ما ذنب “البنان” يا ورقة؟.. سأخونك يا قلمي!

تاريخ القلم هو تاريخ الوجود الإنساني على كوكب الأرض، فمنذ عرف الإنسانُ الكتابةَ ابتدأ التاريخ وابتدأت معه رحلة العقل البشري في مجرّات المعرفة ومداراتها. ربّما لم يكن يُسمّى قلمًا، قبل آلاف السنين، عندما كان يُصنع من أغصان الأشجار وعيدان القصب.. ولكنه كان الوسيط في تحويل الشّفاهي إلى كِتابي، والأفكار الشاردة في سماوات الفكر إلى كتابات مأسورة على “مُسطّحات”: ألواح الطين، أوراق البردي.. الورق. والفضل كل الفضل لما وصلت إليه البشرية من تطوّر تكنولوجي مُذهل يعود إلى القلم الذي علَّم به الله الإنسانَ ما لم يعلم. وله كل الفضل أيضًا في حفظ التراث اللغوي والفكري والعلمي.. منذ آلاف السنين إلى يومنا هذا.

هل سيبقى الإنسان وفيًّا لرفيقه التاريخي: القلم، أم أنّه سيخونه ويتخلّى عنه، ويتبع رفيقا آخر فرضته ضرورات العصر وثورة التكنولوجيا، نُسمّيه الآن: لوحة المفاتيح، فقد يكون له تسميات أخرى في المستقبل المنظور عندما تتطوّر أدوات الكتابة وتصير صوتيّة مثلاً حيث الإنسان يتكلّم والآلة تكتب؟

إنّ جيلاً يتشكّل الآن هو جيل “بَنان الأصبع”، سيكون القلم مجرّد شيء من تراثه! جيلٌ يكتب بالبنان على لوحٍ ذكيٍّ.. ولعلّه سيفقد القدرة على الإمساك بالقلم والكتابة به على الورقة. وربّما أن هذه القدرة يفتقدها اليوم كثيرٌ مِمَّن تربّوا مع قلم القصب والدّواة، وقلم الحِبر والمحبرة، والقلم السيّال، وقلم الرّصاص.. فالتكنولوجيا قد فرضَت أنماط حياة جديدة وعادات وتقاليد في النشر والكتابة ووسائلهما..

صار الحديث عن القلم نوعًا من الحنين إلى زمن يكاد أن ينقضي بكل أشيائه التي لا تتوافق مع روح العصر السريع والمتسارع، وقد كان الحديث عن القلم هو الحديث عن الحكمة والعلم والأدب، بل إنّ أدباء وكُتّابا كثيرين دوّنوا مناظرات بين القلم والسيف، حيث الأول هو المرادف الموضوعي للعقل والأخلاق والضمير، بينما الثاني هو المرادف الموضوعي للقوّة والجبروت والتّسلّط.. وقد انقضى زمن السّيف، وبقي القلم وحيدا في معركة وجوده!

إلى وقت قريب، كان القلم من أثمن الهدايا التي يتبادلها المثقفون عموما، لما ينطوي عليه من معاني سامية نبيلة.. ولعله سيحتفظ برمزيّته ودلالاته الجميلة، ولكنه سيفقد وظيفته الوجودية في صناعة الحضارة الإنسانيّة! وإلى وقت قريب أيضا، كان لكل كاتب قصّته مع القلم، فهناك من يفضِّل قلم الرصاص. وهناك من يختار أنواعا معيّنة من الأقلام للكتابة، من حيث الشكل أو قدرتها على مسايرة تدفّق الأفكار.. وهناك من يختار الكتابة بالألوان فالأخضر للعناوين والأزرق للكتابة والأحمر للتَّسطير مثلا. وحتى في شراء واقتناء الأقلام، فقد كان لكل كاتبٍ “تقاليده” في اختيار أنواعها وأشكالها، وربّما أن هناك من يحتفظ بها لارتباطها بحوادث معه في حياته ومسيرته مع الكتابة..

من باب الوفاء للقلم، والاعتراف والعرفان بفضله على الإنسانية جمعاء، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الأدباء والباحثين العرب، بهذه التساؤلات: ما هي قصّتك مع القلم، وهل ما زال هو صديقك في زمن “بنان الأصبع” والكتابة على الحاسوب والأجهزة الكفيّة؟ وكيف تتوقَّع مستقبل القلم؟ وهل كتبت نصوصا حول هذه الأداة التي غيّرت مجرى البشرية ودخلت بالإنسان إلى التاريخ والحضارة؟

وأنت أيضا عزيزي القارئ معنيٌّ بالإجابة عن هذا التساؤل: منذ متى لم تُمسك بالقلم وتكتب على ورقة بيضاء؟ قد يبدو لك التساؤل ساذجًا ولكنه بالغ الأهميّة إذا اقتنعت بأنّ القلم هو أساس الرّسم أو الخطّ، والخطّ هو أحد أسرار جماليات اللغة العربيّة.. والابتعاد عن القلم هو انتهاكٌ لحرمة الجمال.. جمال اللغة العربيّة “المُقدّسة”!

بين التراث والمعاصرة..

الحنين إلى القلم في عصر البنان

بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كُتّاب مصر

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسامبسيم عبد العظيم عبد القادر ما لم يعلم، والذي أنزل على خاتم أنبيائه ورسله، أول ما أنزل قوله تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)” (العلق: 1 – 5). وسبحان من خصّ القلم بسورة مستقلة، من سور القرآن الكريم، هي سورة “القلم”، بدأها بقوله تعالى: ” ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ” (الآية: 1). وأنزل أطول آية في القرآن الكريم، وهي آية الدَّين (سورة البقرة: 282)، حاضًّا على كتابة الدين، ولا تكون الكتابة إلا عن طريق القلم والإملاء، وذلك حفظا للحقوق من الضياع.

وقد خلق الله القلم وأمره بكتابة ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: “رفعت الأقلام وجفّت الصحف”.

وكان أول من خطّ بالقلم سيدنا “إدريس” عليه السلام، وقد بدأ التاريخ البشري بالكتابة وتسجيل الأحداث، وتطوَّرت أدوات الكتابة في العصور المختلفة، من نقش على الحجر كما في الحضارة المصرية القديمة، وحضارة بلاد الرافدين في العراق، وحضارة بلاد الشام، وهكذا تطوَّرت الكتابة حتى وصلنا إلى العصر الحديث.

وقد شغل القلم حيِّزا كبيرا في الحضارة الإسلامية، عند انتشار الكتابة بعد الإسلام، إذ كانت العرب تعتمد في أدبها على الرواية الشفوية، نظرا لتمتّعهم بقوة الحافظة، وكانوا لا يكتبون سوى المعاهدات وصكوك الديون والتجارة، فاتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كُتّابا للوحي، وكان هناك من يكتبون الحديث النبوي الشريف، ثم ازدهرت الكتابة شيئا فشيئا في ظلال الدولة الأموية والعباسية، وتطوّرت أدوات الكتابة من أقلام وأوراق على مرّ العصور.

ولما كان القلم هو سلاح الكاتب، فقد أبدع الأدباء العرب مناظرات بين السيف والقلم، ومن أشهر الرسائل في هذا الموضوع “رسالة السيف والقلم” لـ “ابن برد الأصغر”، وقد اشتهرت هذه الرسالة شهرة كبيرة في الأندلس، ولاقت اهتماما عظيما، فقد عُدّت أول رسالة في هذا الموضوع، وهو موضوع قديم جديد، يقع في دائرة السؤال حول القول والفعل ولمن تكون الأولية والأفضلية، وقد وازن الإسلام بين القول والعمل، ولكن فكرة التّنازع بين السيف والقلم تظل تطفو على السطح، فكلما اختلّ الميزان ظهر من يتحزّب لهذا أو ذاك على حد قول أستاذنا الدكتور “شوقي ضيف” في تعليقه على رسالة “ابن برد الأصغر”، وقد رفع “أبو تمام” السيف على القلم في قوله واصفا فتح المعتصم لـ “عمورية”:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ — في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

وتعاور الشعراء هذا القول من بعده، وظلت القضية معروضة على محكمة البيان، يخوض فيها الخائضون ويدلي بدلوهم القائلون، حتى جاء الأديب الشاعر “ابن برد الأصغر”، وكتب هذه الرسالة التي شهد لها الجميع بالأوليّة والتفوّق، فقال “الحميدي”: “له رسالة في السيف والقلم، والمفاخرة بينهما، وهو أول من سبق إلى القول بذلك في الأندلس”، وقال “ابن بسام” في وصفها: “ومن بدائعه العقم، المستنزلة للعصم، رسالة في السيف والقلم”.

وقد انشغلت الأندلس بهذه القضية بسبب الحروب الداخلية والخارجية التي كانت تحرق جسد الأندلس وتمزّقه، بينما ملوك الأندلس يتسابقون على الشعراء اكتسابا لهم وانتصارا بهم، فالسيف والقلم هما حركة حياة الأندلس وعنوان ظروفها، وحتم على الأندلسيين في مثل هذا الحال المضطرب، أن يولوا هذه القضية عنايتهم، وأن يوجهوا شطرها عناية ألسنتهم وأقلامهم، وقد وجهها “ابن برد الأصغر” إلى أحد أمراء الطوائف وهو “مجاهد العامري” وكان يجمع بين العلم والبيان من جهة، والسيف والفروسية من جهة أخرى، وقد أثنى عليه المؤرخون.

ويعرض “ابن برد” رسالته بأسلوب حواري رائع يكشف عن مقدرة فائقة في المناظرة والمجادلة، ويبيِّن في أسلوب نثري تصويري أخّاذ، قرب النثر من الشعر، ويضفي على الحوار لمسات إبداعية إقناعية، تنمّ عن عمق التفكير وبُعد التأمل، وإجادة الحركة والتنقل بين اللسانين والدفاع عن كل منهما بلسانه وحاله، وتذكِّرنا هذه الرسالة بما سبقها عند “الجاحظ” الذي كتب في الشيء وضدّه كتابه: المحاسن والأضداد، وفي المتنازعين، بل وفي الشيء ذاته بتفضيله والنّعي عليه كما في رسالته تحسين القبيح وتقبيح الحسن، ويبني ابن برد رسالته على مقدمة وعرض وخاتمة، ويمضي الحوار في اتجاهات ثلاثة، هي الافتخار بالخصال، ثم المعارضة والجدال، وأخيرا الاتفاق والإقبال، الذي يخطه القلم شعرا فيقول:

قد آن للسيف ألا يفضل القلما — مذ سخرا لفتى حاز العلا بهما

إن يُجْتنَى المجد غضا من كمائمه — فإنما يُجتنى من بعض غرسهما

ما جاريا أملا فوافيا أمدا — إلا وكانت خصال السبق بينهما

سقاهما الدهر من تشتيته جرعا — ولليالي صرف تقطع الرحما

حتى إذا نام طرف الجهل وانتبهت — عين النهى قرعا سِنَّيهما ندما

راحا بكف أبي الجيش التي خلقت — غمامة كل حين تمطر النعما

فعاد حبلهما المنبت منعقدا — وراح شملهما المنفض ملتئما

يا أيها الملك السامي بهمته — إلى سماء علا قد أعيت الهمما

لولا طلابي غريب المدح فيك لما — وصفت قبل علاك السيف والقلما

وإنما كان تعريضا كشفت به — من البلاغة وجها كان ملتثما

وقد حق لأهل الأندلس الافتخار بهذه الرسالة والثناء على صاحبها.

قد أبدع الكُتّاب نصوصا وكُتبا حول القلم وصناعته وأنواعه، ومن ذلك ما تضمّنه كتاب “صبح الأعشى في صناعة الإنشا” لـ “القلقشندي”، وذكروا أنواع الأقلام ومادتها وكيفية قطها وما تنظف به وأنواع الخطوط على اختلافها من رقعة إلى نسخ إلى ثلث إلى ديواني إلى فارسي، وقد كُتبت المنظومات في الأقلام وأنواع الخطوط واشتهر ابن مقلة وابن البواب وغيرهم على مرّ العصور.

وقد خصَّصت مجلة “المورد” العراقية منذ ثلاثين عاما تقريبا عددا ضخما عن الخط العربي لم يخل من حديث عن الأقلام وأنواعها والاهتمام بها وكيفية بريها وغير ذلك مما يعين على تحسين الخط تجويده.

وما نراه في المساجد التاريخية على امتداد رقعة الدولة الإسلامية من الهند والصين شرقا حتى الأندلس غربا من خطوط وزخارف إسلامية يوحي بهذا الاهتمام لأنّ الخط المكتوب وسيلته القلم.

وقد أمسى الحنين إلى القلم في عصر بَنان الأصبع واقعا ملموسا ومشاهدا، فبعد أن كان القلم هو وسيلتنا الوحيدة في الكتابة وتسجيل الخواطر والأفكار أو كتابة الشعر وتسطير البحوث الأدبية والنقدية، حلّ البَنان، الذي كان يمسك القلم، محلّ القلم وأزاحه عن طريقه، خصوصا عند أبنائنا وأحفادنا، ولم يعد يقتني القلم أو يسطّر به إلا الجيل القديم الذي تربّى عليه كما تربّى على الكتاب الورقي، الذي لا نستغني عنه، وإن كان الجيل الجديد يكاد يعتمد اعتمادا كليًّا على الكتاب الإلكتروني.

وأنا من جيل تربّى على القلم بأنواعه المختلفة، ففي منتصف الستينات من القرن العشرين كنا نذهب إلى الكتَّاب، وكنا نستخدم القلم البوص الذي يقوم الشيخ ببريه وتنضيده لنا، ووضعه في وعاء فخّاري محافظة عليه، فإذا ما انتهينا من تسميع الماضي، قمنا بمسحه بخرقة ثم كتابة اللّوح الجديد، على أحد وجهي اللوح الارتوازي المصنوع من الزنك، ثم استخدمنا الريشة المصنوعة من المعدن، ثم تطوّر الأمر بعد ذلك فدخلنا المدرسة وصرنا نستعمل القلم الرصاص الذي نقوم ببريه بالموسى أو يبريه لنا الكبار من الأهل ونكتب على الكرّاسات الورقية، ويظل القلم يتناقص ببريه حتى ينتهي، وفي سنٍّ متقدمة في بداية السبعينات بدأنا في استخدام أقلام الحبر التي نملأ خزاناتها بالحبر بطرق مختلفة، وهي ذات سنٍّ مشقوق يشبه سنّ القلم البوص الذي كنا نغمسه في الدّواة عند كتابة كل كلمة على حدة، وكذلك يشبه الريشة المعدنية.

ثم تطوّر الأمر، فصرنا نكتب بأقلام الحبر الجاف بأنواعها المختلفة وألوانها التي تتفاوت في أسعارها، وكلٌّ يقتني قلمًا بحسب قدرته المادية أو قل بحسب قدرة أبويه، وكم اقتنينا من أقلام الحبر فقد كنت أهوى الكتابة بها لتعوُّدي على الكتابة بأقلام البوص والريشة في الكُتّاب حيث كنت أتقن الخطّ العربي من خلال تقليد خط المصحف الشريف ومن بعده تقليد الخط في كراسة الخط العربي المقررة علينا بخطّ النّسخ وخط الرّقعة.

أما الآن فأنا أعاني في تصحيح أوراق طلابي بكليتي الآداب والتربية لعدم إحسانهم الخط والكتابة بالقلم، خصوصا وأنا أتمسّك في تدريسي لمواد الأدب في قسم اللغة العربية، وتدريس اللغة العربية في الأقسام غير المتخصصة، بالأسئلة المقالية التي تبرز مهارة الطالب في التعبير عن الأفكار وتحليل الشعر بأسلوبه الخاص، بدلا مِمّا ينادي به البعض ويستسهله بعض الزملاء من أسئلة الاختيار من متعدد ووضع كلمة مناسبة مكان النقط، والإشارة بعلامة صح أو خطأ وهكذا، لأن كل ذلك لا يكشف عن قدرة الطالب على الكتابة من جهة، كما أنه يمهد الطريق للغش من جهة أخرى، وإن كان يريح الأستاذ من عناء قراءة الأوراق لأنه يتم تصحيحه عن طريق الآلة في دقائق معدودات.

وإلى وقت قريب، كان القلم من أثمن الهدايا التي تُقدّم إلى المثقّفين عمومًا، وعندي من الأقلام التي أهديت لي أشكال وألوان مختلفة، وكم أهديت لتلاميذي وأصدقائي من أقلام، وأذكر مجموعة من الأقلام ورؤوس الأقلام التي تستخدم في الخط أهدانيها أخي وصديقي د. سليمان البوطي يرحمه الله، وكنت أهدي مثلها لابني المهندس أحمد بسيم وأخيه د. محمد بسيم ليقوما بالتدرّب على حسن الخط.

وإذا كان لكل كاتب قصّته مع القلم، فهناك من يفضِّل قلم الرصاص، وهناك من يختار أنواعا معيّنة من الأقلام للكتابة، من حيث الشكل أو قدرتها على مسايرة تدفّق الأفكار.. فإني أفضل القلم الرصاص للمسودات، لسهولة محو الكتابة، وكنت أكتب بالقلم الحبر حتى ظهرت الأقلام السائلة التي لا تحتاج للحبر، فأقبلت عليها واستخدمتها، وكنت أنظم محاضراتي فأقوم بتأطير الورقة بالقلم الرصاص، وأستخدم القلم الأحمر في كتابة العناوين، وقد أستخدم القلم الأخضر أحيانا، أما متن المحاضرة أو البحث فكنت أستخدم فيه القلم الأزرق وأحيانا القلم الأسود.

ومن الطرائف أنه كانت هناك أقلام تجمع هذه الألوان الأربعة في قلم واحد وكان يهديها لي والدي يرحمه الله، وصرت أهديها لأولادي.

هذه قصّتي مع القلم، وما زال القلم صديقي، فلا أستغني عنه، وإنْ كان بنان الأصبع صار ينافس القلم في عصر الكتابة على الحاسوب.

أما عن مستقبل القلم، فأرى أنه سيظل مستخدما وإن زاحمته الوسائل المتطورة في الكتابة فهناك الكتابة الصوتية وهناك ترجمة خط اليد إلى كتابة على الحاسوب، وما يستجدّ من وسائل تسجيل الأفكار في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة التي تريد الاستغناء عن الإنسان وإحلال الإنسان الآلي مكانه.

والحق أن هذه الأداة (القلم) غيّرت مجرى البشرية ودخلت بالإنسان إلى التاريخ والحضارة! بما سجّلته من أعمال وأفكار وعلوم وفنون وآداب، مُسجّلة في المخطوطات العربية في مختلف العلوم والآداب والفنون، وقد خصّص لها معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، كما اهتمت بها دُور الكتب في الدول العربية ومختلف الجامعات العربية.

وقد كتب الشعراء عن القلم كثيرا، ولعل فيما سقناه من مناظرة السيف والقلم لابن برد الأصغر خير دليل على ذلك، ويكفي أن الله تعالى خصّ القلم بسورة يُتعبّد بها، وأقسم به في مُحكم كتابه، ولا يقسم الله إلا بما هو مهم ومن عجائب مخلوقاته، فجلّ من قسم وعز من مقسم، فسبحان خير معلم، مَن علّم بالقلم القرون الأولى، وجعل ذلك سُنّة ماضية في خلقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بما أنزله في خاتم كتبه على خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم.

لأنّنا أحرفٌ.. كان القلم!

بقلم: جنى جهاد الحنفي – كاتبة وإعلامية فلسطينيَّة في لبنان

يحنو على الأنامل المرتجفة… ويكشف سرّها قبل أن تبوح! لا يتطفّل على نزيف، ويفتح وريدَه مجرى بدون عثرات لأجل قلبك. ينسف مبدأ الحجر! الجامد أيضا حنون… والرصاص لا يُذيب، بل يذوب لأجل كلمة ألحَّت على قلبك. بمناسبة القلب، يجلس غالبا في جيبةٍ بجانبه. ربما لأنه شاهد من أهله… وإن قَدَّ الألمُ قلبك من قُبل أو من دُبر فصدِّق اعتراف القلم.. ولن يكون أبدًا من الكاذبين! إنه ريح يوسف… حقيقي الأثر. إنه جبّ تهرب إليه بإرادتك وتصرخ هناك حيث لا حدود إلا السماء. هو أصلب من جناح… لكنه يحلق فيكَ وأنت في مكانك! إنه مفتاح القلوب وجرح يدَّخر لك الحبر لتقوى على سكرات الاعتراف بالحروف المتعبة. لأننا أحرفٌ… كان هو القلم!

جنى جهاد الحنفي

قصَّتي مع القلم تشبه قصة طفلة مُدلَّلة مع أول فستان عروس! وبعد بلوغي الواحد والعشرين، لا يزال القلم هو الهدية الأغلى. كانت البداية في صفّي الثاني، حين قرأت معلمةُ اللغة العربية فقرةً من ثلاثة أسطر كتبتها عن الربيع… فبرقَت عيناها! وكتبت لي جملة لا أنساها رغم أني لم أفهمها حينها: أنتِ مستقبل الربيع المشرق! فأطلقتُ على القلم الذي استعملته حينها: القلم السحري!

عاش معي طويلا، تعلمتُ به الرُّقعة، كتبتُ به رسائل لمعلمتي، وقرّرت أن أفتتح بها كتابي الأول الذي تألّف من فقرات صغيرة عن المواضيع التي أحبها!

كانت ضربة قاضية ـ وما أحلاها من ضربات- أن تذوب رصاصة هذا القلم! هل سأستمر في الإبداع بدون سحره؟

تعلّمتُ من القلم أنّ الفناء لأجل قضيةٍ هو الخلود… وأن من يملكه يحوز كل شيء: حق الثورة، حق البكاء، حق الفضفضة بدون شروط. يقول الإمام علي كرّم الله وجهه: الخط لسان اليد. واليد رسول القلب… وخادم أسراره. وقد قال الله تعالى: الذي علم بالقلم ليبلغنا أن القلم حمامة زاجلة وأهل القلم هم أهل البلاغ…

بالقلم تُعلن حربا، بالقلم تُشعل قلبا بشوقه، بالقلم تتبارى، بالقلم تهزم شعبا، وبالقلم تقود له ثورة!

وهنا نطرح سؤالاً: هل ما يزال القلم يملك هذه الأهمية التي جعلته سابقًا هديّة الأمراء؟ فيما تستمر التكنولوجيا في إيجاد البدائل وتجديد الوسائل، لا يزال هناك مستقبل للقلم رغم تطور أشكال الطباعة الإلكترونية والكتابة على الهاتف. والسبب الأهم هو توفير القلم تجربة حسية فريدة لا تعوّضها كل آلات العالم التي لا تختصر حيرة الخربشة ولا تتّسع إنسانا بأكمله. بالقلم نتبارز مع فكرة، ومع القلم نملك رفاهية أن ننكسر بالخفاء! ولا يزال جمهور المعبّرين حاضرًا بقوة، خصوصًا في ظلّ اعتماد العلاج النفسي الحديث أساليب علاج بالكتابة، وانتشار الفعاليات التي تعلّم الخط وتدعِّم الخطّاطين وتقيم مزادات لبيع الأقلام. هذا بالإضافة إلى المكانة الثقافية التاريخية للكتابة اليدوية… التي تُعدّ تراثا حضاريًّا عريقا. ولا ننسى كيف تفنَّنت الحضاراتُ في إيجاد وسيلة للتدوين كالنّقش والحفر والمسامير… ومن هنا نستنتج أن القلم حاجة، وليس كمالة أرستقراطية.

وقد عبّر الأدباء عن هذه الأهمية في إنتاجاتهم التي رسّخها التاريخ. نستحضر “فولتير” مثلاً الذي يقول أنّ القلم هو الأداة التي تحوّل الفكرة إلى سلاح. ثم يقول “إدوارد ليتون” أن القلم أقوى من السيف. وعليه، إن كان بحوزتنا قلم، فنحن نستطيع صُنع عالم! نستطيع احتلاله وتحريره. من يملك قلمًا فهو يحمل مسؤولية ثقيلة تجاه العالم. قد يحمل قلمك على مقدّمته وردة، وقد يكون فُوَّهة بندقية!

كان القلم السحري الثاني جائزة لفوزي بالمرتبة الثالثة في مسابقة أدبية. ومن بعدها اقتنعت أنّ السحر بحدّ ذاته بين يديّ لأنني أمتلك قلمًا. وما زالت رحلة شغفي به مستمرة. في كل مرة ألتقط قلمًا… أكتشفني كأني أتدرّب للمرة الأولى على ضبط الحروف بمستوى السطر. لهفتي لا تنتهي بكل درجات الأزرق! لكني في الوقت ذاته، لدي قصة حبّ مع الأسود والأحمر. وأحافظ على أقلام الرصاص نظيفةً برأس حاد. وأحتفظ بالأقلام المزركشة كأنها أدوات في متحف. ولعل الجدير بالذكر أني أحفظ هذه الأقلام لدرجة أني حين أقرأ نصًّا قديمًا أتذكر بأيّ قلمٍ كتبتُه!

وإن جفّ الحبر والفكر يومًا سيبقى هذا القلم وفيًّا! وسينبض باشتعال دمائنا التي لا تفيض إلا على الورق… إلّا في ظلّ قلم!

أقلامكم ضمائركم.. فاحذروها!

بقلم: حيدر حمزة ويس – كاتب وإعلامي من لبنان

القلم أول خلق الله عزَّ وجل منذ فجر التاريخ حيثُ نزلت سورة كريمة في محكم كتابه بقصد الدلالة على عظمته، قال الله سبحانه وتعالى: “ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ” (سورة القلم: 1)، أي الكتَّاب الذين يدوِّنون بأقلام سواعدهم ما يتم التعبير عنه في كتبهم ومقالاتهم وأشعارهم بهذا المخلوق البسيط قيِّم الشأن الذي يُعتبر لغة العقل والمعرفة وأداة للتعبير عن مشاعر البشر وأفكارهم وشخصياتهم، الناس كافة يستطيعون حَمله لكن الثلة القليلة من البشر التي تجيد استخدامه.. إنه القلم! ذلك المخلوق البسيط في شكله، العظيم بتأثيره، كم بُحنا به عن مكنونات نفوسنا وخلجات صدونا، وبه تعلمنا وأبصرنا نور العلم، وبه سُطِّرت حضارات ونهضت ممالك وقامت إمبراطوريات، وبه جُمع حصاد العلوم والمعارف والأفكار والأشعار.

حيدر حمزة ويس

الاحتفال بالقلم هو احتفالٌ بالكُتّاب والأدباء والمفكّرين الذين تركوا إرثاً للبشر يبني لهم حضاراتهم وتاريخهم، غير أنّ هذه المناسبة يُرجع تاريخها لإيران، إذ لا يزال تاريخها غير معلوم بالنسبة للكثيرين. ويُقال إنّ أحد ملوك “إيران” كان يكنّ احترامًا كبيرًا لأصحاب القلم ويرفع من شأنهم من أدباء وكتّاب، فقرر أن يحدّد لتكريمهم يومًا في السنة فكان الرابع من تموز/ جويلية، الذي أقرّ أخيرًا من قبل المجلس الأعلى للثورة الثقافية في “إيران”، وصادف يوم الخميس 4 يوليو/ جويلية من العام 2024، يوم القلم.

كلّ أنواع النمو والتقدّم والنصر والسلام والمعرفة والاعتراف، متأصّلةٌ ومتجذِّرة في القلم الذي يربطه علاقة حميمة بالإنسان، فهو كالمغرفة والعقل هو الإناء، وكلما امتلأ الإناء أكثر، كان الاغتراف أسهل وأيسر، انه يعبّر عن صاحبه، فهو لسانه الصامت، الذي يتكلّم حبرًا، وتسمعه العيون إذ تقرأ، ومداد القلم ليس بمحبرة ترافقه، وإنما مداده ما سال من عقل صاحبه فأوحى فيه من وحيه وأنار فيه من بصيرته، فالقلم يكتب ما يُملى عليه من عقل صاحبه.

الكتابة الصحفية جزء أساسي من الصحافة، إنها ممارسة استخدام الحقائق والأدلة والمعلومات لإنشاء قصص ومقالات وتقارير إخبارية دقيقة ومدروسة جيدًا، الغرض من الكتابة الصحفية هو تزويد الجمهور بالمعلومات والتحليلات الواقعية، حتى يتمكّنوا من اتخاذ قرارات مستنيرة. الكتابة الصحفية الجيدة تكون واضحة وموجزة وموضوعية، وتلتزم بمعايير أخلاقية ومهنية صارمة. إنها جزء مهم من الصحافة لأنها تساعد على ضمان وصول الجمهور إلى معلومات دقيقة وموثوقة، وهو أمر ضروري لديمقراطية صحيّة. وبدون الكتابة الصحفية، سيكون من الصعب على الجمهور البقاء على اطلاع واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن القضايا المهمة.

القلم سيف ذو حدَّين ومع اشتداد الظروف الحالية القاسية وما يجري في غزّة وجنوب لبنان تكثُر المقالات والروايات الداعمة للقضية عقب المشاهد والسيناريوهات الأليمة وحضرة الدم النازف الذي يرفض ويأبى أن يتوقف في المقدس وأكناف بيت المقدس فهل يمكن اعتبار القلم سيفًا ذا حدَّين؟

نعم القلم سيف ذو حدَّين وسلاح إذ يرفع إلى مستوى المقاومين في غزّة والجنوب، والذين هم اليوم قد ارتفعوا في شعورهم، وفي معنوياتهم وفكرهم وكل ما منحهم الله سبحانه وتعالى، وارتفعوا إلى مستوى الجهاد والتضحية والمقاومة والصمود أمام التحديات، وكذلك الشِّعر الذي يستطيع أن يرتفع إلى مستوى الجهاد، في مقاومتهم وعرفانهم وتضحياتهم، وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الأدب منذ صدر الإسلام هو دعامة للدعوة الإسلامية، ودعامة للشهداء والدفاع عن القيم الإنسانية، وكما تعلمون، أن الرسول (ص) اهتم بالأدب ودعا الشعراء كحسان بن ثابت الأنصاري وأمثاله، أن يُنشدوا فيما يمكن أن يُدافع عن الدين والقيم الإنسانية.. وهكذا كل المقاومين في العالم الإسلامي، اهتموا بالأدب لأنه يستطيع أن يرفع مستوى الإنسان إلى مستوى المقاومين والمجاهدين في ساحة المعركة.

قال ابن الهيثم: “من جلالة القلم أنه لم يكتب الله كتابًا إلا به، ولذلك أقسم به. الأقلام مطايا الفِطن ورُسل الكرام. وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بَنَان، ومِن فضل بيان البنان أنَّ ما بيَّنته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تَدرُسه الأعوام”.

وقال “سهل بن هارون”: “القلم أنف الضمير، إذا رعف (نزف) أعلن أسراره، وأبان آثاره”. وقال “ابن أبي دؤاد”: “القلم سفير العقل، ورسوله الأنبل، ولسانه الأطول وترجمانه الأفضل “. وقالوا: ” القلم أصمٌ يسمع النجوى. وأخرسٌ يُفصح بالدعوى. وجاهل يعلم الفحوى”.

يا أرباب الأقلام لا تتباهوا بقلمكم اللاذع ولا تستخفّوا بهذا المخلوق البسيط انصياعًا لما هو شرٌ لكم فقدره عظيم، فما أكثر من نشروا بالقلم الخير المديد، وأيضا هناك من تجاوزت أقلامهم الخطوط الحمراء فعاثوا فسادا في بحور الظلام، يمالئون ظالما ويبررون منكرا ويداهنون فاجرا، ويقلبون بمعسول كتاباتهم الحق باطلا.. فكم رفع القلم أناسا ووضع آخرين.

وللأسف الشديد اليوم في عصرنا بعض مَن يكتب يقوم بالثلب ويسارع في البهتان وهذا تسرُّعٌ مذموم وآفة خطيرة. فإن صاحب الهوى والأغراض لا يجد متنفّسًا لما في صدره إلا تلفيق الأكاذيب وتزوير الأخبار، متنصلاً عن المسئولية العظمى. وإنه ما يجب على كل متكلم التثبت في الأخبار وعدم سوء الظن، فالتثبّت في سماع الأخبار وتمحيصها ونقلها وإذاعتها والبناء عليها أصل كبير نافع أمر الله به ورسوله، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” (الحجرات: الآية 6).

فمن تحقَّق وعَلم كيف يسمع وكيف ينقل فهو الحازم المصيب، ومن كان غير ذلك فهو الأحمق الطائش الذي مآله الندامة، ولا تستغرب أن يبدأ ربنا بنا أول أوامره بالقراءة، ثم يقسم بعد ذلك بالقلم وما يكتب الكاتبون.

القلم الذي لا يحمل ضمير الإنسانية وهموم المظلومين وجوع الفقراء وأنين الأوطان، لا يصلح للكتابة. فهناك قلم يحرِّر، وقلم يقرِّر، وقلم يبرِّر، وقلم يحاول أن يمرِّر، وقلم أمير، وقلم أجير، وقلم أسير، وقلم يستفز، وقلم يفزع، وقلم يعزف، وهناك قلم مدهش، وثاني منعش وآخر لا يهش ولا ينش، وقلم ظاهر، وقلم قاهر، وآخر طاهر، هناك قلم متطور وآخر متورط، وقلم ممتع وآخر معتم، وقلم حزين وآخر يتألم، وقلم يبعث الضوء، وقلم ينفث السوء، تعددت الأقلام والحبر واحد فاحرص على اختيار نوع القلم…!

وأعلم أنّ هناك أقلام لا تغادر كبيرة ولا صغيرة إلا كتبتها (أقلام الملائكة).. وهناك أقلام رُفعت وجفّت صحفها، أقلام المقادير.

ومضات من رحلتي مع القلم

بقلم: سماح خليفة – كاتبة وشاعرة من فلسطين

تغفو ذاكرة الطفولة شيئًا فشيئًا، ومع تقدّم العمر تستغرق في سباتها فوق كومة من الأفكار والأحداث والحكايات، وفي لحظة ما، ولسبب ما قيد الصّدفة، يُطرَق بابها؛ لتذكيرها بموعد الحصاد، فإمّا أن تُجزّ صفراء يابسة بمنجل العمر، وإما أن تُقطف خضراء يانعة بيدين من حرير.

سماح خليفة

ترتبط ذاكرتي برحلتي مع القلم، بأنواعه المختلفة: الرصاص الخشبي الأصفر، الرصاص “الفطعات” بقالبه الزّجاجيّ الملوّن، الحبر بألوانه المختلفة ونوعَيه: الجاف والسائل، ترتبط بنقطتين مركزيتين في دائرة الطفولة، أو لِنَقُل بقصتين لطيفتين كنقطتي انطلاقة إلى العالم الخارجي، ما وراء جدران المدرسة والبيت، إحداهُما تتعلق بمسيرتي الأكاديمية، والأخرى بمسيرتي الأدبية الإبداعية، فعلى الصعيد الأكاديمي سلك قلمي الرّصاص الخشبيّ الأصفر، في المرحلة الابتدائية، سبيلين متلازمين، الأول: الكلاسيكي التقليدي المرتبط بحصة الخطّ العربي، بنوعيه: النّسخ في كرّاس الخط العربي، ومن ثمّ الرُّقعة، نهيّئُ القلم بمبراة حادة، ونعقد على رأسه شريطًا صغيرًا من الشّبر الملوَّن، يشبه إلى حدّ كبير الشريط الذي نعقد به ضفائرنا.

السبيل الآخر الذي هو الوجه الآخر للإبداع الأكاديمي، انطلق قلمي الرّصاص “الفطعات”، في المرحلة الوسطى، من حصة العلوم، حيث المادة تُملى علينا غيبًا أثناء الشرح، أتنافس وزميلاتي بأمرين: السّرعة والشكل، وأما البداية كانت من السرعة، من منا تستطيع أن تحيط بكل كلمة تتفوّه بها المعلِّمة دون أن تفلت منها واحدة هنا وهناك، وعندما تكلّ أيدينا، ويُستنزف القلم بتكسُّر “فطعاته”، نبدأ بالتباطؤ شيئًا فشيئًا والاسترخاء، نمسّد رأس القلم ونمسح أنبوبته الزجاجية بحنوٍّ وافر، نتأمّل ألوانه الجميلة، فيبدأ القلم بالتّماهي مع مشاعرنا، والرّقص على وقع أفكارنا المتدفِّقة، التي تشرد بنا بعيدًا، فتهرب المادة من قبضتنا، وتتسربل الكلمات من بين أصابعنا، ونبدأ لا شعوريًّا بابتكار خطوط بأشكال كلمات في غاية الروعة، مرة نجعل الكلمات تميل يمينًا ومرة يسارًا، كأن ريحًا صفعتها بقوة في كلا الاتجاهين، ثم نبدأ بالمفاضلة بينهما، أيهما الأجمل (يمينًا، يسارًا.. نظام الوورد لا يسعفني للتوضيح).

ننتقل بعد ذلك إلى اختبار جمالية شكل الألف عندما تنزلق أسفل السّطر بشكل ملتوٍ شبيهٍ بالتواء حرف اللّام، ومرّة أخرى وهي متّصلة بلام – الـ – التعريف من أعلى، على شكل قوس صغير، وأمّا التاء المبسوطة، كثيرًا ما اجتهدت في بسطها مع انسيابية لافتة في نهاية كل كلمة، وأمّا النّون المنفصلة أو المتّصلة من اليمين، لم أكن أحبّ النقطة التي تعترض مجرى الهواء في حنجرتها، كنت أشعر بها تختنق، استبدلت بها ذيلًا صغيرًا ينطلق بحرية من ناحية اليسار على شكل زاوية حادة صغيرة، وأمّا عصا حرف الطاء، فكان لا بدّ لي أن أجعل علم فلسطين ينبثق منها على شكل شراع موجّهٍ ناحية اليمين.

تلك التقنيات المبتكرة كلّها كانت تزيد من جماليات الخط بالنسبة لي، وتزيد من رشاقة الكلمات على متن السّطر، كنت أشعر بالكلمات كأنها أسطول بحري يمخر عباب البحر بحرية تامة، وكي لا تتمرد خارج حدود الصفحة كنت أسطّر إطارها بالحبر الأحمر، وأجعل العنوان بالحبر الأزرق.

أمّا أنا كنت رُبّانها الذي يترنّم بصوته الرّخيم على إيقاع تكّات مقبض الدّفة، الدّفة والشراع كانتا نقطتا انطلاقة رسوماتي بخربشات أقلامي على الحيطان، أقلام الفلماستر العريضة بألوانها السوداء والخضراء، كنت أجعل ذراعي على هيئة “فرجار”، وأرسم دائرة واسعة متباهية بها، تشبه تمامًا الدائرة التي رسمتها ذات حصة رياضيات، قامت المعلِّمة بتحليل نفسيتي، وربطَت دقّة الدائرة بالراحة النفسية، أعجبني تحليلها، لكن لم يعجبني توبيخ أمي في كل مرة رسمتُ فيها على الحائط.

كان يحلو لي أن أختبر براعة صوتي في بيت الدّرج، وأنا أجلس على قمّته، أعلى درجة تجعلني على تماس مع السماء في أخيلتي، ألتصق بالحائط المحاذي، أغنّي وأصداء صوتي ترتدّ في مختلف الاتجاهات، تزيد من جماليّته وتمنحني شعورًا رائعًا، يرافق الغناء خربشة بقلم الفلماستر الأخضر، الغناء والقلم متنفّسان، يمنحاني شعورًا عميقًا بالراحة، بالحرية، أتنفّس بعمق شديد في حضورهما.

قلمي رفيقي في الكتابة وكذلك في الرسم، كانت المعلِّمة تمسك الطبشورة البيضاء، وترسم عصفورًا بجناحين مشرعان على عرض السبّورة، ثم تطلب منّا أن نرسمه في كرّاسة الرسم، كنت بدوري أحلّق عاليًا في سماء حريتي، أرسم أرضًا خضراء شاسعة وسماء زرقاء صافية، وطيور محلقة في الفضاء، ظلّ هذا المشهد يرافقني في أحلامي طيلة مراحل حياتي، هو ذاته من خفّف عنّي ألم العملية القيصرية عندما أنجبت ابنتي “شام”، منذ اللحظة الأولى التي غيَّبني فيها المخدّر عن الوعي، حلّقتُ في ذلك المشهد الجميل، وانطلقت أركض مشرعة ذراعيّ للهواء، أحتضن هذا الجمال بكُلِّيّتي.

موهبتي بالرسم مع القلم ظهرت في مرحلة مبكرة لكني طويتها جانبًا وانشغلتُ بالدراسة، ومن ثم الزواج والأسرة ومسؤولياتها، إلى أن قفزَت إلى السطح بعد سنوات عديدة عام 2004م، عندما كُسرت ساق ابنتي البالغة من العمر ثلاثة أعوام، وقضيت معها شهرًا في مستشفى “الرازي” في “جنين”، في ذلك الوقت تملَّكتني رغبة جامحة للكتابة والرسم، طلبتُ من زوجي حينها أن يحضر لي أقلامًا وأوراقًا ولوحات، بدأت أكتب نصًّا على الورق بقلم الرصاص، ثم أعيد تبييضه مرة أخرى بقلم الحبر الجاف الأزرق، ورسمة على لوحة الكرتون، وأعلقها داخل غرفة المشفى، أذكر جيدًا طاقم المُمرِّضات والطبيب المُشرف، وكذلك زوجي عندما ذُهلوا من رسوماتي، فاستأذنني أحد الممرِّضين أن يشارك بها في معرض في “رام الله”، أذنتُ له، ثم طلب مني أن أستمر، وفعلا داومتُ على الرسم، والكتابة التي اطلعَّت عليها الممرِّضات بالصدفة وشجَّعنَني على ممارسة الكتابة والنشر، لكن الغريب في الأمر أنني عندما خرجت من المشفى فقدت شهيّتي للكتابة والرسم، ولم أستطع أن أحمل القلم أبدًا!

عدتُ إلى مسؤولياتي، وعاد القلم والأوراق حبيسة الأدراج، إلى أن طفَت كتاباتي مرّة أخرى على سطح الذاكرة عندما كنت أوقِّع على معاملة قبولي في وظيفة المعلِّمة، تذكّرتُ توقيع الكاتب “محمود شقير”، عندما استضفناه ذات لقاء في جامعة النجاح، وأتذكّر هدية القلم “الباركر” بعلبته الخشبية التي قدّمناها له، بدأتُ من حينها أعتمد توقيعًا خاصًا بي، وتلقيت أول هدية قلم من زوجي في أول كتاب أصدرته.

دفعني شعور ملحّ أن أنفض الغبار عن أوراقي المكدَّسة، وأن أراجعها وأرسلها إلى دُور النشر، وكانت تلك نقطة انطلاقتي الجديدة في مشروعي الأدبي الإبداعي والنشر، الذي كانت بدايته في طفولتي الأولى، مع جريدة “القدس” الورقية، التي نشرت فيها أول نصٍّ لي، أذكر أن والدي كان مهتمًا جدًا بجريدة “القدس”، متابعًا جيدًا لها، وجد فيها ذات يوم إعلانًا حول مشاركات الأطفال في الصفحة الثقافية التي كانت تصدر على ما أذكر مرة في الأسبوع، طلب مني أن أجرّب حظي في الكتابة والنشر، وفعلًا كتبتُ نصًّا بقلم رصاص، بخطِّي المائل الذي أفخر به، وبمواصفاته سابقة الذِّكر، لم أعلم أن الجريدة ستنشرها مطبوعة.

كان الحظّ يحالف طفلًا كل أسبوع بفرصة النشر، فظلّت نصوصي حبيسة الأدراج، بعد تلك الفرصة اليتيمة، ومع تغيب حافز النشر والمتابعة، لم تكن مواضيع الإنشاء على الرغم من تميزي اللافت في الأسلوب لدى مدرسات اللغة العربية تنبئني بأني سأصبح كاتبة في يوم من الأيام، أو لم تكن قد أشعلت الشغف في داخلي بالقدر الذي يضعني على طريق الكتابة، وبالقدر الذي آمنت فيه بنفسي ذات يوم بعد أن قرأت قصيدة “بدر شاكر السّياب” في الكتاب المدرسي، أذكر جيدًا كيف سلبني جمال الصورة الشعرية، وكيف نسختها على دفتري بقلم الحبر الأزرق الجاف:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ — أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ — وترقص الأضواء كالأقمار في نهَرْ

انطلقت مُسرعة وعبّرتُ عن المشهد بداية بالصورة، فرسمت المشهد بقلمي الرصاص، وعرضته على معلمتي، أُعجبَت بها كثيرًا، واحتفظت بها في بيتها في “مخيم الفارعة”، في غرفتها الخاصة، علمتُ بذلك من زميلاتي اللواتي زرنها ذات يوم عندما اشتدّ بها المرض ولم أتمكّن من مرافقتهن من “طوباس”.

وأمّا القصيدة التي كانت فاتحة كتاباتي، كانت أيضًا لبدر شاكر السيّاب “رحل النهار”:

رحل النهار

ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهّج دون نار

وجلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار

……

هو لن يعود..

أذكر جيدًا كيف أسَرني هذا النص، وكيف أثّر بي كثيرًا، أحببتُ نصوص “بدر شاكر السياب” في المرحلة الثانوية جدًا، نسخت القصيدة في دفتري بقلم الحبر الجاف الأزرق، والعنوان بالأحمر، بخطٍّ متأنق كالعادة، احتضنتُ قصيدته بين ذراعي متأثّرة لعدة أيام، بعد ذلك انطلق قلمي بالكتابة بعاطفة جيّاشة.

شجعتني أختي “ريتا” كثيرًا على مواصلة الكتابة، وفعلا بدأت أكتب وأودع نصوصي أدراجها، ولم أنشرها، ولم أُطلع عليها أحد، وبعد فترة وجيزة توجّهت بالكتابة إلى مذكراتي طفولتي في المرحلة الابتدائية، كنت أنتقي أوراقًا ملوَّنة، مزخرفة، تباع خصيصًا لكتابة المذكرات، أكتب وأودعها أدراجها كالعادة، استمرَّت رحلتي الأكاديمية والزوجية والأسرية، وأما الأدبية فظلت سرًّا لتعلن في العام 2017م، سلكت طريقها في النشر بتشجيع من صديقتي “رؤى”.

بدأت صداقتي مع القلم تخفت شيئًا فشيئًا، بوجود الكيبورد، كانت صداقة الكيبورد جافة، لا تشبه صداقة القلم، كنت أشعر بالقلم ينزف إحساسًا في كل نقطة حبر، كنا نتشارك الدم والإحساس والحوار قبل كل نص، لذلك تركتُ الكيبورد وعدت من جديد إلى القلم والورقة، وفي نهاية المطاف إذا ما أردت نشرها ألجأ مضطرةً إلى الكيبورد.

لملمتُ قصائدي النثرية بأوراقها الملوَّنة، وطبعتُها، ثم دفعتُ بها إلى مكتبة كل شيء، ليولد طفلي البكر، ديوان “أبجديات أنثى حائرة”، ثم لملمتُ مذكِّرات طفولتي في المرحلة الابتدائية وطبعتها ودفعتها مرة أخرى للنشر فكان كتابي “طوباسيوز/ يوميات طفلة الانتفاضة”.

كنت مدفوعة بحماسة كبيرة، بعد جوعٍ للكتابة وتعطش للحبر، فشرعت أكتب روايتي “نطفة سوداء في رحم أبيض”، فضلًا عن النصوص والمقالات المتفرِّقة هنا وهناك، وعندما أسكتّ جوعي الشّره للكتابة والنشر، أخذت نفسًا عميقًا وشعرت بأني تسرَّعتُ في تناول وجبات الكتابة الدسمة، وخاصة في غياب مُوجّه ودليل ومدقِّق لي بعد انخراطي غير المشروط في عالم الأمومة، فاتخذت قرارًا بالتريّث، وأقبلت على إكمال دراستي الجامعية، ماجستير في نقد الأدب العربي..

وعدت إلى القلم والأوراق والخط المائل بتقنياته الممتازة، وحرصت على تطوير موهبتي في الشعر والنثر والنقد، أصدرت كتبًا في النقد، وأما الشعر والنثر، فأنجزت مخطوطة ديواني الشعري العمودي، ومخطوطة روايتي الجديدة، فضلًا عن قصتين للأطفال، ولم أنشر شيئًا منها، وأكتفي الآن بمقالاتي وقصائدي وأوراقي النقدية في الصحف والمجلات الالكترونية والورقية، إلى حين اتخاذ قرار النشر مرة أخرى..

وظلّ قلم الرصاص الخشبي الأصفر يزيّن مكتبي، ألجأ إليه بين الفينة والأخرى، إلى جانب قلم الحبر الأزرق الجاف، وقلم الحبر السائل الخاص بالتّوقيع.

تجربتي مع القلم!

بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد – شاعر وناقد وأكاديمي من مصر

طويلةٌ جدًّا تلك الرحلةُ التي قطعتها البشريةُ لتنتقل من الشِّفاهية Orality إلى الكِتابية Literacy؛ من المسموع إلى المدوَّن، ومن المنطوق إلى المخطوط. ولسنا هنا لاستعراضها، لا إجمالًا ولا تفصيلًا، كلُّ ما يعنينا منها أن اختراعَ القلم كوسيلةٍ للكتابة كان أعظمَ ما توصَّلَت إليه الإنسانيةُ لتحفظَ تراثَها وتصونَ فكرها وتُخَلِّدَ فنونَها؛ ولولا ذلك لضاعت العلومُ في متاهات الغفلة، وتبددت المعارفُ في مجاهل السهو، وانطمست الآدابُ في أودية النسيان.

شعبان عبد الجيد

ولعلَّ عبد الرحمن “بن كيسان”، وهو فقيهٌ ومفسِّرٌ ومتكلِّمٌ معتزلي، كان يقصد إلى هذا المعنى حين قال: “استعمالُ القلم أجدَرُ أن يحضَّ الذِّهن على تصحيح الكتاب، من استعمال اللِّسان على تصحيح الكلام”.

في لسان العرب: القلم: الذي يُكتَبُ به، والجمعُ أقلام وقِلام، قال ابنُ سِيدَه: والقلمُ الذي في التنزيل لا أعرف كيفيتَه. ومِن أسماء القلم: المِرقَم واليراعة؛ أمَّا (اليراعُ) فهو القصب الذي تُصنع منه الأقلام. وقد يغيبُ عن كثيرين أن من أسمائه أيضًا: المِزْبَر، أخذًا له من قولهم زبَرتُ الكتابَ إذا أتقنت كتابتَه، ومنه سُمِّيت الكتُب زُبُرًا، كما في قوله تعالى “وإنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلين”، وفي حديث أبي بكرٍ أنه دعا في مرضِه بدواةٍ ومِزبَر، أي قلم.

ومن عجيب ما يُروَى، وهو ممّا لا يقتنع به العقلُ المعاصرُ باديَ الرأي، أن القلم أولُ المخلوقات، وهو القلم الذي كُتِبَت به مقاديرُ الخلق، واستدلُّوا على ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولَ ما خلق الله القلم، ثم قال له أكتُب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة). وقد كان القلم من أُولَى المفردات التي تنزّلت على النبي الخاتم في سورة العلق، وقد أقسم الله به، وبما يَسْطُرُه الكاتبون، أو الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم، في مُفتتح سورةٍ سُمِّيَت باسمه، وقد قيل إن (القلمَ) هنا هو الذي كتب الله به الذكر، وبالغوا فوصفوه بأنه قلَمٌ من نورٍ، طولُه ما بين السماء والأرض. وهذا في رأيي من تهاويل المفسرين وشطحات المُحَدِّثين. وأيًّا ما كان الأمرُ، فقد شَرَّف الله القلم أعظم تشريفٍ حين أقسم به، وهو ما أشار إليه أبو الفتح البُستيُّ في قوله:

إذا أقسم الأبطالُ يومًا بسيفِهم — وعدُّوه مما يُكسِبُ المَجدَ والكرَمْ

كفَى قَلَمَ الكُتَّابِ عِـزًّا ورِفعةً — مدَى الــدهْــرِ أنَّ اللهَ أقسمَ بالقلَمْ

ولم أكن أفهم حين كنت طفلًا كيف علّمَ اللهُ بالقلم، وظللتُ حائرًا في استيعاب هذا المعنى وتصوُّرِه، حتى قرأت في تفسير الإمام “محمد عبده” أن الله عزَّ وجلَّ “أفهَمَ الناسَ بواسطة القلم كما أفهمَهم بواسطة اللسان. والقلم آلةٌ جامدةٌ لا حياة فيها ولا من شأنها في ذاتها الإفهام. فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلةً للفهم والبيان، ألا يجعلُ منك قارئًا مبينًا، وتاليًا معلِّمًا، وأنت إنسانٌ كامل؟”.

وهو تنبيهٌ، كما قال “الزمخشريُّ” في “الكشَّاف”: “على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا الله. وما دُوِّنَت العلومُ ولا قُيِّدَت الحِكَمُ، ولا ضُبطَت أخبارُ الأولين ومقالاتُهم، ولا كتُب الله المنزَّلَة، إلا بالكتابة، ولولاها لما استقامت أمورُ الدين والدنيا. ولو لم يكن على دقيق حِكمَةِ الله ولطيفِ تدبيرِه دليلٌ إلا أمر القلم والخطِّ لكفَى به”.

ولا أزال أذكرُ، كما لو كان ذلك بالأمس، تلك الرَّعشةَ الأولى، والدهشةَ الأولى، والفرحةَ الأولى، حين أمسكتُ بالقلم لأول مرة، وأخذت أنقل الأحرُفَ الأولى من الأبجدية العربية؛ وكان أبي رحمة الله عليه، وهو معلِّمي الأول، يقرأ ليَ الحرفَ، ثم يطلب مني أن أردِّدَه وراءه، ثم أنقله كما هو، بشكله ورسمِه وصورته، وهو ما عرفتُ بعد ذلك أنه الرسم الإملائي للصوت، وكانت سعادتي لا توصف حين نجحت في كتابة الألف والباء والتاء والثاء في جلسة واحدة، ورأيت من فرحة والدي وثنائه عليَّ وتشجيعِه لي، ما ضاعفَ سعادتي، وجرَّأني على أن أحاولَ نقلَ بقيّة الحروف بمفردي، ولكنني ظللت محتاجًا إليه لأسمع منه صوت الحرف الذي أنقله وأرسمه؛ فعلمني، ربما من حيث لا يقصد، المهارات اللغوية الأربع: الاستماع والحديث، والقراءة والكتابة. واستقرَّ في وعيي بعد ذلك أن من لا يستمع جيِّدًا لا يتحدَّث جيِّدًا، ومن لا يقرأ جيِّدًا لا يكتب جيِّدًا.

كان عجبي لا ينتهي حين أنظر إلى الحروف التي أرسمها، ثم الكلمات والجُمَل في مرحلةٍ تالية، وأدرك أنني قد حبستُ الكلام على الورق، بعد أن كان ينطلق مع الزَّفير ويتلاشى في الهواء، كنت أُحِسُّ أنني صرت أمتلكُ اللغة وأمسكُ بالأفكار، وهو ما تأكَّدَ لي حين تمَكَّنت من القراءة والكتابة، وصِرت قادرًا على التَّعبير عن مشاعري وخواطري، فأسجِّلها قبل أن تغيبَ عني، وأقتنصها قبل أن تفرَّ مني. وحين بلغتُ العاشرة من عمري، كنت أقرأ الجرائد اليومية بانتظام، وأطالع لأكثر كُتّابها كتبَهم ومقالاتهم، وأجد في بعضها أنها: بقلم فلان، وكان ظني أيامها يذهب إلى أن ذلك يعني أنه كتبها بقلمه هو، وليس بقلم أحدٍ غيره، وهو ما تبيَّنت لي سذاجته بعد قليلٍ حين عرفت أن (قلم فلان) يعني عقلَه وفكرَه وأسلوبَه، وإن كان هذا لا ينفي بداهةً أنه كتبها بقلمه هو وبخطّ يده هو.

وحين تخرَّجتُ في الجامعة، والتحقت بالسنة التمهيدية للماجستير، كان الدكتور “رمضان عبد التواب”، طيَّب اللهُ ثراه، يدرِّس لنا “مناهج تحقيق التراث بين القُدامَى والمحدَثين”، وكان من حسن حظي أيامها أنني كنت أحضر أكثر المحاضرات وحدي، وأتاح لي ذلك أن آخُذَ هذا العلم على مهَلٍ من أحد أكبر أعلامه في العالم العربي كله؛ فكان يأتيني بصورٍ “زنكوغرافية” لصفحاتٍ من مخطوطات قديمة، ويطلب مني أن أقرأها بروية وتأنٍّ، ثم أنقلها مرةً أخرى بقلمي على ورقة بيضاء. وأذكر أنه كان يندهش من قدرتي على النقل الصحيح للمخطوطات، وأنني لا أخطئ إلا في بعض الكلمات، التي تكون في أغلب الأوقات ممسوحةً أو مكشوطةً أو متداخلة مع غيرها، وحين توثّقَت علاقتي به، وعرف مقدار ثقافتي، قال لي: إن قراءاتك الكثيرة في كتب التراث، وصِلَتَكَ الدائمةَ به، هي السبب وراء حسن قراءتك للمخطوطات وحسن فهمك لأساليب القدماء في التعبير.

كنت أحسُّ وأنا أعيد قراءة المخطوط بعد أن نقلته بيدي، أنني أقرأ نصًّا آخر لكاتبٍ آخر، وبخاصةٍ إذا كان النصُّ بخطِّ يد مؤلِّفِه نفسِه، وهو الأمر الذي كان يتكرّر بصورة أشدّ حين أقرأ كتابًا من كتب التراث مطبوعًا، وإن كان إخراجُه وإعادة نشره في صورةٍ جديدة، تُيسِّر مطالعته وفهمه للقارئ المعاصر، وتزيل ما يمكن أن يكون به من غموضٍ وصعوبةٍ وإبهام. وكنت أتأمّل كثيرًا في الكتب المحقَّقة، وأقف مَلِيًّا عند الصفحات التي يصوّرها المُحقِّق من المخطوط الأصلي، وأتخيّل كيف كتبها صاحبها، وكيف كان حريصًا على تنسيقها وتنميقها، أو كيف فاته ذلك أكثر الوقت فجاء مخطوطُه إلى الفوضى أقربَ منه إلى النظام.

بعدها بسنوات أتيح لي أن أزورَ دار “أخبار اليوم” ومطابعها، وأطَّلِعَ على مقالات بعض كبار كُتّابها بخطّ أيديهم، وكنت أعجب للكتَبة، typists، وأكثرهم سيدات، كيف يستطيعون أن يقرءوا هذه الخطوط التي توشك أن تكون طلاسم، ويكتبوها على الآلات الكاتبة في سرعة مذهلة، وحين سألت عن ذلك أجابوني بأنه سِرُّ الصَّنعة، والاعتياد على خطوط الكتاب الكبار، وكثيرٌ منهم خطُّه رَدِيءٌ فعلًا، أو يكتب وهو في عجلةٍ من أمره، فلا يبالي بعلامات الترقيم، ولا يتوقف عند همزات الوصل أو همزات القطع، ولا ينتبه إلى الفرق بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة، ويمتلئ مقاله بأسهمٍ صاعدة وأخرى نازلة، يُفهَم منها بعد لَأْيٍ أنها تشير إلى تعديلٍ واجبٍ في ترتيبِ الفقرات أو الكلمات.

ومع ذلك، وربما لذلك، كنت أحسُّ فيها بروح الكاتب وشخصيته، وكأنني أراه رأي العين، بلا حجابٍ ولا واسطة، إنه هو هو، على طبيعته وسجيته، دون تكلُّفٍ أو افتعال، وأزعم أن مسوَّدات الأدباء والعلماء، يمكن أن تعطينا صورة، ولو تقريبيةً، عن طبيعتهم النفسية ومواهبهم العقلية، وفي أوروبا وأمريكا يهتمون بذلك اهتمامًا كبيرًا، فيبحثون للأعلام الكبار عن كلِّ سطرٍ مفقود، وعن كل مخطوطة مُهمَلة، ويدرسونها بعناية فائقة، عَلَّهم يجدون فيها ما يُعين على فهم طبيعة نفسيتِه وإدراك خصائص إبداعه.

كان ذلك منذ سنواتٍ بعيدة، ولا أدري ما الذي يحدث الآن على وجه التحديد؛ لكنني على ثقةٍ بأن الوضع قد تغيَّر كثيرًا، فمعظم الكُتّاب الآن يكتبون مقالاتهم على الحواسيب، ومنها ما يمكن أن يحوِّل الصوت إلى كتابة عبر برامج تقنية تتطوَّر يومًا بعد يوم، ويكفي أن تُمليَ عليه ما تريد، ليقوم هو بكتابته وتنسيقه كيفما تحبّ وتهوَى.

وقد حدثَ في عام 1889 أنْ دوّن الكاتب القانوني السيّد “واريل” ملاحظات عدّة بشأن مستقبل القلم، قال في إحداها: “تسود إشاعات كثيرة في السنة الحالية (منذ مائة وخمسٍ وثلاثين سنة) تفيد بأن آلة تُدعى (الآلة الكاتبة) سَتحلّ مكان الناسخ. وقد رأيتها تعمل بنفسي، والشخص الذي يطبع عليها سيدة أخبرتني أنها تستطيع طباعة 40 صفحة في ساعة واحدة فقط”.

ويعلِّق مؤلِّف كتاب “تاريخ الكتابة” الرسّام البريطاني “دونالد جاكسون” الذي أورد هذه الملاحظات، متسائلًا عن الزحف الأهم الذي اجتاح مساحة وخارطة الحاجة إلى القلم طوال اليوم: ماذا سيقول السيد “واريل” بوجود أجهزة الهاتف والآلات الكاتبة وطرق معالجة الكلمات إلكترونيًّا والحواسب الآلية التي تستطيع من خلال لمس أحد مفاتيحها أن تنتج (2000) حرف مطبوع في الساعة الواحدة؟ يبدو أن الفاعلية المتزايدة للأشكال الميكانيكية من الاتصالات ستقلص الحاجة الماسّة إلى الكتابة السريعة (الخربشة) التي نقوم بها اليوم، فنحن لم نعد نتحدث بالحرف الواحد كما كان يفعل أسلافُنا الأوائل، لكننا جميعًا نشعر بأداة الكتابة، وبنوع الإشارة التي تصنعها هذه الأداة وأثرها في سلوكنا من حيث آلية الكتابة نفسها”.

أما “ألفرد فيربانك” فقال في هذا الشأن: “إن الكتابة باليد كانت (نظامًا حركيًّا يقتضي اللمس)، وفي الحقيقة إن الإحساس بالقلم والإحساس بالورقة وسَيَلان الحبر تؤثِّر جميعًا على الطريقة التي نعبر فيها عن مشاعرنا وأفكارنا”.

هل أضيف هنا أن من برامج الذكاء الاصطناعي ما قد يُغنِي الكاتبَ عن بذل أيِّ مجهودٍ في تقليب الفكرة وصياغتها، وما هي إلا أن يقدم له (رأس الموضوع) كما كنا نفعل مع الطلاب الصغار في موضوعات التعبير والإنشاء، حتى يتولَّى هو بقية المهمة، فيُخرجَ له بعد ثوانٍ، أو دقائق، قصةً أو قصيدة، مقالةً أو رواية، أو ما شاء من شيءٍ بعد. صحيح أنَّ ما يقدِّمه لا يكون منضبطًا مائة في المائة، ولا ملتزمًا بقواعد الفن الأدبي الذي ينتمي إليه تمامًا بتمام؛ لكن الذي يحققه برنامج الذكاء الاصطناعي الذي قام بـ (توليد) النص ليس سيئًا.

وأذكر أن أحد الشعراء قد عبَّر عن مخاوفه من تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي، بما يجعله يهيمن ويختطف أقلام المبدعين ويجلس على عرش مَلكات الإبداع. وفي حوار عابرٍ مع الشاعر الراحل “رفعت سلّام”، قال: “سيأتي يومٌ يكتب فيه الكمبيوتر شعرًا أحسن من ذلك الذي يُكتب الآن!”. ويبدو أن الرجل كان مُحقًا، فالذكاء الاصطناعى لم يعد على مسافة بعيدة من الإبداع والمشاعر وترجمتها إلى جُملٍ لها دلالاتٍ واضحة حتى إن كانت مختلطة أو معقدة ومتشابكة، والتي كنا نظن أنها مَيزة إنسانية في المقام الأول، لكن الأمر خرج عن الثوابت الرائجة إلى حدٍّ كبير، والتى كانت سائدة للمثقف والمبدع العربى أو غيره، فقد استطاع الروبوت عن طريق خوارزميات معقّدة أن ينقل ويصف لنا الحالات الشعورية المتباينة وترجمتها إلى منتج إبداعي غاية فى الدقة والجمال ورهافة الحس، سواء في الموسيقى أو القصة وكذلك النقد الأدبي، لكن أن ينظُم الروبوت شعرًا فهذا ما لم يكن فى الحسبان أبدًا.

هل يعني هذا أن عصر القلم انتهى، وأننا بدأنا عصرًا جديدًا فقد الناسُ فيه إصبعَهم الحادي عشر، أو تخلّصوا منه بإرادتهم؟ ثمة إجابات كثيرة عن هذا السؤال، وكلٌّ منها له وجاهته وبراهينه، وإن كان منها ما يسرف في تصوّره، تفاؤلًا أو تشاؤمًا، وأكتفي هنا بنقل اثنتين منها، تغلب عليهما الرومانسية الحالمة على الواقعية العاقلة، أولاهما للشاعرة “برديس خليفة” التي تقول: “لا أعتقد أن زمن القلم انتهى، ولن ينتهي، إنما أصبح له منافسٌ وشريك قوي، وهو الحاسوب، وقبله كانت الآلة الكاتبة، واتجاه الناس إلى الحاسوب بقوة، جعلهم يتجاهلون أهمية القلم ويفقدون جمال خطوطه. أما أنا فلا أستطيع أن أستغني عن القلم؛ فحين أشرع في كتابة نص، فإن القلم هو وسيلتي، من البداية حتى النهاية. وفي المرحلة الأخيرة، بعد أن أطمئن إلى رسو النص على الشكل النهائي، تأتي الطباعة على الحاسوب”.

أمَّا الإجابة الثانية فهي للشاعرة “كلثم عبد الله”، وقد ذهبت فيها إلى أنَّ “زمن القلم لم ينته، وسيظل سنداً ومتكأ لمن أدمنه وتعوّد عليه، وسعادتي لا تكتمل إلا بوجود أكثر من ثلاثة أقلام معي، أينما رحلتُ، تحسّباً لأيّ طارئ، فلربما داعبتني فكرة شاردة فجأة، وكان الهاتف أو جهاز الحاسوب لا يعملان، في مكان ليس فيه كهرباء، ولولا القلم الذي يرافقني، لضاعت فكرتي”.

وتضيف “كلثم”: “إن الإمساك بالقلم ورائحة الورق، طقس مقدس يضيف إلى الكتابة ألقاً وزهواً يختلف عن كتابة لوحة المفاتيح التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، متعة الكتابة وإعادة التعديل والشطب والحذف والإضافة بالقلم، لها طعم خاص جداً، لا يعرفه من تركها، واستعاض عنها بالأجهزة الحديثة، غير المضمونة البتة”.

هذا، وأعترف بأنني شخصيًّا لم أعد أستخدم القلم في الكتابة كما كنت أستخدمه من قبل، وأن الكتابة المباشرة على لوحة المفاتيح قد أراحتني من عناء الكتابة والشطب والنقل، وأتاحت لي فرصة التعديل قي صفحة الوورد Word كيفما أشاء، حذفًا أو إضافة، تقديمًا أو تأخيرًا، تعديلًا أو تبديلًا، وبأقل جهدٍ ممكن، وإن كنت لا أزال أحدِّث قلمي، وأتحدّث عنه، في بعض ما أنظمه من شعر، وهو ما أختم به هذا المقال الذي أظنه قد طال أكثر مما يجب:

أنا المَنسِيُّ والناسي ….. من الأهلينَ والناس

فلا أحدٌ يوانسُني …… سوى قلمي وكراسي

*

نَبِّئْ بما يَنْـهشُ الأحـــشاءَ يـا قَلَمِي — وصِــفْ حـقـيـقةَ ما ألقَـى من الألمِ

*

خجلانُ خجلانُ مما خَطَّه قلمي — من شاطح الفكر أو من زائغ الكَلِمِ

أبكي وأضحك مما كنت أكتبُهُ — لكــنه كان رجـــــعَ الشــوق والألمِ!

ولعلَّ هذا هو مسكُ الختام، وخيرُ الكلام، في هذا المَقام!

“الكيبورد” والقلم.. حوار ثقافي لا ينتهي!

بقلم: أ.د. صبري فوزي أبو حسين – أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر – مصر

القلم أساس كل ثقافة ولو كانت جاهلية!

من يدرس تاريخ حضارات العالم الأولى يجد ثقافتها قائمة على ثالوث متلازم هو: القلم والورق والكتابة، وهذا بادٍ في عصر عروبتنا الجاهلي؛ فقد حضر القلم في الجاهلية، وكان – كما تصفه النصوص الجاهلية – مصنوع من القصب يُقَط ويُقلَم أو يُبرَى ثم يُغمَس في مداد الدواة ويُكتَب به، وحضرت الكتابة، وكان الورق أشياء بدائية مثل الأدم، والأديم (الجلد المدبوغ يكتب عليه)، كما كانوا يكتبون في عسب أو عسيب النخل وكرانيفه (الأصول التي تبقى في جذع النخل بعد قطع السعف)، والأضلاع، واللخاف (حجارة بيضاء رقيقة)، والرِّق (الجلد الرقيق يكتب عليه)، والزَّبور (الكتاب، وجمعه زُبُر)، والسِّلام (السلام: الحجارة البيض التي كانوا يكتبون عليها)، والكتاب، والصحيفة. وكان القلم وما يسطِّره قرين المقدمة الطَّللية الغزلية في أشعار الجاهليين، فهذا الشاعر الجاهلي “المرقش الأكبر” يقول مشبِّهًا بقايا أطلال منزل الحبيبة ببقايا آثار سطور خطّها قلمٌ على ظهر جلدٍ:

صبري فوزي

الدارُ قفرٌ والرسومُ كَما — رقَّشَ في ظهرِ الأدِيمِ قلمُ

قال عدي بن زيد العبادي:

له عُنُقٌ مثلُ جذع السحو — ق والأذن مُصعنة كالقلم

وقال عدي أيضًا:

ما تَبِينُ العَيْنُ من آياتِها — غيرُ نُؤْيٍ مِثلُ خطٍّ بالقلمْ

وقال الزبرقان بن بدر:

هم يهلكون ويبقى بعد ما صنعوا — كأنَّ آثارَهم خُطَّتْ بأقلامِ

ومن أدوات الكتابة في الجاهلية: الدّواة والمداد، وقد ورد ذكرهما كذلك في الشعر الجاهلي، في قول عبد الله بن عنمة الضبي المخضرم:

فلم يبقَ إلا دِمنةٌ ومنازلٌ — كما ردَّ في خطِّ الدواةِ مدادُها

و(المهارق): جمع مهراق، وهي صحيفة بيضاء من القماش، وتطلق على ثوب حرير أبيض يُسقى بالصّمغ ويُصقل ثم يُكتب فيه، وله دور سياسي في الصلح بين القبائل المتصارعة، فقد ورد ذكرها في العهود بين قبيلتي: بكر وتغلب، في معلقة الحارث بن حلزة حيث قال:

واذكروا حِلْفَ ذي المَجازِ وما — قُدِّمَ فيه العهودُ والكُفَلاءُ

حذرَ الجَوْرِ والتَّعَدِّي وهلْ — ينقضُ ما في المهارقِ الأهواءُ؟!

وكان بعض الشعراء في الجاهلية صاحب قلم، وصاحب لغة ثانية مثل لقيط بن معمر الإيادي، وعدي بن يزيد الذي كان يعمل في بلاط ملك “الحيرة”، إضافة إلى أن مُعلّقات العرب إنّما ذاعت بين الناس بسبب تعليقها مكتوبةً على جدار الكعبة المشرفة، فيما قيل!  يستهل “لبيد” معلقته بالصورة ذاتها قائلا:

عفَتِ الديارُ محلُّها فمُقامُها — بمنًى تأبَّد غولُها فرِجامُها

فمدافعُ الريَّان عُرِّيَ رَسْمُها — خَلَقًا كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها

ويستمر لبيد في معلقته فيقول:

وَجلا السيولُ عن الطلولِ كأنَّها — زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها

ضحية للقلم والكتابة في الجاهلية

عندما نقرأ قصة مقتل نابغة الشعر الجاهلي، الفتى المتمرد “طرفة”، نجد أنه اغتيل نتيجة القلم وما ينتج عنه من رسالة مكتوبة؛ فقد روي أن “طرفة بن العبد” كان يمدح الملك “عمرو بن هند”، أحد ملوك المناذرة ثم انقلب على الملك وهجاه، فصمّم – عمرو بن هند – على التخلّص من “طرفة”، ومن خاله الشاعر “المتلمس”، وما كان منه إلا أن حمَّل كلاً منهما كتابًا إلى عامله على “البحرين”، وفي كل كتاب أمر بقتل حامله، بينما الشاعران يظنان أن فيهما أمر بجائزة لهما، وفيما هما في الطريق ساور الشك صدر “المتلمس” فارتاب في أمر كتابه، ففكّ ختمه، وجاء إلى غلام من أهل “الحيرة” فقال له: أتقرأ يا غلام؟ فقال: نعم، فأعطاه الصحيفة فقرأها فقال الغلام: أنت المتلمس؟ قال: نعم، قال: النجاة! فقد أمر الملك بقتلك، فأخذ الصحيفة وقذفها في جدول ثم هرب “المتلمس” إلى “الشام” وعند وصوله أنشأ يقول:

من مبلغ الشعراء عن أخويهم — نبأ فَتَصْدُقُهم بذاكَ الأنفُسُ

أودى الذي عَلق الصحيفةَ منهما — ونجا حذارَ حياتِه المتلمِّسُ

أمّا “طرفة” الذي لم يشكّ في أمر صحيفته، فقد مضى إلى حتفه وهلاكه نتيجة جهله بالقلم وما يسطِّره!

شهيد القلم في الجاهلية

في الجاهلية كاتب يُسمّى (لقيط بن يعمر بن خارجة بن عوثبان الإيادي)، وهو شاعر جاهلي فحل، وخطيب مصقع، يُقّدر أنه من رجال القرن الرابع الميلادي، وهو ما يجعله من أقدم الشعراء، وهو من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية واتصل بكسرى سابور (ذي الأكتاف)، فكان من كُتّابه والمطّلعين على أسرار دولته ومن مقدَّمي مُترجميه، وقد أنذر قبيلته إيادًا في قصيدة تُعدّ من غرر الشعر بأنّ كسرى وجّه جيشا لغزوهم، يقول في قطعة دالية:

سَلامٌ في الصَحيفَةِ مِن لَقيطٍ — إِلى مَن بِالجَزيرَةِ مِن إِيادِ

بِأَنَّ اللَيثَ كِسرى قَد أَتاكُمُ — فَلا يَشغَلكُمُ سَوقُ النِقادِ

أَتاكُم مِنهُمُ سِتّونَ أَلفاً — يَزُجّونَ الكَتائِبَ كَالجَرادِ

عَلى حَنَقٍ أَتَيناكُم فَهَذا — أَوانُ هَلاكِكُم كَهَلاكِ عادِ

ويقول من قصيدته العينية التي هي رسالة مكتوبة بالقلم:

بَل أَيُّها الراكِبُ المُزجي عَلى عَجَلٍ — نَحوَ الجَزيرَةِ مُرتاداً وَمُنتَجِعا

أَبلِغ إِياداً وَخَلِّل في سَراتِهِمِ — أَنّي أَرى الرَأَيَ إِن لَم أُعصَ قَد نَصَعا

يا لَهفَ نَفسِيَ أَن كانَت أُمورُكُمُ — شَتّى وَأُحكِمَ أَمرُ الناسِ فَاِجتَمَعا

أَلا تَخافونَ قَوماً لا أَبا لَكُمُ — أَمسَوا إِلَيكُم كَأَمثالِ الدَبا سُرُعا

أَبناءُ قَومٍ تَأَوَّوكُم عَلى حَنَقٍ — لا يَشعُرونَ أَضَرَّ اللَهُ أَم نَفَعا

ويظل يُعدِّد صفات هذا العدو إلى أن يقول:

ما لي أَراكُم نِياماً في بُلَهنِيَةٍ — وَقَد تَرَونَ شِهابَ الحَربِ قَد سَطَعا

فَاِشفوا غَليلي بِرَأيٍ مِنكُمُ حَسَنٍ — يُضحي فُؤادي لَهُ رَيّانَ قَد نَقِعا

وَلا تَكونوا كَمَن قَد باتَ مُكتَنِعاً — إِذا يُقالُ لَهُ اِفرِج غُمَّةً كَنَعا

صونوا جِيادَكُمُ وَاِجلوا سُيوفَكُمُ — وَجَدِّدوا لِلقِسِيِّ النَبلَ وَالشِرَعا

ويُعدِّد سُبل مواجهة هذا العدو حتى يختم عينيته قائلا:

يا قَومِ لا تَأمَنوا إِن كُنتُمُ غُيُراً — عَلى نِسائِكُمُ كِسرى وَما جَمَعا

هُوَ الجَلاءُ الَّذي يَجتَثُّ أَصلَكُمُ — فَمَن رَأى مِثلَ ذا رَأياً وَمَن سَمِعا

لَقَد بَذَلتُ لَكُم نُصحي بِلا دَخَلٍ — فَاِستَيقِظوا إِنَّ خَيرَ العِلمِ ما نَفَعا

هَذا كِتابي إِلَيكُم وَالنَذيرُ لَكُم — فَمَن رَأى رَأيَهُ مِنكُم وَمَن سَمِعا

وسقطت القصيدة في يد من أوصلها إلى “كسرى” فسخط عليه وقطع لسانه ثم قتله.. وقد صاغ قلمي وكتبت يراعي عن هذه القصيدة بحثًا علميًّا محكمًا بعنوان: (البناء الشكلي والرسالي في عينية لقيط بن يعمر الإيادي).

القلم في عصر الهداية 

نعم القلم سلاح كل كاتب، وله مكانة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وفي مدوّنات تراثنا العربي عبر أعصاره وأمصاره. وقد أبدع الأدباء العرب مناظرات بين السيف والقلم. كما أبدعوا نصوصًا وكُتبًا حول القلم وصناعته وأنواعه.. وإلى وقت قريب، كان القلم من أثمن الهدايا التي تُقدّم إلى المثقّفين عمومًا.

وقد ربط الله تعالى القلم بالقراءة والكتابة والعلم في سورة العلق، فقال: ﴿اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَٰنَ مِن عَلَقٍ (2) اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ (3) الذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَٰنَ مَا لَم يَعلَم (5)، وفي القرآن سورة باسم القلم، أقسم الله تعالى فيها بالقلم، دالا على عظمته، وربط فيها بين القلم والكتابة حيث يقول: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾، فلا عِلم في ظلال الإسلام إلا بالقلم، ولا تعليم إلا بالقلم، والهداية من وسائلها القلم، والتوثيق من وسائله القلم..

فالقلم نعمة عظيمة من الله تعالى، روى سعيد عن قتادة، قال: “القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش، فدلّ على كمال كرمه، سبحانه، بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبّه على فضل علم الكتابة؛ لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دُوِّنت العلوم، ولا قُيِّدت الحِكم، ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا، فلولاه لما صلح العيش ولم يقم دين لما فيه من المنافع الكثيرة، ولما سجّل التاريخُ سِيَر الأبطال والقادة، ولما تقدَّمَت الاختراعات وهذا دليل على كمال كرمه – سبحانه وتعالى – بأن علّم عباده ما ينبغي أن يتعلَّموا ويعلِّموا. وقد وردت آثار عن سلفنا الصالح تقرّر أن الأقلام في الأصل ثلاثة: (القلم الأول): الذي خلقه الله بيده وأمره أن يكتب، و(القلم الثاني): أقلام الملائكة جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال، و(القلم الثالث): أقلام الناس جعلها الله بأيديهم يكتبون بها كلامهم ويصلون بها مآربهم.

وفي الكتابة فضائل جمّة. قال علماؤنا: كانت العرب أقلّ الخّلق معرفة بالكتاب، وأقل العرب معرفة به المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، صرف عن علمه، ليكون ذلك أّثبت لمعجزته، وأقوى في حجّته. والكتابة عين من العيون، بها يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان، فهو أبلغ من اللسان.. والكتابة من جملة البيان، والبيان ممّا اختص به الآدمي وأنعم الله علينا في قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان)، وفي قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحرًا). وكثير منا يرغب في تعلمه وإتقانه.

والحق أنه ليس أمرًا سهلاً، ليس مجرد رصّ كلمات، وليس ثرثرة فارغة، وليس عملاً عشوائيًّا اعتباطيًّا، ولكنه فنّ وعِلم، فن يعتمد على الموهبة، وعلم يُبنى على قواعد أساسية، فالقلم – كما يقول الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه (مصادر الشعر الجاهلي) – حديثه طويل، ولو أوردنا ما ذكره ابن قتيبة وابن النديم والصولي وابن السيد البطليوسي والقلقشندي في وصفه وأنواعه لملأنا صفحات…!

إنّ فضل القراءة والكتابة يدلّ على كمال كرمه – سبحانه وتعالى – بأن علَّم عباده ما لم يعلموه ولم يكن يخطر ببالهم… وأنَّ كسب العلم والمعرفة من نعم المولى – تبارك وتعالى – على الإنسانية جمعاء. قال الله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾، ولقد شهد تاريخنا الإسلامي بقيام علماء مسلمين أفذاذ تألّقوا في العلوم… في الطب والفلك والهندسة والكيمياء. فإن الله – جل جلاله – قد سخَّر لهم كل شيء في سبيل الوصول الى أهدافهم المنشودة لإسعاد البشرية بعلمهم وثقافتهم وحضارتهم.

أسلحة ثقافية لمستخدم القلم

ينبغي أن يتسلّح مستخدم القلم بالأدوات العلمية الآتية:

– التمكّن من علوم اللغة العربية معجما وصرفا ونحوا وبلاغة.

– القدرة على توثيق المادة العلمية من مصادرها الرئيسة.

– القدرة على عرض الرؤى وتحليلها والتعليل لها والتدليل والاستنتاج.

– القدرة على توظيف تكنولوجيا البحث في إمداد ما يكتب بالقلم بالمعارف الحديثة والفاعلة.

– القدرة على استدعاء النصوص الأدبية والدينية والثقافية المناسبة لفكرة ما يصوغه وهدفه.

فما ينتجه القلم ليس ثرثرة مكتوبة، ولا مجالا للتجارة بالكلمات، ولكنه فن ورسالة ومهارة:

– أمّا أنه (فن)؛ لأنه يعتمد على الإبداع في تقديم الأفكار، ويشترط فيه أن يخرج في ثوب مميز جذاب مفيد؛ فالشرط الأساس في كاتب المقال أن يكون مِفَنًّا أو فنانًا.

– وأمّا أنه (رسالة)؛ لأنّ المقال يؤثِّر في حياة الكثيرين؛ فهناك من البشر القارئين الذين يتلقّون ما يُكتب على أنه مُسلّمات، ويعتمدون عليه في فهم الحياة والأحياء، ويُطبّقون ما يقال في هذه المقالات! فلا بد في كاتب المقال أن يكون هادفًا بانيًا داعيًا واعيًا معلِّمًا ناشر الخير والصلاح، محاربًا الشر والفساد!

– وأمّا أن القلم (مهارة)؛ لأنه يحتاج تدريبًا وصقلاً حتى يتطوّر كاتبه ويتعمّق ويكون مقنعًا وممتعًا في آن واحد. فكلّما تدرّب كاتب المقال امتلك مهارة وتطور وتأنق!

والكلمة الأخيرة إلى مستخدمي الأقلام والكيبورد هي أنّ إكثار القراءة في النماذج المقالية العالية عند كبار الكُتّاب، وإدمان القراءة في كل علم وفن يحوِّل الكاتب من مرحلة المبتدئ التقليدي العادي إلى مرحلة الكاتب المحترف المبدع الفنان!

أهلًا عصر الوورد والكيبورد والعلّامة جوجل

(أهلًا عصر الوورد والكيبورد والعلامة جوجل): عبارة تمثِّل حالنا في آنِنا هذا، وتجعلنا في حنين إلى القلم والورق في عصر بنان الأصبع (لوحة المفاتيح)، آننا الذي يقوم على هذا الثلاثي المثير العجيب المهيمن على العقل الثقافي الكوني العالمي: (Microsoft Word)، و(keyboard)، و(Google).

أمّا (الوورد) فهو أحد البرامج المتوفِّرة ضمن حزمة أوفيس، وهو مُخصّص لمعالجة الكلمات، بحيث يتيح إدخال الكلمات بصيغة إلكترونية على وثائق افتراضية، ومن ثم معالجتها وإخراجها بالشكل المطلوب، حسب حاجة المستخدم، بحيث يمكن طباعتها على طلائح ورقية أو إبقائها على صيغتها الإلكترونية، وهو من أهم البرامج التي أنتجتها شركة مايكروسوفت الأمريكية لمعالجة النصوص. كان أول إصدار منه في العام 1983م تحت مُسمّى (Multi-Tool Word)، ثم تطوّر إلى نسخ كثيرة فيما بعد، كل نسخة تُيسِّر عملية الكتابة الإلكترونية كل تيسير!

وأمّا لوحة المفاتيح (الكيبورد) فيقال لها: (الآلة الكاتبة أو المِرقنة، أو الراقنة، أو المِكْتَاب، الآلة الطابعة)، ويعود تاريخ صنعها إلى 1714. حصل مُصمِّمها ومخترعها “هنري ميل” على براءة الاختراع في تلك السنة. وتعتبر آلته الكاتبة الأم الأولى لما نراه من الآلات الكاتبة في وقتنا الحاضر. ولكن بوجود الحاسوب وما يتبعه من الآلات الطابعة يبدو أن دور الآلة الكاتبة قد أفل. كان يتطلع من خلالها إلى استحداث نظام جديد في الكتابة الآلية بدلا من النظام اليدوي التقليدي، وبالرغم من أهمية الفكرة، إلا أن “ميل” فشل في إقناع الناس بأهمية اختراعه.

أمّا لوحة المفاتيح العربية (Arabic keyboard)‏ فهي لوحة المفاتيح المستخدمة لكتابة اللغة العربية بواسطة الحاسوب. ويُعدّ المخترع والفنان السوري (سليم شبلي حداد) أول مخطط للآلة الكاتبة العربية، وذلك في عام 1899. وفي ديسمبر من العام نفسه، تقدم (فيليب واكد) لبراءة اختراع شبيهة في بريطانيا، ويُنسب إلى “واكد” أنه أول من كتب وثيقة باللغة العربية باستخدام لوحة مفاتيح. وانتهت البراءتان عام 1919م، مِمّا سمح بالتوسع في إنتاج الآلات الكاتبة ولوحات المفاتيح العربية حول العالم.

وأمّا العلامة (جوجل أو غوغل أو قوقل‏) فهي شركة أمريكية عامة متخصّصة في مجال الإعلان المرتبط بخدمات البحث على الإنترنت وإرسال رسائل بريد إلكتروني عن طريق “جي ميل”. واختير اسم “جوجل” الذي يعكس المُهمة التي تقوم بها الشركة، وهي تنظيم ذلك الكم الهائل من المعلومات المُتاحة على الويب. ويضاف إلى ذلك توفيرها لإمكانية نشر المواقع التي توفّر معلومات نصيّة ورسومية في شكل قواعد بيانات وخرائط على شبكة الإنترنت وبرامج الأوفيس وإتاحة أوركوت التي تتيح الاتصال عبر الشبكة بين الأفراد ومشاركة أفلام وعروض الفيديو، علاوةً على الإعلان عن نسخ مجانية إعلانية من الخدمات التكنولوجية السابقة.

وتصف شركة جوجل مهمتها بأنها تقتضي بتنظيم معلومات العالَم وجعل إمكانية الوصول إليها ممكنة من جميع أنحائه وجعلها مفيدة للجميع كذلك، وقد اتخذت الشركة شعارًا غير رسمي لها نصه: “لا تكن شريرًا”، (أهلًا عصر الوورد والكيبورد والعلامة جوجل)، (أهلًا عصر الوورد والكيبورد والعلامة جوجل) “Don’t Be Evil”، حفاظًا على خصوصية المعلومات الشخصية للمستخدمين وحقوق الطبع والنشر ومراقبة شركة جوجل للمطبوعات.

نحن في عالم حدثت فيه طفرة معلوماتية عجيبة، تمثّلت في التحوِّل العلمي من وحي القلم والقرطاس ومنتجاتهما إلى منتجات الوورد والكيبورد، وأنّ الإنسان المستقبلي إنسان آلي في تعليمه وتثقيفه وتفكيره، ومن طريف إطلاقاتي في تعليم طلابي منذ تسعينيات القرن المنصرم، ومنذ ظهر عالم الإنترنت العجيب، أنني كنت أقول لهم: نحن في عصر الوورد والكيبورد، وانتهى عصر الورقة والقلم، وأنّ الشيخ (جوجل) هو مصدر مهمٌّ للمعلومة، مهما كانت قديمة أو حديثة! وأنّ الكتاب والمكتبة صارا مصدرًا ثانيًا! وأن الزمن القادم زمن العنكبوتيين الحاسوبيين (الرقميين)، لا زمن القلميين الورقيين الكِتابيين! وأن الباحث المتمكِّن، والمثقف المستقبلي هو من يجيد التعامل مع تكنولوجيا الاتصال الحديثة بكل تقنياتها وآلياتها، وما يتبعها من ذكاء اصطناعي في قادم الأيام الفاتنة…

نور المعرفة.. تدفُّق من مداد القلم!

بقلم: ليلى بيز المشغرية – كاتبة وشاعرة من لبنان

القلم نور المعرفة.. وما أدراك ما القلم هو الركن الأساس في جسد العلم والمعرفة رفع عنهما سحب الجهل والضلالة… القلم صديق للإنسان يرافق أنامله منذ نعومتها، يكبر معه، يوثّق أفكاره، يأخذ بيده إلى شواطئ العلا.. من ألقابه الوفي الذي لا يخذل صاحبه أبدا، صادق وصدوق. فهو كالجَمال ينبع من داخل الإنسان، فمهما تعدّدت أشكاله وألوانه وأنواعه يبقى جماله بما ينطق به لسانه وما ترتديه حروفه..

ليلى بيز المشغرية

يقولون أنّ أول ما خلق الله سبحانه وتعالى القلم، وهذا دليل ثابت وقوي على أهميته، دليلٌ لا لبس فيه.. علّم به الملائكة والرسل، فالملائكة يسطرون به أعمالنا ويوثقونها في الألواح. “ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ” (سورة القلم: 1)، وهذا دليل   آخر على أهمية القلم لنزول سورة كاملة في القرآن الكريم باسمه.. وكذلك في سورة “العلق” وهي أول سورة نزلت على رسول الله محمد (ص)، أمره الله رسولنا بالقراءة، “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” (سورة العلق: 1 – 5).

وفي سورة (آل عمران: الآية 44) “ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون”، من هنا نستنتج ليس فقط أهمية القلم بل تاريخه وولادته أيضا. حيث بدأ الإنسان بالتصاوير والكتابة على الجدران والصخور والحجارة، وكان ذلك بغمس أصابعه في دم الحيوانات كحبرٍ للتوثيق، ومن ثم أخذ بالتطوُّر مع تطوّر البشرية، فمرّ بمراحل عديدة حتى أصبح على ما هو عليه اليوم.. فأهمية القلم ارتبطت بأهمية العلم والمعرفة وبناء الحضارات.

فالقلم هو روح الأنامل ونبضها، وما ينطق به الفكر يوثِّقه القلم فوق الورق فهو يعمل كصلة وصل بينهما.. فمهما تطوَّرت وسائل الكتابة والتكنولوجيا الحديثة، والتي علينا مجاراتها والعمل بها، ولكن يبقى القلم هو الحصن وهو الأساس، وتبقى مكانته ثابتة في قلوب كل من لامسّت أنامله جِيده..

فبه تكتب الملائكة أعمالنا، وبه مُحيت الأميّة وأزيل عن رفوفها غبار الجهل وبه أُرّخت الحروب والانتصارات ووثّقت العهود والمعاهدات وبه كُتبت الدساتير ومناهج العلم والدراسة، ونُظمت بواسطته أجمل القصائد والألحان، وكتبت الذكريات والرسائل، والكثير الكثير..

فخرجت بفضله البشرية من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة والتطور.. فالقلم هو اليد اليمنى لكل مبدع وشغوف للعلم، ولو قدِّر للورق النُّطق لقال: أنا الأرض اليابسة والعطشى والقلم هو الماء الذي روى عشبي فاخضوضر..

من المهم جدا أن نكون له أوفياء، حافظون للمعروف، فلما لا وهو صاحب الفضل على الأبجدية، لقد ضخَّ من غيث حبره روحا في شرايينها، فحملت وكان حملها ضياء ونور.

أخرجها من سراديب العتمة ألبسها من عنفوانه سرابيل مزركشة وزيّنها بالحلي، فخرجت كعروس تتباهى فوق الورق، فرسما سويا لوحات تزيَّنت بها الجدران والألواح والمعاجم عبر التاريخ.

ففي عصر التكنولوجيا الحديثة وبَنان الإصبع، يمكنني تشبيهه بالزوجة الأولى التي تبني وتُؤسّس وتتحمّل الصعوبات وتقلبات الحياة وتصبر مع زوجها على حلو الحياة ومرّها، ويبنيا سويا صرحًا متين القوام لتتوالى بعدها الزوجات مثنى وثلاث ورباع، ويتربَّعن على كرسي ذاك الصرح دون عناء، فهل من الوفاء أن ينسى ذاك الزوج فضل زوجته الأولى؟ طبعا لا، فهي لا تهون إلا على عديم الأصل!

ففضل القلم على البشرية وشم على جسد تطوّرها وتقدّمها وخاصة التكنلوجي منه، فلن ننسى أنّ كل من قدّموا الاختراعات على اختلاف أنواعها.. كان أول مَن زيّن أناملهم ورافق دراستهم ونجاحاتهم هو القلم..

فالقلم هو لسان صاحبه، مجبر على تدوين ما يمليه عليه بغضّ النظر عمّا إذا كان راقيا أو مبتذلا، ولو تُرك له الخيار لما كتب إلا جميلا.. ويكفيه فخرا أنه الملك، الوالد، وكل هذه الآلات الحديثة هي امتداد له..

قصتي مع القلم هي قصة غرام وعشق رافقتني منذ الطفولة، أشعر وكأنه روح تُدلّك أصابعي، مؤنس وحدتي وغربتي، الوحيد القادر على فهم ما يدور في رأسي، يُصغي إلى نبضاتي وأنفاسي ويسارع إلى توثيقها.. القلم روح المبدع وتاج أنامله …

القلم.. سر النهضة الإنسانية!

بقلم: محمود موسى – كاتب فلسطيني من بيت لحم

القلم هو سر نهضة وتقدّم الشعوب وفيه تحقيق أجمل سمات الأدب والفكر الإنساني.. ويعتبرُ القلم عبر العصور من أهم مكوّنات وطاقات الفرد الإنسانية والعقلانية، فهو يكمن بكونه من أهم الأسلحة التي عرفتها البشرية، إمّا أن يغيّر الواقع والأوطان من السوء والأسوأ، وعدم التغيير نحو الاستجابة لمطالب الإنسانية، وإمّا أن يغيّرها نحو القابلية التفاؤلية والإيجابية الدائمة..

محمود موسى

فالقلم هو أقوى سلاح لدى البشرية جمعاء، فهو الذي يغيّر مفاهيم الشعوب ويغيّر مجراها ومفاهيمها وأفكارها.. حيث أول كلمة ذُكرت في القرآن الكريم، هي (اقرأ)، حيث حثّ الله عزّ وجلّ في كتابه المُنزّل على رسوله الكريم خيرة خلق البشرية، إلى القراءة والتفهّم والتدّبر وإلى العلوم والمعرفة، حيث أنّ القلم والكتابة تنبع من عقول عظيمة لها أثر إيجابي عظيم في تدبّر البشر بين السطور والصفحات.

يتميّز القلم.. إلى السمو المكاني وإلى الرفعة السماوية والأثر الزماني المبحر في عقول البشرية عبر نسيج الأزمان ومتغيّرات العوالم الفكرية.

نعم!! إنّها الحقيقة المطلقة، إنها أجمل سمات العقل البشري في غزارة أفكاره عبر قلمه المتمعِّن والمتفكِّر في بحور المعرفة.

كيف لنا أن ننسى… والقلم بحد ذاته هو أقصى طاقة لتفريغ العقل من الأفكار المبعثرة، وعنفوانه إلا متغيّر في بحور العوالم الخفيّة والمظلمة للأفكار الإيجابية.. إن ما يستوجب العقل أن يتكلّمه… ينطقُه القلم بحدِّ ذاته في دروب الأبدية.

وعندما نكتبُ أيضًا الكلمات المفعمة بمشاعرنا الجياشة، تكون هي الطلقات الخالدة في سماء الوطن المقدس الحبيب.. وأيضًا عندما نقرأ.. نصطدم ببعض النصوص الأدبية المتكاملة، ونحتاج أيضًا إلى ترتيب أنفسنا جيدا بدواخلها.. دلالة على غزارة الأفكار النابعة من القلم الأخّاذ لمسمع الكون المظلم المُدوّن بين صفحات الكتب وعوالمه..

وعندما كنا صغارًا كنا نكتبُ بالقلم الرصاص ليكون محو الأخطاء سهلاً، ولكن عندما كبرنا، أصبحنا نكتبُ بالقلم الحبر، ليتبيّن لنا أن أخطاءنا في الكبر ليست سهلة، لأنها تكون جسيمة و كبيرة ولا تُمحى بسهولة بحد ذاتها، لإنها هي الحقيقة المطلقة..

فأنا لا أقرأ أيّ كتب على الإطلاق، إلا لروائع عظماء الأدب والفكر العالمي، الذين أكثرهم مرضًا وفكرًا، أولئك الذين تضيء آلامهم وأفكارهم في كل صفحة وسطر وكتاب..

فالقلم حين يسطّر الحروف والكلمات، تكون نتاج بوح العقل والقلب، وانتفاضه المشاعر الناطقة والمطلقة اللامتناهية، التي تخرج من صميم قلوبنا ومشاعرنا بكلمات مخملية، ندوِّنها على صفحات الزمن الأبدية، بما تنسجم وتتناسق مع كلماتنا العربية الذهبية في آنٍ واحد…

وعلى سبيل المثال، على غزارة الأفكار وسلاح القلم الذي حارب الاحتلال (الصهيونازي).. هو الأديب والمفكر الفلسطيني “غسان كنفاني”.. الذي قالت عنه رئيسة وزراء الاحتلال في ذلكَ الوقت “اليوم تخلّصنا من لواء فكري مسلّح، فغسان بقلمه كان أخطر على إسرائيل من ألف فدائي مسلّح”. كان “غسان” يشكِّل بقلمهِ لواء فكريًّا مسلحا، نعم بالطبع إنه القلم؟!

القلم! إنه أخطر الأسلحة وأشدّها فتكًا وتأثيرًا في تغيّر مجريات عقول البشرية ورصيدها من الأفكار المحشوة في صفحات الكتب… إنّه “كنفاني”.. الذي لم يكتب قط خيالات واسعة، بل كان يكتب قصصنا اليومية في واقع الاحتلال الإجرامي العبثي.. حيثُ أنه من أكثر الأدباء الذين تأثّرتُ بفكرهم وبأسلوبهم وبمنهجهم… لقوّة أفكاره ولشدّة رصاص قلمهِ الذي كان أقوى من رصاص البنادق… كيف لقلبي وعقلي أن ينسى؟ ففكره وقلمه ألتصق في ذاكرتي منذ صغري!

أبت العقول أن تنسى مجريات تاريخها عبر واقعها الزماني، عبر سمو الأقلام ورفعتها وإخلاصها في تحقيق سمات الأدب والفكر الإنساني المتبع نهجهُ في تحقيق الحريات ونيل شعوبها استقلالها منذ عصفت القوى الاستعمارية الناهبة لثروات ومقدرات الشعوب البسيطة…

فكل ثورة عالمية كالثورة الفلسطينية والثورات الأخرى مثلاً، كان لها أقلامها وفكرها ومنهجها وأسلوبها في تحقيق حريتها..

فسُبل العلو الزماني والمكاني للشعوب الواقعة تحت سيطرة الاستعمار والاحتلال، تحذو خطواتها في استمرارية القول والفعل في الكلمات المتجذِّرة في صفحات الكتب، كالطلقات الخالدة في سماء الوطن والحرية الموعودة القريبة.

كتبنا بعزة نفس مرفوعة.. حتى لا تجف الأوراق والأقلام… كتبت الأقلام ونُسخت الصفحات ونضجت الشعوب..

سيبقى القلم كالزيتون والزعتر في فلسطين

بقلم: وليد عبد الحميد العياري – شاعر وكاتب من تونس

أول ما خلق الله سبحانه وتعالى القلم استنادا إلى قسمه عز وجل في سورة القلم في قوله “ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ “(سورة القلم: 1). قلم خلقه الله، وهو الذي قال فيه: أكتب. قال: وما أكتب؟ قال: أكتب بمقادير كل شيء إلى يوم القيامة.

وليد عبد الحميد العياري شاعر وكاتب من تونس

ومن هذا المنطلق نتبين قيمة ورمزية القلم، فهو يرمز إلى الحكمة، وقد اقترن ذكره دومًا بالسيف الذي يمثّل القوة، وهنا نلاحظ الصراع الخفي بين القلم والسيف أو القوة والحكمة.. وقد ذُكر القلم في قصائد بعض الشعراء، إذ يقول المتنبي:

الخَيـلُ وَاللّيـلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُنـي — وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ

فالقلم يخطُّ به الأديب نصوصه سواء كانت شعرا أم نثرا. فما تجود به قريحته، وما يُمليه عليه عقله، يجسِّده القلم في شكل كتابات.. وقد تطوَّرت أشكال القلم منذ القدم من أقلام لوحٍ إلى غيرها من الأنواع، وقد أبدع المُصنِّعون في ذاك. وقد قيلت عبارات كثيرة في القلم:

القلم بيد السفيه كالخنجر بيد الطفل.

القلم أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره وأبان آثاره.

القلم سفير العقل، ورسوله الأنبل، ولسانه الأطول، وترجمانه الأفضل.

القلم يجرح غالبًا أكثر من السيف.

القلم بريد القلب، يخبر بالخبر، وينظر بلا نظر..

أمّا أنا فعلاقتي طيبة وهي علاقة تواصل وعشق للقلم.. فاستعمالي للوحة المفاتيح في الهاتف الجوال أو الحاسوب لم تثنِني وتبعدني عن القلم.. أكتب خربشات وأفكار على الورق أولا وأحيانا أشطب ذلك، وهنا تكمن المتعة في المسك بالقلم وكتابة الأسطر.

وقد وصلتني عدّة هدايا من الأحبة وكان القلم من بينها، وكنت أفرح بذلك كثيرا.. أعتبر القلم كائنا جميلا، هو في نظري ليس جمادا بل يحسّ ويتفاعل مع كل ما أكتبه، فهو ينحت ويجسِّد أفكاري فوق الأوراق، فهو شريك فاعل في تحويل خيالاتي وحروفي إلى كتابات وأعمال فنية سواء في السرد أو الشعر.. لذلك حسب رأيي المتواضع لا يمكن الاستغناء عن القلم.. وأقول في نصِّي “القلم والورق”:

ذات غسق

قلمي خلسة ضاجع الورق

رسم فوق خدود الأقحوان

قبلات حارقة

ثمل من حبر بلون الشَّفق

رأيته مترنِّحا، ينحت فوق وريقات العنب

كلمات عشق

وأحيانا يلثم ثغر البنفسج

وهنا يصبح القلم كالجسم أو ككائن متحرك

ويواصل الشاعر “وليد عبد الحميد” قوله:

وينام بين كفي دفتري عند الأرق

من بطنه تخرج المعاني

تعانق أحضان الورق

هنالك أيضا علاقة حميمية بين القلم والأوراق فهي ملجأه وفيها يجسد خلجات الروح وتعابير الفكر والوجدان.. فالشعراء كتبوا عن القلم وجعلوه مقدسا وتباهوا به وتهادوه..

سيبقى القلم ويحيا رغم الثقافة الرقمية والتطور التكنولوجي الرهيب الذي يعيشه الأفراد والمجموعات. والقلم باقٍ كالزيتون والزعتر في فلسطين.. القلم باق كبقاء الشعراء والأدباء والمفكرين وخلود أعمالهم الفكرية والأدبية والفنية.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بلغت 48.03 بالمائة غلق مكاتب الاقتراع وبداية عملية فـرز الأصوات الانتخابية نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية إلى غاية الخامسة مساء بلغت 26.45 % تمديد توقيت غلق مكاتـب الإقتراع إلى الثامنة مساءً نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية إلى غاية الواحدة زوالا بلغت 13.11 % حرم رئيس الجمهورية تؤدي واجبها الانتخابي بوغالي: اليوم تصل الجزائر إلى محطة من محطاتها الخالدة وتعطى الكلمة للشعب الملاكمة إيمان خليف: الواجب الانتخابي ضروري من أجل حماية الوطن حساني شريف: نحن اليوم أمام استحقاق حاسم ومهم وسنقبل أي اختيار يقوم به الشعب الفريق أول السعيد شنقريحة يؤدي واجبه الانتخابي تبون: الفائز في هذه الانتخابات سيواصل المشوار المصيري للدولة الجزائرية قوجيل: الجزائر تعيش يوما تاريخيا نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بلغت 4.56% حتى الساعة العاشرة صباحا رئاسيات 2024.. العرباوي: الشعب الجزائري سيختار المرشح الأكثر استحقاقا المترشح أوشيش يدعو الجزائريين إلى التجند والتعبير عن صوتهم شرفي: قرابة 63 ألف مكتب تصويت و500 ألف مؤطر لتنظيم رئاسيات 2024 رئاسيات الـ 7 سبتمبر.. إمكانية التصويت بتقديم وثيقة رسمية تثبت هوية الناخب