لا تزال منطقة القرن الإفريقي محط أطماع دولية وإقليمية ومنطقة صراعات مفتوحة منذ زمن بعيد، ذلك لاعتبارات سياسية وإستراتيجية، حيث تحتل موقعاً مهماً في منطقة جنوب البحر الأحمر.
وتتمتع المنطقة بخصائص استراتيجية، وأهمية جيوبولوتيكية، ما جعلها موضعا للأنظار عبر التاريخ ومجالاً للصراع العالمي، في محاولة للسيطرة عليها ، لاسيما وأنّ إطلالتها على البحر الأحمر بالقرب من المملكة العربية السعودية واليمن، فضلا عن تمددها على مجموعة كبيرة من الجزر، وعلى مضيق باب المندب من الجهة الغربية، وهو أحد أهم الممرات البحرية المتحكمة في الملاحة الدولية، خاصة في نقل النفط العربي نحو أوروبا، ما يجعلها المنطقة الأهم بالتوازي مع قناة السويس المصرية.
تكالب دولي وتجاهل عربي
ولعل “لعنة” هذ المنطقة في ميزاتها الاستراتيجية، ما جعلها طوال التاريخ منطقة الصراعات من قبل القوى الكبرى، التي لطالما حاولت مدّ نفوذها، إمّا للسيطرة على الممرات الإستراتيجية، أو لتحييد أنظمة المنطقة من أيّ تحالفات، فضلا عن الحد من مدّ نفوذ القوى الأخرى النظيرة لها، في حين يبدو النظام الإقليمي العربي عاجز عن التواجد القوي في المنطقة رغم أنّ نصف دول هذه المنطقة جزء من المنظومة العربية، فضلا عن أنّ المصالح الاستراتيجية الكبرى، للدول العربية سواء على مستوى الثروة النفطية، أو المصالح الأمنية والعسكرية مرتبطة بهذه المنطقة !.
فمن ناحيةٍ يُعدّ مضيق باب المندب أهم ممر للثروة الإسترتيجية للعرب، في طريقه نحو الغرب، ومن ناحية أخرى تُعد هذه المنطقة هي الخاصرة الرخوة للأمن القومي العربي، حيث أنّ ضمان أمن البحر الأحمر، مرتبط بشكل عضوي بأمن منطقة الخليج العربي، فضلا عن أمن كل من مصر والسودان .
صراعات بينية.. وقواعد أجنبية
والواقع أنّ دول المنطقة نفسها ظلّت تدور في رحى خلافات بينية، سواء تلك المتعلّقة بتباين الإرادات السياسية، أو المصالح الاقتصادية، والخلافات الحدودية، أو تلك المتعلّقة بمناطق النفوذ الأجنبي، كما لا يمكن إغفال صراعات الزعامات بين عدد من حكام هذه المنطقة، والتي تغذيها أجندات دول أجنبية، فالصومال الذي استقل في بدايات الستينيات من القرن الماضي، دفع ثمنا باهظا في صراعه مع الجارة إثيوبيا المرتبطة بالأحلاف الغربية منذ بدايات القرن العشرين، بينما اختار الأول الانحياز للمعسكر الشرقي أثناء الحرب الباردة، ودارت بين الدولتين حروب ضروس أنهكتهما كثيرا، ولم تتوقّف حتى بعد تحوّل الموقف الإثيوبي نحو المعسكر الشرقي في أعقاب الانقلاب العسكري الذي قاده الكولونيل الأحمر منجستوا هيلي ماريام، وهو ما ساهم في تفتّت الدولة المركزية في الصومال بجانب النزاعات الداخلية التي لا يمكن إغفالها .
على الجانب الآخر ظلّت الدولة الأصغر في المنطقة “جيبوتي” منطقة نفوذ فرنسي لعدة عقود مضت، قبل أن يذهب نظامها السياسي إلى محاولة موازنة التواجد العسكري الفرنسي، بالسماح لدول أخرى منها الولايات المتحدة الأمريكية، (في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر) بإقامة قواعد عسكرية، ثم في عام 2011 وقعت مع اليابان لإقامة قاعدة عسكرية دائمة، وتعد هذه أول قاعدة عسكرية لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، في حين سمحت في عام 2017 للصين بإقامة قاعدة عسكرية، فضلا عن القاعدة الألمانية، لتصبح بذلك الدولة الأصغر أكبر مضيف للقواعد العسكرية الأجنبية في هذه المنطقة الحساسة للأمن القومي العربي .
منابع النيل ومخاطر تعطيش العرب
بجانب المزايا المذكورة، تكتسب هذه المنطقة أهمية أخرى، كونها موقع منابع أحد أهم الأنهار في العالم، حيث تشكّل بحيرة تانا في إثيوبيا المنبع الرئيس للنيل بما نسبته 86 بالمائة بينما تأتي النسب الأخرى من البحيرات الكبرى، وبذلك فإنّ ما يعادل الثمانين بالمائة من المياه التي تعتمد عليها كل من مصر والسودان مرتبطة بالمنابع الإثيوبية للنيل، وبالتالي تتحكّم إثيوبيا في المصير المائي لشعبي المصب (مصر والسودان)، ما يضعها في قائمة الدول الأكثر قدرة على الإضرار بالأمن القومي للبلدين، وهذا ما يعني أنّ حياة أكثر من 150 مليون إنسان (أي ما يقارب نصف العرب) مرتبطة بشكل أو آخر بهذا النهر وبالتالي بالقدرة على التحكّم فيه وضمان سريانه وفق اتفاقيات محدّدة !.
وهذا ما يضاعف أهمية الوصول إلى اتفاقيات منصفة مع إثيوبيا بشأن خططها الاستراتيجية حول نهر النيل، ليس على المستوى المنظور فحسب، (كما هو حال سد النهضة) بل على المستوى الإستراتيجي بعيد المدى، وضمان الالتزام بنسب محدّدة تأخد في الاعتبارات الزيادات السكانية في دول المصب، بما لا يضر مصالحها، ولا يغفل الضرورات التنموية في دول المنبع الأخرى، ومن المأمول أن تكون هذه الاتفاقيات مضمونة دولياً، بحيث لا تؤثّر التحوّلات السياسية من صيرورتها ونفاذها، من خلال تمتعها ببنود ملزمة لكل الأطراف بقوة المعاهدات ذات البعد الدولي .
إدراك غربي وارتباك عربي
رغم الميزات التي تم تناولها، والمخاطر التي يمكن أن تشكّلها هذه المنطقة في الأمن القومي العربي، والمصالح التي يمكن تحقيقها في حال تسطير استراتيجية مشتركة وواضحة المعالم تجاه هذه المنطقة، فإنّ الإدراك العربي عموما لهذه المصالح والمخاطر ظل مرتبكاً، وظلّت هذه المنطقة لفترة طويلة بعيدة عن اهتمام صانع القرار العربي، بما في ذلك في مصر والسودان !.
بينما أدركت القوى الغربية مبكّرا الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، وأضحى تواجدها يتجاوز العلاقات الديبلوماسية المعهودة، إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة، فضلا عن توسيع المصالح الاقتصادية والسياسية.