«محمد بوطي».. شاعر يُفزع القتامةَ بفوانيس المعنى

شاعر يقيم ـ بروح صوفي ـ بين أنقاض يقينه، وليس من شيء لديه سوى البقاء “بفلتة منسية”، تؤلمه “الحياة بِسُمّ تكرار السؤال” ومع ذلك نراهُ ـ بلا أدنى تلويحة ـ يرنو نحو نافذة صماء فربما هو ينتظر ـ في أوْج هذا الفراغ ـ أن يطل “على صباح لم تزلْ عيناه مغمضتين”..

إنه الشاعر الجزائري محمد بوطي ـ المولود يوم 28 تشرين الثاني/ (نوفمبر) 1960 بمدينة «سيدي خالد» المحتضنة ضريح «حيزية» بطلة أعظم ملحمة غزلية في تاريخ الأدب الشعبي بالجزائر، والذي يواصل ـ بصبر المبدعين الكبار ـ محاولاته لاستخدام “القصيدة” ـ إذ ليس لديه إلا القصيدة ـ لصنع فوانيس يفزع بها الظلام، وسكاكين يقشّر بها طبقات التكلّس، على أمل أن يعود إلى سيرته الأولى “صبيا يوقد الرؤيا وينثرها” لإحداث اختراق في عوالم القتامة.

وقد يبدو للبعض أنّ «محمد بوطي» وافد على عالم الأدب حديثا، بينما الحقيقة غير ذلك تماما، لقد واكب الحركة الشعرية الجزائرية نهاية سبعينيات القرن الماضي وتابعها بشغف كبير وقرأ بعناية ـ كما أدلى بذلك في تصريح له ـ “كل إصدارات الشعراء الشباب حينها أمثال: «أزراج عمر» و«حمري بحري» و«عبد العالي رزاقي» وغيرهم…”.

وكان «بوطي» قد نشرَ قصائد بداياته الأولى على صفحات بعض الجرائد والمجلات لكنه لم يهتم بجْمع نصوصه وطبعها في كتاب، لقناعته ـ في ذلك الوقت ـ بأن تجربة الكتابة لديه لم تنضجْ بعد، وقد تمسك بهذه القناعة زاهدا في الظهور، إلى أن صدرت له مجموعته الأولى «على مرمى نداء»، عام 2017، ليتبعها بمجموعة ثانية «كمن يتوسّد ظله»، عام 2018، ثم «تلويحة لموت ٱخر»، عام 2021، وهي المجموعة التي يقول عنها «بوطي» إن كل نصوصها “تمثلني.. تكتبني بحالاتي المختلفة، المتألقة في تناقض، المتقاربة في تباعد.. كل انتصاراتي منهزما وكل هزائمي هازئة بما حولي.. كل أوقاتي مجتمعة في أحايين مختلفة”.

روح زوربوية

وتضم مجموعة ـ «تلويحة لموت ٱخر» ـ 17 قصيدة منها القصيرة والطويلة، وجميعها من شعر التفعيلة، موزعة على 108 صفحة من الحجم المتوسط، وقد قدم هذه المجموعة الناقد والإعلامي «نور الدين لعراجي» في تقرير صحفي له افتتحه بوصف لغلاف الكتاب الذي أبدعه الفنان الجزائري «زبير فارس» حيث رسم صورة ليد بشرية تمتدّ في الأفق بلون أبيض ناصع، يتوسّطها أعلى الأنامل قرص شمس تستعدّ للمغيب ونورسان يطيران إلى موطن آمن قبل حلول الظلام.

كثافة شعرية بلغة لها كيمياء خاصة

وقد سبق للشاعر والناقد والأكاديمي «محمد الأمين سعيدي» أن قال بأنّ “شيئا من روح الزوربوية (نسبة لـ«زوربا» اليوناني) في قصائد الشاعر الجزائري “محمد بوطي، برمزية أخرى كأنه آدم يواجه العالم وأشياءه المتعدّدة تجلياتها، كما لو كان يراها لأول مرة، وهذه في الحقيقة ميزة اتصف بها الرؤاة من الشعراء الذين يحفرون في تفاصيل الشيء لينتجوا معنى آخر، رؤية مغايرة، ومنظورا مختلفا إلى الوجود، وإذْ لا يمكن حصر نصوص «محمد بوطي» في قصيدة التفاصيل إلا أنه بارع في توصيفها لاستخلاق معنى آخر دائما”.

واستشهد «الأمين سعيدي» بمقطع لـ«بوطي» يقول فيه:

“يسحب أسماله كالدراويش..

هذا الصباح الذي لا يغير قمصانه

لا يغير جوربه منذ شهرين

هذا الصباح الذي لا يمرّر فرشاته فوق قواطعه الصُفر”..

ويعلق «الأمين سعيدي» حول هذا المقطع معتبرا أنه تضمّن هدمًا لمعنى الصباح برمزياته الدالة على البشرى والأمل، فالشاعر (محمد بوطي) جعله رتيبا مملا “لا يغيّر جوربه منذ شهرين”، هو الصباح العفن تحديدا.

هنا نتساءل ـ يضيف «الأمين سعيدي» ـ لماذا صار الصباح هكذا في رؤية الشاعر؟ بل السؤال: متى يكون الصباح برمزياته من الفرح والابتهاج؟ ويخلص الناقد إلى أنه أصبح واضحا “الآن أن الشاعر يتحدث أن أشياء كثيرة كالرتابة والملل، لكنْ، ثمة أمور أخرى يقولها النص أو لا يقولها، بما يحيل لثقافة متخلفة وحياة رجعية منعادة وأفكار مجتمعية خانقة لحرية الفرد، لهذا يغدو الصباح مملا، ولهذا أيضا ذهب الشاعر إلى نقيضه”.

كثافة شعرية بلغة لها كيمياء خاصة

من جانبه يشير الشاعر «رفيق طيبي» صاحب «دار خيال» التي نشرت مجموعة «تلويحة لموت ٱخر» إلى أن قارئ «محمد بوطي» يطمئنّ أن الشعر العربي بخير ويتحقّق من أن المدونة الجزائرية تزخر بنصوص حداثية تكسر السائد وتُحقّق دهشة لا حدود لها، ذلك أن «بوطي» يراهن على كثافة شعرية ولغة لها كيمياء خاصة تبهر المتلقي وتدخله فضاءات شعرية ورؤيوية غير معهودة.

أما الدكتور والشاعر «مشري بن خليفة» فيصف «بوطي» بأنه “واحد من الشعراء الذين استطاعوا أن يقدموا نصوصا تتميز بالإضافة والاختلاف، فهو شاعر حقيقي غيّبه النقد وأبعدته المنابر الشعرية التي أصبحت محتكرة، إلى جانب أنه (بخيل) في ظهوره ولا يريد أن يزاحم، إنه يشتغل شعريا في صمت”، أما الشاعر «ميلود خيزار» فيقول إن “محمّد بوطي صوت شعري مهم لولا تلك الذاكرة التي تحجب الرؤية لدى قارئ صنعته منظومة (مفلسة)”.

ولد محمد بوطي بمدينة سيدي خالد التابعة إداريا لولاية «أولاد جلال» الفتية، في 28 نوفمبر 1960، وقد التحق بالكتّاب في سن الرابعة، ثم بالمدرسة الابتدائية وبقي يزاول الدراسة في الحالين معا، وقد تلقى تعليمه المتوسط بإكمالية «الشيخ النعيمي» بأولاد جلال ثم الثانوي بمدينة بسكرة، ليلتحق بعدها بمركز التكوين الإداري بالجزائر العاصمة حيث تلقى تكوينا نوعيا في الإدارة والتسيير، كما توجّه بعد ذلك لأداء واجب الخدمة الوطنية.

وإثر تخرجه باشر وظيفته كمسيّر في مجال التعليم بمسقط رأسه ـ سيدي خالد ـ عام 1984، وكان منذ البداية محبا للقراءة ميالا للشعر شغوفا بطرح الأسئلة ومندفعا بشدة نحو مواطن الجمال، حيث يصبح الصمت أعلى بلاغة من اللغة، ما جعلَ محمد بوطييدرك ـ دائما ـ من خلال إحباطاته وخيباته المربكة ـ وفق تعبيره ـ أن ثمة ما عليه قوله ولو بصوت مبحوح، إنه على نحو ما يحاول أن ينطق عما سكتَ من اللغة، وذلك لإحداث رجّات ورجّات ثم شروخ جديدة في أفق الرؤيا، ليجد منفذا نحو حلمه الشخصي وحلم الآخر الذي لم يبلغْ مرحلة الحاجة للحلم بعد.

العزلة مقام الشاعر

إن الشاعر ـ يضيف بوطي ـ إذ يصطدم بواقع لا يستوعب رؤاه الكبرى لن يكون أمامه سوى فسحة الحلم التي سيحرّر بها طاقاته الداخلية لمجابهة الفراغ وانكسار الذات، وهذا ما يشبه محاولة إشعال فانوس لإفزاع الظلمة وفسح المجال للسؤال الوجودي عن سبب الألم وعما إذا كان الواقع أفضل من دونه، ويفسر «بوطي» هذا المعنى بقوله: “من لا يحظى بعافية الواقع يسعى بفداحة لخلق واقع مواز، وهكذا يكون مدفوعا أكثر أو مضطرا لزحزحة الوجود وأحيانا إلى هدمه (تفكيكه رمزيا لعدم ملاءمته) وإعادة بنائه تخييلا (كتصوّر مدرك) بطريقة تناسب تصورات يراها ـ من خلال إدراك بالغ ووعي لا يقبل احتمالات مضادّة ـ أنسب للحال القائم، لكن هذا لا يعني حزن (الأنا) وحده بل ذلك الوجع المشترك حتى مع المختلف.

العزلة مقام الشاعر

ويعتبر «بوطي» في حديث مع موقع «أيام نيوز» ـ حول ابتعاده عن الساحة الأدبية في الجزائر ـ أن الفعل الثقافي العام حافز إضافي يدفعُ الإبداع إلى التماهي والتجدّد والتطور أكثر فأكثر، وقد يكون دافعا للتنافس والاستفادة من تجارب الآخرين والاحتكاك بهم، لكنّ «بوطي» ـ بالمقابل ـ لا يوافق على أن الانخراط في الشأن الثقافي العامل الوحيد المحدث للأثر الكبير داخل العملية الإبداعية، إذ أن ـ يضيف المتحدث ـ الحراكَ الإبداعي الحقيقي الذي يمكن أن يولّدَ نصا حقيقيا هو الحراك الشخصي من خلال المحاولات الدائمة لتكوير الذات.. “الإصرار على امتلاك نواصي المعرفة وتكوير المدارك.. مواكبة الفعل الثقافي باتساع أفق مظاهره ومجالاته العديدة المتعددة.

ويختم «بوطي» قائلا: “على المبدع ألا يتكئ على فكرة السعي لملئ الفراغات بما يراه صائبا في الواقع، بل عليه أن يطرح الأسئلة الكبرى المزلزلة، أن يفتح بابا لعبور الفلسفة، أن يفضح ما يبدو ظاهريا مستورا، أن يكشف ما يبدو متماسكا، أن يظهر العيوب أن يعري الأشياء، أن يكشف عورات البداهة، ذلك أن العزلة مقام الشاعر في بيت الفلسفة”.

ليس للطّريق.. مأوى / شعر «محمد بوطي»

ولأنّهم يعاملونني كعابر لا يعود

من اليباس إلى اليباس

ولا يملكون الوقت لوداعي

ها أنا.. فلتةً بعد فلتة

أنزع الأشواكَ من كفّ ورقة الصبّار

هل كان علَيّ تركُها عاريةً بلا دفن؟

تجاوزتُ المفترق الآن

أعبرُ…

نحو الشّمس العموديّة

أعبرُ مستقيما كالسّهم

ماذا يفيد أن أبقى

ما دامت العضّاضَةُ واحدة!

***

تشُدُّني الوحدةُ

كما تفعل امرأةٌ مثيرة وغامضة

كما تفعل موجةٌ

وهي تحترف العودةَ للشّاطئ

بعد أن تندسّ تحت جلد الماء

كما يفعل النَّـسرُ..

جسدًا يصَّاعَدُ إلى الأعلى

سأزحف مقلّـدا النَّسرَ

سأفتح لي طريقا بين الثُّـلوج

وفي المساء فقط

أخبر الماء عن العطَش

عن ليلة صيف كهذه…

منسـيّة وبعيـدة

دَفَنَتْ آخرَ قطرة

كانت ستبلّل روحي

***

هل ترون القمرَ شاحبًا مثلي!

قطرة قطرة

ينزل باردا كما أراه

لم أقل شيئا حينها

وأنا الذي… لديّ من الضّجيج

ما يكفي للموسم القادم

كنت أخشى

أن يتّـهمني صديقي الصّمتُ بالخيانة

***

أعبر… من بئس الطّريق

إلى بؤس الحياد

 إلى صديد الفلتات الحامضة

مفردٌ…

وساعي البريد تأخّـر كالعادة

لديّ نبوءات متأخّـرة

ومثالبُ خجلى

وفي فمي بعضُ كلمات ميّـتة

لا زلتُ أعجَزُ عن دفنها.

***

عَبرتُ المفترق

هل هناك طريق آخر

أريد أن أطعم شجيرات الشّـيح أصابعي

أطعم قلبي عصارة البريّة

خلاصة العافية اليَقِـظة

ما تقاطر من رذاذ نجميٍ

فُتاتَ نيزك مرتطم بالجليد

باردا ومضيئا

هل ترون النّـجم باردا مثلي

أيّـتها اللغة العالقة بالدّاخل

لا تبرحي الآن

لعلنا نتسلّق صباحا آخر

في طريق لا يعود لبدئه

علي مغازي - الجزائر

علي مغازي - الجزائر

كاتب صحفي في موقع الأيام نيوز

اقرأ أيضا