لاحقه المخزن قبل أن تغيّبه إسبانيا.. الرّمز “بصيري”.. أقدم مفقود على أرض الصحراء!

مرّت 48 سنة على توقيع الاتفاقية المشؤومة في 14 نوفمبر 1975 بالعاصمة الإسبانية مدريد، بين إسبانيا والمملكة المغربية وموريتانيا. هذه الاتفاقية الثلاثية فتحت المجال أمام الاحتلال المغربي ليستولي على الصحراء الغربية بقوة السّلاح وبدعم من القوى الغربية، وتكريسا لمنطق القمع والاضطهاد الشّديدين ضد الشعب الصحراوي الذي ناضل رموزُه ـ على مدار التاريخ ـ ضد كل أشكال الاحتلال، ومن بين تلك الرموز يبرز اسم الفقيد محمد سيد إبراهيم بصيري.

هو محمد ولد سيد إبراهيم ولد سيد أمبارك، المولود في أكتوبر 1942، ينتمي إلى عائلة “أهل لبصير” الصّحراوية التي عرفت باهتمامها بنشر العلم وتعلمه. ورغم يتمه المبكر، فقد نشأ محمد بين مجالس العلم وحلقات الذكر، متتلمذا بداية على إخوته الكبار أساتذة الدين، ثم على أيدي كبار الشيوخ المتفرغين للتعليم بزاوية آل لبصير، وهو ما سهّل عليه الحصول على شهادة الباكالوريا في العلوم الأصلية والآداب.

وبعد دراسات متقطعة في كل من الرباط ومراكش والدار البيضاء، شدّ الرحال إلى مصر لدراسة الصحافة. ومن القاهرة سافر إلى دمشق، التي حصل من جامعتها على شهادة الإجازة في العلوم السياسية ثم تركها مسافرا إلى بيروت التي تلقى بها دراسات متخصصة.

ويبدو أن رحلته إلى المشرق العربي، وإن أفادته على مستوى التّكوين الشخصي والمعرفي، إلا أنها قد طبعت بصعوبات مادية اضطرته إلى قطع دراسته والعودة إلى عائلته، وهكذا عاد بصيري سنة 1966م من رحلته المشرقية التي مكنته من معايشة التجارب الوطنية والقومية في مصر وبلاد الشام، حيث واكب حجم التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت منطقة الشرق الأوسط حبلى بها حينئذ، في وقت كانت بلاده وقومه يعيشون عزلة خانقة فرضها عليهم المستعمر الإسباني لعشرات السنين، فكان المجتمع الصّحراوي ينتمي ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وحتى اجتماعيا إلى أزمنة سالفة دون أن يعي أو يشارك في التغيّرات العميقة التي عرفتها المنطقة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.

الصّحراء الغربيّة.. للصّحراويين فحسب

وما إن عاد بصيري من رحلته حتى شرع، بالتّعاون مع بعض أصدقائه في مدينة الدار البيضاء المغربية، في إصدار صحيفة لم تعمر طويلا سماها “الأساس”، أبرز من خلال مقالاته فيها جوانب مشرقة من التاريخ الصّحراوي، مذكرا بواقع الاحتلال الذي كانت الصحراء الغربية حينها ترزح تحته، ومعرفا بالثقافة الصّحراوية المتميزة، داعيا إلى الحفاظ عليها وتثمينها.

وقد كان الفقيد يوقّع مقالاته الصحافية باسمه الذي اشتهر به وهو “بصيري” ، بالإضافة إلى اسم آخر هو”الصّحراوي”، وفي السنة اللاحقة أصدر جريدة شبابية أخرى باسم “الشّموع”، ولكنها هي الأخرى سرعان ما تعرضت للمنع والغرامة من طرف السّلطات المغربية بعد صدور عددها الثالث لتضمنه مقالا بعنوان “الصحراء للصحراويين”.

بدأ الصحافي الشّاب يحس بمراقبة بوليسية مغربية لصيقة، أبانت عن انزعاج السلطات المغربية من قلمه وأفكاره، فلم يكن بمقدور مغرب الحسن الثّاني المحكوم حينها بسياط “أوفقير” أن يتقبل فكرا جديدا ورؤى صحراوية مغايرة لما يبيّت له المخزن من نوايا، وما يعدّ له من مخططات تجاه الصحراء الغربية أرضا وشعبا.

فبعد أيام من توقيف جريدة “الشّموع” وتغريمها، علم بصيري بنية السّلطات المغربية القبضَ عليه وتصفيته، فقد أسرّ له أحد أصدقاء العائلة بأن السّلطات المغربية على أعلى مستوياتها قد قرّرت اغتياله خلال أسبوع، فعزم بصيري على الانتقال من المغرب إلى الصّحراء الغربية، ملتحقا بأفراد من عائلته يقيمون بمنطقة رأس الخنفرة ومنها دخل مدينة السّمارة الواقعة بشمال شرقي الصحراء الغربية في شهر مارس سنة 1968م.

وقد تبِع ذلك اعتقاله من طرف السّلطات الإسبانيّة ثلاثةَ أشهر، ثم أفرج عنه تحت ضغط عائلته وبعض الوجهاء الصّحراويّين لتتراجع إسبانيا عن قراراها بتسليمه للمغرب الذي فرّ منه.

يتميز الفقيد بصيري بالهدوء وحب الاستماع للنصح قبل أن يقدم على أي خطوة حتى في القرارات الصعبة، فقد  كان يفضّل مشورة الآخرين القرارات. وعلاوة على معرفته بعلوم القرآن وثقافته الواسعة يعد الفقيد شخصية متميزة ومتنورة في تلك المدينة، إلا أن عدم امتلاكه وثائق ثبوتيّة إسبانية حدّ من حركته وقلّص من انتشار أفكاره، حسب شهادات من عرفوه.

ولعلّ العوامل التي أدّت إلى بروز الرجل هي ظاهرة “الفراغ السياسي” في ظل العدمية السياسية والأميّة، اللتين كانتا تضربان أطنابهما بالمنطقة، وهما عاملان أفرزا تحديات ورهانات جديدة، وسط أجيج حرب مشتعلة ومؤامرة دولية كانت خيوطها تنسج على نار هادئة في غياب الصّحراويين وبرعاية قوى خفية تلعب على الحبلين تارة بين واشنطن ومدريد وأخرى بين الرباط وباريس، والتي اتضحت معالمها خلال سنتي  1974  و1975.

خبر عبر الأثير.. وميلاد ثورة على الأرض

وفي أكتوبر 1969، ونتيجة سماع خبر من إذاعة ” البي بي سي” البريطانية نقلا عن صحيفة “الأوبزيرفر” التي كشفت أن إسبانيا قد تقدم على تقسيم المنطقة عقب تخليها وتسليمها منطقةَ “طرفاية” للمغرب.

“اختمرت” فكرة تأسيس “حركة” لمواجهة تلك “المؤامرة” والتّصدي لها في المهد، وذلك في اجتماع موسع تواصل طوال الليل وتمخّض عنه الاتفاق على تأسيس تنظيم مناهض للاستعمار الإسباني، أُطلق عليه اسم “حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب”، التي عرفت كذلك باسم “الحركة الطليعية لتحرير الصحراء الغربية”.

وفي الاجتماع، لم يكن قد أعلن عن رئيس أو مؤسس الحركة، لكن تم تعيين بصيري في الاجتماعات التالية ـ بحسب إفادات من عايشوا الحدث ـ رغم أنه لا يملك وثائق لكن “خبرته وحنكته ودرايته” بالقضايا الكبرى لبلاده مميّزات جعلت أعضاء الحركة ينتخبونه على رأس المنظمة.

اختار بصيري أن يكون عمل الحركة سلميا من خلال تقديم مذكرة تتضمن مطالب الحركة، وفي مرحلة ثانية يتم اللجوء إلى القوة في حال رُفضت الحلول السلمية، لهذا اتصل بصيري بالطلبة الصّحراويين خاصة في مدينة العيون متخذا من الخطاب الحماسي وسيلة لمواجهة المستعمر الغربي والمطالبة بنصر المسلمين، بينما الهدف كان سياسيا وهو خلق إجماع صحراوي لطرد الاستعمار الإسباني، في نظر المراقبين.

اتفق الحاضرون على توجيه مذكرة عنوانها “رسالة مفتوحة من الشّعب الصّحراوي إلى الحاكم العام الإسباني في الصحراء الغربية”، كتبها بصيري في السمارة وسلّمها أعضاء من الحركة يوم 17 يونيو (جوان) إلي الحاكم الإسباني في العيون- ديلما – الذي كان ساعتها في اجتماع يعلن فيه أن الصحراء هي المقاطعة الإسبانية رقم (53).

وطالما عبّر بصيري في مذكرته عن رغبته الواضحة في حرية الشّعب العربي الصّحراوي، الذي لم يخضع في يوم من الأيام لسلطات شعوب أخرى ـ على حدّ قوله ـ ويرفض الانضمام لأي دولة مجاورة من الشّرق أو من الشّمال أو من الجنوب. وطالب من الحاكم الإسباني الاتّفاق المشترك مع الشّعب الصّحراوي على منحه الحق في أن يحكم نفسه بنفسه بشكل تدريجي.

أين جثّة بصيري.. يا إسبانيا؟

وفي ليلة 18 يونيو 1970، تم إلقاء القبض على قائد حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، التي أسسها الفقيد ديسمبر1969، إذ ما فتئت جبهة البوليساريو – منذئذ – تطالب الحكومة الإسبانية بالكشف عن مصيره.

ومازال محمد سيد إبراهيم بصيري في عداد المفقودين إلى حدّ الساعة، ومازالت المعلومات حول مصيره متضاربة، ولا أحد في إسبانيا يتجرأ على قول الحقيقة لكنه يظل رمز قضية على رأس قائمة تضمّ المئات من المفقودين ومجهولي المصير، وأسرى الحرب الصّحراويين في السجون المغربية!

ويظل بصيري على ذمة التحقيق وعلى مسؤولية إسبانيا مثل قضية تقرير مصير شعب وأرض سلّمت على طبق من ذهب للمغرب في صكّ اتفاقيات مدريد في خيانة القرن التي ارتكبتها الدولة الإسبانية في حق الصّحراويين!

وتوضح معلومات أقارب الفقيد ومن اتصل به منذ أن بات في قبضة الإسبان في ليلة 18 يونيو 1970، أنه أودع السجن المركزي في العيون منفردا وهو يحمل الرقم (بي 2875) تحت حراسة الشرطة والجيش الإسبانيين، وقد وجد نفسه مهددا بالتصفية الجسدية تحت الاستنطاق الشديد والتحقيق العميق حتى أنه تمت الاستعانة بسبعة محققين كلّ واحد مستقل بقضيته عن الآخر، الرابط بينهم إدارة التحقيق ورجال الاستخبارات الكبار في الدولة الإسبانية، بحسب شهادات.

الحديث هنا عن “أقدم مفقود على وجه الأرض”، كما صنفته جمعية أولياء المعتقلين والمفقودين الصّحراويين، ليبقى قميص بصيري لعنة تلاحق إسبانيا إلى الأبد، فمن غير المنطقي أن يكون بصيري قد هرب أو سُلم إلى جهات خارج إسبانيا، بل المؤكد أنه قد لفظ أنفاسه الأخيرة تحت التّعذيب وبقي مجهولا مطمورا في حديقة من حدائق النظام الديكتاتوري الإسباني الرهيب، لكن ذلك لا يعفي مدريد ـ في الوقت الراهن ـ من المسؤولية ليس فقط فيما يخص بصيري بل مصير قضية برمتها.

حميد سعدون

حميد سعدون

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
إحباط محاولة إدخال 30 قنطارًا من الكيف عبر الحدود مع المغرب الجزائريون في رمضان.. حين يتحوّل العمل التطوعي إلى عادة مُتجذرة في المجتمع شراكة أمنية وتنموية بين الجزائر وتونس لخدمة المناطق الحدودية غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس