“وكَفاهُ شهادة أمير البيان شكيب أرسلان إذ يقول: كلَّما قرأتُ شعرًا لمحمد العيد الجزائري، تأخذُني هزَّةُ طربٍ تَملِك عليَّ مشاعري وأقولُ: إن كان في هذا العصر شاعرٌ يصِحُّ أن يُمثِّل البهاءَ زُهيرًا في سلاسة نَظمِه وخِفَّة رُوحه ودِقَّة شُعوره فيكون محمد العيد. وشهادة رائد الأدباء ورئيس العلماء الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إذ يقول: الأستاذ محمد العيد شاعر الشباب وشاعر الجزائر، بل شاعر الشمال الإفريقي بلا منازع “. هذه الفقرة مُقتطفةٌ من مُحاضرةٍ ألقاها الأديب “عبد الرحمن بن العقون” في المهرجان الشِّعري الأول (محمد العيد آل خليفة)، الذي انعقد في بسكرة من 25 إلى 28 مارس 1982. وقد كان “العقون” رفيق “محمد العيد” في سجن “الكدية” بمدينة قسنطينة سنة 1955.
الفقرةُ تضمَّنَت شهادة أمير البيان العربي “شكيب أرسلان”، وأمير البيان الجزائري العلاَّمة “محمد البشير الإبراهيمي” حول شاعرنا “محمد العيد آل خليفة”، وهي تكشفُ مدى الانتشار العربي لشاعر الشَّباب والجزائر، وأيضًا تكشفُ خصائصَ شعره الرِّسالي ببُعدَيه: الإصلاحي التَّعليمي والنِّضالي الثَّوري، بلغة عذبةٍ أنيقةٍ يفهمها كلُّ النَّاس. وفي المهرجان نفسه الذي ألقى فيه “العقون” مُحاضرته، ألقى الشاعر “محمد الأخضر عبد القادر السائحي” محاضرةً حول “محمد العيد”، وتعيد جريدة “الأيَّام نيوز” نشرَها، لأنَّها حديث شاعرٍ عن شاعرٍ، وكلاهُما ينتمي إلى المنطقة نفسها في الجنوب الشرقي للجزائر، وكلاهما ينتمي إلى بيئةٍ ثقافيَّةٍ محليَّةٍ واحدةٍ تميَّزَت بإنجابها لشعراء وأدباء وعلماء لهم مكانتهم الكبيرة في التَّاريخ الثقافي للجزائر.. ونتارك القارئَ مع هذه المُحاضرة التي تعودُ إلى شهر مارس من سنة 1982، في أوَّل طبعة للمهرجان الشِّعري “محمد العيد آل خليفة”.
أصالةُ الأدب الجزائريِّ
إنَّ الأدبَ هو تصويرُ واقعِ الشعب بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. لذا فقبل الحديث عن أدب أيّ شعبٍ ينبغي معرفة التطورات التي مرَّ بها عبر التاريخ، والتيارات التي أثَّرت في تكوين عقلِیَّته، وصبغَت نفسيَّته، وميَّزت وجدانه. من هنا تجد دراسةُ الأدب الجزائري مفتاحَها في طيَّات عشرين قرنًا من الزمن عاش فيها الشعب الجزائري صراعًا حقيقِيًّا قبل أن يحقق وجوده كشعب من الشعوب التي تكوِّن الأمَّةَ العربية في إطارها الحضاري الإسلامي.
إنَّ الأدب الجزائري يمثل فرعًا من فروع الأدب الإسلامي العربي، وبتعبير أدقّ: إنَّه رافد من الرَّوافد الكثيرة التي يكون مجموعها الأدب العربي. ثم بتخصيصٍ أدقٍّ، نجد أنَّ الأدب الجزائري يختلط ويمتزج بما عُرِف بأدب المغرب العربي، هذا المغرب العربي الذي يضم إليه الأندلسَ وتختلط فيه المعالم، فنجد أديبًا من الجزائر استقرَّ في مدينة القيروان حتى غلب عليه اسم “القيرواني”، ونجد آخر من القيروان انتقل إلى تلمسان فعُرِف بـ “التلمساني”. وإذًا فإنَّنا لا نستطيع أن نلمس شيئًا من الإقليمِيَّة الضيِّقة، وإنَّما هي القومِيَّة العربية الإسلامية، والمنهج العام، ثم بعض المُدن كعلامات الطريق وسط هذا المنهج.
في مرحلةٍ لاحقةٍ، تنكمشُ فكرة التَّعميم عن الواقع لتكتفي بالبقاء في مُخطَّطٍ كبير تحلم به الأمَّةُ العربية، وتظهر الوطنِيَّات الصغيرة الخاصة بكل قُطرٍ، أوَّلاً من جرَّاء الانحطاط، وثانِيًّا بعامل الاستعمار… وهكذا نجد مثلاً لقب “الجزائري” يلتصق بـ “الأمير عبد القادر” أكثر من لقبه. و”الأمير عبد القادر” أحسن من يمثِّل الأدبَ في الجزائر خلال القرن الماضي.
شاعرُ الثَّورة والبِناء
بعد هذا تأتي مرحلة الانزواء والانطواء وظهور ما يُعرَف بالأدب الشَّعبي. ثم مع الحرب العالمية الأولى، تطِلُّ مرحلةً أخرى هي مرحلة اليقظة ومحاولة النُّهوض، وتمتاز بظهور حركة الأحزاب والجمعيات، وقد كان للشاعر “محمد العيد آل خليفة” فيها دور الرِّيادة إلى أن اشتعلت ثورة التحرير وجاء الاستقلال، فعشنا مرحلة الأدب الثَّوري.
إنَّ أهمَّ ما ينبغي أن نسجِّله في هذا المدخل هو أنَّ هناك تراثًا أدبِيًّا كبيرًا يجب أن تتَّجه إليه المجهودات لتميِّزه، ولتسهل طريق الوصول إليه هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ النهضة التي ابتدأت في مطلع هذا القرن، وبدأت تعطي الثِّمار مع اندلاع ثورة التحرير، ينبغي أن نعرف كيف نستفيد من تقاليدها لاستخدامها في استمرار الدَّفع الثوري في الحركة الأدبية حتى يظل الإبداع الفكري والأدبي صورةً صادقة لطموحات ومعاناة الشعب الجزائري، وهو المفهوم الذي أعطاه “محمد العيد” إلى رؤيته للثورة والتحرُّر. فمن هو “محمد العيد”؟
“محمد العيد”.. عائلته ونشأته
عائلة “حَمَّ علي” هي أسرة من “وادي سوف” في الجنوب الشرقي للجزائر على الحدود التونسية، ومن قرية “كِوِينِين”. أقامَت هذه الأسرة ببلدة “عين البيضاء” في أرض التَلِّ وفي منطقة جبال “الأوراس”، إذ نزَح والد الشاعر كتاجرٍ، ولمَّا تيسَّر حاله، بنَى دارًا، وأسَّس قُربها مسجدًا مَعمورًا إلى الآن – 1982- بالصلوات الخمس وتعليم القرآن.
وُلِد الشاعر “محمد العيد” بمدينة “عين البيضاء” (في 27 جمادي الأولى سنة 1322 هجرية الموافق لـ 28 أوت 1904 ميلادية. تعلَّم “محمد العيد” في مدرسة أسِّست سنة 1912 أو 1918، ويشرف عليها الأستاذ “محمد الكامل بن عزوز” و”أحمد بن ناجي الصائغي”، وهي ثاني مدرسة في البلاد الجزائرية بعد مدرسة “تبسة” التي أسَّسها السيد “عباس حمانة”. (إفادة من الشيخ زهير الزاهري.. بأنَّ مدرسة العلمة هي الأولى).
اشتهرت أسرة محمد العيد بالمحافظة.. ونشأ في الجو الديني إذا لم أقُل الصُّوفي، تحت رعاية والده، وقد أتمَّ حفظ القرآن الكريم وتلقَّى دروسًا ابتدائية في المدرسة المُشار إليها آنِفًا في “عين البيضاء”. وهذا ساعده كثيرًا لمَّا انتقل مع أسرته إلى مدينة “بسكرة” على حضور دروسٍ علمِيَّة في اللغة والفقه على الشيخ “علي بن إبراهيم العقبي” خرِّيج الزَّيتونة.
بعد سنتَين من جلوسه إلى دروس الشيخ “علي العقبي”، توفي الشيخُ، فانتقل “محمد العيد” إلى تونس سنة 1921 وشارك في امتحانٍ خوَّله حقّ الانتساب إلى السنة الثالثة من التعليم الزيتوني، وكانوا يدرسون فيها “الماكودي” إذ ذاك. واصل السنةَ الأولى تلميذًا نِظامِيًّا، وفي السنة الثانية اختار أن يشارك كمُستمعٍ حُرٍّ، وعكَف على مجموعة من الكتب الأدبية كـ “الأمالي” لأبي علي القالي، و”العقد الفريد” لأبي عبد ربه، وأغرِم بشعرِ “حافظ إبراهيم” لانسجامه وسليقته وعدم تعقيده، وأكبَّ على شعر “الرَّصافي” مُعجبًا بصدقه وحُبِّه لشعبه، كما راقته فلسفةُ “الزَّهَّاوي” واتساع دائرته، وكان في أول أمره لا يَميل إلى “شوقي” نظرًا لسمُوِّه وتعقيد شعره، ثم رجَع إليه وطالَعه من جديد، فلفَت نظرَه أمثالُ “شوقي” وحِكَمه وأخلاقِيَّاته وما فيه من المعاني الفلسفية. أمَّا “جبران”، فإنَّه إلى الآن (سنة 1968) لم يقرأ له إلاَّ شواهد عابرة في المجلاَّت مِمَّا يُبعِد مسألةَ التأثُّر به.
في سنة 1923 عاقه المرضُ العضال عن مواصلة الدِّراسة، فرجَع إلى “بسكرة”، ونفسُه مُفعمة بحُبِّ العِلم والبحث عن المعرفة، وهذا ينفي نفيًا قاطعًا ما نسبه أحدهُم من شهائد، إذ يقول: ولم يلبث فقيدنا أن شدَّ الرِّحال عام 1921 إلى جامع الزيتونة طلبًا للعلم والتحصيل، وبعد عامَين تحصَّل على شهادة التَّطويع، وعاد إلى أرض الوطن.
لست أدري من أيّ مصدرٍ أو مرجعٍ أخذ هذه المعلومات، فـ “محمد العيد” لم يتحصَّل على أيّ شهادةٍ إلاَّ شهادة العبقرية التي جعلَت (الشعر والأدب) مفتاحَه السِّحري لكلِّ مشكلةٍ وكل مُعضلةٍ، بل وكل معركة، كما يؤكد ذلك في قصيدته التي مطلعها:
أنا ابن جَدِّي وقَومي السَّادةُ العربُ — وحِرفَتي ما حَييتُ الشِّعر والأدبُ (ص 51 الديوان ط 1).
ظلَّ “محمد العيد” مُلازِمًا للمطالعة – رغم المرض وضُعف حاله وصحَّته – ولم ينقطع عن التَّحصيل والدَّرس. وقد عانى “محمد العيد” كثيرًا من هذا المرض. كما أنَّه عانى كثيرًا من الأزمات النفسِيَّة التي أثَّرَت عليه ولازمته طيلة حياته.
نظرةٌ حول المجتمع الجزائري
لا يعزب عن البال أنَّ الشاعر “محمد العيد” عُضوٌ في المجتمع الجزائري الذي عرف نهاية القرن الماضي ومطلع القرن العشرين، وإذا كُنَّا لا نستطيع هنا أن نتحدَّث عن كل ناحيةٍ في هذا المجتمع، فإنَّنا لا نغفل بعض النواحي التي وردَت في شعرِ “محمد العيد”. من هذه النواحي ثقافة المجتمع الجزائري.
لا تختلف جهات الجزائر عن بعضها البعض اختلافًا كبيرًا في الفترة بين الربع الأخير من القرن الماضي والربع الأول من القرن الحاضر، فالعلم والثقافة والمعرفة لم تكن تتجاوزُ التَّحصيل على نَصيبٍ من الثقافة الدينِيَّة المُعتمِدة على حفظ القرآن حِفظًا جيِّدًا أكثر مِمَّا تعتمد على فَهمه، و”محمد العيد” نفسه يصوِّر وضعَ المُثقَّف في مجتمعه بمقابلته مع المثقف في المجتمعات المُتطوِّرة، حيث نجد الثقافة تعني الممارسة الحضارية والسلوك حين يقول: (قصيدة التَّرحيب بالحُجَّاج ص 194 من الديوان ط 1).
ومِن سابحٍ فوق الأثير بِرَكبه — عن الرِّيش مُستغنٍ بسبعين لولبا
أشار إليه اللهُ في الذِّكر قائلا — (ويخلق ما لا تعلمون) ليطلُبا
ولكن أبينا أن نجيل عقولنا — لنكشف عمَّا ظلَّ عنَّا مُحجبا
ولم نسع سَعي الغربِ للكشف بالحِجى — عليه فلم نكسب مع الغرب مَكسبا
إذا ما رأينا الغربَ أبدى بدائعا — غايةُ ما نُبديه أن نَتعجَّبا
زيادةً على تحصيل القرآن، هناك الاهتمامُ بقواعد العربية ومبادئ الفقه والتوحيد بنسبة لا تكاد تخلو منها قرية أو بلدة، إذ يوجَد دائمًا الطالبُ الذي يعلِّم الصِّبيانَ القرآن. وهناك الإمام الذي يصلِّي بالناس ويحسن كثيرًا أو قليلاً من الفقه وأمور الدين والعربية. إلا ما شذَّ من بعض المراكز العلمية التي كانت تُعنَى حقيقةً بالثقافة والتكوين العلمي مثل زاوية الشيخ “عبد القادر المجاوي”، وزاوية “الهامل”.
وهناك ناحيةٌ أخرى هامَّةٌ أيضًا، هي ناحية الوعي الاجتماعي والدِّيني، فالباحث يستطيع أن يسجِّل من عدة ظواهر وجودَ وعيٍ اجتماعي في باطن كل جزائري، يُمثِّل أحدَ الأسباب القوية التي حافظَت على الشخصية الجزائرية، وأبقَت على الذاتية العربية للجزائري قويَّةً في أعماقه، رغم كلِّ أشكال التَّشويه والمسخ التي كانت الظروف العويصة التي مرَّت بها بلادنا تجعلها تغطي المساحةَ السَّطحِيَّة للمجتمع الجزائري. هذا الوعي الباطِنيُّ هو السرُّ الذي عجَز علماء الاستعمار ومن ساروا على منهجهم عن الوصول إليه.