سيسقط المزيد من الشهداء في رفح، في خان يونس، في غزة، في الضفة، في القدس وفي كل فلسطين.. وستسيل الكثير من الدماء وستمزق بقية الأشلاء، ما دام العالم مكتفيا بالتفرج على حال المقتول الذي ينزف صامتا مقهورا، ويغض الطرف عن المجرم السفاح إما جبنا وإما طمعا وإما تآمرا وغدرا.. والأيام تمرّ والحياة تستمرّ، تماما كما يريدها الصهاينة المجرمون على الدوام والأعوام، بأن يتعود الناس على مشاهد القتل والدمار، من دون أن تتزعزع ضمائرهم إعراضا واستنكارا، أو تهتزّ قلوبهم رفضا وشجبا.
في الواقع، تمكنت حرب غزّة من تقسيم العالم إلى معسكرين؛ الشعوب الحيّة وشرفاء العالم والدول الحرّة من جهة، وعلى الجهة المقابلة، الأنظمة الإمبريالية الغربية والدول الوظيفية الشرقية، التي تدور في فلك الهيمنة الأمريكية المتصهينة. وعلى هذا الأساس، يمكن تصوّر الخارطة الجيوسياسية المستقبلية، والتي على أساسها سيتم رسم العلاقات الدولية، وإعادة النظر في التحالفات الإقليمية والدولية، ومراجعة الكثير من المواقف والرؤى والالتزامات ليس مع الدول بعضها ببعض فقط، ولكن كذلك مع التكتلات الاقتصادية والشركات العالمية العابرة للحدود والقارات، والتي أظهرت وظهرت صهيونيتها شاخصة للعيان، وهي تدعم اقتصاد الكيان الإرهابي في عزّ عدوانه الغادر ضد المدنيين في غزّة.
لقد أثبتت حرب غزّة بما لا يدع مجالا للشك والتردد، بأن قضية فلسطين هي القلب النابض للأمة العربية، وهي الروح اليافعة للعالم الإسلامي، وهي الضمير الحيّ للبشرية جمعاء.. وذلك على الرغم مما يلاحظ من تململ هنا وتردد هناك، ومن تآمر هنا وهناك وفي كل مكان، فبالنهاية هو منطق الصراع المرير بين الخير والشرّ، بين الحق والباطل، بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والخيال.
يحدث كل هذا، رغم أن العالم بأسره كان قد أجمع متفقا على تبني القرار الأممي رقم “242”، والذي توافقت حوله الشرعية الدولية في مسعاها الثابت لإقامة دولة فلسطين المستقلة على حدود ما قبل الاجتياح الصهيوني لعام 1967م. إلا أنّ العبث الصهيوني تمادى هذه المرة، حيث أوّل ساسة الكيان نص القرار على هواهم، فصار قاصرا عن التنفيذ، فقد نصت النسخة الإنكليزية على “الانسحاب من الأراضي”، من دون تحديد الأراضي التي يجب الانسحاب منها، مما جعل الصهاينة يرفضون الانصياع بدعوى أنّ القرار يدعوهم إلى الانسحاب من “جميع الأراضي”، وهو أمر وجودي لا يمكن تطبيقه.
وأما نص الصياغة العربية فقد ورد مضافا إليه؛ الانسحاب من جميع الأراضي المحتلة عام 1967م، وبالتالي أبقى العرب على تمسكهم الراسخ بأن يتمّ الانسحاب من جميع الأراضي التي احتلت في الخامس جوان عام 67، وهي الصياغة التي تمّ اعتمادها في كل المفاوضات العربية الصهيونية، من مفاوضات وقف إطلاق النار العام 1973م، إلى اتفاق السلام بين الكيان وجمهورية مصر العربية العام 1979م، وصولا إلا اتفاقات أوسلو عام 1993م والتي انبثقت عنها السلطة الوطنية الفلسطينية، فاتفاق وادي عربة بين المملكة الأردنية الهاشمية والكيان عام 1994م، وكل ما تبع ذلك من محاولات تفاوضية “فاشلة” من أجل إقامة الدولة الفلسطينية بمؤسساتها الوطنية ذات السيادة.
بعد حرب أكتوبر 73، أصدرت الأمم المتحدة قرارا حمل الرقم 338، وأورد في مضمونه القضية الفلسطينية على اعتبار أنها جوهر الصراع، حيث طالب صراحة بتنفيذ بنود القرار رقم 242، القاضي بانسحاب القوات الصهيونية من جميع الأراضي العربية المحتلة عقب حرب 67، وهي؛ سيناء والجولان وغزة والضفة بما فيها القدس الشرقية، مع ضرورة إيجاد حل عادل للاجئين الفلسطينيين، فضلاً عن الدعوة إلى إطلاق مسار مفاوضات بين الأطراف المعنية، وبإشراف دولي يفضي بالنهاية إلى إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.
رضخ الكيان الصهيوني إلى قرار الانسحاب في شقه المتعلق بسيناء المصرية، تحت ضغط البيت الأبيض الأمريكي بقيادة الرئيس “جيمي كارتر” راعي “كامب ديفيد”، لكنه رفض الانصياع في ذات السياق، لأمر الانسحاب من غزة والضفة والجولان، بل وقام بعد ذلك باجتياح لبنان وارتكاب المجازر والفظائع، كما ظل على ذلك دوما.
كان للاجتياح الصهيوني للبنان أثر مباشر على إعادة وضع القضية الفلسطينية على طاولة الاهتمام الدولي، فبعد أن فرض هذا العدوان على عناصر المنظمات الفلسطينية، خاصة منظمة التحرير، الانسحاب من لبنان والانتشار في بعض الدول العربية، احتقن الشارع الفلسطيني في الداخل المحتل، وارتفع ضغطه شيئا فشيئا، إلى أن انفجر العام 1987م في انتفاضة عارمة وتمرّد وطني، وموازاة مع ذلك، سعى القادة الفلسطينيون إلى الاجتماع في مؤتمر شامل بالجزائر العام 1988م، أعلنوا خلاله قيام دولة فلسطين في قيادة وطنية موحّدة، وأما المناضلون والمكافحون في الميدان، فقد أحيوا أحلام تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى، والتي على رأسها إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، وتفكيك المستوطنات وعودة اللاجئين من دون قيد ولا شرط.
فعلا، فقد تمكنت الانتفاضة الأولى من بعث حركة عصيان شاملة ضد الاحتلال، شملت كل الأراضي المحتلة قبل أن تنخفض وتيرتها سنة 1991م، بالتزامن مع “مؤتمر مدريد للسلام” الذي قاد في نهاية المطاف إلى “اتفاق أوسلو”، الذي تم توقيعه بين الكيان ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1993م، في اعتراف صريح بالكيان الصهيوني وحقه في الوجود، وهو الموقف الذي كان بمثابة زلزال رهيب في فكر منظمة التحرير الفلسطينية، الحركة التحررية الثورية الرافضة لأي شكل من أشكال التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني. كان ذلك قد ابتدأ مع خطاب الرئيس “ياسر عرفات”، شهر ديسمبر 1988م، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث اعترف من خلاله باسم “منظمة التحرير الفلسطينية” بحق “إسرائيل” في الوجود، وأدان “الإرهاب” بكل أشكاله، وأعلن عن ترتيب مبادرة سلام فلسطينية، تدعو إلى حق دول الشرق الأوسط بما فيها فلسطين و”إسرائيل” وجيرانهما في العيش بسلام.
مسار مدريد.. مفاوضات أوسلو.. اتفاق غزّة – أريحا.. مؤتمر طابا.. جلسات واي بلايتيشن.. محادثات واي ريفر 2.. لقاءات من أجل تسوية الخلاف الغائر بن الطرفين ظلت كلها تتمحور حول القرار الأممي رقم 242، بالإضافة إلى القرار الآخر رقم 338، وبعد جهد عسير أفضت إلى إنشاء “سلطة حكم ذاتي فلسطينية موقتة” لمرحلة انتقالية تستغرق خمسة أعوام، على أن تتوّج بتسوية دائمة بناء على مضمون القرارات المشار إليها أعلاه، إلا أن الأيام قد أثبتت بأنها سلطة ولدت ميتة، ذلك أنه، وانطلاقا من كل هذا، تم تقسيم المناطق الفلسطينية بالضفة الغربية والتي لا تتجاوز مساحة 5.800 كلم مربع، إلى ثلاث مناطق؛ أ – ب – ج، بين شبكة من المستوطنات كجلد فهد مرقط، تاهت في خضمها معالم الجغرافيا الفلسطينية وضاع حلم قيامها.
العام 2000، والعالم يستعد لدخول الألفية الثالثة على وقع أكثر من نصف قرن من الصراع الفلسطيني الصهيوني، انفجر الشارع الفلسطيني مرة أخرى، في انتفاضة شبابية شعبية عارمة دامت خمسة أعوام، معلنة فشل المساعي الدولية على كثرتها، في إيجاد حل عادل ونهائي لهذا الظلم والعدوان المستدام. فعلى مدى العقود الماضية، حاولت القوى الغربية تحميل الفلسطينيين مسؤولية عدم التوصل إلى حلّ نهائي، إلا أنّ الواقع ظلّ في كل مرّ يكشف بأنّ الصهاينة هم المسؤولون دون غيرهم عن كل المآسي التي تتخبط فيها المنطقة، فقد صرّح رئيس وزراء الكيان الصهيوني “النتن-ياهو”، الذي شغل المنصب أكثر من فترة بين 1996 و1999، ثم 2009 حتى 2021، ثم 2022 إلى الآن، ليصبح أطول من شغل هذا المنصب في الكيان الصهيوني، بأنه جدّ فخور بدوره الحثيث في إعاقة قيام دولة فلسطينية مستقلة قد تعرّض وجود كيانه للخطر.. معتبراً بأنّ الصراع ليس على قيام دولة فلسطينية، بل القضاء على الدولة اليهودية.
وحتى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “جون كيري” كان قد صرّح بأنّ الوقائع على الأرض التي اصطدم بها، هي أنّ الجانب الإسرائيلي لا يتوقف عن خلق العقبات التي تعوق تقدّم المفاوضات.. مشيراً إلى رفض “النتن-ياهو” أكثر من مرة مقترحات أمريكية لحلحلة الصراع.
الآن، وقد بلغ العدوان الصهيوني من الصلف والانحراف والزلل مستوى لا يطاق، بات من الواجب الأخلاقي الإنساني، على كل حرّ شريف في هذا العالم أن ينتفض رفضا ولو بقول كلمة حق يبرئ بها نفسه أمام التاريخ، فإنّ الأيام لا ترحم والزمن لا يحابي الجبناء، والأيام دول.. وأنّ السكوت والتغاضي عن فظائع الكيان الصهيوني في فلسطين، قد أصبح جريمة أخلاقية مكتملة القرائن قائمة الأركان، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يقيمون علاقات سياسية ودبلوماسية مع هذا المسخ الذي أفسد العلاقات الدولية وفخّخها.