عكفت روسيا على توسيع نفوذها في أفريقيا في الأعوام الماضية، حيث اكتسب العلاقات الروسية-الأفريقية المزيد من الزخم، وكانت “قمة سوتشي” المنعقدة عام 2019 مؤشرا مهما لعودة روسيا إلى مشهد القارة السمراء، عندما حضر القمة وفود من 50 دولة أفريقية، من بينهم زعماء 43 من تلك الدول.خاطب حينها الرئيس بوتين هؤلاء الزعماء وأشار إلى تاريخ الدعم الروسي لحركات التحرر في القارة الأفريقية، متعهدا بتعزيز التجارة والاستثمارات.
كما أن هناك ثمنا لتوثيق هذه العلاقات على الجبهة الدبلوماسية. فأفريقيا في المجمل لديها أكثر من ربع الأصوات في الجمعية العامة بالأمم المتحدة، وبإمكانها أن تمثل صوتا جمعيا قويا في المنظمات الدولية الأخرى.
وهو ما شهده التصويت الأخير لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من مارس/ آذار 2022 حول الأزمة الأوكرانية، حيث امتنعت العديد من دول القارة السمراء، بما في ذلك جنوب إفريقيا، عن التصويت، بينما لم تشارك ست دول في الاجتماع، تجنباً للانحياز وصوتت إريتريا لصالح روسيا.
ويترجم هذا الموقف إلى دعم أكثر وضوحا، يبين مجهودات روسيا في الأعوام القليلة الماضية التي أتت بثمارها.
إعادة التقارب على أسس جديدة
وأشار تقرير نشرته مدرسة موسكو العليا للاقتصاد عام 2021 حول آفاق التعاون الروسي-الأفريقي إلى أن البلدان الأفريقية لم تنخرط في حزمة العقوبات الغربية ضد روسيا وكتب التقرير أنه “لم تطبق أي دولة أفريقية عقوبات ضد روسيا بعد عام 2014″. كما أن غالبية هذه الدول تنتمي لـ”حركة عدم الانحياز”. حيث تلتزم الدول الأعضاء بالحفاظ على سياستها الخارجية “غير المنحازة”.
وفي هذا الصدد ترى الباحثة في العلوم السياسية السودانية منى عبد الفتاح، أن الدول الأفريقية جربت الاستعمار، لذا يقف معظمها إلى جانب روسيا التي تصفها بالدولة غير الاستعمارية. ويفسر ترحيب الدول الأفريقية بالدول غير الاستعمارية سر علاقتها الوثيقة مع روسيا والصين.
وتشير الباحثة السودانية في مقال لها بعنوان: “أين تقف أفريقيا من الحرب الأوكرانية؟” إلى نجاح القوتان الدوليتان في استغلال مشاعر شعوب القارة المناهضة للاستعمار للاستفادة من ذلك سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً، إضافة إلى التصريحات والممارسات العنصرية التي تصدر بين حين وآخر في بعض الدول الأوروبية تجاه اللاجئين الأفارقة والمقارنة بينهم وبين اللاجئين الأوكرانيين. وهذا، ربما يحفز أفريقيا على اتخاذ موقف ضد أوكرانيا. مضيفة أن هناك أيضاً ما ينعكس من العقل الباطن الأفريقي مع كل ما هو ضد الغرب.
وترى منى عبد الفتاح، أن انحياز الدول الأفريقية لروسيا ليس أيديولوجياً كما كان سابقاً، وإنما هو عاطفي مبني على العداء للغرب وممارساته في أفريقيا. إضافة إلى أن تأييد أوكرانيا قد يؤسس لواقع انفصالي تتهرب منه معظم الدول الأفريقية. أما الدول التي تقف مع أوكرانيا فتحكمها مصالحها التي ربما تكون مؤقتة أكثر من حرصها على علاقاتها مع الغرب.
من جانبه يرى الخبير السوداني، عبد الرحمن أبو خريس، أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تحمل الكثير من التداعيات على إفريقيا في جميع الأصعدة السياسية، الاقتصادية والأمنية، معتبرا أن امتناع 35 دولة نصفها تقريبا أفريقية عن التصويت على مشروع قرار يدين العملية العسكرية الروسية، بمثابة إعادة تشكل جديد للنظام العالمي في المستقبل.
انتقال المواجهة إلى أفريقيا
وقال أستاذ السياسات الخارجية في المركز الدبلوماسي لوزارة الخارجية السودانية، الدكتور عبد الرحمن أبو خريس في حديث “لوكالة سبوتنيك”: “من المتوقع من النواحي الأمنية أن تدخل بعض الدول الأفريقية في صراعات وحروب جديدة بالوكالة بأشكال غير كلاسيكية كالحروب اللاتماثلية ومرادفاتها: العالمية الرابعة، وغير المقيدة، واللامتناظرة وغير المتوازنة، حيث تعتبر البيئة الأفريقية باختلافاتها وتبايناتها، حبلى بإنجاح مثل هذه الحروب”.
ولفت أبو خريس إلى أن هناك “17 دولة أفريقية من بين 35 دولة امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار يدين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا”.
وقال إن هذا “يؤدي إلى زيادة حدة الاستقطاب الدولي وتبعثر الكتلة الأفريقية وإضعاف دور الاتحاد الأفريقي وجهوده لضمان استقرار القارة”.
كما اعتبر أبو خريس أن الامتناع عن إدانة روسيا “يمثل مؤشرا لافتا يعكس رفضا لقواعد النظام الدولي والسياسات التي تنتهجها القوى الغربية، وفي ذات الوقت توجها ضمنيا داعما لروسيا”.
تأييد لروسيا
وأكد الخبير السوداني أن “تأييد دولة إريتريا لقرار التدخل الروسي يعظم من دور روسيا في البحر الأحمر في حال تطورت الحرب لتصبح عالمية رابعة، باعتبار أن انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه يمثل نهاية للحرب الباردة الثالثة”.
وفيما يتعلق بحقيقة تغير ميزان القوة في العالم، أكد أبو خريس أن “ضمُّ روسيا لشبه جزيرة القرم، عام 2014، شكل منعطفًا في الانتقال خطوة إلى الأمام بسياساتها الخارجية نحو إثبات حضورها كأحد اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية، تلا ذلك تدخلها العسكري في سوريا 2015، وهو ما غيَّر، بشكل راديكالي، مسار الحرب في سوريا وأبرز قوة روسيا في الشرق الأوسط. ثم تلاها تدخلها في العمق الأوكراني”.
ومضى قائلا: “لقد برزت في السنوات الأخيرة رغبة روسية في بناء قواعد عسكرية في أفريقيا، باختيار 6 دول لهذا الهدف، وهي مصر، وأفريقيا الوسطى، وإريتريا، ومدغشقر، وموزمبيق، والسودان، بينما لم تُكلَّل محاولاتها بالنجاح مع عدد آخر من الدول، منها جيبوتي، نتيجة الضغوط الأميركية”.
ولفت أستاذ السياسات الخارجية السوداني إلى “خطط روسية في 2018 لبناء مركز لوجستي عسكري في إريتريا، وهو ما أعيد إحياؤه مؤخرًا بتصريحات سفير أسمرة في موسكو المرحِّبة باستقبال المركز اللوجستي الروسي في بلاده”.
وتابع: “تظل أنجح خطوات روسيا في هذا السياق اتفاقها مع الخرطوم على بناء مركز دعم لوجستي على الساحل السوداني (على البحر الأحمر شرقي السودان)، ويدعم هذا المركز العمليات الروسية في أماكن أخرى من المنطقة، ويشكِّل منصة لجمع المعلومات الاستخباراتية لمراقبة أنشطة القوى المنافسة لموسكو في حوض البحر الأحمر والقرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية، كالقوات الأميركية أو الصينية أو الفرنسية أو السعودية أو الإماراتية”.
توسع اقتصادي ونفوذ سياسي
كما أشار أبو خريس إلى أن “لدى روسيا فرصة لأن توسع من حجم تعاونها الاقتصادي مع الدول الأفريقية عقب التضييق الذي تتعرض له من جانب دول أوروبا والولايات المتحدة، بسبب العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”.
ولفت إلى عدد من الاتفاقيات العسكرية التي وقعتها روسيا مع بعض الدول الأفريقية بهدف توطيد علاقاتها مع نظيراتها الإفريقية.
وقال في هذا السياق: “منذ عام 2015 وقعت روسيا 21 اتفاقية عسكرية مع دول، من بينها: أنغولا، وبوتسوانا، وبوركينا فاسو، وتشاد، وإثيوبيا، وغينيا، ومدغشقر، ونيجيريا، والنيجر، وسيراليون، وتنزانيا، وزيمبابوي، وشملت هذه الاتفاقيات حسب قوله” مجالات متعددة، منها: التدريب الأمني والعسكري والصيانة، وتبادل المعلومات، والتعاون في مكافحة الإرهاب”.
وشدد أبو خريس على أن “الموقف الأوروبي المتردد يمثل فرصة ذهبية لروسيا يمكن توظيفها لتقليل الضغط الدولي عليها وبناء شراكات بديلة تعمل على تعزيز مكانتها أوربيا وعالمياً، وسوف تكون أفريقيا أحد مناطق التنافس الحيوية”.
وألقى بالضوء على تزايد حجم مبيعات المعدات الروسية إلى الدول الأفريقية، قائلا “خلال العقدين الماضيين، تمكنت روسيا من أن تصبح أكبر مصدِّر للأسلحة إلى أفريقيا لتمثل نحو 49 بالمئة من إجمالي صادراتها إلى القارة السمراء، كما تمثل حصتها نحو 37.6 بالمئة من حصة سوق السلاح الأفريقية، تليها الولايات المتحدة بنسبة 16 بالمئة، ثم فرنسا 14 بالمئة والصين 9 بالمئة”.
وحذر أبو خريس “من خطورة العودة بالقارة الأفريقية إلى ساحة الصراع الدولي ولعب أدوار الحرب بالوكالة، ما يمكن معه تفكيك الدولة الإفريقية وإدخالها في حالة عدم الاستقرار”.