بعد أكثر من خمسة وسبعين يوما عن اندلاع غزوة “طوفان الأقصى”، وتواصل عمليات الذبح وارتكاب العصابة الصهيونية الإرهابية القاتلة المجازرَ بحق المدنيين العزل، أطفالا ونساء وشيوخا ورضعا، على مرأى ومسمع من العالم، بل وبدعم وتأييد من لدن الأنظمة الغربية “الحرّة”، وكذا بعض الأنظمة العربية الموصوفة بـ”المعتدلة”، في خيانة واضحة للضمير الإنساني، وفي قتل صريح للقيم والأخلاق التي جُبلت عليها البشرية السوية منذ بدء الخليقة؛ وفي خضم ذلك كله، تمكنت المقاومة الشريفة الباسلة من فرز المواقف وزبر الآراء بصورة واضحة لهؤلاء، وفاضحة لأولئك.
ذلك أن غزّة، اليوم، وبحفنة من فحولها، قررت خوض معركة أسطورية أقرب للخيال منها إلى الواقع، نيابة عن أحرار الأرض وشرفاء العالم، لتتحول من مجرد حراك مقاوماتي معزول جغرافيا، منسي جماهيريا، ممل إعلاميا ومحاصر سياسيا، إلى ملحمة كونية عارمة عابرة للجهات والأوطان، تجاوزت أصداؤها أفق الزمان وحدود المكان. ففي المكان يكون امتدادها قد بلغ الأركان الأربعة للكرة الأرضية، وجنّد للقضية أنصار في كل الأقطار والمدن العالمية، حتى في أمريكا ذاتها والعواصم الغربية والأوروبية المتصهينة، رغم حملات الترهيب وعمليات الاعتقال وإجراءات المحاصرة وسياسات التضييق هنا وهناك وبتوصيفات شتى وتعاريف شتات. وأما في امتدادها الزماني، فإن مستقبل وجه العالم بعد غزة لن يكون بالملامح نفسها التي عهدها الناس قبلها، فقد سقطت الأقنعة وذابت المساحيق واتضحت الرؤية، ولم يعد هناك مجال للمناورة والمخادعة والنفاق.
في الوقت نفسه، وعلى الأديم ذاته، يخوض مسوخ الكيان الصهيوني معركة قذرة وحربا غادرة نيابة عن زناة التاريخ وغلاة الاستعمار، الإمبرياليون الجدد الحالمون بزمن السوط و”البوط” والصولجان، بكل عنجهية وصلف وطغيان.. لحدِّ أن البشرية لم تشهد أفزع ولا أفجع مما يحدث في غزّة الآن، على أيدي عتاة الجريمة أبالسة الزمان؛ من قتل وحرق وقصف وتدمير وتصفية وسحق وإعدام.. بلا هوادة ولا رحمة ولا ضمير، وهم يقصفون المشافي والمساجد والكنائس والمعابد والأحياء الآهلة بالسكان، إلا أن المشهد المروع الذي لم يترك شيئا أقبح للشيطان، هو قيامهم بجرف جثث الموتى وطحن الجرحى وطمرهم أحياء تحت سلاسل الآليات المجنزرة والدبابات المدرعة، في سابقة إرهابية لم يعرف لها العالم نظيرا على مرّ التاريخ.
وعليه، فإنّ الصهاينة اليوم، وهم بصدد استنساخ الفظائع الاستعمارية التي ارتكبتها القوى الغربية بحق الشعوب العربية والشعوب الحرة، تكون غزّة قد فضحت سياساتهم الاجرامية وعرّت وجوههم القبيحة، وحجّمت هالتهم الخادعة التي طالما سوّقت لها الآلة الإعلامية المتصهينة الفاجرة، على أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها الكيان الأكثر تقدما وازدهارا.. وترهات لا تنتهي من الأكاذيب والمغالطات التي، وبكل أسف، وجدت لها في الوطن العربي أنصارا وتبعا، ومروجين ومتاجرين أبدعوا في جلد الذات العربية، في إشهار مجاني لنموذج الكيان الصهيوني.
“النموذج الحضاري” الذي، وعلاوة على احتلال الأرض وقتل المدنيين وترويع الآمنين، قامت قواته خلال الأيام الأخيرة بإجبار مئات النازحين الذين لجأوا إلى مستشفى “كمال عدوان” شمالي قطاع غزّة على المغادرة، وإخراج جميع المرضى والجرحى والطاقم الطبي وحشرهم في ساحة المستشفى، بدعوى أن حركة المقاومة “حماس” تستخدم المستشفى “مركزا للقيادة والتحكم”، وهي التهمة الواهية التي تلتها اعتقالات مست أكثر من ثمانين “مقاتلا” قبل مغادرة المكان مساء يوم السبت، وهم المقاتلون الذين ليسوا في الحقيقة سوى جزءا من الطاقم الطبي العامل داخل المستشفى.
وقد روى شهود عيان كيف دخل الجنود الصهاينة وداهموا المبنى، واقتادوا جميع الموظفين بصورة شنيعة عنيفة ومستفزة، لم تستثن حتى المصابين الجرحى، ثم عمدوا الى استعمال العنف والقوة المفرطة بلغت حد جرف مدنيين أحياء ودفنهم تحت الأرض، بشكل وحشي وغير إنساني، رغم نداءات الاستغاثة والترجي التي كان يطلقها المصابون والمسعفون في أرجاء المستشفى.
كما عمدت قوات صهيونية أخرى إلى إطلاق الكلاب وتحريضها على الأطقم الطبية والنازحين بالمستشفى المذكور، حيث راحت تنهش أجساد الجرحى بكل وحشية وحيوانية، أدت في كثير من الحالات إلى استشهاد مصابين تعرضوا للعض والنهش بسبب هجمات الكلاب الشرسة.. كما صُرّح به خلال مؤتمر صحفي عقده المدير العام لوزارة الصحة مع المدير الطبي لمستشفى “كمال عدوان” في باحة المستشفى، وهو المؤتمر الذي تعرض لعمليات إطلاق نار من طرف جنود صهاينة مرابطين داخل بنايات محيطة بالمستشفى، والتي أدت إلى إصابة العديد من المشاركين في المؤتمر الصحفي؛ من رجال إعلام ورجال إغاثة ومسعفين، إلى الطاقم الطبي المعالج والجرحى المصابين، مما اضطرهم إلى نقل المؤتمر إلى داخل المستشفى مرة أخرى.. في حين، أطبقت القوات الصهيونية حصارها على المستشفى، وأكملت ما قامت به من جريمة بحق المدنيين، من سحل وسحق وطحن تحت عجل الآليات، وطمر ودفن للأحياء والأموات.
على هذه الصور المفزعة المرعبة، يتلقى الكيان الإرهابي الدعم والمساندة، حتى لا نقول التحية والتهنئة، من قبل أنظمة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ويُفَعَّلَ حق النقض وتقمع المسيرات وتُكتّم الأصوات الرافضة للجريمة، ويحاكم المناوئون وتفرض عليهم الأحكام والعقوبات.. إنه الخلل الذي يحكم القانون الدولي، أو هو الزلل الذي يحكم العالم ويتخذه الكيان الصهيوني درعا متينا للتخفي والإفلات من العقاب.. بالنهاية؛ ظل الاعتقاد راسخا بأن غزّة محتلة وعلى العالم التحرك لتحريرها، لكن ظهر أنّ غزّة حرّة والعالم كله يرزح تحت نير الاستعمار الصهيوني المدمر، والذي يقود البشرية إلى الخراب.