مدن تتحول إلى مقابر.. من يكتب الفصل الأخير في مذابح الساحل السوري؟

وسط دوي القذائف وصدى الانفجارات، يرتفع صوت الألم والمعاناة من المدن السورية الساحلية، حيث شهدت الأيام الأخيرة واحدة من أكثر المجازر دموية في تاريخ البلاد الحديث. عائلات بأكملها أُبيدت، والمنازل تحوّلت إلى مقابر لسكانها، وبينما تنتصر القوى الكبرى لحساباتها الاستراتيجية، يبقى المدنيون هم الحلقة الأضعف، يُقتلون بلا ذنب، ويُهجّرون دون أن يلتفت إليهم أحد، ليبقى التساؤل مفتوحًا: من يقف وراء هذه الفظائع، ومن المستفيد من إذكاء نيران الطائفية، وهل ستتحوّل هذه المجازر إلى محطة أخرى تُطوى في أرشيف المآسي السورية، أم أنها ستغير مسار الصراع وترسم ملامح مرحلة جديدة أكثر دموية؟

أكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن عائلات بأكملها، بمن فيهم نساء وأطفال، قُتلت في موجة العنف الأخيرة التي اجتاحت المنطقة الساحلية السورية. وأوضح متحدث باسم الأمم المتحدة للصحفيين أن المنظمة وثّقت حتى الآن مقتل 111 مدنياً منذ يوم الخميس الماضي، إلا أن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى بكثير. وأضاف أن “العديد من الضحايا سقطوا في عمليات إعدام ميدانية، يبدو أنها نُفذت بدوافع طائفية، حيث استُهدفت المناطق ذات الغالبية العلوية على نحو خاص”.

وُجّهت اتهامات إلى مسلحين مدعومين من الحكومة، يقودهم متطرفون، بارتكاب “مجازر انتقامية” عقب كمين لدورية أمنية نصبه موالون للرئيس السابق بشار الأسد، وهو من أصول علوية. ووفقاً لمنظمات حقوقية، فقد لقي أكثر من 1200 مدني حتفهم في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص، معظمهم من أبناء الطائفة العلوية. وفي هذا السياق، رحّبت الأمم المتحدة بقرار رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، تشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.

ليست مجرد فوضى عشوائية

ويرى مراقبون أن المجازر التي شهدها الساحل لم تكن مجرد فوضى عشوائية، بل جاءت نتيجة مخطط مدروس، حيث تم الدفع بمن يُسمَّون بـ”المجموعات غير المنضبطة”، وهم جزء أساسي من القوى التي سيطرت على سوريا بعد سقوط الأسد. تم توجيه هؤلاء إلى المنطقة الساحلية تحديداً، نظراً لكونها موطناً لعدد كبير من القادة العسكريين والأمنيين السابقين، مما جعلها مصدر قلق للسلطة الجديدة.

وتُعد هذه الأحداث الأكثر دموية منذ أن قاد الشرع الهجوم العسكري الذي أطاح بالأسد في ديسمبر، منهياً حرباً أهلية استمرت 13 عاماً وأودت بحياة أكثر من 600 ألف شخص. ويُشكل الساحل الشمالي الغربي لسوريا، المطل على البحر الأبيض المتوسط، معقلاً للطائفة العلوية، التي كانت تحتل مواقع بارزة في النظام السابق، وهو ما جعله هدفاً مركزياً للجهات التي سعت، بدعم غربي وتركي، للإطاحة بنظام الأسد عبر مجموعات مسلحة نشطة في المنطقة.

أردوغان يُدير ظهره

وفي هذا السياق يبرز الدور التركي بوضوح، حيث لم تكتفِ أنقرة بالتزام الصمت إزاء المجازر الجارية، بل واصلت تقديم دعمها للفصائل المسلحة الناشطة في الساحل. ويرى محللون أن تركيا لم تغضّ الطرف فحسب، بل لعبت دوراً رئيسياً في تحفيز تلك الفصائل لمعاقبة المنطقة الساحلية، في رسالة واضحة لمن يفكر بالانفصال عن دمشق أو إعادة التمركز خارج السيطرة التركية.

ويعزز هذا الطرح الاندماج التدريجي للفصائل المسلحة المنخرطة في العمليات الأخيرة ضمن “الجيش الجديد”، الذي يُنظر إليه كامتداد مباشر لما يُعرف بـ” الجيش الوطني السوري” الخاضع للإدارة التركية. وعلى الرغم من أن الساحل السوري لم يكن في مقدمة المناطق الساعية للانفصال، بل يُعتبر الحلقة الأضعف في المعادلة السورية الجديدة، إلا أن أنقرة ترى فيه مفتاحاً استراتيجياً لترتيبات ما بعد الأسد، خاصة في ظل المشاريع الانفصالية الأكثر إلحاحاً في الشمال الشرقي والجنوب.

ورغم هول المجازر الدامية ، اختار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يدير بصره بعيداً عنها، منصرفاً إلى التحذير مما وصفه بـ”مؤامرة تُحاك ضد بلاده”، محذّراً من “كمين قذر” يهدف إلى زعزعة استقرار تركيا. وفي كلمة ألقاها أمام الكتلة البرلمانية لحزبه “العدالة والتنمية” في أنقرة، قال أردوغان: “لسنوات، سعى البعض إلى زرع الفتنة الطائفية والعرقية بين الأتراك والأكراد، بين العلويين والسنّة، والآن يحاولون إشعال نار الفوضى في سوريا عبر مخططات خبيثة تهدف إلى تمزيق نسيجها الاجتماعي”. كما زعم أن هناك قوى خفية تحاول تصدير هذا الصراع إلى الداخل التركي عبر ما أسماهم “فلول وأنصار النظام السوري السابق”.

ساحات انتقام وحشية

في الأسبوع الماضي، أطلقت قوات الأمن التابعة للحكومة الانتقالية عملية عسكرية في المنطقة، رداً على عمليات نفّذها موالون للأسد. وتصاعد العنف يوم الخميس إثر كمين دموي أسفر عن مقتل 13 عنصراً أمنياً في مدينة جبلة الساحلية، ما دفع قوات الأمن إلى إرسال تعزيزات عسكرية واسعة النطاق، مدعومة بمجموعات مسلحة وعناصر موالية للحكومة الانتقالية، التي تتحرك وفق التوجيهات التركية، وسط تزايد الاهتمام الإقليمي بما يجري في سوريا.

ومع انتشار القوات، تحولت المدن والبلدات العلوية إلى ساحات انتقام وحشية، حيث أفاد السكان بأن المسلحين نفّذوا عمليات قتل جماعي ونهبوا المنازل والمتاجر. وأعرب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن قلقه الشديد إزاء تصاعد أعمال العنف، حيث أكد المتحدث باسمه، ثمين الخيطان، أن التقارير التي تصل إلى الأمم المتحدة ترسم صورة قاتمة عن حجم المجازر المرتكبة.

وأوضح الخيطان أن الأمم المتحدة، باستخدام أساليب تحقق صارمة، وثّقت حتى الآن مقتل 90 رجلاً، و18 امرأة، وفتاتين، وصبي واحد، مشيراً إلى أن الأرقام الفعلية قد تكون أكبر بكثير. وأضاف أن الأدلة تشير إلى أن هذه الهجمات نفذتها “جماعات مسلحة يُزعم أنها تدعم قوات الأمن التابعة للحكومة الانتقالية، بالإضافة إلى عناصر مرتبطة بالنظام السابق”.

مذابح في البيوت والمستشفيات

وفي مشاهد صادمة تكررت مراراً، قُتلت عائلات بأكملها بدم بارد، حيث اقتحم المسلحون المنازل وسألوا السكان عن طائفتهم، قبل أن يقرروا مصيرهم بناءً على هويتهم. ونقل الناجون شهادات مروّعة عن رجال أُعدموا رمياً بالرصاص أمام أعين عائلاتهم، وسط صرخات أطفال فقدوا آباءهم في لحظات من الرعب المطلق.

ولم تتوقف المذابح عند البيوت، بل امتدت إلى المستشفيات. فقد أفاد الخيطان بأن موالين للأسد اقتحموا عدة مستشفيات في اللاذقية وطرطوس وبانياس، مما أدى إلى اندلاع مواجهات دامية مع قوات الأمن، أسفرت عن سقوط عشرات الضحايا، بينهم مرضى وكوادر طبية، إضافة إلى أضرار جسيمة لحقت بالمرافق الصحية، مما زاد من فداحة الكارثة الإنسانية التي تتكشف يوماً بعد يوم.

1225 شهيد

في سياق التصعيد المستمر، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو منظمة مراقبة مقرها المملكة المتحدة، بأن حصيلة القتلى المدنيين ارتفعت إلى 1,225 شخصاً، بعد مقتل 132 مدنياً آخرين يوم الثلاثاء، بينهم 62 ضحية في مدينة بانياس وحدها. كما كشفت مصادر المرصد عن مقتل 230 عنصراً من قوات الأمن و250 مقاتلاً موالياً للأسد خلال المواجهات الأخيرة، ما يعكس حجم المعارك الطاحنة التي تعصف بالساحل السوري.

من جانبه، أكد المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ثمين الخيطان، أن موالين للأسد اقتحموا عدة مستشفيات في اللاذقية وطرطوس وبانياس، مما أدى إلى اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الأمن. وأسفرت هذه الاشتباكات عن مجزرة داخل المنشآت الطبية، حيث سقط عشرات الضحايا من المرضى والعاملين في القطاع الصحي، إلى جانب أضرار جسيمة لحقت بالمستشفيات، ما جعلها غير قادرة على استقبال المصابين وسط تصاعد العنف.

في غضون ذلك، أعلنت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) أن السلطات ألقت القبض على أربعة أشخاص متهمين بارتكاب مجازر دامية ضد المدنيين في إحدى القرى الساحلية، بعد التعرّف عليهم من خلال مقاطع فيديو وثّقت الجرائم المروعة. غير أن هذه الاعتقالات، وإن جاءت تحت مظلة “المحاسبة”، لم تخفف من تصاعد المخاوف بشأن مستقبل المنطقة، وسط اتهامات بأن هذه الجرائم ليست سوى جزء من مخطط أوسع لإعادة رسم خريطة النفوذ في سوريا.

وبات من الواضح أن هذه الأحداث لم تعد مجرّد أعمال انتقامية معزولة، بل هي انعكاس لصراعات إقليمية ودولية تتشابك في عملية إعادة تشكيل سوريا، التي ما تزال بعيدة عن الاستقرار، إذ تعترضها عقبات كبرى وتوازنات متغيرة بين القوى المتنافسة، لكل منها أجندتها الخاصة في تحديد ملامح المرحلة المقبلة.

موسى بن عبد الله

موسى بن عبد الله

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
الجزائريون في رمضان.. حين يتحوّل العمل التطوعي إلى عادة مُتجذرة في المجتمع شراكة أمنية وتنموية بين الجزائر وتونس لخدمة المناطق الحدودية غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي من الهاغاناه إلى "الجيش الإسرائيلي".. قرنٌ من التآمر على فلسطين! تقييم جهود البحث والإنقاذ البحري.. نحو استجابة أكثر فاعلية الجزائر تُندّد بجرائم الاحتلال في غزة وتدين صمت مجلس الأمن تراجع طفيف في أسعار النفط وسط احتمالات إنهاء الحرب بأوكرانيا نضال دبلوماسي لكسر العزلة.. الحقيقة الصحراوية تتحدّى التزييف المغربي خطوة نحو الاكتفاء الذاتي.. قطع غيار جزائرية في قلب صناعة السيارات فرنسا تفقد صوابها.. الجزائر تُحطم شراهة النفوذ البائد! نحو إعداد مشروع لتعديل أو استكمال القانون الأساسي لموظفي قطاع التربية الجزائر تدحض الادعاءات الفرنسية بشأن ترحيل رعاياها وتكشف تجاوزات باريس الجزائر تستنكر بشدة خرق الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة