزال أسكن فيها، وفي ذاكرتي أطيافٌ من ذكرياتِ ماضٍ جميل، حيث كان أهل الشارع الذي عشتُ فيه طفولتي يبدون كأنهم أسرة واحدة، وكانت والدتي حين ينفد الخبز من بيتنا ترسلني إلى أيَّة جارةٍ لنا لأطلب منها رغيفين إلى أن نخبز، وترسلني حين نطبخ بصحنٍ من الطّبيخ إلى جارتنا هذه وبآخر إلى جارتنا تلك، فلا أعود بأيٍّ منهما فارغًا، أيامها كان الفلاحون لا يبيعون الجبن والسّمن واللّبن، وإنما يهدونه إلى جيرانهم من غير الفلاحين، وكان هؤلاء بدورهم يهدونهم ما يتيسَّرُ لهم من صُنوف الطعام والشراب، وكانوا يتبادلون الزيارات كل يومٍ تقريبًا، ويُقرِضُ الواجدُ منهم جارَه ما يحتاج إليه من مالٍ، ولا يستعجله بطلبه أبدًا، ويشارك بعضُهم بعضًا في الأفراح والأتراح، وكانت نساء الشارع يتبادلن فيما بينهن مهمة رشّه وكنسه يوميًّا، وتحمل القويةُ منهم الضعيفة، وتقوم الصحيحة منهم مكان المريضة، ولا أزال أذكرُ كيف كانت أجهزة الراديو في بيوت الشارع كلِّه تُدار على قرآن السادسة صباحًا، وقرآن الثامنة مساءً على “إذاعة البرنامج العام”، وتدار على “إذاعة القرآن الكريم” أغلب اليوم، مِمَّا كان يُشِيع جوًّا مؤنسًا من الراحة والطمأنينة، بالاستماع إلى كتاب الله مجوَّدًا ومرتَّلا.
كان ذلك في أيام الطفولة، وهي بطبيعتها رومانسية ساذجة، لا يدرك المرء فيها حقيقة الأشياء، ولا طبيعة الناس، ولا كنه العلاقات، وهو ما تغيّر مع الزمن ومرور الأعوام، فجدَّت أمور، ووقعَت حوادث، وتكشَّفت طبائع، وتغيّرت آراء، وظهر للعقل ما لم تكن تُبصره العين، فصرتُ أعتزل الناسَ قدر ما أستطيع، وأسكن في القرية لكن أعيش على هامشها، وأجترُّ بقايا الذكريات السعيدة، أو ما كنت أظنها كذلك، وأردِّد بيني وبين نفسي تلك الأبيات التي نظمتُها منذ سنوات:
يا صـــاحبي من يومِ كنَّا في ملاعبِنا صغار
نلهو كما شئنا ونمرحُ في الحقولِ وفي القفار
ونظلُّ في عبث الطفولة والصِّبا طولَ النهار
فإذا أتــــى الليلُ انتبهنا ثــــم عُــــــدنا للديار
نرتاحُ حينًا ثم نأكلُ… ثم نرجـــــع للنِّفار
صَخَبٌ بريءٌ كالقلوب فلا اشتباكَ ولا شجار
نلتفُّ حـول عمودِ شارعنا ونُوسِعُ في المدار
نحكي خرافاتِ العجائز في ذهــــولٍ وانبهار
عن غُـــولة شمطاءَ تفتك بالصــغار وبالكبار
قالوا اسمها أمُّ الشعور وقيل مسكنُها البــحار
تُغرِي الصبيَّاتِ اللـّـواتي رُحْنَ يملأْن الجِرار
وتشدّ منهن المليحــــةَ نحـــو قيعان القــــرار
قصصُ المخاوف مزعجاتٌ والطوالُ كما القصار
طُوِيت وغابت في الضمائر بعد ما نزل السّتار
ومضت بنا الأيامُ تجـــري في جنون كالقطار
وتبعثـــــرَت حَــبّاتُ عِقد كــــن يأبَين النِّـــثار
حتــــى إذا دار الــــزمانُ بنا وأبطأ واستـــدار
عُــــدنا وجمَّعنا اللقاءُ وكان ما في النفس ثار
شوقٌ إلى الزمنِ الجميلِ وما على المشتاق عار
ومراجعاتٌ للحكايات التي هاجت فنونَ الادِّكار
وتجاوبُ الضحكات والعبث المحـبّٕب والهـزار
والنكـــــتة الفحـــشاء نطلِقُها وليس لها اعتذار
والقهـقهاتُ الماجـــناتُ عَلَت ولا أيُّ افتـــكـار
عدنا صغارًا يا صديقي… ليتنا دُمنا صغار!
الذكريات طريق استرجاع الزّمن الجميل.. ولا طريق آخر!
بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر
رغم كل ما أتاحته التكنولوجيا من وسائل سهّلَت شؤون الحياة اليومية في التنقّل والمواصلات، والاتصال والتواصل والمواصلات، والاقتصاد في الجهد والوقت في كل الأعمال: من التعليم والبحوث والدراسات إلى الفلاحة والبناء.. وصولا إلى الطبخ وشؤون البيت.. رغم كل ذلك فإنّ الذين عاشوا زمن قناديل الزيت والشموع ووابور الغاز وقسوة الحياة ذاتها.. يحنّون إلى الزّمن الجميل والحياة التقليدية.
هذا كلام صحيح ولكن ليس على إطلاقه، فهناك من عانوا شظف العيش في طفولتهم وهؤلاء لا يحنّون إلى هذا الزمن ولا يعدّونه جميلا بحالٍ من الأحوال، وتراهم يتذكّرون أيامهم الخوالي فيتمنّون ألّا تعود مرة أخرى، لِما كابدوه فيها وما نالهم من نَصبٍ أثّر في نفوسهم فباعد بينهم وبين الحنين إليها.
ويكمن السرّ في الحنين إلى الماضي في كونه يذكّرنا بطفولتنا الغضّة وبراءتنا وعفوية الحياة وبساطتها، وإيقاعها الهادئ الجميل، الذي يختلف اختلافا كليًّا وجزئيا عن طبيعة الحياة اليوم، والتي تتّسم بالإيقاع السريع في كل شيء ممّا يُشعر المرء بعدم اللذة التي كان يشعر بها حين يسافر مثلا في القطار من بلد إلى بلد فيستمتع بقراءة كتاب أو قصة أو ديوان شعري قد ينتهي من قراءته مع وصول القطار، أو قد يتبقّى منه جزء ينتهي منه في العودة، وكم من كُتبٍ قرأتُها في القطار بين “بركة السبع” حيث كنت أقيم و”القاهرة” حيث كنت أدرس في جامعة “عين شمس”، أو بين “شبين الكوم” و”الإسكندرية” حيث كنت أدرس الدكتوراه وأتردّد على مكتبة آداب الإسكندرية أو على أستاذي بالكلية نفسها، يرحمه الله.
بل كم من كتبٍ قرأتُها وأنا سائرٌ في الطريق الزراعي المارّ بقريتنا أو بين الحقول في الصباح الباكر أو وقت الأصيل حيث الظل الظليل والندى البليل الذي يجمِّل الزروع والثمار أو قل يزيدها جمالا، والمناظر الريفية الخلابة التي تُريح العين وتسرُّ النفسَ وتشرح الصدر بالهواء العليل والنسيم البليل، وحيث أصوات العصافير وهي تغادر أعشاشها خِماصًا في الصباح أو تروح إليها بطانا وقت الغروب.
كانت هذه عاداتنا في مُذاكرة الدروس نحن أبناء الريف المصري، وقد نكمل في المساء على ضوء مصابيح الكيروسين عند الفقراء أو الغاز عند المياسير، وكنا نستذكر على موائد الطعام (الطبلية) وكم من ليلة نمت وأنا أستذكر دروسي ليلا وخصوصا ما يحتاج للكتابة كالحساب والعلوم وغيرها، فأصحو على رائحة شعري الذي لسعته لمبة الجاز.
كنا مع ذلك نتفوّق في دراستنا ونتنافس تنافسًا شريفا محمودا، ولم نكن نعرف الدّرس الخصوصي إلا في الشهادات العامة ولمدة محدودة قد تكون حصصًا للمراجعة، أما اليوم فميزانية الأسر المصرية يضيع جزء كبير منها على هذا الداء العضال، حتى إن الأطفال قد تعوّدوا على الدروس منذ الحضانة وحتى الجامعة، فكيف يستمتعون بالقراءة الحرة أو بالاعتماد على النفس في التحصيل العلمي؟!
الزمن الجميل إذا يختلف من إنسان إلى آخر، لأن الزمن ليس مجرّدًا ولكنه ظرفٌ للأحداث التي تلابسه، فإذا كانت الأحداث جميلة كان الزمن جميلا والعكس بالعكس.
ولقد مضى علينا زمنٌ كنا عندما يُذكر الريف والحياة المرتبطة بالأرض، يُذكر الزمن الجميل، وكأنَّ الريف ما زال يحتفظ ببعض أسرار الزمن الجميل! وكأن المدينة جنَت على هذا الزّمن الجميل!، فقد عشنا فيه طفولتنا البريئة، وذكرياتنا مع أترابنا، وذكريات نبض القلب لبنت الجيران أو زميلة الفصل، وهذا هو ما يجعلنا نحنّ إليه بعد أنْ عشنا في المدينة بضجيجها وسرعتها ولهاث أهلها في كل مناشط حياتهم من مواصلات يجرون وراءها ويتزاحمون عليها إلى طوابيرٍ للخبز وللحاجات الضرورية للعيش، وغير ذلك من ضروب الحياة المدنية، على عكس الهدوء والاسترخاء في حياة القرية حيث كل شيء كان متاحا فالطعام من الحقل والشراب من الضّرع، وحتى الفواكه كنا نزرعها على رأس الحقل، وأذكر أنه كان على رأس حقلنا أشجار الجوافة وأشجار التوت وتكعيبة العنب، التي نستظل بظلها ونأكل من عنبها، كنا نزرع الخضروات كالخيار والقثاء والباذنجان والكوسة والفول الأخضر والفلفل وحتى البطيخ كنا نزرعه، وقد نزرع الليمون والبرتقال على قدر حاجتنا، ناهيك عن القصب والنخيل الذي كنا نستمتع بإسقاط التمر منه، ناهيك عن شجرة الجميز العتيقة التي كنا نقيل بظلها ونستمتع بثمرها مختونا وغير مختون.
ولعل حنين أبناء الريف للحديث عن هذا الزمن هو حديثٌ عن الأصالة ومنظومة القيم المجتمعية والعلاقات بين الناس، فقد تربّينا على القيم الجميلة والمُثل النبيلة كاحترام الكبير والعطف على الصغير والإحسان إلى المساكين وإعطاء المحتاجين دون مَنٍّ أو أذى، وممّا أذكره أنّ جدي ومن بعده والدي كان حين يحصد المحصول يجعل من يكيل القمح مثلا يكيل مقدار الزكاة ونقوم بتوزيعها فورا على الفقراء من الحقل، تطبيقا لقوله تعالى: “وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ” (الأنعام: 141)، وكذلك محصول الذّرة، وهما المحصولان الرئيسان في بيئتنا الريفية، أما اللبن فأذكر أن أمي يرحمها الله كانت تتعهّد جيراننا ممن ليس عندهم زراعة ولا ماشية تدرّ اللبن فتمنحهم من اللبن وكذلك كانت تمنح أصدقائي ممّن يسكنون المدينة ولا يربّون الماشية، وكانوا يمتنّون لذلك جدا.
أمّا اليوم فقد تغيّر الزمن وصارت القرية أنموذجا مُصغّرًا من المدينة، يُباع فيها اللبن ولم يكن ذلك في طفولتنا، ويُشترى فيها الخبز ولم يكن ذلك في طفولتنا، بل كان كل بيت ينتج ما يأكل من خبز بأنواعه المختلفة ولبن وجبن وسمن، وجبن قديم وفطير وحتى العسل الأبيض فقد كنا نربّي بعض الخلايا الطينيّة التي تطوّرت بعد ذلك إلى خلايا خشبية ليكفينا محصولها من العسل طوال العام.
وقد عبر الشاعر المنوفي الكبير المرحوم “علي سرور” الذي تربطني به صلة قرابة عن تغيّر الزمن في قريته بعد أنْ عاد إليها من القاهرة بعد نصف قرن لينهي فيها حياته فقال:
عدت يا قريتي فماذا أراه — كل شيء يباع حتى التراب!
والحديث عن الزمن الجميل هو حديث عن المذاقات الطبيعية في عصر تكاد حتى الفواكه أنْ تفقد مذاقاتها ونكهاتها.. ووالله أثناء كتابتي لهذا المقال كنا نأكل فاكهة الكمثرى أنا وزوجتي فقالت إن طعمها يشبه زعزوعة القصب، وهو طرف العود ويكون مائعا، ليس فيه طعم القصب ولا سكّره، وكذلك بقية الأطعمة على تعدّد أصنافها وألوانها لا تكاد تُقارن بأطعمة الزمن الجميل رغم بساطة مكوّناتها و”بدائية” طُرق تحضيرها وإعدادها!، فمن لي بمحشي الكرنب التي كانت تصنعه أمي على الكانون وتوقد عليه بالحطب والخشب وروث البهائم الذي كان يُصنع منه أقراص للوقود، فتفوح رائحته لأنها كانت تضع على سطحه السّمن البلدي الذي ينتج في بيتنا، أمّا فطير أمي يرحمها الله فحدث ولا حرج طعمًا ورائحة وطيب مذاق، وقد كنت أعزم زملائي وأساتذتي على طعام أمي التي كانت كريمة جدا هي وأبي يرحمهما الله، وذات مرّة صنعَت لنا فطيرا فقال لها أحد أساتذتنا يرحمه الله، بالحرف: “هل صاحب السمنة غايب يا حاجة أم بسيم؟”، وكانت تسعد كثيرا وبعد الغداء تمنح كل زميل نصيبه ممّا تبقى من فطير وجبن قديم وخصوصا أبناء المدن.
بل كانت يرحمها الله ترسل لزميلاتي اللواتي لا يستطعن الحضور عندنا من أهل القاهرة ومنهن زوجتي، التي كانت تحب أمي حبًّا جمًّا، وكانت أمي تبادلها حبا بحب، وتحنو عليها وتزوّدنا، وقد أقمنا في المدينة بسبب عملنا في الجامعة بعاصمة المنوفية، بأشهى الطعام.
أما اللحوم فحدّث ولا حرج، فقد كانت من البيت لا تأكل الخلطة الصناعية ولا الهرمونات كما هو الآن، بل تنمو نمُوًّا طبيعيا على الحبوب وبقايا الطعام في البيت، فكان لها مذاق خاص ولا تزال نكهتها في فمي وأحنّ إليها حنينا، وإلى زمنها الجميل.
الزمن الجميل كما أفهمه هو كل زمنٍ مضى كنتُ فيه هادئ البال مستمتعًا بالطبيعة الجميلة والعلاقات الاجتماعية الدافئة حيث الحب والعطف والحنان، وعدم الصراع على أتفه الأشياء، فقد كان الخالُ والدًا والخالة والدة والعمُّ أبًا والعمّة أمًّا، والجار له حرمته، مصداقا للمثل القائل: الجار قبل الدار، وهذا من صميم ديننا الحنيف الذي أوصى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالجار وقال: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظنت أنه سيورّثه”، وقديما قال الشاعر: إني بنيت الجار قبل المنزل.
كانت للجيران حقوق كحقوق الأهل فيتمّ تبادل الطعام والفواكه والهدايا، فلا يشعر الفقير بالحرمان، ويعمّ الخيرُ الجميعَ فتسود بينهم المودة وتشيع الرحمة، ومن هنا كانت بنت الجيران أختا ندافع عنها إذا أصابها مكروه أو تعدّى عليها معتد.
فكم أحنّ لهذا الزمن الجميل الذي كانت فيه قريتنا كالبيت الواحد يُراعي الجار مشاعر جارَه فلا يشغل المذياع أو التلفاز إذا مات ميت، ويؤجل الفرح إذا أصاب الجار مكروه ويتكافل الناس فيما بينهم إذا ماتت بهيمة أحدهم فيشترون لحمها وقد لا يأكلونه، ويقرضونه ماشيتهم للعمل في الحقل ويمنحونه منتجات الألبان ويدعون له أنْ يعوّضه الله خيرا في مصيبته.
ذكرياتي عن الزمن الجميل لا يسعها مقال محدود بعدد من الكلمات بل تحتاج إلى مجلَّدٍ ضخم لتسجيل هذه الذكريات الجميلة التي يعاودني الحنين إليها فأذهب إلى قريتي فلا أجد أبي بحكمته ومهابته وخشيتي منه حتى بعد أنْ صرتُ أستاذا جامعيًّا وأبًا وجدًّا، وإني والله أعَرِّف نفسي به وأعيش على مكانته بين الناس في محيطنا وقد مضى على رحيله أحد عشر عاما، ولا أجد أمي التي كانت محلّ تقدير واحترام من جيراننا ومعارفنا وأقاربنا وخصوصا مَنْ يعيشون في المدينة، فقد كانت هداياها لهم لا تنقطع عند زيارتهم لنا خصوصا في فصل الصيف حيث العطلة من المدارس فيقيمون عندنا مدة تطول أو تقصر، فقد كان بيتنا هو بيت العائلة أو البيت الكبير الذي يسع من الأحبة ألفًا كما يقولون، وتُحمِّلهم عند عودتهم بما لذّ وطاب من فطير وجبن وسمن وطيور مذبوحة ممّا أفاء الله علينا من النِّعم.
ولكننا نأسى على هذا الزمن الجميل الذي فقد رونقه وصار ينحدر في سلّم الجمال من سيّء إلى أسوأ، وربما لا يكون هناك سبيل لاستعادته، ولعل أغنية “أم كلثوم” تعبِّر عن ذلك حيث تقول عن ذكريات الزمن الجميل: “عاوزنا نرجع زي زمان؟ قل للزمان ارجع يا زمان، وهات لي قلب لا داب ولا حب، ولا انجرح ولا داق حرمان”.
أمّا عن الأدب والثقافة في الزمن الجميل، فقد بدأتُ رحلتنا مع الأدب والثقافة في الكُتَّاب حيث حفظ القرآن الكريم وتعلّم الخط العربي الجميل من خلال تقليد خطِّ المصحف الشريف حين ننقل الآيات من المصحف للوحٍ بواسطة القلم البوص، الذي كان الشيخ يبريه لنا ويشقّه من الوسط ليشبه الريشة التي انتقلنا للكتابة بها بعد ذلك، وأذكر أن أستاذي في الصف الرابع الابتدائي وقف بجانبي أثناء الامتحان مبهورًا بخطي وسألني على سبيل التعجب: هل هذا خطك يا بُنيّ؟ فقلت له ببراءة الأطفال: نعم خطي! فقال لي مثنيا ومشجّعا: خطك يا بني يؤكل عيشا، ممّا جعلني أحرص على تجويد خطي من خلال كرّاسة الخط التي كان يهملها بعض الطلاب وكنت أحرص على تقليد الخط فيها، فأغنم حسن الخط كما أزداد ثقافة لِما كانت تتضمّنه من حكم وأقوال مأثورة فضلا عن آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وأبيات الشعر العربي التي تتضمن المعاني الجميلة والحكم الغوالي والوصايا النافعة، ومِمّا أذكره من هذه الحكم: الوقت كالسيف، إنْ لم تقطعه قطعك.
ونمضي مع الزمن الجميل في الأدب والثقافة فنتذكّر الأغاني الجميلة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب ومحمد قنديل ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد وأسمهان وليلى مراد وشادية ونجاة الصغير وفايزة أحمد وصباح ووردة الجزائرية وآخر من سمعتهم هاني شاكر وعفاف راضي من مصر، وكاظم الساهر من العراق…ثم انحدر الذّوق الفني فصار الغناء نهيقا وعواء يؤذي الأذن كما صار منظر مَنْ يقومون به يؤذي العين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
كانت الكلمة الجميلة واللّحن الراقي والأداء اللغوي السليم، من عوامل الثقافة وتربية الذوق وإرهاف الحس… وقد قام أحد أبناء جيلي وهو الطبيب الشاعر “محمود الفخراني” بتأليف كتاب “الارتقاء في فن الغناء” تناول فيه قصائد الشعراء التي غنّتها أم كلثوم وعبد الوهاب، وسعدتُ بتصدير هذا الكتاب للقرّاء بمقدّمة أحسبها تُعبِّر عمّا نحن بسبيله من حديث عن الزمن الجميل في الغناء حيث القصيدة الراقية واللحن السامي الجميل، وأذكر أنني كنت أكتب الأغاني أثناء المذاكرة ليلا ومن ذلك قصيد الأطلال لـ “إبراهيم ناجي” التي غنّتها أم كلثوم، وقصيدة “قارئة الفنجان” لنزار قباني التي غناها عبد الحليم حافظ.
وإذا وصلنا إلى الجامعة في أواخر سبعينيات القرن العشرين وأوائل ثمانينياته، فنتذكّر الزمن الجميل مع أساتذتنا الفضلاء العلماء الذين كانوا لنا آباء قبل أنْ يكونوا مُعلِّمين، فكانوا لنا قدوة طيبة لدرجة أنني ـ وقد كنتُ بفضل الله متفوّقا في دراستي ـ كنت كلما أعجبت بأستاذ تمنيتُ أنْ أكون مثله وأنْ أتخصّص تخصصه نفسه، ولعلي أذكر أستاذا لي هو الأستاذ الدكتور “عبد الغني عبود” يرحمه الله وكان يدرِّس لنا مادتي: أصول التربية والتربية المقارنة، قابلني بعد أنْ عُيِّنتُ مُعيدًا بقسم اللغة العربية بكلية التربية بالمنوفية، فسألني عن تخصّصي، فلما قلت له تخصصتُ في الأدب والنقد، طلب مني أنْ أحوّل على قسم أصول التربية، ولمّا وجد مني حبا للأدب قال لي بكل تشجيع: المهم المجال الذي تبدع فيه.
وكنت أنظم الشعر في المرحلة الجامعية حيث بدأ القلب يخفق بالحب وكنت أعرضه على زملائي فأجد منهم تشجيعا وكذلك على بعض أساتذتي، ومن أبرزهم أستاذي المرحوم “فتحي محمد أبو عيسى” الذي أسّس قسم اللغة العربية وكان أستاذا أزهريًّا تجري اللغة على لسانه جريان الماء في النهر فارتوينا من فيض علمه وأدبه، وقد عمل أستاذنا في الجزائر مُعلِّمًا قبل أنْ يلتحق بالجامعة وطبع رسالته للماجستير في الدار الوطنية للطباعة والنشر بالجزائر كذلك وكان عنوانها: الفكاهة في الأدب العربي من الجاهلية حتى عصر الجاحظ.
وكان مُشرفًا على قسم اللغة العربية فكان يستقدم لنا زملاءه من أساتذة الأزهر فاكتسبنا اللغة والأدب والأخلاق الفاضلة، يرحم الله من لقي ربه منهم ويطيل عمر من تبقّى، ويجزي الله الجميع عني وعن زملائي كل خير، فقد كنا أول دفعة بالقسم وقد تبوأ كثير منا أماكن مرموقة في خدمة اللغة العربية بين أستاذ في الجامعة، وموجّه للغة العربية، ووكيل لوزارة التربية والتعليم، ومستشار اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم، ولأننا نَحِنُّ لهذا الزمن الجميل فقد التقينا منذ عشرة أعوام أو يزيد وصرنا نلتقي لقاءات شبه دورية فنفطر معا في رمضان، وقد نذهب للمصيف معا، ونلتقي على الطعام عند أحدنا أو في مطعم أو على الشاي في أحد النوادي بعاصمة محافظة “المنوفية”، كما نلتقي في أفراح أبنائنا أو في عزاء مَنْ يلقى الله منا.
ثم انتقلنا للدراسة في جامعة “عين شمس” بالقاهرة، فكان الانفتاح على الثقافة والأدب والنقد، فقد التقينا بأساتذة درس بعضهم في “لندن” مثل المرحوم “محمد مهدي علام” نائب رئيس مجمع اللغة العربية والمرحوم “إبراهيم عبد الرحمن” وأستاذي وصديقي الحبيب “إبراهيم عوض” الذي ربطتني به صلة وثيقة وتزاورنا في بيوتنا، ومنهم من درس في “ألمانيا” كأستاذنا المرحوم “رمضان عبد التواب” عميد آداب عين شمس وعضو مجمع اللغة العربية العراقي والخبير بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومنهم من درس في إسبانيا مثل أستاذي المرحوم “الطاهر مكي” الذي درَّس في الجزائر وقام بترجمة كتاب “هنري بيرس” عن الأدب المقارن، وقد شاء الله أنْ يجلس على مكتبه في الجامعة بالجزائر، وقد ناقشني في الدكتوراه، وزارني في شقتي وأثنى على مكتبتي، وكان دائم التشجيع لي منذ كنتُ مُعيدًا وكم زرته في بيته وسعدت بأنْ كتَب مقدِّمة لرسالتي للدكتوراه حين قمت بطبعها عام 1995م، ومنهم من درس في فرنسا كأستاذي المرحوم “محمد زكريا عناني” الذي أشرف على رسالتي للدكتوراه عن شعر الأسر والسجن في الأندلس: جمع وتوثيق ودراسة.
وما زلت أتذكّر أيام الدراسة بجامعة عين شمس وأصدقاء الدراسة وفي مقدمتهم أخي الحبيب المرحوم “إبراهيم محمود سليمان”، هذا الكفيف العبقري الذي كنت أزوره في قريته حيث كانوا يزرعون الفراولة، ويزورني في قريتي، وأذكر تردّدنا على مكتبات القاهرة لشراء الكتب لنا ولأصدقائنا، وتِجوالنا بين كليات الآداب ودار العلوم وبنات عين شمس والألسن وكلية اللغة العربية لحضور مناقشات الرسائل العلمية، يوم كانت هناك رسائل وكانت هناك مناقشات وأساتذة كبار نضرب أكباد الإبل لنستفيد من علمهم.
أمّا زمني الجميل، وإنْ شئت فقل الأجمل، فقد كان من ربع قرن حيث أُعرت للتدريس بكلية التربية للبنات في واحة الأحساء بالمملكة العربية السعودية، ثم في كلية الآداب جامعة الملك فيصل، والتقيت فيها بأساتذة من دول عربية كثيرة ومنها الجزائر وتونس وفلسطين والسودان وسورية، وكانت لنا صولات وجولات في منتدياتها الثقافية ما يزال صداها يتردّد حتى اليوم، وقد ألقيت محاضرة منذ أشهر قليلة في أربعائية الدكتور “عبد المحسن” القحطاني بالقاهرة بعنوان: من ذكرياتي الأدبية في المملكة العربية السعودية، وهذه تحتاج إلى مقال مستقل، بل تحتاج لكتاب أدعو الله أن يوفقني لإنجازه، وسر حبي للأحساء أنها محافظة تجمع بين الريف والمدينة كمحافظة المنوفية التي نشأت فيها ولهذا أحببتها وأحبني أهلها.
وهذا جزء من قصيدة لي فيه موازنة بين المنوفية والأحساء أقول فيه:
ونهلت من عذب البيان كؤوسه — ودرجت فــــــوق مرابع ومغان
النيل يجري تحتها وتزينـــــــه — جنات دوح باســــــق الأغصان
كم جلت فيها بين صحبي هانئا — بين المروج الخضــر والغدران
ورأيت فيها الغيد كالبيض الدمى — وعزفت في سحر الهوى ألحاني
وقدمت للأحسا فهاج مشاعــري — بعدي عن الأهـلـــــــين والخلان
لكنني عوضت منهم أخـــــــوة — “ملكوا عليّ مشاعري وجناني”
من كل قطر في العروبة أقبلوا — وبأرضها انتظمـوا كعقــد جمان
من تونس الخضراء أو مصر التي — عزت، ومن شام ومن ســــودان
صهرتهم الأحساء فوق رمالها — وأظلّهم فيها النخيـــــــل الحاني
بعيونها روتهم، بطيوبهــــــــا — أسرتهم، وبظلهـــا الفينــــــــان
برجالها الأبرار أو غاداتهــــا — يسمو بنبل خصالهـــــــن بياني
هي واحة غناء طاب مقامنــــا — فيها، فكانت توأم الأوطــــــــان
“حتى ظننت بأنني من أرضها — نبتت جذوري” أثمـرت أفـنــاني
ونقشت رسمي فوق خد أديمها — “فالأهل أهلي والمكان مكاني”
ورقمت اسمي في سجل خلودها — لحبها أهديتها ديــــــــــــواني
فلتهنئي أحساء حبك ملهــــــــم — للعاشقيك على مدى الأزمـــــان
فإذا حييت غمرت ذكرك بالثنا — وإذا قضيت فأنت في وجـــداني
ونرى أخيرًا أنه ليس في الإمكان استعادة الزمن الجميل بمقوّماته التي جعلت منه جميلا رغم صعوبة الحياة فيه، ولكن يمكننا فقط استعادة هذه الذكريات في مقال كهذا، أو حين نجتمع مع أترابنا الذين شاركونا الحياة في هذا الزمن الجميل.
والشكر موصول لجريدة الأيام نيوز الجزائرية على طرحها لهذا الموضوع الذي أثار شجوننا، وأعدنا لذكريات الزمن الجميل التي نحنّ إليها كلما تقدم الزمن بنا وتغيّرت الحياة، وإن تيسرت، ولكن تبقى أيامنا في رحاب الطبيعة الجميلة بريفنا المصري في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، قبل انتقالنا للمدينة للدراسة بالجامعة ثم للعمل بها، يبقى عالقة بالذهن راسخة في الوجدان، نذوب حنينًا إليها ونقصّ أحاديثها على أبنائنا وأحفادنا ونتنسّم روائحها الجميلة في أحاديثنا إذا التقينا مع أبناء جيلنا!!
الجمال في فضاءَي الريف والمدينة لُغَوِيًّا وأدَبِيّا
بقلم: أ.د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات بجامعة الأزهر
معروف اجتماعيًّا وتربويًّا أن الإنسان ابن بيئته، وأنّ الإنسان يتفاعل مع المكان الذي وُلد وعاش فيه: تأثّرًا وتأثيرًا، وأنه ما من إنسان إلا له علاقة متنوعة بالريف والمدينة: حُبًّا وبُغضًا، قبولاً ورفضًا، وذلك راجع إلى ميول كل إنسان ومعارفه وحركته مع الحياة والأحياء! فبعضهم يرى (الجمال في الريف) حيث يُذكر أو يُتَذَكَّر ويُستَدْعَى الزمنُ الجميلُ، وكأن (الريف) ما زال يحتفظ ببعض أسرار الزمن الجميل! وكأن (المدينة) جنَت على الزّمن الجميل!
إن (الريف) هو الطبيعة البسيطة الساحرة، الناجية من التلوث والزحف العمراني، وهو منبع الأصالة، والجِدِّية والجَلَد والصبر في التعامل مع قسوة الحياة وشدائدها، و(الريف) كذلك موطن منظومة القيم المجتمعية والعلاقات الطيبة الفاعلة بين الناس، وأساس هويتنا الإنسانية! وقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما يدلّ على أنّ الفرار إلى (الريف) إذا فسدَت الحياة في (المدينة) خير، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يَتبَعَ بها شعفَ الجبالِ ومواقعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدينه من الفتن”! إن (الريف) ما زال المكان الآمن المستقر، وما زال أرضًا تُخرج المذاقات الطبيعية في عصر تكاد حتى الفواكه أن تفقد مذاقاتها ونكهاتها.. والأطعمة على تعدّد أصنافها وألوانها، لا تكاد تُقارن بأطعمة الزمن الجميل رغم بساطة مكوّناتها و”بدائية” طُرق تحضيرها وإعدادها!
وبعضهم يرى (الجمال في المدينة) حيث التطوُّر والرقيّ والتحضّر والتّمدين، والاطلاع على أحدث مُخترعات الإنسان في كل مناحي الحياة، بسبب ما أتاحته التكنولوجيا من وسائل سهّلَت شؤون الحياة اليومية في التنقّل والمواصلات، والاتصال والتواصل والمواصلات، والاقتصاد في الجهد والوقت في كل الأعمال: من التعليم والبحوث والدراسات إلى الفلاحة والبناء.. وصولا إلى الطبخ وشؤون البيت.. وهكذا دواليك!
وقد مررتُ في حياتي شخصيًّا بعيشتين:
– عيشة في الريف بلغت ثلاثين سنة (في قريتي دراجيل، التي تُلَقَّب بقرية العُلَماء والخُطَباء حيث تجاوز عدد الحاصلين فيها على درجة الدكتوراة في التخصصات العلمية المختلفة ما يزيد عن مائة شاب وشابة، وزاد عدد الوُعّاظ والخطباء ما يزيد على الألف). وكذا كانت لي حركة فيما حول قريتي من عِزَب وكُفور، وما جاورها من قرًى..
– وعيشة في المدينة، بلغَت أكثر من ثلاثين سنة حتى الآن، بتوفيق الله تعالى، وكانت عبارة عن تنقّلات ورحلات عملٍ في مدن كثيرة ومتنوّعة، هي مُدن: الشهداء، شبين الكوم، الزقازيق، دبي، مدينة السادات، والقاهرة بأحيائها وشوارعها المختلفة تاريخيًّا وحضاريًّا وشعبيًّا!
وخَلُصت من هاتين العيشتين المتنوّعتين إلى أن (القرية) تبني وتؤسس الإنسان القوي الذي يستطيع أن يعيش متاهات الحياة وغياباتها وتقلباتها، وأن (المدينة) تحافظ على إنسانية الإنسان حين يبلغ من الكِبَر عِتِيًّا، وأن (المدينة) تساعد الإنسان على ملء وقت فراغه بكل عمل نافع، وكل نشاط ثقافي مفيد طيب!
إنّ (الريف/ القرية) مكان مفتوح، فيه فطرة وبراءة وسذاجة، وفيه دفء اجتماعي وتواصل أجيال وعائلات لا ينتهي، حيث يعرف الناس بعضهم، ويتكاتفون في أفراحهم ومآسيهم، ويتزاورون ويتعاونون، فيرسمون أجمل صور التكافل الاجتماعي الذي يعوّض نقص المؤسسات الخِدْماتيّة فيها. وفي القرية يتجلّى جمال الطبيعة حيث السهول الخضراء، يعانق بعضها بعضًا، فيما تزيِّينها الورود الملوّنة، وتنتشر فيها المواشي والطيور… ومن هنا ينشأ الإنسان الفتيُّ الصّبور الجلُد، المُسلّح بمجموعة عادات وتقاليد متوارثة، والقادر على التعامل مع الحياة والأحياء بفطرة ونُبْل وصدق!
وإنّ (المدينة/ الحاضرة) مكانٌ مغلق مُقيّد، فيها وحدة وعزلة، وفيها صناعة وثقافة وتطوّر في الوسائل والملهيات! ومن ثم ينشأ الإنسان فيها لينًا رَخِيًّا مُرَفَّهًا، وعنده قلق وضجر وهلع وحِدَّة في تحركاته وتعاملاته!
وأظنّ أن الأديب، وكل مبدع غالبًا، ما ينطلق من (الريف والقرية) حيث التأسيس البدني والعقلي والنفسي إلى (المدينة/ الحاضرة) حيث الإبداع والإنتاج والتعمير والاستثمار، وأن (أديب القرية) أكثر إبهاجًا وإمتاعًا، وأكثر جمهورًا، من (أديب المدينة)، وفي كل خير! والجمال الطبيعي والبشري والصناعي موجود في (الريف والمدينة) معًا، ويمكن للزمن الجميل أن يستقر فيهما، بشرط أن يوجد الإنسان القوي الذي يحقق الجمال ويحافظ عليه ويطوّره، ويتمتّع به التمتّع الواعي النبيل! والحنين إلى الزمان الجميل في الريف أو المدينة، موجود عند أهالي الريف وأهالي المدينة بمختلف فئاتهم العمرية! فكل طبقة تحنّ إلى ما عند الطبقة الأخرى! طبقة الريفيّين يَحنّون إلى الجمال الصناعي عند طبقة (المَدِينِيِّين)، و(المَدِينِيُّون) يَحِنُّون إلى الجمال الفطري عند الريفيين!
جدليّة الريف والمدينة لغويًّا
جاء التّفريق بين (الريف والمدينة) في المعاجم العربية عتيقها وحديثها، دالًّا على هذه الجدلية الفكرية بينهما، فلفظة (الرِّيف) تُستَعمَل في لغة العرب في معنى الزراعة والخصوبة والسعة الاقتصادية، فالريف: أرضٌ فيها زرْعٌ وخِصبٌ، ويُطلَق على ما عدا المدن من القرى والكفور، والرِّيفُ: السَّعَةُ في المأكل والمشرب، والرَّيِّفَةُ من الأرض: المُخْصِبَةُ. والرِّيفُ: ما قارَبَ الماء من أَرض العرب وغيرها، والجمع أَريافٌ ورُيُوفٌ. قال أَبو منصور: الرِّيفُ حيث يكون الحَضَرُ والمِياهُ. ورافَتِ الماشِيةُ أَي رَعَتِ الرِّيفَ. وتَرَيَّفَ القومُ وأَرْيَفوا وتَرَيَّفْنا وأَرْيَفْنا: صِرْنا إلى الرِّيفِ، وحَضَروا القُرى ومَعِين الماء، ومن العرب من يقول رافَ البدوِيُّ يَريفُ إذا أَتى الرِّيفَ، وتوريف الظل: امتداده واتساعه، ومن الاستعمال المُحدَث للفظة (الريف) قولنا في التخطيط العمراني (المناطق الريفية)، أي الأراضي والأماكن التي تقع خارج المدن والقرى.
أمّا لفظة (المَدِينَة) فتدور في المعاجم حول المِصْر الجامِع، والتجمُّع السُّكَّانيّ، الذي يزيد على تجمُّع القرية، وعندما تذكر مفردة معرفة (المَدِينَة) فيراد بها اسمُ (يَثْرِبَ) مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، غلَبت عليها. و(المدينة المقدّسة)، أي القدس، ويقال: هو ابن مدينتها، أي عالم بها، ويقال في الاصطلاح الفلسفي (المدينة الفاضلة)، أي المجتمع الإنسانيّ المثاليّ الذي يسير على هدي الأخلاق وحكمة رئيس فيلسوف أو نبيّ اكتملت لديه الخصال التي لا تتوافر لدى عامّة النَّاس، و(مدينة الملاهي) أي مواضع تُعرَض فيها ألعاب بهلوانيّة للتسلية، ويقال: اهتمتِ الدولة بالمدن الجامعيّة، وتجوّل الرئيس في ضواحي المدينة، ومدينةٌ آهلةٌ بالسُّكَّان!
ويتصل بثنائيتي الريف والمدينة، في الاستعمال اللغوي العربي، ألفاظ: البادية والقرية، والمدر، والوبر، والكفور والنجوع، وغير ذلك من إطلاقات! فيقال: المدن والقرى، ويقال: أهل المدر وأهل الوبر، أما أهل المدر فهم سكان المدن والقرى، وأما أهل الوَبَر فهم سكان البوادي، و(الباديَة): مِسَاحَةٌ شَاسِعَةٌ تُحِيطُ بِهَا حُقُولٌ يَعِيشُ فِيهَا أَهْلُ القُرَى الْمُتَقَارِبَةِ أَحْيَانًا، وَالْمُتَبَاعِدَةِ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى، وهي أيضًا فضاء واسع من الأرض، فيه المرعى والماء ولا عمارة فيه. يقال: يُلاَئِمُنِي هَوَاءُ الْبَادِيَةِ، أنْهَارُها وَحُقُولُهَا، وَفَضَاؤُهَا الوَاسِعُ. والجمع بوادٍ وباديات. و(القرية) في العرف المعاصر هو اللفظ المقابل للفظ (المدينة)، ولكل منهما دلالة تغاير الآخر قليلاً أو كثيرًا، ولفظ (القرية) يدلّ على الموضع الذي يجتمع فيه الناس، وقد ورد في القرآن الكريم في ستة وخمسين موضعًا، جاء في جميعها بصيغة الاسم، ولم يأتِ بصيغة الفعل، فـ (القرية) مجموعة بيوت صغيرة مُشيّدة بدفء اجتماعي، وجمال سُكَّاني، وفيها مساحات خضراء تفصل بين البيوت دون أن تفصل بين قلوب أصحابها!
جدلية الريف والمدينة فنيًّا
حلَّل العلامة “ابن خلدون” الفوارق بين حياة الريف والمدينة بقوله: “المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدّمناه، وتكثر حاجات ساكنه من أجل التّرف، وتُعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها، فتنقلب ضروراتٍ، وتصير فيه الأعمال كلّها مع ذلك عزيزةً والمرافق غاليةً بازدحام الأعراض عليها من أجل التّرف، وبالمغارم السّلطانيّة الّتي تُوضع على الأسواق والبِياعات، وتُعتبر في قيم المبيعات ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأوقات والأعمال، فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرةً بالغةً على نسبة عمرانه، ويعظم خَراجُه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنّفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشِهم وسائر مئونتِهم..”.
وتناول الأستاذ “سلامة موسى” في الفصل الثامن والثمانين من كتابه (طريق المجد للشباب) ما أسماه حياة الفطرة والفن، بدأه بقوله: “كثيرًا ما نسمع أو نقرأ عن جمال الطبيعة والحياة الفطرية وسذاجة العيش، وهذا كلام حسن لولا أنه يحمل بعض الالتباسات التي تعوق الفهم الصحيح لما يُريده دعاة الطبيعة. ذلك أن الحضارة القائمة تبهظنا بأعباء وتكاليف كثيرة معظمها بهارج زائفة قد قضى علينا بها المجتمع بعاداته وتقاليده… والفرار من هذه الحضارة المرهقة كسب لا شك فيه، وهو كسب الاستغناء عن البهارج الكاذبة والاعتبارات السخيفة. ولكن الحياة العالية هي الحياة الفنية المثقفة، فيجب ألا ينطوي استغناؤنا عن البهارج والشخاشخ على أن نستغني عن الفن والثقافة. لقد كان تولستوي يكره الحضارة، وقد ترك المدينة وعاش في الريف، ولكن حبّه للطبيعة، وغرامه بحياة الفطرة، لم يمنعاه من ممارسة الفنون ودراسة الثقافة، وكذلك الشأن في غاندي فإن قناعته بالعنزة لغذائه، والشملة لكسائه، لم تكن لتمنعه من قراءة الكتب العالية والجرائد الجدية. وليس الغنى مقصورًا على الأثاث أو البناء أو الموسيقا أو الشعر؛ لأننا يجب قبل كل شيء أن نعيش الحياة الفنية، نستغني عن المائدة المطهمة، ولكن لا نستغني عن الذهن المثقف والذوق المتأنق، ولا بأس بأن نُعنَى بملذات الجسم، ولكن يجب أن نُعنَى أكثر بملذات النفس العليا. لقد كان غاندي وتولستوي وروسو وثورو ساذجين في عيشهم يقنعون بالكفاف من الغذاء واللباس، وكانوا يعيشون الحياة الفطرية، يحبون الحقول، ويصلون للشمس في بزوغها، ويتحدّثون إلى النجوم في الليل، ولكنهم كانوا جميعهم يمتازون بعقول مركبة مثقفة تحفل بالنظريات والتأملات. ولم يكن استغناؤهم جهلًا، ولكنه كان فنًّا”. ثم ختم مقالته قائلاً: “أيها القارئ: لا تجعل حياتك خواء هباء، ولا تتسكع في هذه الدنيا، فتسأم الحياة أو تموت وأنت حي. عِش عن عمد، واهدِف إلى هدف، وأدِّ رسالة، وكافِح من أجل الشرف والحق والعدل، وإذا استطعت أن تحترف المجد فاحترفه، فقد تكون أهلًا له”.
وتناول الدكتور “عبد الوهاب عزام” في الفصل الثاني والعشرين من كتابه (ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام) أثر البداوة في طباع “أبي الطيب” (المتنبّي) وشعره، فقال: “في خلق أبي الطيب قوة وخشونة تميلان به إلى كل قوي وكل خشن، وتعدلان عن كل ضعيف وكل لين، وفي خلقه صراحة تحبِّب إليه كل صريح من القول والفعل والرأي، وتنفره من كل مُموّه مُزخرف، وقد لاءمت هذه الأخلاق التبدِّي، وزادها التبدي تمكنًا فيه، وظهر أثر هذا في فعله وقوله. عاش الشاعر في البادية حقبة وهو صبي، روى الخطيب البغدادي عن محمد بن يحيى العلوي الكوفي أن “أبا الطيب” صحب الأعراب في البادية سنين ثم رجع إلى الكوفة بدويًّا قحًّا، وعاش في الشام بين البدو والحضر، وبعض ممدوحيه هناك من رؤساء البادية مثل سعيد بن عبد الله الكلابي، وشجاع بن محمد الطائي، وهو يقول في الشام:
أوانًا في بيوت البدو رحلي وآونةً على قَتد البعيرِ
أعرِّض للرماح السمرِ نحري وأنصِب حُرَّ وجهي للهجيرِ
وأسري في ظلام الليل وحدي كأني منه في قمرٍ مُنيرِ
… وفي مصر حنَّ “المتنبي” إلى البادية وفضَّل البداوة على الحضارة، وتغزّل بالبدويات في القصيدة التي مطلعها:
مَن الجآذر في زيِّ الأعاريب — حمرُ الحلى والمطايا والجلابيبِ
يقول فيها:
ما أوجه الحضر المستحسناتُ به — كأوجه البدويات الرعابيبِ
حسن الحضارة مجلوبٌ بتطرية — وفي البداوة حسن غير مجلوبِ
أين المعيز من الآرام ناظرةً — وغيرَ ناظرة في الحسن والطيبِ
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها — مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيبِ
ولا خرجن من الحمام مائلة — أوراكهنَّ صقيلات العراقيبِ
ومن هوى كل من ليست مموَّهة — تركت لون مشيبي غير مخضوبِ
ومن هوى الصدق في قولي وعادته — رغبت عن شَعرٍ في الرأس مكذوبِ
… وهكذا نجد بين طباع “المتنبي” وشعره وبين البداوة صلة قويَّة: غرائز في الشاعر حبَّبت إليه البداوة وما يتصل بها، وبداوة وكَّدَت هذه الغرائز في نفسه، وبهذه الأخلاق الحرّة والطِّباع القوية والشجاعة والإقدام كان “أبو الطيب” أقرب إلى الطبع العربي من غيره. ولو أنّ عمرو بن كلثوم وعنترة العبسي والحارث بن حِلِّزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب المتنبي لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.
ثنائية القرية والمدينة روائيًّا
في هذه الثنائية نجد أنفسنا أمام مقولات فكرية متجادلة، هي: الرواية ابنة المدينة في أوروبا، والرواية ابنة القرية في وطننا العربي، والرواية ابنة الإنسان، والرواية ابنة الواقع، والرواية ابنة المكان. والمقولات الثلاث الأولى كانت حقيقية عندما كانت القرية خالصة، والمدينة خالصة، والإنسان خالصًا! لكن في آننا هذا اختلطت القرية بالمدينة، وتمازجت المدينة بالقرية، واختلط الإنسان بكل منهما، وذابت الفواصل والفوارق بين هذا الثلاثي الحياتي العجيب: القرية، المدينة، الإنسان!
ومن ثمّ، فالرواية ابنة المكان، وابنة الواقع الجامع بين الإنسان والمكان والزمان! والحديث عن رواية المدينة حديث ذو شجون، فما أكثرها من روايات دارت حول المدن المختلفة!
ومن الروايات الريفية القروية: رواية (القرية اللطيفة)، وهي رواية من تأليف الروائي “جول فيرن” صدرت عام 1901م. وهي جزء من سلسلة “رحلات غير عادية”. ورواية (القرية) تأليف الكاتب الروسي: “إيفان ألكسييفيتش بونين”، وتصوِّر الرواية قرية روسية تُدعى “دورنوفكا”، ورواية (قرية ظالمة)، كتبها الدكتور “محمد كامل حسين”، وحصل بسبها على جائزة الدولة التقديرية في الأدب، وهي تُعدّ من علامات السرد في الأدب العربي، وتمّت طباعتها لأول مرّة في عام 1954م، وتكلّم عنها الكثير من نقّاد الأدب في مصر، كما تناولها نقادٌ عالميون. وهي عن الأيام الأخيرة للسيد المسيح. وترجمت إلى إحدى عشرة لغة عالمية، وظلت أنموذجا دالا للإبداع والفكر العربي.
ورواية (خالتي صفية والدير) للمبدع “بهاء طاهر”، تعلن عن قيمة المواطنة في أسمى صورها؛ فهي إحدى الروايات القلائل التي صوَّرت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين وتعايشهم في قرية واحدة من قرى صعيد مصر يجاورها جبل يحتضن ديرًا، وعرضت ما وقع بها من أحداث تجمعهم معًا في صورة شديدة الواقعية للحياة، كما هي دون مبالغة أو إقحام أحداث دون داعٍ، فنجد من مشاهد الرواية الشيخ الأزهري يصحب ابنه إلى الدِّير ليهنئ الرهبان بأعيادهم، والطفل المسلم يحمل كعك العيد إلى جيرانهم المسيحيين، والقبطي الذي يرشد الفلاحين إلى كيفية الزراعة الصحيحة..
وهكذا نلحظ في الرواية روابط عميقة ومتينة بين أهل القرية من المسلمين والمسيحيين، وبين الرهبان في الدِّير، والاحترام العميق الفطري الذي يحمله القرويون لرهبان الدير، والمحبّة الصادقة في قلوب الرهبان تجاه هؤلاء القرويين وتجاه الناس جميعًا، إضافة إلى المسيحي الذي يُعدّ من أهم شخصيات الرواية، وهو المُقدّس “بشاي”، والذي كان أشهر أهل الدِّير في القرية، وكان له الدور الرئيس في إخفاء “حربي” في الدير، وإنقاذه من انتقام “صفيّة”، كما أن حياة البطل (حربي) قد انتهت في الدّير، الذي هو رمز ديني، واسم لمكان عبادة ورهبنة!
ومن روايات القرية الفلسطينية المُقاومة رواية “عبد الله تايه” المُعنونة بـ (قمر في بيت دراس)، وقد حكم عليها النقّاد الدارسون إيّاها بأنّ فيها تعبيرًا واقعيًّا واضحًا مباشرًا، دون تلميع ولا تزييف، ولا زخرفات بلاغية، على أنّ المعركة في بيت دراس لم تتوقف بعدُ! كما أن الرواية تصلح لتكون تغذية راجعة للواقع العسكري والسياسي الذي كان يعيشه الشعب الفلسطيني قبل النكبة، وأنهم لم يقفوا مكتوفي الأيادي أمام المؤامرة، بل شكّلوا أحزابهم، وصحفهم، وأقاموا مدارسهم، ونشروا علمهم حتى في القرى النائية، وخاضوا معركة الوجود، والحفاظ على الهوية الوطنية بكل جدارة، وقد أقنعنا الروائي بأن أهالي “بيت دراس” قاوموا اليهود الغزاة بكل قوة، وإن سقوط القرية لم يكن نزهة، ولا مشاجرة تمّ حسمها بسرعة لصالح من يمتلك الطيران والمدافع والدبابات، والمدعوم بالتاج البريطاني، بل إن القرية خاضت أربع مواجهات ساخنة أبطالُها الأهالي العزّل إلا من ببعض الأسلحة البدائية، يقابلهم عساكر الكبانية (مستعمرة إسرائيلية)، وحسب المعلومات الموثّقة فإنّ واحدة من هذه المعارك كانت الأشد ضراوة بين العرب و اليهود في عموم لواء غزّة وبئر السبع، وهي المواجهة التي وقعت في الأول من ماي/ أيار من عام 1948، واستشهد فيها 8 من أهالي القرية، مقابل 175 مسلحًا معاديًا، هذا الفارق الكبير بين الفريقين يؤكِّد بسالة أهل “بيت دراس”!
وما زالت قرى مدينة غزّة الأبية تقدِّم فصولا كثيرة لرواية كبرى عُظمى عن سموّ مواجهة الإنسان الفلسطيني (كبيرًا وصغيرًا، ذكرًا وأنثى) وعظمة مقاومته لمخطّطات الإبادة الصهيونية وأفاعيل الخنازير اليهودية الهمجية ضد الإنسان والمكان والمقدسات تقتيلاً وتشريدًا وتدميرًا وتجويعًا وحصارًا خبيثًا مقيتًا!
حفظ الله عالمنا العربي بكل قُراه ومُدنه ومقدّساته وبشرِه الصالحين المصلحين المرابطين!
الزمن.. لغزٌ جميل يحتاج من يحاوره!
بقلم:إسراء نزال – كاتبة ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين
ما هو الزمن؟ هل هو وهمٌ؟ هل هو جُسَيم مادي يتحكّم في زمن الكون أم شيئا آخر تماما؟ ممّا يتكوّن؟ كيف لساعةٍ أن تربطنا بالوقت والزمن إن كانت ساعة ذرّة السيزيوم تقيس الزمن بدقة 16 منزلة، أمّا ساعة ترابيديوم-60 يصل فيها اهتزاز الإلكترون إلى مئات التريليونات في الثانية، ومع ذلك هنالك ساعة على الحائط وأخرى في اليد تجعلنا نقرأ قيمة اللحظة الزّمنيّة الحالية! ومع ذلك فإنّ هذا ما يشجّعني أن أسألك كم الساعة الآن عندما قرأتُ هذا المقال؟ أعلم أنك نظرت إلى عقارب الساعة الآن، وربما عندما نظرتَ إلى عقارب الساعة تذكَّرتَ طفولتك عندما كنت تقول “العقرب الصغير” على الثالثة والكبير على الخامسة، ومن المُحتمل أن وعيك قد تنقّل بين الأسئلة التي طرحتُها في مقدِّمة المقال محاولًا استحضار تاريخ الإنسان ومعرفة الزمن، أو قد تكون ذاكرتك قد تنقَّلَت بين ذكريات لن تعود، وعدم عودتها هو ما يؤلم أيّ إنسان!
أمّا الاحتمال الأشد إيلامًا فهو رغبتك كإنسان بأن تعود في الزمن إلى الوراء، وهذا الاحتمال هو ما يجعل الوعي والذاكرة يلتقيان بقوة. فالوعي قبل أن يفهم إن كان يمكنه عكس الزمن، فإنّه يبحث في كون شاسع من المعرفة حول مفهوم الزمن بحدِّ ذاته كي يفهم كيف يمكن للإنسان أن يتفاعل مع هذا اللغز حتى يتمكّن من الانتقال بين الماضي والمستقبل. لكن، أمام نقص المعرفة بماهيّة الزمن، الذي تناوله العلماء كلٌّ حسب تجاربه الفيزيائية حتى أنتج لنا العالم البريطاني “ستيفن هوكينغ” كتابا بعنوان “تاريخ أكثر إيجاز للزمن”، يبقى الإنسان عالقا أمام رغبته في العودة إلى الزمن القديم مهما كانت صعوبته، ومهما هي الآن التكنولوجيا موفرة الراحة والسرعة.
لماذا الإنسان هكذا؟
إنّها النوستاليجا، أي الحنين إلى الماضي، لا يهمّ أيّ ماضي، المهم أن الإنسان يحنّ لكل ماضٍ قبل الآن، وأيّ آنٍ أيضًا لا يهم! لماذا أخرى! نعم، “لماذا أخرى” وهي لماذا هنالك حنين إلى الماضي؟ لأنّ الإنسان لم يتمكّن من عيش اللحظة. يمكنني التوقّف عن الكتابة عند هذه الجملة لأنّ الكلام قد انتهى هنا، لكن لا يسعني إلا الإبحار أكثر في الإجابة والحديث إلى الزمن.
نعم الإنسان لم يتمكّن من عيش اللحظة، والسبب حسب وجهة نظري – وأكتب الآن بلغة فلسفية دينية – أنّ الأمر مرتبط بـ “لعنة” طرد آدم من الجنة، فقد استقرّت هذه “اللعنة” في دم الإنسان حتى أصبح أمام كل ثانيةٍ جديدة ذاكرتُه باللاشعور تلتفتُ إلى الوراء حنينًا إلى جنة سكنها آدم في الزمن القديم قبل طرده بعد أكله من تلك الشجرة، وهذا ما يجعل الإنسان يتأثّر بحزنه أكثر من سعادته ويجعله عالقا أمام ماضي يرى فيه سعادة أكثر من الحاضر الذي يوفر له الآن كل وسائل الراحة والسرعة والتطور والتكنولوجيا!
بعيدًا عن جنة آدم، هل يمكن لنا أن نتحدّث بلغة علمية قد تحتاج إلى علم النفس حتى نفهم النوستاليجا أكثر من ذلك، وكيف أنّ عدم عيش الإنسان للحظة يضعه عالقًا أمام زمن الماضي!
يا إنسان! لا زمن ولا ذكرى يمكن أن يعود أيٌّ منهما، والحنين إلى الماضي سيبقى مرافقا لك، وفي المستقبل ستحن أيضًا إلى الماضي الذي هو الآن الحاضر الذي تهرب منه إلى ما سبقه من زمن، هل ستبقى هكذا أم ستقرّر أن تعيش لحظتك بكل تفاصيلها؟
كيف سأعيش؟ نعم هذا سؤال قد سألتَه لنفسك وهو سؤالٌ بديهي، والإجابة تكمُن في داخلك أيها الإنسان. كيف؟! الإنسان هو البساطة العميقة التي خلقها الله على هيئة إنسان، ومن ثم التقى بأرض وسماوات تعانق خلاياه وذبذباته وروحه وخلاياه العصبية ليتشكّل تفاعلٌ دون إدراكٍ من الإنسان، إلّا إذا قرّر هذا الإنسان أن يلمس داخله من روح وجوهر وكينونة وصيرورة، ليفهم كيف للطبيعة والواقع والكِتاب والقلم والخبر والخبز والماء والهواء وكل ما بين السماوات والأرض.. يمكن أن يؤثِّر في وعينا الذي ينتقل من مستوى إلى آخر، قد يكون إلى مستوى أعمق أو إلى مستوى أشد بساطة! أي أننا من مرحلة إلى أخرى يتغيّر أو يتطوّر وعينا وإدراكنا وفهمنا لحقيقتنا وذاتنا. وأن نعي لحقيقتنا، فإننا نحتاج إلى شجاعة طَرق بابِ معرفة ماهيّتنا التي هي وحدها يمكنها من التفاعل الحقيقي مع كل ما يحيط بنا، لذلك أمام كل حجم جهلٍ بحقيقتنا هنالك فجوة بيننا وما يحيطنا، وهذا ما يجعلك أيها الإنسان، الذي أنت الآن أكثر وعيًّا ممّا سبق، تتلهّف إلى العودة إلى ماضيك كي تعيش اللحظات بشكل أفضل وتنجز واجباتك بشكل مختلف عمّا فعلته. لكن، إن لم تقف الآن أمام المرآة، وواجهتَ حقيقتك بكل تفاصيلها الجميلة وغير الجميلة، فلن تتعامل مع الواقع ولن تهندس واقعك كما يليق بماهيتك، وستستمرّ الرغبة في العودة إلى ماضٍ لن يعود!
ماذا بعد؟ هل توقّف الكلام عن النوستاليجا! بعيدًا عن فلسفتي الدينية وعن تفسيري العلمي حول رغبتنا بالعودة إلى الماضي، أجد أن ملامسة يدينا للقنديل والفحم والخشب والزيت وماء الغسيل الحار، جعلَت أصابعنا تتعلق بالشيء الذي جعلها تعمل لا فقط تجلس، جعل أنفنا يقوم بواجبه بأن ينقّي الروائح التي يشمّها، إلّا أن هنالك صراع بين أصابعنا وحقيقة الإنسان! جسدنا يحب أن يعمل كي يدرك قيمة وجوده، لكن الصدمة أن حقيقة الإنسان تميل إلى الراحة والكسل وإنجاز الأمور بسرعة، وهذا ما تؤكِّده مسيرة الإنسان الاستكشافية حول العالم، فرغبته بأن يُنجز الأمورَ بسرعة جعله يطوّر وسيلة الاتصال من الحمَام الزّاجل إلى الاستشعار الكمي! يا إلهي، كم هي المسافة العلمية ما بين حمامٍ زاجل واستشعار كمي! ويا إلهي، كم زادت التكنولوجيا الفجوةَ التي بين محيطنا وحجم جهلنا بحقيقتنا! فأمام كلِّ تطوُّرٍ تكنولوجي تنتصر حقيقة الإنسان الذي يحبّ الكسلَ والراحة والسرعة.. على حاجة الإنسان إلى ما هو عكس حقيقته!
أوه، آسفة، حاولتُ ألّا أبحر في حكاية الزمن والنوستاليجا إلّا أنني وجدتُ نفسي مُجدَّدا أفسِّر رغبة الإنسان بالعودة إلى الماضي! إذًا هي حكاية “لعنة” طرد آدم من الجنة، صراع ما بين حاجة الجسد بأن يتحرّك وماهية إنسانٍ تريد الراحة والاسترخاء، جهلنا حقيقتَنا فلم نتمكّن من إدراك اللحظة.
رغم كل ما قرأتَ من تفسيرات قد تعالج هذا الحنين كي تتمكَّن من عيش حياةٍ لن تعيشها مُجدّدًا، سيبقى سؤالك يدور حول إمكانية العودة إلى الماضي وإشعال الشموع بدلا من الكهرباء، فكرة مثيرة تناولتها الكثير من المسلسلات والأفلام تتمحور حول السفر عبر الزمن وهو المفهوم الذي لم يُدرك إلّا بأبحاث علماء الفيزياء حول الزمن، فتدحرج مفهوم الزمن من أنه حسب السببيّة ناتج من الأحداث تسبِّبُ بعضها بعضًا، وبسبب تسبيب هذه الأحداث لبعضها تكوّن لدينا مفهوم الزمن.. إلى قول العالم البريطاني “إسحاق نيوتن” أنّ الزمن هو مُطلقٌ يتحرّك نحو المستقبل فقط ولا يمكن العودة إلى الوراء ولا يتأثر بشيء ودائمًا يتجه نحو مستقبل الناس، وصولا إلى ما قاله العالم الألماني “ألبرت أينشتاين” أنّ الزمن مجرد وهمٍ، وأنّه غير منتظم ويعتمد على السرعة.
تطوُّر مفهوم الزمن عبر التاريخ العلمي يشير إلى أنّ الزمن في حقيقته هو لغزٌ لم يُحلّ بعد، فعبقرية “نيوتن” تؤكِّد أنه لا يمكن العودة بالزمن إلى الوراء، إلّا أن عبقرية “أينشتاين” تؤكِّد العكس في حال تمكّنَّا من السفر بسرعة الضوء! وهذا ليس لأن عبقرية “نيوتن” خاطئة بل لأنها ناقصة، لأنّ المعرفة والأبحاث حكاية تراكميّةٍ، ولذلك أكمل “أينشتاين” من بعده وقال أنّ الزمنَ حكايةٌ نسبية حسب النظرية الزمنية.
التضارب ما بين هاتين العبقرتين، تجعل الإنسان غير الفيزيائي يقف في منتصف الرغبة في العودة إلى الماضي، وإلى حين أن يتمكّن مِن أن يسافر بسرعة الضوء إلى أيّ ماضٍ يختاره، فإنّه يملك خيار أن يحاكي وعيه كي يتمكّن من التعرّف إلى حقيقته، ومن ثم ينطلق نحو عيش اللحظة الآن وهنا.
الأصالة والزّمن الجميل
بقلم: جميل السلحوت – كاتب من فلسطين
دعونا نتساءل: هل يوجد زمن جميل وآخر قبيح؟ وكيف؟ أم أنّ الحياة تقوم على الصّراع بين الخير والشّرّ، يقول “أبو البقاء الرّندي” في رثاء الأندلس:
هيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَل — مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءتْهُ أزْمَانُ
وهكذا فإنّ حياة الإنسان مُتقلّبة “الدّهر يومان: يوم لك ويوم عليك”. ولولا الّليل ما عرفنا جمال النّهار والعكس صحيح. لكنّ الإنسان متقلّب كما الضّغط الجوّيّ وكما هي الحياة، يقول تعالى: “إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا” (سورة: المعارج).
ويبقى السّؤال: ما هو الزّمن الجميل؟ وإذا ما فكّرنا بالإجابة عن هذا السّؤال فإنّنا سندخل في متاهة فلسفيّة لها أوّل وليس لها آخر، فكلّ إنسان له ماضٍ وحاضر ومستقبل، ومن لا ماضي له، لا حاضر ولا مستقبل له، مع أنّ الإنسان طموح وفي الغالب لا يوجد من يرضى بحاضره – وإن تقبّله – وهو يطمح إلى حياة ومستقبل أفضل ممّا هو عليه. فهل الحياة تشاكس الإنسان، أم هو كثير الشّكوى؟ يقول الإمام “الشّافعيّ”:
نَـعِـيـبُ زَمَـانَـنَـا وَالْعَيْبُ فِينَا — وَمَـا لِـزَمَـانِـنَـا عَـيْـبٌ سِـوَانَـا
وَنَـهْـجُـو ذَا الزَّمَانَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ — وَلَـوْ نَـطَـقَ الـزَّمَـانُ لَنَا هَجَانَا
وَلَيْسَ الذِّئْبُ يَأْكُلُ لَحْمَ ذِئْبٍ — وَيَأْكُـلُ بَـعْـضُـنَـا بَـعْـضًا عِيَانَا
وعودة إلى سؤال الزّمن الجميل، وإذا ما توقّف أحدنا بعقلانيّة وفكّر بمنطق بما مضى من حياته، و”ما الحياة إلّا رحلة قصيرة شاقّة وممتعة”، سيجد أنّ كلّ ما مرّ به جميل وماتع حتّى لو كان مؤلِمًا ومأساويّا كموت عزيز، فالذّكريات بحُلوها ومرّها جميلة دائما، مع التّأكيد بأنّ بعض “المنعزلين” المُنغلقين على ذواتهم، يكونون في منتهى الرّضا لأنّهم لا يعرفون ولا يعلمون كيف يعيش غيرهم، وهؤلاء ينطبق عليهم قول الشّاعر:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله — أخو الجهالة في الجهل ينعم
والإنسان في سعيه الدّؤوب نحو الأفضل لا يرضى بواقعه، ويتحسّر على ما مضى من حياته ويراه جميلا!