شهد القرن العشرون تقدّما حضاريا رهيبا وثورة تاريخية عظمى، في مجالات الطب والعلوم والتكنولوجيا واستكشاف الفضاء، وطغى عليها التطوّر الأسطوري الذي مسّ عوالم الاتصالات والمواصلات، فتحوّل العالم الفسيح إثر ذلك إلى مجرّد قرية صغيرة متقاطعة مترابطة، يتجاور فيها الياباني والعربي، ويحيّي فيها الأمريكي الروسي، ويردّ الإفريقي فيها سلام الصيني، ويناقش الأسترالي فيها الكندي، ويسامر فيها الأوروبي اللاتيني، ويقاسم الهندي همّه فيها مع الاسكندنافي.. وهكذا في تواصل آني حيّ مستمر بين البشر، على مدار الساعة والأيام.
وعلى الرغم من هذا التطوّر “المتمدن” الباهر العظيم، لم تكن العوالم الروحية والأخلاقية بنفس “التطوّر” في مواكبة الارتقاء المادي المعرفي، بل، وتردّت وانحدرت وصارت قاب قوسين أو أدنى من عوالم الغاب المتوحشة، حيث لا عقل ولا ضمير ولا قانون، سوى معيار الصلف وخيار العنف ومنطق البقاء للأقوى.. غير أنّ هذا الوضع لم يتنزّل هكذا من السماء، ولم يأت اعتباطا بغير سبب، وإنّما بلغ حضيضه الأدنى بدافع “أيديولوجي / فلسفي” منحرف، تبنّته المنظومة الكولونيالية الغربية واستثمرت فيه فكرا ومالا منذ القرن الخامس عشر، غداة اختلال التوازن الحضاري بين الشرق والغرب، والذي حدث كنتيجة حتمية لسقوط بغداد ثم سقوط غرناطة، وظهور النهضة الأوروبية ثم الثورة الصناعية و”الفتوحات” الجغرافية الكبرى، والتي بسببها انغلق الفكر الأوروبي على نفسه، وجعل من أوروبا الغربية مركزا للحضارة الجديدة ومحورا لدوران الكون، بكل اقصائية وتهميش لمختلف الروافد الحضارية والثقافية الأخرى، والتي كانت قد ساهمت طوال قرون مديدة في بناء جوهر الإنسان وتطوّر ظاهره.
لقد تمّ استغلال المثقفين والمفكرين الأوروبيين بصورة “ماكيافيلية” فاحشة، من قبل الساسة وصناع القرار، الذين طوّعوا أقلامهم ودجّنوا أفكارهم بما يناسب إستراتيجيات الهيمنة وسياسات الاحتواء، إما بالجاه والإغواء أو بالسلطة والإغراء، حتى جعلوا منهم جزءا لصيقا بشكل المنظومة “المركزية” الأوروبية، وإستراتيجيتها المتغطرسة المهيمنة على المشهد العالمي برمته. وعليه، فقد جاءت المؤتمرات والدراسات والملتقيات السياسية الأوروبية منذ القرن الثامن عشر، كلها بنكهة “فكرية” وأبعاد عقدية ومرامي استعمارية، وفي هذا السياق تم انعقاد مؤتمر “كامبل بنرمان” في مدينة “لندن” عاصمة بريطانيا، في الفترة ما بين 1905 و1907م، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين، بهدف تحديد الآليات الفعالة للمحافظة على مكاسب السياسة الاستعمارية الأوروبية، واستغلال مغانمها لأطول أمد ممكن.
وقد دعيت لهذا المؤتمر، الدول الأوروبية الأكثر انتفاعا من السياسة الاستعمارية، وهي؛ بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا والبرتغال.. وهي الدول التي خرجت بوثيقة سرية للغاية، أسموها؛ “وثيقة كامبل” نسبة لصاحب الفضل والفكرة؛ “هنري كامبل بنرمان” رئيس الوزراء البريطاني حينذاك، والذي ظلّ يصرّ ويؤكّد على ضرورة إضفاء السرّية القصوى على مخرجات المؤتمر الشيطاني.
وفعلا، فقد صنّفت وثيقة المؤتمر السري هذا، كأخطر اتفاق تمّ التوصّل إليه والاتفاق حوله لتفتيت الوطن العربي وتدمير الأمة الإسلامية، من خلال إغراق المنطقة في مستنقع الفوضى العارمة والصراع الموبوء والفتن القاتلة.. ثم إنشاء بؤر استعمارية نموذجية، تمنح شيئا من الحرية والتحصيل المعرفي لساكنتها من الأهالي، لذرّ الغبار في الأعين.
شارك في هذا المؤتمر، قادة البلدان الاستعمارية المشار إليها، وبحضور ومساهمة كبار علماء التاريخ والجغرافيا والاجتماع والاقتصاد والزراعة وتهيئة الأقاليم.. مستعرضين خلال الجلسات التشاورية كلّ الاحتمالات الممكنة لوأد أيّة صحوة أهلية في مهدها، عبر كل المناطق المستعمرة من الهند إلى الشرق الأدنى، ومن الخليج العربي إلى إفريقيا حتى المحيط الأطلسي، ومن أمريكا اللاتينية إلى المحيط الهادي.
ونظراً لأنّ الوطن العربي يتمدّد في قلب العالم، ويملك من مقومات النهضة والتحرّر ما لا تملكه بقية الأوطان، فإنّ المؤتمر كان قد ركّز على إشغال المجتمعات العربية بالمشاكل الدينية والخلافات الطائفية والصراعات القبلية، ومن ثمّ تقديم السلطة الاستعمارية على أنّها صاحبة الحلول لكلّ المشاكل، وذلك من خلال الوقوف وسط الساحة وعلى نفس المسافة من كل الأطياف ظاهرا، وانتهاج سياسة فرق تسد وتغليب هذا الفصيل على ذاك باطنا، حتى تبقى دوما في مركز القوة الآمرة الناهية.
ولأنّ جذوة التمرّد العربي لم تنطفئ أبدا، فقد تضاعف الخطر التحرّري بعدما أظهرت الشعوب يقظة سياسية ووعياً قومياً ضدّ سياسة السلطة الاستعمارية المهينة، وممارساتها الدنيئة، ذلك أنّ خطورة الشعب العربي تكمن في عوامل راسخة، أعلاها شأنا: وحدة الدين واللسان، ووحدة التاريخ والآمال، ووحدة الثقافة والتقاليد.. ولذلك كان على “المؤتمرين المتآمرين” وضع إستراتيجية خاصة بالمنطقة، تبدأ بالاستثمار في تفكيك الوطن العربي وتجزئته بإنشاء دويلات مصطنعة تخضع للسيطرة الكاملة للدول الأوروبية.
ومن فكرة التقسيم هذه، برزت القناعة بضرورة فصل الجزء الإفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة دولة عازلة، تكون بمثابة جيب استعماري يلعب دور العدو اللدود لشعوب المنطقة، ويكون مخالفا لها في الثقافة واللغة والاعتقاد، وصديقا للدول الأوروبية وقريبا منها في الفكر والتفكير وفي نمط العيش وأسلوب الحياة. ذلك أنهم قد أدركوا بأنّ البحر الأبيض المتوسط هو الحوض الحيوي للاستعمار، من باب أنه الفضاء الذي يصل الشرق بالغرب، وهو الملتقى الطبيعي لثلاث قارات، ومفترق طرق العالم، كما يعتبر مهد الحضارة والثقافة والدين والإنسان.
وأما إشكالية هذا الحوض الإستراتيجي، فتكمن في شعوبه التي تسكن على ضفتيه الجنوبية والشرقية، وهي شعوب في الأصل شعب واحد، تتوفر فيه كل مقومات الوحدة التي قلما تتوفر عليها شعوب العالم، بما فيها الشعوب الأوروبية ذاتها. ولذلك أوصى “المؤتمرون المتآمرون” بضرورة إبقاء شعوب هذه المنطقة مفكّكة متناحرة جاهلة متخلفة.
وحتّى يتمكنوا من إحكام قبضتهم أكثر على العالم، عمدوا إلى تقسيم الدول إلى ثلاث فئات؛
- دول المركز والحضارة الغربية المسيحية والتي تضمّ أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وأستراليا، وهو الحلف الذي لا بدّ وأن يتكرّس ويترسّخ على كل الأصعدة.
- دول لا تقع ضمن مركز الحضارة الغربية المسيحية، ولكن لا يوجد صدام حضاري معها، ولا تشكّل أيّ تهديد، وهي دول أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية واليابان وكوريا، والتي لا بد من احتوائها ودعمها بالقدر الذي لا يمكنها من تشكيل أدنى تهديد لها ولتفوّقها.
- دول لا تقع ضمن محيط الحضارة الغربية المسيحية، ويوجد صدام حضاري معها، كما أنّها تشكّل تهديدا لتفوّقها الحضاري، وهي دول العالم العربي بشكل خاص، ودول الأمة الإسلامية بصورة عامة. وهذه دول لا بدّ من العمل على حرمانها من كامل أشكال الدعم، ومنعها من اكتسابها العلوم والمعارف التقنية، ومحاربة أيّ توجّه وحدوي يمكن أن يتحقّق بينها.
ولتحقيق هذا الهدف، فكّر المؤتمر في إقامة دولة عازلة على أرض فلسطين، تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب وعدو بفصل بين عرب آسيا وعرب إفريقيا، حتى لا يتمكن العرب من تحقيق حلم الوحدة وطموح التقارب. فكان “الكيان الصهيوني”، أو كما أطلقوا عليها “دولة إسرائيل”، مستغلين في ذلك الأساطير الصهيونية الملفقة والمتعلقة أساسا بــ؛ “الأرض الموعودة لليهود في فلسطين.. اليهود شعب الله المختار.. أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.. المحرقة النازية أو “الهولوكست”.. بروتوكولات حكماء صهيون. وكذا استغلال الطموحات الصهيونية المتعلقة بقدسية فكرة السيطرة؛ السيطرة على وسائل الإعلام العالمي.. ترسيخ العداوة ضدّ العرب والمسلمين.. الهيمنة الصهيونية على الاقتصاد العالمي”.
منذ البدء إذًا، كانت الفكرة وفق ما يحصل اليوم في فلسطين وقطاع غزّة، بعدما عرّت غزوة طوفان الأقصى العالم وفضحت حقيقة الصراع وطبيعة الصدام، ولذلك سارعت القوى السياسية الغربية إلى دعم الصهاينة ومساندتهم، حتى لا تسقط مخططاتهم القديمة والمتجدّدة، ولا ينتهي الوهم الذي بُنيت على أساسه كل مرتكزاتهم الوجودية، كقوى متغطرسة سياسيا واقتصاديا وعسكريا وحتى علميا وثقافيا.