تكشف دراسة نشرتها مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية المرموقة في عددها الأخير، كيف تحاول باريس فرض رؤيتها لمنطقة الساحل والصحراء الكبرى، وتحاول فرض تلك الرؤية على بقية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، من منطلق أنها الخبير والعارف بشؤون هذا المنطقة، التي وصفتها القمة الأخيرة لقادة الحلف الأطلسي في إسبانيا، بأنها بمثابة الحدود الجنوبية لهذه المنظمة العسكرية.
تقول المجلة التي أسسها المفكر الأمريكي من أصل ياباني “صامويل هنتغتون” في سبعينيات القرن الماضي: “منذ سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا قبل 11 عامًا والأزمة الأمنية التي أعقبت ذلك في مالي، سارعت أوروبا إلى دفع حدود جوارها الجنوبي المباشر للوراء. فقد خصصت المزيد من الإنفاق، وأطلقت المزيد من برامج التنمية والاستقرار، وعززت تواجدها العسكري الأجنبي في بلدان الساحل الأفريقي، ولا سيما مالي والنيجر وبوركينا فاسو، التي تعتبر الآن جزءًا من “عتبة” أوروبا”.
وتشرح المجلة كيف تغيرت النظرة الأوروبية لهذه المنطقة مع مرور الوقت: “قبل عام 2011، كان صناع القرار الأوروبيون ينظرون إلى منطقة الساحل على أنها أرض صحراوية نائية، ومعرضة للجفاف وتحتاج إلى البنية التحتية والمساعدات الإنسانية. يُنظر إليه الآن على أنها مصدر النمو السكاني الخطير، والهجرة غير المرغوب فيها والتطرف العنيف، والأرض الخصبة للوجود الروسي. لذلك فقد تم تحويلها إلى مختبر حيث تقوم أوروبا بتدوير مخاوفها الجيوسياسية”.
دوافع الاتحاد الأوروبي لمراجعة نظرته من منطقة الساحل بداية من 2021، تقول المجلة، مرده إلى مجموعة متنوعة من التهديدات المفترضة، منها: الإرهاب الدولي، وتدفقات الهجرة غير المنضبطة، والاتجار غير المشروع، وعدم الاستقرار السياسي، والاحتباس الحراري.
ولذلك تشير الدراسة إلى أن الاتحاد الأوروبي ينظر إلى منطقة الساحل على أنها “مشكلة لمستقبل أوروبا”، وهنا تستهدف بروكسل وقف الهجرة وتعزيز التعاون الأوروبي في مجال الأمن. غير أن بروز النفوذ الروسي في المنطقة وقبله الصيني ثم التركي، زاد الوضع حساسية.
وتقدم الدراسة فرنسا على أنها حامل لواء التدخل الأوروبي في منطقة الساحل، ففي أوائل 2013 تدخلت عسكريا في مالي، وطلبت من شركائها الأوروبيين الانضمام إلى مغامرتها العسكرية، التي بدأت بفرقة العمل “تاكوبا”، قبل أن تصبح فيما بعد عملية “برخان”، ويكاد يجمع المراقبون على أن هذا التدخل فشل.
كان الهدف، تقول فورين بوليسي، هو تقديم إطار عمل أوثق لجيوش الساحل من خلال نشر القوات الخاصة مع توزيع التكلفة المالية والسياسية بين عدد أكبر من المشاركين. غير أن الحضور الأوروبي في الساحل كان حيلة فرنسية، الهدف منه “تخفيف اتهامات الاستعمار الجديد”، الموجهة لفرنسا بسبب ممارساتها المشبوهة في المنطقة.
كما تطرقت المجلة إلى نقطة حساسة، مفادها اختلال أهداف الدول الأوروبية من التواجد في منطقة الساحل، وهذا المعطى ساهم في عرقلة العملية، فباريس تبحث عن استعادة النفوذ الذي بدأ يتضعضع في مستعمراتها السابقة، عبر القوة العسكرية تحت مسمى محاربة الإرهاب، فيما يشغل بال كل من إسبانيا وإيطاليا، كيف السبيل إلى الحد من الهجرة غير الشرعية القادمة من هذه البلدان.
وهكذا يتحول التواجد الأوروبي في منطقة الساحل، إلى “خليط فوضوي من المبادرات الأمنية”، وجود عسكري فرنسي يدعي محاربة الإرهاب، وتواجد إيطالي إسباني لمحاربة الهجرة غير الشرعية في مهدها، فيما ينظر سكان المنطقة إلى هذا التواجد على أنه استعمار جديد، طالما أن هناك جنود فرنسيون، وهذا من الأمور الذي ساهم في إفشال الأهداف الأوروبية.
وتخلص المجلة في الأخير إلى الاعتقاد بأن فشل السياسة الأوروبية في منطقة الساحل، إنما مرده إلى الاستناد على بعض المخاوف الأوروبية فقط، دون أدنى مراعاة لتطلعات سكان منطقة الساحل في إحداث تغيير ذي مغزى، لأن عصر بناء الدولة من الخارج بات من الماضي. ومن ثم فالمطلوب هو الاستجابة للاحتياجات الإنسانية المتنامية لسكان المنطقة.