بين صفحات التاريخ وأروقة الحاضر، يقف التراث الثقافي شاهدًا على هوية الشعوب وأصالتها، لكنه اليوم يواجه رياح العولمة التي تهدد بتآكله في زحام التغيرات المتسارعة. في هذا الإطار، يسلط أحمد جعدي، المختص التربوي، الضوء على أهمية الحفاظ على التراث كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، مؤكدًا على دور الأسرة، المدرسة، والمجتمع المدني في تعزيز الوعي لدى الأجيال الجديدة. فهو ليس مجرد إرث من الماضي، بل هو جذور تمتد إلى المستقبل، تحمي الأصالة وتُبقي الهوية حية نابضة بالحياة.
لا يمكن الخوض في الحديث عن التراث دون الرجوع إلى بعض التعريفات البسيطة عن الهوية والعولمة، فالهوية تُعرّف بأنّها مزيج من الخصائص الاجتماعية والثقافية التي يتقاسمها الأفراد ويُمكن على أساسها التمييز بين مجموعة وأخرى، كما تُعرّف على أنّها مجموعة الانتماءات التي ينتمي إليها الفرد وتُحدّد سلوكه، أو كيفية إدراكه لنفسه، كما أنها تتأثّر بعدّة خصائص خارجة عن سيطرة الأفراد، كالعِرق، والطبقة الاجتماعية والاقتصادية، والآراء السياسية، والمواقف الأخلاقية، والمعتقدات الدينية.
فإذا اشتركت الجماعات في بيئة ما في العناصر المذكورة سابقا حددت لمسارها الطريق، واشتركت في التاريخ والعادات والتقاليد، توحّدها ثقافةٌ يرسمها التاريخ واللغة والمرجعية، ويرسّخ خطواتها أجداد وجذور، مع التأكيد أنّ كل ما يشوش عليها فهو دخيل يحاول الاستحواذ والسيطرة والمحو، ولعل هذا ما عمدت إليه العولمة التي هي ظاهرة تغلغلت في كل مفاصل الأمة، وقد لبست أثوابا عديدة، في ظاهرها النّبل والتّغيير ولكن باطنها بحرٌ قد علته أمواج تحاول دوما إغراق الأصالة، وإبعاد التّراث المادي واللامادي عن طريق الأجيال بخطوات ممنهجة، وبخطوط وصول متعبة ومخيّبة لآمال الأجداد وروح من روَّوا بدمائهم البلاد .
التاريخ والأخلاق والدين والثقافة والحضارات توالت على بلادنا مستقرة أو متنقلة، مستعمرة أو مستدمرة وحِيالها وقف الأبطال مدافعين ومرسخين، ولعل الآثار المحفورة عبر ربوع هذا الوطن خير شاهد، حملتها الصحراء وتزينت بها صخورها، توشحت بها الأحياء العتيقة وقمم الجبال والقرى، في هندسة بناء أو منهج عيش، ألبسة وأطعمة أو طبوع احتفال، فنّ معماري أو نحت على سفوح الجبال، التميز ظاهر في كل منعطف من منعطفات وطننا الحبيب.
إلا أن التحدي اليوم، هو كيف نحافظ على هذه الثقافة من الاندثار في ظل عولمة أتت على الأخضر واليابس، مُحاولةً طمس المعالم وعبر عدة وسائط أحبها أبناؤنا ولم نُعدّ لسمومها الترياق، عبر الفن والمسابقات الفكرية أو عروض الأزياء أو الألعاب الالكترونية، وفروا لهم البديل في غياب المرشد وأنوار الدليل ،وعبر حضورهم صدروا لألبسة غريبة وفن رديء غريب وقصات شعر بعيدة كل البعد عن مجتمعاتنا المحافظة، وفتحوا المساحات والفضاءات ورافقوا البنين والبنات وحاصروهم بالإغراءات والمحتوى انفصال هادئ بنهاية مدوية يستيقظ أصحابها على الهجران والنكران والجهل بكل ماله صلة بتراثنا الأصيل.
وأمام هذا الزخم والكم الهائل لهذا الغزو نجد الجرعات تتوالى والتحول عن منابع الأجداد يؤتي أكله دون شعور، والتحدي الأول هنا يقع على عاتق الأسرة، بإعادة بعث جلساتها وحواراتها وأحاديثها الواعية وجولاتها عبر مناطقنا التي يشهد كل شبر فيها بأثر جد بطل، وتربة طيبة. المدرسة أيضا معنية بهذا التحدي، من خلال إحياء المعارض والمجلات والجولات العلمية التراثية إلى مناطق تاريخية حماية لها من الزوال والنسيان، وتأسيس نوادي التراث في كل مدرسة، وتفعيل البحوث والعروض مع المتابعة والزيارات الميدانية برفقة مؤطرين يقومون بالتخطيط للمشاريع، وتنفيذها رفقة الأطفال وإقامة متاحف مصغرة تهتم بهذا الشأن.
كل منطقة تؤسس لهذه المشاريع وتهتم بموروثها الحضاري عبر التاريخ، من خلال المعارض المحلية في كل ولاية إلى الوطنية لتبادل الكنوز التاريخية بين مختلف الناشئة، والأهم في كل العملية وضوح الهدف والإخلاص والمتابعة وتفعيل دور الطفل في هذا ضمانا لتنشئة هادفة مشبعة بالروح الوطنية والنابعة من مرجعيتنا الإسلامية وهوية أجدادنا الضاربة في التاريخ، مع ضرورة الإحساس واستشعار الأخطار المحدقة مع استشراف المتغيرات وأثرها السلبي عند تراكمها.
من الواجب أيضا، على كل الفاعلين العمل في خط واحد من أجل بناء سليم وإقامة سياج متين يحفظ للأجيال إرثهم ويدعم تعلمهم فيسير بذلك التعليم وصفاء الأعماق في رواق واحد، يحافظون على المكتسبات ولا يفرطون في الجديد.
وعندما نؤسس القاعدة على متين لا نخاف على الأعمدة والأسوار من معاول تتحين الفرص للتهديم، بلادنا غنية سامقة بأرصدة كثيرة صقلتها السنون ويحتاجها البنون، الفسيفساء يصنعها الجميع ويحافظ عليها الجميع، وبلادنا تزخر بثروات تاريخية وثقافية ثمينة، وهي بحاجة إلى من يصونها ويحميها، لأن التراث ليس مجرد ماضٍ نحتفي به، بل هو ركيزة الحاضر وضمانة المستقبل.