شكلت الحرب العالمية الثانية بما شهدته من أحداث أثرت على العالم ككل والقارة الأوروبية بشكل أخص، دافعاً سعت من خلاله عدة دول في أوروبا الغربية لبناء علاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية بينية.
وفي 9 أوت 1961، طلبت بريطانيا الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية بقرار حكومي، وفي 23 جوان 2016، تعيد النظر في عضويتها في الاتحاد الأوروبي باستفتاء شعبي كانت نتيجته التصويت لصالح خروج بريطانيا، مما يؤثر على الاتحاد الأوروبي كقطب سياسي واقتصادي موحد، وكذا المكانة الأوروبية والدولية للمملكة المتحدة.
وفي 31 جانفي 2020، خرجت بريطانيا من فلك الاتحاد الأوروبي وأدارت ظهرها لعلاقة عاصفة استمرت 48 عاماً مع المشروع الأوروبي متجهة إلى مستقبل غامض في أكبر تحول جيوسياسي تشهده منذ ذهاب الإمبراطورية.
وحدث الانفصال بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي والمعروف باسم “البريكست” بعد انسحابها رسميا من الاتحاد، وصوّر مؤيدو “البريكست” الحدث على أنه فجر جديد “لبريطانيا عالمية” كأنما نالت استقلالها.
وحينها، قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في رسالته بمناسبة العام الجديد “هذه لحظة فارقة لبلدنا… لقد نلنا حريتنا وأصبحت بين أيدينا، ولنا أن نستفيد من الأمر بأقصى درجة”.
ماذا تعني كلمة بريكست؟
كلمة بريكست Brexit هي مزيج من عبارة British exit في إشارة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، في الاستفتاء الذي أجري يوم 23 جوان 2016، وجاءت النتائج في الأقاليم المتحدة كالآتي:
1.إنجلترا 53.4% مغادرة 46.6% بقاء
2.ويلز 52.5% مغادرة 47.5% بقاء
3.اسكتلندا 38.0% مغادرة 62.0% بقاء
4.إيرلندا الشمالية 44.2% مغادرة 55.8%بقاء
وجاء الاستفتاء بفوز المغادرين بنسبة 51.9% (17.410) مليون، مقابل 48.1% (16.141) مليون أرادوا البقاء.
وعلى إثر تشريع المغادرة هذا تسلم رئيس المجلس الأوروبي “دونالد تاسك” Donald Tusk في مارس 2017 رسالة من رئيسة الوزراء البريطانية “تيريزا ماي” Theresa May لتفعيل المادة 50 من إتفاقية لشبونة، لتبدأ خطوة الخروج الثانية.
وكان من المقرّر، أن يتم اتفاق الخروج الرسمي بين الطرفين بعد عامين على تفعيل المادة 50 من إتفاقية لشبونة، إلاّ أن الموعد قد تم تأجيله مرتين، ناهيك عن رفض نواب مجلس العموم البريطاني في ثلاث مناسبات للاتفاق الذي تم التوصل إليه في نوفمبر 2018، لما يتضمنه من ترتيبات حدودية لاسيما التجارية منها بين الجمهورية الايرلندية ومقاطعة إيرلندا الشمالية، وما يؤديه من احتمالية بقاء بريطانيا ضمن وحدة الجمارك الأوروبية في حال عدم توصل الطرفين لإتفاق شامل للتجارة الحرة، إلى جانب الهاجس الأمني الكامن في ذاكرة التاريخ الحديث لسكان الجزيرة الإيرلندية.
ومع مجيء بوريس جونسون Johnson Boris لرئاسة الحكومة البريطانية خلفاً لتيريزا ماي Theresa May، دعى لانتخابات عامة أسفرت عند إجراءها عن أغلبية محافظة مكنته من تمرير الاتفاق إلى قانون، بعدما تضمن تعديل رئيسي في إنشاء حد جمركي بين إيرلندا الشمالية وبريطانيا العظمى ذو نظام مزدوج بحيث تخضع السلع التي تصل وتبقى في إيرلندا الشمالية من بلدان خارج الاتحاد الأوروبي لنظام الجمارك البريطانية، مقابل خضوع البضائع التي تدخل الاتحاد الأوروبي عبر إيرلندا الشمالية لنظام الاتحاد الأوروبي؛ إلى جانب ما بقي من الاتفاق القديم والمتمثل في السعي لاتفاق للتبادل الحر، وحرية بقاء 3.2 مليون أوروبي في المملكة المتحدة و 1.2 مليون بريطاني في أوروبا مع إمكانية العمل والدراسة، واستمرار التزام المملكة المتحدة بتعهداتها المالية تجاه الموازنة الأوروبية (2014-2020)، مقابل الاستفادة من الصناديق الهيكلية الأوروبية والسياسة الزراعية المشتركة.
وفي 31 جانفي 2020 خرجت المملكة المتحدة رسمياً من الإتحاد الأوروبي وتمت الخطوة الثالثة من العملية.
وفيما يتعلق بالمرحلة الإنتقالية Transition period (يسميها البعض فترة التنفيذ Implementation period)، والتي يمكن اعتبارها الخطوة الرابعة في طريق الخروج، استمرت حتى نهاية عام 2020، تبقى خلالها المملكة المتحدة في السوق المشتركة والإتحاد الجمركي الأوروبي، وستواصل إتباع قواعد الإتحاد الأوروبي، مقابل مغادرتها المؤسسات السياسية الأوروبية بما فيها البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية.
أسباب البريكست:
تكمن أهم الأسباب الدافعة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي فيما يلي:
1.العبئ الاقتصادي للهجرة واللجوء، والذي ستتمكن المملكة المتحدة من تخفيف حدته بإتباع نظام جديد.
2.الهاجس الأمني جراء تزايد الهجمات الإرهابية على الساحة الأوروبية.
3.الحصول على قدر أكبر من حرية الحركة والنفوذ الدولي، وإمكانية الانضمام لمؤسسات عالمية كمنظمة التجارة العالمية، التي خسرتها بسبب انضمامها للاتحاد الأوروبي.
- السعي الأوروبي المتزايد لإنشاء قوة عسكرية مشتركة وما ينتج عن ذلك من تحديات تواجه بريطانيا، في ظل وجودها كقوة رئيسية في الإتحاد الأوروبي.
5.الرسوم الأوروبية التي تفرض على دول الاتحاد تبعاً لقوة كل دولة، والتي شكلت نفقاتها بالنسبة للمملكة المتحدة مبالغ أعلى مما يَرد منه، الأمر الذي واجه تذمراً من الحكومة البريطانية.
ما الذي تغير بعد البريكست:
وبموجب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي طرأت عدّة تغييرات، ومنها:
– انتهاء حرية تنقّل الأشخاص بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، واستبدلتها بريطانيا بنظام هجرة “قائم على النقاط”.
– أي شخص من بريطانيا يريد البقاء في معظم دول الاتحاد الأوروبي لأكثر من 90 يوما في فترة مدتها 180 يوما سيحتاج للحصول على تأشيرة من الدولة التي سيذهب إليها.
– عودة التسوق المعفى من الرسوم الجمركية، حيث يستطيع الأشخاص العائدون إلى بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إحضار كمية كبيرة من المنتجات، دون دفع ضرائب على هذه المنتجات.
– سيواجه مواطنو الاتحاد الأوروبي الراغبون في الانتقال إلى المملكة المتحدة (باستثناء مواطني جمهورية أيرلندا) نفس النظام القائم على النقاط مثل الأشخاص في أي مكان آخر في العالم.
– تفقد الشرطة البريطانية إمكانية الوصول الفوري إلى قواعد بيانات الأشخاص في الاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بالسجلات الجنائية وبصمات الأصابع والأشخاص المطلوبين جنائيا.
– يتعين على التجار في إنجلترا واسكتلندا وويلز إنهاء المزيد من الإجراءات الورقية عند التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي.
على عكس بقية مناطق بريطانيا، تستمر أيرلندا الشمالية في اتباع العديد من قواعد الاتحاد الأوروبي، حيث تظلّ حدودها مع جمهورية أيرلندا غير مرئية تقريبا.
وتتمكن بريطانيا تدريجيا من الاحتفاظ بالمزيد من الأسماك التي يتم اصطيادها في مياهها الخاصة، بينما تتوقف محكمة العدل الأوروبية عن أي دور في الفصل في النزاعات بينها وبين الاتحاد الأوروبي.
آلاف البريطانيين يتشبثون بحلم المواطنة الأوروبية..
وشهر نوفمبر الماضي، نشر في صحيفة لوموند (Le Monde) الفرنسية- أن آلاف المواطنين البريطانيين لجؤوا إلى ألمانيا وأيرلندا للحصول على الجنسية لرغبتهم في الاحتفاظ بالمواطنة الأوروبية، وذلك بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وقال الإعلامي فيليب برنارد -في مقاله- إن الآلاف من البريطانيين من ذوي الديانة اليهودية يحاولون الاستفادة من قانون ألماني يسمح بإعادة الجنسية للذين فقدوها لسبب أو لآخر بعد سيطرة النازيين على ألمانيا.
واضطر الآلاف من اليهود الألمان للهرب من بريطانيا بعد إحكام النازيين قبضتهم على البلاد، ولجأ كثير منهم إلى بريطانيا.
أعداد كبيرة..
وبحسب المقال فإن الأعداد كانت بالمئات فقط قبل البريكست، لكن الوضع “تفجر” بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووصلت الأرقام عام 2019 إلى 14 ألفا و600.
وأضاف الكاتب بأن الأعداد بدأت ترتفع بشكل ثابت منذ ذلك الوقت، وأصبح ما بين 4 آلاف و5 آلاف مواطن بريطاني يحصلون على الجنسية الألمانية كل عام، خاصة مع اضطرار السلطات الألمانية لتيسير المساطر الإدارية لفائدة المتقدمين بطلباتهم.
ويشرح ذلك بقوله إن القانون الألماني كان ينص مثلا على منح الجنسية فقط لمن فقدوها إبان الحكم النازي، ويحرم من ذلك الأجيال الجديدة التي فقدت الجنسية لأسباب قانونية كزواج أمهاتهم من أجانب.
أيرلندا وفرنسا..
وأوضح الكاتب أن البريكست فتح الباب أيضا أمام البريطانيين من أصول أيرلندية من المطالبة بجنسية آبائهم، للحفاظ على حقوق المواطنة الأوروبية.
وبحسب المقال، فإن عدد طالبي جوازات سفر من السفارة الأيرلندية في لندن تضاعف منذ 2016، ووصل العدد عام 2019 إلى 121 ألفا. وبعده بعام وصل العدد إلى 58 ألفا.
هل ندمت بريطانيا بعد البريكست؟
وبالمقابل، قالت صحيفة نيويورك تايمز، في مقال نشرته شهر نوفمبر الماضي، إن بريطانيا باتت تنظر بندم إلى خروجها من الاتحاد الأوروبي بعد تأثرها بالمشاكل الاقتصادية.
وأوضحت الصحيفة، في مقال نشرته لمدير مكتبها في لندن مارك لاندلر، أن سبب الندم يعود إلى أزمة بريكانيا الاقتصادية، وهي أخطر أزمة منذ جيل وأسوأ من أزمة جيرانها الأوروبيين.
وأضافت: “ليست كل المشاكل – أو حتى معظمها – بسبب بريكست، لكن العلاقة التجارية المتوترة لبريطانيا مع بقية أوروبا تلعب دورا بلا شك. وهذا يجعله هدفا ناضجا للجمهور القلق الذي يبحث عن شيء يلومه”.
ومنذ أسبوعين، أظهر استطلاع للرأي أن التأييد لبريكست قد انخفض إلى أدنى مستوى له حتى الآن، وقال 32% فقط ممن شملهم الاستطلاع الذي أجرته شركة يوغوف إنهم يعتقدون أن مغادرة الاتحاد الأوروبي فكرة جيدة بينما قال 56% إنه كان خطأ.
في حين، نقلت صحيفة “صنداي تايمز” اللندنية عن مصادر حكومية رفيعة المستوى أن سوناك يفكر في السعي إلى ترتيب أوثق مع الاتحاد الأوروبي، على غرار سويسرا، حيث يتمتع السويسريون بإمكانية الوصول إلى السوق الموحدة وعدد أقل من عمليات التفتيش على الحدود، مقابل الدفع في خزائن الاتحاد وقبول بعض قواعده.
لا تراجع..
ومن جهته، نفى رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، أي مسعى لدى حكومته للتراجع عن اتفاق خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من استياء من بريكست في البلاد.
وقال سوناك -أحد مؤيدي بريكست خلال المؤتمر السنوي لاتحاد قطاع الأعمال في برمنغهام- : لقد قمت بالتصويت لصالح بريكست، وأؤمن ببريكست، أعلم أن الحياة خارج الاتحاد الأوروبي يمكن أن توفر، وتقدم بالفعل، فوائد وفرصا هائلة للبلاد”.
وبموجب بريكست، انسحبت المملكة المتحدة من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي، وانتهت حرية الحركة بين الدول الأعضاء واختصاص المحاكم الأوروبية، وجاءت تعليقات سوناك هذه، عقب تقرير صحيفة صنداي تايمز.