نتفق منذ البداية على أن ما يجري الآن في الساحة الإفريقية من تصعيد وحشد لجيوش تحرير «اليورانيوم» و”الذهب” من قبضة “عساكر” النيجر تحت قناع حماية “الشرعية” والدفاع عن “الدمقرطة” و”الدسترة” وغيرها، كما يحدث حين ترافع عن “العفة” “راقصة الحي” المعروفة في محافل المصالح والتوازنات الدولية، ليس سوى حلقة جديدة من مخطّط قديم بدأ في الشرق الأوسط من خلال مسمّى مشروع “الفوضى الخلاقة” الذي أزال ـ ليس دولا فحسب ـ ولكن حضارات وعواصم، إذ كانت بغداد فدمشق ناهيك عن صنعاء مسارح لتصدير “السموم المدسوسة في عسل الحداثة”، ليرسو ذلك المخطّط “المعولم” على إفريقيا كمحطّة جديدة لفوضى خلاقة.
وهي فوضى خلّفتها وراءها «كونداليز رايس» بالشرق الأوسط كمشعل، لتحمله عنها وبعدها مخابر التخطيط “المٌدولة” وهكذا يواصل مشروع الديمقراطية الوهمية زحفه باتجاه إفريقيا بعد نهاية ما كان يسمى “الشرق الأوسط”، وكل ذلك لإعادة صياغة خرائط جديدة على مقاس المصالح الغربية الثابتة، بل الأكثر من ذلك، لإعادة إنتاج شعوب مستعدة للانخراط في سيرك العولمة.
شعوب تعتبر التدخل العسكري الخارجي “تحررا”، وشعوب تحتضن وتستقبل جلادها القديم بالورود بمبرر أن من كان بالأمس القريب مغتصبها أضحى اليوم منقذها وملاذها وخلاصها، شعوب قبل أن يستنسخوا لأراضيها استعمارا قديما بحلة جديدة تسمى “دمقرطة” فوق دبابة، استعمروا عقولها بكل أريحية هذا الزمن الذي أخل بكل مفاهيم التحرر والانعتاق والمواطنة الحقة!
كان لابد من تلك المقدمة، لنفهم أن “طبول” الحرب التي قُرعت على حدود “النيجر” ما هي إلا سيناريو قديم تم تغيير جغرافيته من الشرق الأوسط المنهار دولا وشعوبا، تاريخا وجغرافية، إلى شمال إفريقي كانت مقدمته ليبيا “القذافي” التي انتهت وجودا و”نفطا”، ليمدّد ذلك السيناريو البائس والمدروس بدقة “المصالح”، أقدامه “النفطية” باتجاه رقعة المناجم على مختلف أنواعها، ويعلنها الغرب حربا لا خسارة فيها.
والمهم هنا، أن ما يحاك حول النيجر ليس وليد اليوم ولكنها قاعدة “أكلت يوم أكل الثور الأبيض” تكرر ذاتها ووجوهها وعباءاتها، فالنيجر وبعدها ستأتي الدزر على دول وجغرافيات أخرى، لن تسقط اليوم أو غدا ولكنها سقطت يوم سقطت “ليبيا” في مؤامرة عباءات النفط الملطّخة بدماء العمالة الأمريكية، حيث كانت كيانات وعصابات ـ آنذاك ـ وشركات متعددة الجنسيات، بمثابة الخنجر الذي غرز في خاصرة الأمة أولا في شرقها الأوسط ثم في ليبيا وصولا إلى النيجر، حيث الثور الأسود أكل يوم أكلت ليبيا أو الثور الأبيض.
مفارقات مخزية
المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس”، وفي ختام اجتماعات قادة جيوشها بالعاصمة الغانية “أكرا”، انتهت إلى الاتفاق على “خطة” التدخل العسكري في النيجر، والأمر هنا لم يكن يتعلّق بمناقشة الخيارات المتاحة بين “تفاوض” أو “تدخل” عسكري، ولكن في اتفاق على “خطة” زحف عسكري.
والمضحك هنا في مسرحية ألعاب العقل، ليس خيار “التدخل” الذي كان “جاهزا” في باريس لحظة الانقلاب النيجيري، ولكن في كون المكلف بذلك التدخل هي مجموعة المفترض من اسمها أنها منظمة “اقتصادية” هدفها رفع الغبن عن الشعوب الإفريقية والدفاع عن مصالح إفريقيا، فإذا بأزمة النيجر، تعري دورها الحقيقي كونها مجرد منظمة “عسكرية” لها جيوش وقادة وخطط حربية جاهزة، تنتظر فقط من يعطيها أوامر التحرك والزحف والكر والفر!
وبعيدا على كون “الانقلابات” العسكرية في النيجر أو غيرها من دول العالم أمرا منبوذا ومستنكرا تجاوزه زمن العالم “القرية” وما تربطه من مصالح متشابكة في لعبة نظام دولي يتحكم في مصير الشعوب مأكلا ومشربا، فإن نكبة و”نكتة” العصر، أن إفريقيا من خلال مجموعة “إيكواس” التجارية أو الاقتصادية، هي من قررت الزحف على النيجر، تحت غطاء الدفاع عن “الشرعية”، ليس لإعادة النيجر للنيجريين ولكن لإعادة دجاجة البيض “الذهبي” إلى الخم الفرنسي.
وكل ذلك كان سيتم تحت شعار الفضيلة المسماة شرعية رئيس مخلوع باع بلده للغرب، ولنا أن نضحك مليا على مفارقة حرب “إفريقية” على بلد “إفريقي”، يعود “خراجها” إلى فرنسا، وذلك دون أن تخسر باريس قطرة دم واحدة، وطبعا هي إفريقيا وفقط من حروبها “ثيران” سوداء أكلت يوم أكلت ثيرانها “البيضاء”، ولا زالت “المحرقة” مستمرة!
مهما كان موقفنا من انقلاب النيجر، إلا أن الثابت في حرب “اليورانيوم” و”الذهب” القادمة، أن الحركة الانقلابية أسقطت الأقنعة عن “العمالة” الإفريقية ممثلة في منظمات إفريقية تحت مسميات متعددة، أثبتت أزمة النيجر أنها ليست إلا “دروعا” للمصالح الغربية، وأن دورها لا يتعد دور “حارس” المصالح الغربية، ناهيك عما وراء الأكمة.
مهما كانت نتيجة المحرقة القادمة في النيجر، والتي لن يكون الخاسر فيها إلا الشعب النيجيري فإن إفريقيا وقبل أن تكون هدفا مستباحا ومٌلكا مشاعا للغرب وبالذات لباريس، فإن “الخنجر” المغروز في خاصرتها ليس إلا مؤامرات وعمالة أبنائها، وهنا يكمن سر السيطرة الغربية على إفريقيا ثروات وشعوبا، فالخائن “ابن” الدار و”خاين ” الدار كما يقال بالعامية “ميتعسش”.