محور الجزائر – روما.. وجاهة القرار وحتمية الخيار

عندما قرر الرئيس الجزائري «عبد المجيد تبون» تجميد “اتفاق الصداقة وحسن الجوار” مع مدريد ـ على خلفية إخلال حكومة « بيدرو سانشيز» بالتزامات الدولة الإسبانية حيال الملفات ذات الاهتمام المشترك بينيًا وإقليميا، خاصة ملف الصحراء الغربية، بصورة منافية للأخلاق والأعراف الدبلوماسية، ومخالفة للشرعية الدولية التي تفرض على إسبانيا تحمّل مسؤولياتها كطرف مدير لملف الأزمة ـ حينها راهن الإسبان، على حتمية فشل القرار الجزائري، في أمد أقصاه 24 شهرا، بحجة أن الجزائر لا يمكنها الاستغناء عن إسبانيا، خاصة بعدما تشابكت العلاقات الاقتصادية عموما، والتجارية على وجه الخصوص.

وها نحن على مشارف العام الثاني منذ تاريخ قرار التجميد العلاقاتي، لا يزال الوضع الميداني معلقا كما بدأ، وعليه، يكون الجانب الإسباني قد أساء التقدير مرتين:

–        عندما قرر تغيير مواقفه التاريخية فجأة، مستخفا بما قد يصدر من رد فعل جزائري.

–        عندما أظهر عدم اكتراثه للقرار الجزائري حيال مدريد والذي اعتبره مجرد سحابة عابرة.

إلا أن الجزائر وطوال هذه الفترة، ظلت تبحث عن بدائل أكثر مصداقية وأوضح موقفا، مدركة في الوقت ذاته، بأن مجرّد التفكير في فتح حوار مع مدريد يُعد مضيعة للوقت وتشتيتا للجهد، ولذلك كان لا بد من استغلال الوضع فيما هو أفيد للبلد، وذلك في ظل “التهامس” الأوروبي حول استبدال الغاز الروسي بالغاز الجزائري، لقرب مصدر هذا الأخير جغرافيا من القارة العجوز، وما يترتب عنه من امتيازات مالية لا مجال لمنافستها، خاصة عبر بوابة إيطاليا الممددة في قلب المتوسط والمؤهلة للعب دورها الاستراتيجي طاقويا بصورة فعالة ومسؤولة.

روما المنتفضة

لقد ظهر البديل الايطالي في الوقت الحاسم إذا، خاصة بعد صعود حزب اليمين المتشدد ـ إخوة إيطاليا ـ بزعامة السيدة “جورجيا ميلوني” التي أظهرت رفضها للسياسات الأوروبية اتجاه بلادها، خاصة ما تعلق بملفات الهجرة غير الشرعية، والتي تركت إيطاليا تصارع لوحدها في مواجهة الوضع الصعب لقوارب الموت وقوافل المهاجرين “الانتحاريين” من الضفة الجنوبية للمتوسط، مرددة في كل مرة بأن فرنسا تقوم بسرقة اقتصاديات أكثر من أربعة عشر بلدا إفريقيا مصدرا للهجرة غير الشرعية، من دون أن تساهم بأي شيء للتكفل بالمهاجرين دعما لإيطاليا.

السيدة «ميلوني» اعتبرت ـ  في الوقت ذاته ـ أن إيطاليا هي ساق أوروبا ورِجلها التي توكأت عليها في بناء النهضة الأوروبية الحديثة، وقدمها التي ركلت بها العالم يوم كانت كل الطرق تؤدي إلى روما، مردفة بأن أوروبا بقيادة فرنسا، كانت قد تخلت عن إيطاليا في عزّ محنتها، وتركتها تعاني لوحدها بين فكّي وباء قاتل مدمر لا يرحم (كوفيد 199 والذي كان قد خيم رعبه على إيطاليا قبل أن يزحف بعد ذلك ويعم أوروبا والعالم، حتى بلغت “الوقاحة” ببعض الـ”بلاطوهات” الإعلامية الأوروبية إلى الغوص في مزبلة التاريخ الإيطالي، وتقديم الطليان على أنهم الشعب الأقل نظافة والأدنى تحضرا في الفضاء الأوروبي، ولذلك قد أصابهم ما أصابهم، مذكرين العالم بأحق توصيف: إفريقيا تبدأ من نابولي.

المنطق الإيطالي الجديد

وهنا، استوقفت”جورجيا” التاريخ وأكدت على أن الشعب الإيطالي لا يمكن أن ينسى تلك الحملات التهكمية القذرة، والتي دفعته إلى تغيير الكثير من المواقف والقناعات، انتقاما لكرامته الجريحة في ذلك الظرف التاريخي العصيب، متسائلا بكل حسرة وأسى، أين الإتحاد الأوروبي وأين التضامن والتعاضد والتآزر والتآخي؟ أين الشعارات التي طالما فاخر بها دعاة الوحدة الأوروبية العالم، وسخروا من تشتت الأفارقة والعرب، أم أن الاتحاد لا يكون إلا لزرع الفتن وإشاعة الحروب ودعم شذاذ الآفاق هنا وهناك عبر العالم؟

وعلى الرغم من مرور أكثر من عام عن تلك الفترة الحرجة، لا تزال إيطاليا تشعر بالعزلة الاجتماعية/السياسية، زادها عزلة صعود اليمين المتشدد إلى سدة الحكم، والذي أحدث “صدمة” ـ بوصف الإعلام ـ عبر كامل أوروبا، ولذلك كان لزاما على زعماء إيطاليا الجدد، فرض الأمر الواقع باستعادة المجد الإيطالي المفقود، وذلك بتحويل إيطاليا إلى بوابة طاقوية رئيسية بالنسبة لأوروبا، سواءً بالنسبة للطاقات التقليدية أو الطاقات المتجدد الخضراء.

وحتى تفرض منطقها وتستعيد دورها الريادي، لا بد لها من حلفاء خارج الفضاء الأوروبي، وهنا لن تجد لها أفضل من الجزائر حليفا استراتيجيا للتمون بالطاقة اليوم وغدا، وعلى هذا الأساس، كانت الوجهة الجزائرية أكثر من مطلوبة من قبل الطليان، فلذلك كانت الزيارة الأولى لـ”جورجيا ميلوني” رئيسة الوزراء، خارج البلد وجهتها الجزائر، حيث قامت بالتوقيع على خمس مذكرات “شراكة وتعاون” في عدة قطاعات اقتصادية واجتماعية، مع الرئيس “عبد المجيد تبون”، إضافة إلا ما هو متفق عليه من قبل:

  • توقيع الشركة الوطنية للمحروقات «سونطراك» ومجموعة الطاقة الإيطالية «إيني» على مذكرتي تعاون، تتعلق الأولى بتعزيز قدرات نقل الغاز، والثانية بالحد من انبعاث الغازات المحترقة من خلال حلول تكنولوجية متطورة.
  • كما وقع مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري، أكبر منظمات أرباب العمل بالبلاد، مذكرة تعاون وشراكة مع اتحاد الصناعة الإيطالي «كونفيندوستريا».
  • إضافة إلى ذلك، تم توقيع مذكرة تعاون بين وكالتي الفضاء في البلدين، موجهة للأبحاث والأنشطة السلمية.
  • كما تم توقيع مذكرة في شكل إعلان مشترك بمناسبة الذكرى العشرين لتوقيع معاهدة “الصداقة وحسن الجوار” بين البلدين التي كانت قد عرفت الوجود العام 2003.

نقلة نوعية

كما كان الرئيسان ـ الجزائري والإيطالي ـ قد أوضحا للصحافة العالمية، بأن الجزائر من جهتها حريصة على موقعها كشريك طاقوي استراتيجي لإيطاليا، وأن التقارب في وجهات النظر والرؤى حول كبريات القضايا في العالم والأزمات، يعتبر مؤشرا إيجابيا لتعزيز التعاون أكثر في المستقبل.

من جهته، أكد الرئيس «تبون» بأن التبادل التجاري بين البلدين، قد حقق نقلة نوعية، حيث بلغ حجمه 16 مليار دولار في العام 2022، بعدما كان 8 مليارات دولار فقط عام 2021، ولذلك تسعى الجزائر أن تجعل من إيطاليا مركزًا متوسطيًا وأوروبيًا للغاز، في إشارة إلى إنشاء خط أنابيب جديد يربط عنابة بسردينيا، لنقل الغاز والهيدروجين والأمونياك والطاقة الكهربائية.

وكان الرئيس «تبون» قد قام سابقا بزيارة دولة إلى إيطاليا بحر شهر ماي 2022م، ثبَّت من خلالها عرى التفاهم الاستراتيجي بين الجزائر وروما، وهو الخيار الذي اعتبره المحللون مدخلا إلى مدّ حبل الوصال السياسي مع المنطقة الأوروبية عبر إيطاليا بدل فرنسا، في تحوّل مقصود لبعث رسالة واضحة تتضمن طمأنة الشركاء الأوروبيين بسيادية القرار السياسي الجزائري في علاقاتها الإقليمية والدولية، وذلك بالتزامن مع ما حصل من توترات سياسية واقتصادية إزاء كل من باريس ومدريد، في مسعى صريح لإعادة ترتيب مساحات القرب والاهتمام لشركائها الاقتصاديين، بناء على ما تفرضه المصالح الاقتصادية الداخلية للبلد.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
تتويج الجزائرية باداش بلقب الدورة الدولية للتنس لبنان.. 18 شهيدا و38 مصابا جراء عدة غارات صهيونية درجات حرارة قياسية عبر 10 ولايات التجارة الإلكترونية في الجزائر.. تجربة التسوّق بنقرة واحدة صواريخه أفقدت "إسرائيل" صوابها.. حزب الله يجرّ العدو إلى الجحيم الجبلي نداء من المكتبة الوطنيّة الفلسطينية.. من يحمي الذاكرة من الإبادة الثّقافية في غزّة؟ وفق هندسة معمارية تضمن الاستدامة.. معايير جديدة للإسكان في الجزائر أعطوه ناقوس الخطر ليدقّ عليه.. رواية "الملف المطوي" تصدم الملك المغربي السفير الصحراوي: قرار المحكمة الأوروبية كشف حقيقة الاحتلال المغربي بوغالي يدعو المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم ضد الانتهاكات الصهيونية استرجاع ما يقارب 90 مليار سنتيم.. شرطة المغير تطيح بشبكة إجرامية عابرة للحدود يسبب نوبة صرع أو غيبوبة أو حتى الوفاة.. طبيب يحذر من الإفراط في شرب المياه مجلس الأمن قلق بشأن استهداف بعثة “يونيفيل” في لبنان ندوة دولية في نيويورك.. البرلمان الجزائري يدعو العالم إلى نصرة الشعب الصحراوي وزارة العدل تفتح باب التوظيف بتكليف من قوجيل.. الجزائر تستضيف ندوة حول قضية الصحراء الغربية وزيرة الثقافة تزور متحف الأردن وتستكشف تاريخه بسبب خسارة مالية كبيرة.. "بوينغ" تُخطط لتسريح 17 ألف موظف شبيهة بالبشر وتحتفل مع الضيوف.. تسلا تكشف عن روبوتات “أوبتيموس” هذا برنامج سير رحلات القطار على خط الجزائر – زرالدة