كيف حطّمت طائرات المقاومة الفلسطينية كبرياء صهيون؟

في سنة 2021، أعلنت “إسرائيل” بكلّ غرور الانتهاء من بناء “السياج الذّكي”، وهو حاجز يصل طوله إلى 65 كيلو مترًا على طول قطاع غزّة، وفي سنة 2016، تمّ الإعلان عن المشروع علنًا عندما استخدمت المقاومة الأنفاق تحت الأرض بغرض مهاجمة القوّات الصّهيونية في حرب 2014، وكان المشروع يحتاج إلى أكثر من 140 ألف طن من الفولاذ والحديد أو أكثر.

وكانت هناك حاجة أيضًا إلى تركيب مئات من أجهزة الرّادار وأجهزة الاستشعار والكاميرات، حيث يحيط بالسّياج بعض ممرّات الوصول من جانب غزّة للمزارعين سيرًا على الأقدام.

وعلى الجانب الآخر من السّياج، أي من جهة الكيان، أقيمت كثبان وأبراج مراقبة لغرض مراقبة المتسلّلين والتّهديدات، حيث كان بيني غانتس وزيرًا للدّفاع في تلك الأوقات، والذي صرّح في سنة 2021 بأنّه قد جرى بناء “جدار حديدي” بين جنوب “إسرائيل” وغزة.

ومع ذلك، وفي يوم السبت 7 أكتوبر من عام 2023م، مكّنت مجموعة من المحاولات المنسّقة المقاومة من تجاوز الجدار بسهولة. ووفقا لجيش الاحتلال الإسرائيلي، تمّ اختراق السّياج عبر ما مجموعه 29 نقطة، مع أنّه كانت هنالك أبراج حراسة للكيان متمركزة على كلّ 150 مترا عبر محيط الجدار في نقاط متقاربة، لكن لم تواجه المقاتلين صعوبات كبيرة في اجتيازهم هذه التّحصينات.

مزيج من الدّهاء والاجتهاد والمثابرة

جاء الهجوم الضّخم الذي وقع فجر السّبت تحت غطاء وابل من الصّواريخ التي استهدفت مواقع للاحتلال، وشمل نيران القنّاصة وإسقاط المتفجّرات من طائرات بدون طيّار على أبراج المراقبة والاتّصالات، وجرّافات مزّقت السّياج المزدوج الذي يبلغ ارتفاعه ستة أمتار.

وباستخدام طائرات بدون طيّار قليلة التكاليف، قصفت المقاومة أبراج المراقبة في الجانب الذي تسيطر عليه “إسرائيل”، وتمّ قصف منظومة الأسلحة على الحدود والبنية التّحتية للاتصالات بطريقة مماثلة.

ووفقًا لمصادر الاحتلال، أطلقت المقاومة أكثر من 3000 صاروخ على الكيان، ووصلت بعض هذه الصّواريخ القوية إلى القدس وتل أبيب أيضًا، وساعدت المجاهدين في الطّيران عبر الحدود الطّائرات الشّراعية المعلّقة التي تعمل بالمروحة.

واستخدم رجال المقاومة متفجّرات لتدمير أجزاء من الحاجز، وكان يشرف على فتح هذه الفجوات مقاتلون على درّاجات نارية، ثمّ ساعدت الجرّافات في توسيع الفجوات، ممّا أتاح المجال لدخول المركبات الكبيرة.

وتدفّق حوالي 1500 مجاهد بسرعة على متن شاحنات صغيرة ودرّاجات نارية، وانضمّ إليهم آخرون باستخدام الطّائرات الشّراعية والزّوارق السّريعة في البحر، وسيطروا على المستوطنات المجاورة.

ويكمن الفشل الرّئيسي لجيش الاحتلال في الاعتماد المفرط على السّياج الحدودي الذي يتمّ التحكّم فيه عن بعد والدّفاعات غير المناسبة عنه، ممّا سمح للطّائرات بدون طيّار، التي تتحكّم بها المقاومة عن بعد، بقصف وتعطيل أبراج الاتّصالات ومراكز المراقبة والمدافع الرشّاشة التي يتمّ تشغيلها عن بعد بالقرب من الحدود، فضلًا عن تعطيل الكاميرات الأمنية بنيران القنّاصة، ممّا شلّ دفاع العدو فورًا.

وقد فاقم هذا الفشل العملياتي لجيش الاحتلال فشل استخباراتي أكبر، بما في ذلك عملية خداع استمرّت لأعوام من قبل المقاومة، والتي سرّبت اعتقادًا خاطئا لدى “إسرائيل” بأنّ حركة المقاومة تمّ ردعها عن الانخراط في صراع مفتوح، وأنّها على استعداد للحفاظ على الهدوء والتّفاهمات الصّامتة مع الكيان، لتتفاجأ بالهجوم الذي لم يكن متوقعا في أسوأ كوابيسها، فقتل ما يقرب من 1200 صهيوني وتم أسر 253.

لكن هذا الهجوم تمّ إطلاقه من قطاع غزّة، وهو شريط مساحته (360 كيلومترًا مربعًا) من الأراضي السّاحلية على البحر الأبيض المتوسّط تحدّه فلسطين المحتلّة من الجانبين ومصر من جانب واحد، وغزّة منطقة فقيرة ومكتظّة بالسكّان ومواردها قليلة، وقد ظلت معزولة بشكل شبه كامل عن بقيّة العالم منذ ما يقرب من 17 سنة، بعدما سيطرت حماس عليها، الأمر الذي دفع الكيان الصّهيوني إلى فرض حصار صارم على القطاع، وهذا الحصار لا زال مستمرًّا، كما يفرض الكيان أيضًا حصارًا جويًّا وبحريًّا على غزّة، بالإضافة إلى منظومة ضخمة من عمليات المراقبة، وهو ما يطرح السّؤال التّالي: كيف تمكّنت المقاومة من جمع هذا الكم الهائل من الأسلحة التي مكّنتها من شنّ هجمات منسّقة خلّفت أكثر من 1200 قتيل وآلاف الجرحى ومئات الأسرى الإسرائيليين، في حين استمرّت في إطلاق الصّواريخ على الكيان الصهيوني؟.

الجواب، وفقًا للخبراء، هو من خلال مزيج من الدّهاء والاجتهاد والمثابرة ودعم مهم من الخارج.

يقول كتاب “حقائق العالم” الصّادر عن وكالة المخابرات المركزية: “تحصل حماس على أسلحتها من خلال التّهريب أو الانتاج المحلّي وتتلقّى بعض الدّعم العسكري من إيران”، يقول الخبراء: إنّ الجمهورية الإسلامية كانت منذ فترة طويلة الدّاعم العسكري الرّئيسي لحماس، حيث تقوم بتهريب الأسلحة عبر الأنفاق السرية إلى القطاع عبر الحدود أو القوارب التي تخترق الحصار البحري. “.

إعادة التدوير

يقول ليستر من معهدMEI : ” إنّ الحرس الثّوري الإسلامي الإيراني، يقدّم تدريبًا لمهندسي حماس على الأسلحة منذ ما يقرب من عقدين من الزّمن”.

وقال ليستر: إنّ “سنوات من الوصول إلى أنظمة أكثر تقدّمًا أعطت مهندسي حماس المعرفة اللّازمة لتعزيز قدرتها الإنتاجية المحلية بشكل كبير”. وأضاف: أنّ “طهران تواصل تدريب صانعي الأسلحة في حماس. “.

لكن كيفية حصول المقاومة على المواد الخام لتلك الأسلحة المحلية تظهر أيضًا براعة الحركة وسعة حيلتها، فلا يوجد في غزّة أيّ من الصّناعات الثّقيلة التي من شأنها أن تدعم إنتاج الأسلحة كما هو الحال في معظم أنحاء العالم. ووفقا لكتاب حقائق وكالة المخابرات المركزية، فإنّ صناعاتها الرّئيسية هي المنسوجات وتجهيز الأغذية والأثاث، لكن من بين صادراتها الرّئيسية الحديد الخردة، الذي يمكن أن يوفّر المواد اللّازمة لصنع الأسلحة في شبكة الأنفاق أسفل القطاع.

طائرات المقاومة

لم يكن فعل إطلاق الصّواريخ من غزّة هو ما أزعج الجنود على الحدود الجنوبية لأراضي فلسطين المحتلة في 7 أكتوبر فحسب ، بل كان ذلك الطنين غير المعتاد الذي لم يسمعوه من قبل، الذي أصدره أسطول من الطّائرات بدون طيّار متاحة عبر الإنترنت مقابل مبلغ زهيد يصل إلى 6500 دولار ملأ السّماء فوق السّياج الحدودي “الإسرائيلي” الذي تبلغ قيمته مليار دولار، لقد تمّ تجهيزها لحمل المتفجّرات وتدمير الكاميرات وأنظمة الاتصالات والبنادق التي يتمّ التحكّم فيها عن بعد، ممّا مهّد الطّريق لهزيمة غير مسبوقة لجيش الكيان.

لقد صدمت الهجمات الأخيرة للمقاومة على الكيان الصّهيوني الكثيرين وفاجأت الخبراء بتعقيداتها ومستويات تنسيقها، حيث شملت عمليات متزامنة ومترابطة ومتعدّدة الطّبقات في البرّ والجوّ والبحر، ومع أنّ من يقود هذه الانجازات هي حركة مقاومة شعبية، إلّا أنّها تقاتل كقوّة عسكرية تابعة لدولة.

وتعتبر الطّائرات بدون طيّار التّكتيكية الصّغيرة عاملًا رئيسيًّا في دعم الكفاءة القتالية للمقاومة، إذ استخدمتها المقاومة بطرق متطوّرة ومتعدّدة الأوجه خلال معركة طوفان الأقصى، فقد شكّلت الأنظمة الجوية بدون طيّار الموجة الأولى من الهجمات للقضاء على أبراج المراقبة والكاميرات والاتصالات “الإسرائيلية”، وكان الهدف من هذا التحدّي الأوّلي هو تعمية وصمّ وإرباك دفاع جيش الاحتلال.

كما أسقطت المقاومة قنابل من طائرات بدون طيّار على الدبّابات والجنود، وكان من الواضح أنّها تدرك جيدًا كيفية استهدافها لتعطيلها، كما تمّ نشر أسراب من الطّائرات بدون طيّار لمهاجمة السّفن البحرية والبنية التّحتية للطّاقة.

وإلى جانب آلاف الصّواريخ، أطلقت المقاومة الطائرة الانتحارية بدون طيار المعروفة باسم طائرة “الزواري”-، والتي سميت على اسم المهندس التونسي ورائد الطّائرات بدون طيّار، الشّهيد محمد الزواري -رحمه الله-. ويبدو أنّ حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وهي أحد شركاء حماس الرّئيسيين في المنطقة، تدير أيضًا غرفة عمليات مخصّصة للطّائرات بدون طيّار. ومنذ بدء الهجمات، أدّت الطّائرات بدون طيّار دورًا حاسمًا في تحقيق الأهداف الاستراتيجية والتّكتيكية للمقاومة .

لا يعدّ أيّ من هذه التّكتيكات الفردية باستخدام الطّائرات الصّغيرة بدون طيّار جديدًا، ففي حين يعزوها الكثيرون للدّروس المستفادة من القتال في الحرب الرّوسية الأوكرانية، فإنّ هناك سوابق وفيرة وأقدم، أبطالها جهات مقاتلة غير تابعة لدول بعينها. وتشمل القائمة: حزب الله، والجهاد الإسلامي في فلسطين، وأنصار الله (الاسم الرسمي لحركة الحوثي في اليمن)، والعديد من المنظّمات التي ترعاها إيران في اليمن والعراق، بمعنى آخر: المقاومة لم تتعلّم كيفية استخدام الطّائرات بدون طيّار من الرّوس والأوكرانيين؛ بل إنّ الرّوس والأوكرانيون هم من تعلّموا كيفية استخدام الطّائرات الصّغيرة بدون طيّار من تلك الحركات .

مقلدون ومبتكرون

المجاهدون يقومون بالتّقليد، فهم يشاهدون ما ينجح، ويدرسون النّقاط التّوضيحية في صراعات أخرى، وينشرون المعرفة من خلال شبكاتهم الخاصّة، بالنّسبة لأولئك الذين يدرسون تكتيكات حروب العصابات ، فإنّ أيًّا من التّكتيكات المستخدمة في هذه الحرب الجديدة لم تكن مفاجئة، لكن المجاهدين يبتكرون أداءات جديدة أيضًا، وقد فعلت المقاومة ذلك من خلال الطّائرات بدون طيار بطريقتين: بالكمية والنّوعية، أولًا: تقوم المجموعة بمحاكاة الكتلة باستخدام طائرات بدون طيّار، صغيرة جاهزة للاستخدام ويمكن نشرها بطرق متعدّدة، بما في ذلك تزويدها بالقنابل وتعديلها لتكون سلاحا حربيًّا، ومثل آلاف الصّواريخ التي تمكّنت من التغلّب على القبّة الحديدية بكميتها الهائلة، توفّر الطّائرات بدون طيّار التّجارية قوّة جوّية رخيصة وخام على نطاق واسع لمراقبة العدو ومضايقته ومهاجمته.

ثانيًا: وبشكل أكثر جوهرية، تتبوّأ المقاومة الرّيادة في إنتاج نموذج جديد من الأسلحة المدمجة مع طائرات تجارية بدون طيّار، وهو أمر غير معتاد بالنّسبة لحركات المقاومة في أساليب الأسلحة المشتركة، تعمل وحدات متعدّدة ذات قدرات مختلفة بشكل متضافر، ممّا يؤدّي إلى تضخيم تأثير هجومها، وتشكّل الطّائرات بدون طيّار عنصرًا أساسيًّا في هذا النّهج، وبالتّالي فهي مضاعفة للقوّة، ومن خلال استخدام الطّائرات بدون طيّار جنبًا إلى جنب مع القوّات والمنصّات التّقليدية ودعمًا لها، تُظهر المقاومة القدرة على تشكيل قوّة متعدّدة المجالات ضدّ خصم أقوى.

كيف وصلت المقاومة إلى هذا المستوى؟

تعزى هذه القدرة لرعاية إيران، التي توفّر الموارد والتّدريب، ويتمّ تعزيز هذا الدّعم بشكل أكبر من خلال العلاقات مع حركات المقاومة الأخرى خارج حدود فلسطين المحتلة، مثل حزب الله في لبنان المجاور، وغيرها من الجماعات المناهضة للكيان والمدعومة من طرف إيران، ومع ذلك، فإنّ الطّائرات بدون طيّار تشكّل جزءًا مهمًّا من الصّورة التي توضّح كيفية ارتقاء المقاومة من حيث القدرة، ولن يمرّ ذلك دون أن يلاحظه أحد.

يتكهّن كثيرون بالعواقب العالميّة للحرب، بما في ذلك احتمال ظهور جبهات قتال إضافيّة، وتدفّق المقاتلين من خارج حدود فلسطين المحتلة، ورد الفعل العنيف ضدّ الدّعم الغربي، بل وحتّى حرب أكثر انتشارًا في منطقة الشّرق الأوسط إذا تواجهت “إسرائيل” وإيران مباشرة، ومع ذلك، فإنّ أحد الآثار المباشرة هو العرض القوي للبراعة التي يمكن لحركات المقاومة تحقيقها بطائرات بسيطة بدون طيّار.

والآن تعرض المقاومة نسخة مبتكرة من الطّائرات دون طيّار، وتتمتّع المقاومة بالشّرعية لدى بعض الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، ونتيجة لذلك سيُنظر إلى نهج الأسلحة الجماعية والمدمجة مع الطّائرات بدون طيّار الصّغيرة على أنّه نهج متميّز سيسعى العديد من المقاومين إلى تقليده، ممّا يجعل القتال ضدّ حركات المقاومة في الحرب غير النّظامية تحديًّا حقيقيًا ، وسيزداد صعوبة مع ابتكار هذه الحركات لطرق قليلة التّكلفة للقتال كأنّها دول، كما قد يجعل من صادرات الطّائرات المسيرة وغيرها من الأسلحة ليست مجرّد وسائل قتالية بيد المقاومة، ولكن أحد روافد اقتصاد غزّة ما بعد الحرب.

ستبقى لقطات الفيديو التي بثّتها المقاومة للطّائرات بدون طيّار وهي تسقط عبوات ناسفة أدّت إلى تعطيل أو “إعماء” أبراج المراقبة على طول السّياج الحدودي “الإسرائيلي” مع قطاع غزّة، والتي كانت تعتبر غير قابلة للاختراق، كابوسًا يؤرّق قادة الكيان ومستوطنيه، ورمزًا للنّصر الذي تقطفه اليد المجاهدة الصّابرة المثابرة المؤمنة، من أعتى عدو، وأذان بانهيار حلم الصّهاينة في “أرض الميعاد”، وإيقاد لشعلة الأمل بتحرير فلسطين، كلّ فلسطين من البحر إلى النّهر بإذن الله.

إبراهيم بن طه العجلوني - أكاديمي أردني

إبراهيم بن طه العجلوني - أكاديمي أردني

اقرأ أيضا