يبدأ لبنان و«صندوق النقد الدولي» اليوم الاثنين محادثات عبر الإنترنت بهدف التوصل إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق للحصول على دعم مالي لإنقاذه من أزمة اقتصادية ومالية حادة تعصف بالبلاد منذ أواخر 2019، إثر تراكم الديون على الحكومات المتعاقبة في أعقاب الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين 1975 و1990، دون أن تحقق إنجازات بهذا الإسراف في الإنفاق.
قال الصندوق في ديسمبر/كانون الأول إنه يقوم بتقييم مدى دقة وتأثيرات خسائر قدرها 69 مليار دولار أعلنها مسؤولون لبنانيون خسائر في النظام المالي في البلاد، غير أنه لم يتم الكشف بعد عن خطة تحدد كيفية التعامل مع هذه الخسائر وكيفية تحديد من يتحملها.
وتسببت الخلافات في لبنان حول حجم الخسائر وكيفية توزيعها في انهيار المحادثات مع صندوق النقد في عام 2020، وفي حينه رفض المصرف المركزي والبنوك والنخبة السياسية الأرقام التي تضمنتها خطة حكومية، دعمها صندوق النقد آنذاك، بشأن هذه الخسائر.
وأصاب الشلل البنوك التي تعد محورية للاقتصاد القائم على الخدمات، إذ عجز أصحاب المدخرات عن سحب أموالهم، بعد أن حالت الأزمة بينهم وبين حساباتهم الدولارية أو ربما قيل لهم إن الأموال التي يمكنهم السحب منها الآن لم تعد تساوي سوى جزء صغير من قيمتها الأصلية.
وتهاوت العملة اللبنانية مما رمى بقطاع كبير من السكان إلى دوامة الفقر.
وبدأت قصة الانهيار المالي في لبنان منذ 2019 بعد «انحراف رؤية» لإعادة بناء دولة اشتهرت فيما مضى بأنها سويسرا الشرق، بفعل سوء الإدارة عندما عمدت النخبة الطائفية للاقتراض دون ضوابط تذكر.
ففي وسط بيروت الذي سوّته الحرب الأهلية بالأرض ارتفعت من جديد البنايات العالية في منطقة «سوليدير» التي شيدها مهندسون معماريون عالميون، ومراكز التسوق الفاخرة التي امتلأت بمنتجات أسماء تجارية كبرى وكانت تقبل الدفع بالدولار أو بالعملة اللبنانية.
وقال رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي في سبتمبر/أيلول الماضي إن خطة الانتعاش المالي التي تضعها حكومته ستتضمن توزيعا عادلاً للخسائر التي مني بها النظام المالي لكن الحكومة لم تجتمع منذ أكتوبر/تشرين الأول، وتعقد الحكومة اللبنانية اجتماعاً اليوم الاثنين لمناقشة ميزانية 2022، لكن لم يتم الكشف عن أي تفاصيل تتعلق بخطة الانتعاش.
وانهار النظام المالي اللبناني في عام 2019 بعد عقود من الفساد والهدر في الدولة، وتحت وطأة طرق التمويل غير المستدامة للميزانية العامة، وكان ذلك نتيجة تباطؤ تدفقات العملة الصعبة إلى النظام المصرفي الذي أفرط في إقراض الحكومة.
احتيال منظم
لكن لبنان لم ينجز شيئا آخر بجبل الديون الذي تنامى حتى بات في ذلك الوقت يعادل 150 في المئة من الناتج المحلي، ليصبح واحدا من أكبر أعباء الديون في العالم، ولم يعد بإمكان محطات الكهرباء أن تلبى الاحتياجات على مدار الساعة، وأصبحت الثروة البشرية هي الصادرات الوحيدة التي يمكن التعويل عليها.
ووصف بعض الاقتصاديين النظام المالي في لبنان بأنه «احتيال منظم» على المستوى الوطني على غرار «خطط بونزي» الهرمية والتي يتم فيها اقتراض أموال جديدة لسداد مستحقات الدائنين الحاليين، وتفلح هذه الخطط عادة في تحقيق مآربها إلى أن تنفد الأموال الجديدة.
ويظل السؤال الأهم: كيف وصل لبنان الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 6.5 مليون نسمة إلى هذا الحال؟
شلل متعدّد الأوجه
بعد الحرب الأهلية عمد لبنان إلى موازنة دفاتره بإيرادات السياحة والمساعدات الخارجية وحصيلة إيرادات القطاع المالي وسخاء دول الخليج العربية التي مولت الدولة بدعم احتياطيات البنك المركزي.
وكان أحد المصادر الرئيسية للدولار هو تحويلات ملايين اللبنانيين الذي سافروا للعمل في الخارج. وحتى في الأزمة المالية العالمية عام 2008 واصل المغتربون اللبنانيون تحويل الأموال إلى البلاد.
غير أن وتيرة التحويلات بدأت تتباطأ بدءاً منذ 2011 عندما أدت الخلافات الطائفية في لبنان إلى مزيد من التصلب السياسي وانزلق جانب كبير من الشرق الأوسط وخاصة سوريا المجاورة إلى حالة من الفوضى.
وبدأت دول الخليج التي كانت في وقت من الأوقات توصف أنها مصدرً يُعوّل عليه للدعم تدير ظهرها نكاية في حزب الله الذي تؤيده إيران وتدعمه في حروبه ضد الكيان الصهيوني دفاعا عن لبنان.
وقفز العجز في الميزانية إلى مستويات كبيرة، وازداد العجز في ميزان المدفوعات عندما عجزت التحويلات عن مجاراة الواردات التي تشمل كل شيء من الأغذية الأساسية إلى السيارات الفارهة.
كان هذا هو الوضع حتى العام 2016، عندما بدأت البنوك تعرض أسعار فائدة مرتفعة على الودائع الجديدة بالدولار الذي كان عملة مقبولة رسميا بفعل دولرة الاقتصاد، وتعرض كذلك أسعار فائدة أعلى كثيراً على الودائع بالليرة اللبنانية، بينما كان أصحاب المدخرات يحصلون على عوائد زهيدة في أماكن أخرى من العالم.
في ظل هذا الوضع كان لسان حال المدعين في البنوك اللبنانية: ما الذي يمكن أن يخسره المرء إذا كانت العملة اللبنانية مربوطة مقابل العملة الأمريكية بسعر 1500 ليرة للدولار منذ أكثر من 20 عاماً ويمكن تغييرها بكل حرية من أي بنك أو حتى من صراف السوبر ماركت؟
وبفضل أسعار الفائدة العالية على الورقة الخضراء تدفقت الدولارات من جديد واستطاعت البنوك أن تواصل تمويل الإنفاق العام.
لقد كانت حالة الشلل السياسي لا تزال قائمة في لبنان وأدت الخلافات إلى بقاء البلاد بلا رئيس معظم العام 2016.
غير أن مصرف لبنان المركزي بقيادة حاكمه رياض سلامة، المصرفي السابق في بنك «ميريل لينش» الأمريكي، منذ 1993 استحدث «هندسة مالية» بسلسلة من الآليات التي أدت إلى تقديم البنوك عوائد سخية على الودائع الدولارية الجديدة.
وقال مصرفيون أن هذا الأسلوب كان من الممكن أن يكون ملائما إذا ما تبعته إصلاحات سريعة لكنه ليس كافيا دون هذه الإصلاحات وهو ما آلت إليه الأمور.
وظهر تحسن التدفقات الدولارية في زيادة الاحتياطيات الخارجية، وما كان أقل وضوحاً آنذاك وأصبح الآن موضع خلاف هو زيادة الالتزامات.
ووفق بعض الحسابات انمحى من أصول البنك المركزي ما يفوق ديونه، ولذا فربما تكون خسائره هائلة.
وفي الوقت ذاته صعدت كلفة خدمة الديَن اللبناني إلى حوالي ثلث الإنفاق في الميزانية أو أكثر.
وعندما احتاجت البلاد للجم الإنفاق، أسرف الساسة في زيادة أجور العاملين في الدولة قبل انتخابات عام 2018، وأدى فشل الحكومة في تنفيذ الإصلاحات إلى حجب المانحين الأجانب مساعدات بمليارات الدولارات كانوا قد تعهدوا بتقديمها.
وكانت الشرارة الأخيرة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 هي خطة لتطبيق ضريبة على مكالمات تطبيق «واتساب» على الهواتف المحمولة.
وفي ضوء ضخامة عدد المغتربين وانخفاض النظام الضريبي في لبنان الذي يميل لصالح الأثرياء كان لفرض رسم على الطريقة التي يتواصل بها عدد كبير من اللبنانيين أثر كارثي.
وتفجرت مظاهرات شعبية كان وقودها الشباب المطالب بتغيير كلي احتجاجا على النخبة السياسية بقياداتها الطاعنة في السن التي أصبحت أكثر ثراء في الوقت الذي استمرت فيه معاناة الآخرين.
ونضبت تدفقات النقد الأجنبي من الخارج وخرجت الدولارات من لبنان. ولم يعد لدى البنوك دولارات كافية لسداد أموال المودعين الذي اصطفوا في طوابير في الخارج مما دفع البنوك لإغلاق أبوابها.
كما عجزت الحكومة عن سداد التزاماتها على الدَين الخارجي.
وانهارت العملة من 1500 ليرة للدولار قبل الأزمة حتى بلغت مؤخرا حوالي 23 ألف ليرة للدولار بعد أن هبطت في وقت سابق من الشهر الجاري إلى 34 ألفاً.
وتفاقمت المشاكل بانفجار حدث في أغسطس/آب 2020 في مرفأ بيروت أسفر عن سقوط 215 قتيلا وتسبب في أضرار بمليارات الدولارات.
وبعد انكماش اقتصادي سريع بلغ الدَين الحكومي ما يعادل 495 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 وفقا لبعض التقديرات، وهو ما يفوق بكثير المستويات التي عرقلت بعض الدول الأوروبية قبل نحو عشر سنوات.
تقييم للوضع الاقتصادي
- تراجع الناتج الإجمالي المحلي إلى ما يقدر بنحو 20.5 مليار دولار في 2021 من نحو 55 مليار دولار في 2018، وهو نوع من الانكماش الذي عادة ما يصاحب الحروب على حد وصف البنك الدولي، الذي صنف هذا الانهيار المالي بأنه من الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
- فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، مما رفع تكلفة كل شيء في الدولة المعتمدة اعتماداً قوياً على الواردات، وقوَّض القوة الشرائية للعملة، فراتب الجندي الشهري الذي كان يعادل في يوم من الأيام 900 دولار يساوي الآن 50 دولاراً.
- تقول لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا «إسكوا» أن معدلات الفقر تزايدت بشكل كبير بين السكان البالغ عددهم 6.5 مليون نسمة إذ يصنف 80 في المئة منهم كفقراء، والموقف يتفاقم، إذ قال صندوق حماية الطفولة التابع للأمم المتحدة «يونيسف» أن أكثر من نصف الأسر لديها على الأقل طفل واحد لا يحصل على إحدى الوجبات أليومية في سبتمبر/أيلول مقارنة مع حوالي الثلث فحسب في أبريل/نيسان.
- تكبد النظام المالي اللبناني خسائر فادحة، بما يشمل نحو 44 مليار دولار في المصرف المركزي تتعلق بإخفاق الجهود الرامية لدعم العملة، وذلك وفقا لبيانات حكومية في 2020. وهذا المعدل هو بالتقريب مثلي حجم الناتج الاقتصادي، أما الخسائر الإجمالية التي تشمل تقليص القيمة الإسمية المتوقع للدَين السيادي فتفوق ذلك أيضا.
- هناك شلل في البنوك اللبنانية إذ مُنع المودعون من حساباتهم الدولارية كما تطبق عمليات السحب بالعملة المحلية أسعار صرف تمحو 90 في المئة من قيمتها.
وخلال زيارة في أكتوبر تشرين الأول إلى بيروت، قالت المسؤولة الأمريكية فيكتوريا نولاند إن الشعب اللبناني يستحق أن يعرف أين ذهبت أمواله.
- يواجه لبنان المعتمد على استيراد الوقود أزمة أيضا في الطاقة، وحتى قبل الأزمة، كانت إمدادات الوقود التي تستخدم في محطات الكهرباء تشهد نقصاً حتى في العاصمة، وحالياً، تعتبر الأسر نفسها محظوظة إذا حظيت بأكثر من ساعة أو نحو ذلك من التيار الكهربائي يومياً.
كما ارتفعت أسعار الوقود ارتفاعاً حاداً، فركوب سيارة أجرة مشتركة، وهي وسيلة نقل منتشرة هناك، كان يتكلف ألفي ليرة قبل الأزمة أما الآن فتتكلف الرحلة نفسها نحو 30 ألف ليرة.
- يهاجر اللبنانيون في موجة خروج جماعي هي الأكبر منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990. ولقناعتهم أن مدخراتهم تبخرت، فلا ينتوي الكثير من اللبنانيين العودة هذه المرة إذ بدأوا بناء حياتهم من الصفر.
ومن بين المغادرين الأطباء وعاملو الخدمات الصحية.
وقالت منظمة الصحة العالمية إن أغلب المستشفيات تعمل بنصف طاقتها مع هجرة نحو 40 في المئة من الأطباء، وأغلبهم متخصصون، أو عملهم بدوام جزئي في الخارج.