لا يقرأه إلا الرجال

ما أوحش العالم من دون نساء.. فهن النجوم وهن البدور، وهن الشموس وهن الشموع، وهن الضياء الذي لولاه ما ابتسم الصبح ولا سطع النهار.. ليس تزلفا ولا تملقا ولا تكلفا، ولكنها الحقيقة الكامنة التي يعجز عن قولها الرجال، فهم لا يملكون الشجاعة الكافية ولا الصراحة الوافية للإفصاح جهرا عما يجول في خواطرهم، على عكس النساء اللائي لا يُحْسِنَّ التستر والكتمان.

على باب سوق العطارين وقف صعلوك الهوى يعاكس النسوة دون حياء، فمرت به امرأة لم تكن ككل النساء، فقال لها؛

إن النساء شياطين خلقن لنا……

……نعوذ بالله من شر الشياطين

فاستدارت إليه بكل جسارة ورهبة، وردت عليه ببيت على نفس الوزن وبنفس القافية؛

إن النساء رياحين خلقن لكم……

……..وكلكم يشتهي شم الرياحين

فأفحمته بكل أدب ولباقة، في استذكار بديع لمعنى قول رسول الله -ص- في الزهراء فاطمة البتول: ريحانة أشمها وعلى الله رزقها.. ورضي الله تعالى عن “حسان بن ثابت” الذي مدح السيدة أم المؤمنين “عائشة” رضي الله تعالى عنها بعد حادثة الإفك المشؤومة والتي كان هو نفسه طرفا فيه، حيث قال؛

حَصان رَزان ما تزِن بِريبَةٍ………………

…………..تصبِح غَرثى مِن لحومِ الغَوافِل

حليلة خيرِ الناسِ ديناً ومنصباً…………..

………..نبيِّ الهدى، والمَكرماتِ الفوَاضِلِ

عَقيلَة حَيٍّ مِن لؤَيِّ بنِ غالِبٍ…………..

…………كِرامِ المَساعي مَجدهم غَير زائِلِ

مهَذَّبَة قَد طَيَّبَ اللَه خَيمَها……………..

…………….هَّرَها مِن كلِّ سورٍ وَباطِلِ

إذا، فالنساء تيجان رؤوس الرجال، فهن القوارير اللائي لا يكرمهن إلا كريم، ولا يهينهن إلا لئيم.. أيها الرجال؛ تأدبوا مع أمهاتكم، وتهذبوا مع نسائكم، وتلطفوا مع بناتكم.. عليكم بالالتزام بشمائل الأحرار وكرائم النبلاء وأخلاق الفرسان وخصال الشرفاء.. حيال كل النسوة مهما كانت مساحة القرب ودرجة القرابة.

فمن كانت له زوجة ماكثة في البيت فليودعها بقبلة على جبينها كل صباح، قبل الخروج إلى عالم الشغل القاتم الموحش، فإنها امرأة عظيمة، مرابطة على ثغر من ثغور الحياة، مجاهدة ومجالدة ومكافحة ومنافحة.. وأما إذا كانت المرأة عاملة خارج البيت، فإن أجرها ضعفين ورباطها أجرين، وعلى الزوج المهذب في هذا الموقف، أن يسبقها إلى الخارج متعجلا، وليهيئ لها المقعد الأمامي، وليدفئ لها المركب ولينتظر خروجها من البيت، حتى إذا همت بفتح الباب سبقها إلى فعل ذلك، وليبالغ في إظهار الاهتمام لأمرها، تقديرا واحتراما لشخصها، فإنها امرأة ذات جهادين وجُهدين ومعركتين.

وأما إن كان لا يملك سيارة، فليرافقها كتفا لكتف حتى تبلغ مقر عملها أو مركب نقلها، وليودعها ببسمة مُطَمْئِنة هادئة جليلة، حتى تشعر بالأمن والراحة والأمان، في كنف حب رجل يرى فيها الحياة بنورها، وترى فيه العالم كله والدنيا بأسرها.. فإذا كان الرجل يبحث عن الشهرة والرفعة والأبهة، فإن المرأة هي التي تدفع الثمن.

ففي الأثر أن جرير بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- جاء يشكو شأن زوجته معه إلى سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- فوقف على بابه، حتى إذا هم بدق الباب سمع صوت امرأة الفاروق يعلو من داخل البيت، فتريث هنية ثم دق الباب، فإذا بأمير المؤمنين واقفا أمامه؛ ما جاء بك يا رجل..؟ قال جرير: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جِئتُ أَشْكُو إلَيْك خُلُقَ زَوْجَتِي وَاسْتِطَالَتَهَا عَلَيَّ، فَسَمِعْتُ زَوْجَتَكَ تفعل بك كَذَلِكَ، فَقُلْت في نفسي: إذَا كَانَ هَذَا حَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ زَوْجَتِهِ، فَكَيْفَ بحَالِي…؟ فَقَالَ لَهُ عُمَر: يا هذا إنهن زوجاتنا، إن كرهنا منهن سلوكا، سُرِرنا بغيره، إنهن يربين أولادنا، وينظفن بيوتنا، ويطهين طعامنا، ويقمن على شأننا، وما أمرهن الله بذلك، أفلا نصبر على صراخهن..! وإني قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن المرأة قد خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه؛ فإن أردت أن تستمتع بها فاستمتع بها على عوجها، وإنك إن ذهبت تقوِّمه كسرته، وإن كسر المرأة طلاقها، فاستوصوا بالنساء خيراً.

وفي الأثر كذلك أن “هندا” كانت فارسة لا يُشق لها غبار، إلى جانب حسنها وجمالها؛ فقد كانت ذات قدّ معتدل، بخدّ أسيل، وطرف كحيل، وردف ثقيل، وعنق طويل، وقامة كأنها ميل.. ذكية المعاطر، مُقبقبة الخواطر، إن أقبلت خيلت، وإن أدبرت فتنت.. وأنها فوق ذلك كله، ذات حسب ونسب، فوالدها هو القائد التابعي “المهلب بن أبي صفرة” وأخوها يزيد بن المهلب أحد أعظم فرسان العرب.. وإلى جانب هذا، كانت خطيبة مفوهة وفصيحة ملهمة، ذات بداهة ودهاء.

لم تكُن “هند” ترغب في الزواج من “الحجاج بن يوسف الثقفي”، إلا أنه كان أمير العراق والحجاز، كأقوى رجال الدولة الأموية، كما كانت تربطه صلة متينة بآل المهلب.. فتزوج ابنتهم “هند” بعد أن بذل في سبيلها الكثير من المال، وكتب لها مؤخر صداق قدره مئتا ألف درهم.

مكثت معه مكرهة فترة من الزمن، إلى أن دخل عليها غرفتها في أحد الأيام، فوجدها تتأمل حسن وجهها وجماله في المرآة، قائلة؛

وما هند إلا مـهـرة عــربـية………….

……….سـليلة أفـــراس تحللـها بـغـل

فإن ولدت فحلاً فللـه درهـا……….

…وإن ولدت بغلاً فقد أتى به البغل

سمع الحجاج ذلك، فعاد أدراجه غاضباً دون أن تنتبه “هند” لوجوده.. وأمر غلامه بأن يحمل إليها مؤخر صداقها، وطلب منه أن يبلغها بأمر الطلاق بكلمتين ولا يزيد عليهما، وإلا قطع لسانه، مخافة أن تخبره هند بما حدث.

فذهب الغلام إلى هند، وقال لها: كنتِ فبنتِ.. أي كنتِ زوجته فبنتِ -من البين أو الفراق- فأصبحت طليقته. فقالت هند: كنا فما فرحنا، فبنا فما حزنا.. يا غلام، لك ما حملت من مال بشارة خلاصي من كلب ثقيف..

بعد طلاق هند، لم يجرؤ أحد من العرب على خطبتها مجدداً خوفاً من بطش الحجاج.. إلا قصتها تلك وأوصاف جمالها ونباهة عقلها وحكمة منطقها.. قد شاعت وذاعت حتى بلغت أسماع أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، فوقع في نفسه شيء من الميل إليها، فقرر أن يخطبها لنفسه.

وعندما بلغتها رغبة أمير المؤمنين في الزواج منها، بعثت إليه كتاباً تشترط فيه أن يقود الحجاج موكبها، وهي في طريقها إلى قصر الخلافة بدمشق وأن يكون حافي القدمين، فضحك الخليفة ضحكاً شديداً من شرطها ووافق عليه.

لم يسع الحجاج إلا للامتثال لأوامر الخليفة، وبالفعل، فقد ذهب إلى دار هند حافياً، ولما تجهزت وركبت مع جواريها في الهوادج، أخذ الحجاج بزمام البعير وراح يقوده متجهاً إلى قصر الخلافة. وفي الطريق تعمَّدت هند أن توقع من يدها ديناراً بينما يسوق الحجاج الراحلة، فخاطبته قائلة: يا جمال، لقد وقع مني درهم فناولنيه.. التقطه الحجاج، وقال لها؛ بل هو دينار وليس درهماً.. فقالت: الحمد لله الذي أبدلني بدل الدرهم ديناراً، -وتقصد بذلك أنها تزوجت خيراً منه-.. في تعريض طريف وانتقام لبيب على نهج حرائر العرب.

والنسوة يحتفلن بعيدهن العالمي، لا يمكن أن نغفل أو ننسى سيدة الإسلام الأولى؛ خديجة بنت خويلد أم المؤمنين –عليها السلام- ودورها العظيم في تهدئة روع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم تنزل عليه الوحي قائلة: كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ.. ليأتيها الرد بعد ذلك من فوق عرش عظيم؛ أَتَى جِبْرِيلُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ: هذِه خَدِيجَةُ قدْ أتَتْ معهَا إنَاءٌ فيه إدَامٌ، أوْ طَعَامٌ أوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هي أتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِن رَبِّهَا ومِنِّي وبَشِّرْهَا ببَيْتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ، ولَا نَصَبَ.

هن نساؤنا، وهذا تاريخهن في صناعة المجد وكتابة التاريخ بأحرف من ذهب.. من فجر التاريخ إلى لالة فاطمة نسومر ورسالة العز والكبرياء، إلى جميلات الثورة العظمى وكفاح الحديد والاباء، إلى الشهيدات والمجاهدات اللائي علمن الطغاة كيف يركعوا عند أقدامهن رهبة وتقديرا.. إلى الكاتبات بعد ذلك، والطبيبات والمعلمات والمهندسات والأمهات الماكثات.. إلى العواتق الحالمات بغد أفضل وعالم أجمل، أجل التحيات وأكمل السلامات.. وإلى العام المقبل.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا