لم يحدث على مرّ العصور والأزمنة المتعاقبة، أن شهد التاريخ، تزييفا للحقائق باستعمال الحقائق ذاتها، كما يجري اليوم بساحة المذبحة بغزة ورفح، حيث عصرنا الحالي يمكن أن نطلق عليه دون أيّ تحفظ عصر استعمال الحقائق لتزييف نفس الحقائق، فباسم تجويع غزة مثلا، تمت التغطية عن فظاعة المذابح والجرائم الصهيونية المرتكبة في حق العزل من أطفال ونساء وشيوخ، حيث العالم الذي من المفترض أن يناقش ويثور ويستنفر كل ذرة إنسانية فيه، لمحاسبة “إسرائيل” عما اقترفته من إجرام وتنكيل وتهجير لمليوني مرابط على ثغور أمة بغزتها الصامدة، ذلك العالم، ركب موجة “الجوع” والحاجة والضياع الذين يعانيهم سكان القطاع، ليجعل منهم القضية الأم، فيما الحقيقة المغيبة في لعبة “التعمية” المعولمة، أنّ أصل الداء، أن تتم معاقبة من تسبّب ليس فقط في حرب “التجويع” الممنهجة، ولكن في المذابح التي اجتثّت كل ما فوق سطح الأرض من نسل وزرع، وذلك وفق سياسة أرض محروقة، كانت هي العنوان لمسمّى عملية “السيف الحديدي”، التي انتهجتها “إسرائيل” في تطهيرها العرقي وتهجيرها القسري وتجويعها المدروس لسكان القطاع..
لعبة العالم الإنسانية، وبدلا من أن تتعامل مع الأسباب، اكتفت بمراوغة الضمير الإنساني، بأن تعاملت مع نتائج المذبحة، لتجعل منها “قضية” جوع وحاجات إنسانية، فيما الحقيقة المطلقة، ليست إلا توجيه أصابع الاتهام لمن كان ولا زال السبب المباشر في المذبحة وتداعياتها، ناهيك عن مناقشة القضية من باب الاحتلال وليس من باب “التجويع”، الذي يعتبر فاصلة في قضية أهم تسمّى حرية “شعب”، حين رفع راية صموده عبر طوفان أقصاه، فإنّ هدفه كان ولا زال، إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووقف “مؤامرة” العالم على حرية شعب لا زال رافضا لأيّ ركوع كما لا زال واقفا في وجه 70 سنة من “استدمار” صهيوني غاشم، وذلك بعيدا عما يتم ترويجه من حاجة أطفاله لعلب الحليب ولحفاظات “حاجته” البيولوجية، ناهيك عن رغيف يابس وبعض من الجبن، أصبحوا يرمونهم في البحر من طرف بوارج حربية “إنسانية”، أتمّت مهمتها في قصف الناس بالقنابل، لتقصفهم في المرحلة الثانية من المؤامرة بعلب الحليب جوا وبحرا، والنتيجة أن ذرف رئيس أمريكا الهرم “جو بايدن” الأدمع، متأسفا على الغرقى الذين رمى لهم برغيف في البحر فغرقوا قبل أن يصلوا إليه سباحة وذلك بعد أن لفظهم البحر ومع جثثهم بضاعة المساعدات الإنسانية من “جُبن” وعلب “سردين” وبعض من رغيف مبلل بملوحة العبث الإنساني..
نفاق العالم يمكن اختزاله في مفارقة، أن تغض بصرك على أدوات المذبحة وتدعمها، فيما تتباكى على ضحاياها وتلبس رداء الإنسانية لتشييع جثثها عبر لعبة “رغيف” معولمة، يعرف القاصي والداني، أنها ليست إلا نتيجة لما صمت عليه كبار العالم ودعموه من حرب إبادة، والمهم في ما تهاوى من ضمير إنساني ومن تلاعب بالوعي الجمعي لمسمّى البشرية، أنّ ما كان بالأمس مناداة بوقف الحرب على المدنيين العزل بغزة ومحاسبة الجاني ووضع حد لاحتلال صهيوني غاشم، تحوّل بين “تجويع” وضحاه، إلى مسيرات “عذاء” أممية لإنقاذ الأطفال والنساء والشيوخ من شبح الموت جوعا، رغم أنّ مسلسل الموت قصفا، لا زال يحصد ضحاياه غير مبال بنكتة أكياس الغذاء المتباكية من تجويع غزة، والمهم أنه بين لعبة الإلهاء، المسماة، حاجة غزة لما تسد به رمق جوعها، وبين حقيقة أنّ غزة بحاجة لمن يحمي “حياتها”، فإنّ مخطط الإبادة الصهيونية لحياة أكثر من ثلاثين ألف ضحية وذلك طيلة نصف سنة من القتل الممنهج، تحوّل بفعل إعلام ماكر وخبيث وممنهج إلى مأساة جوع إنسانية، وهو ما يمكن أن نسميه ونطلق عليه مقولة أحدهم “لا يوجد شيء في العالم أخطر من الجهل الصادق والغباء الواعي”، والذي يعني أنّ اللعبة اليوم، “تجهيل صادق ووعي غبي أو متغاب” بأصل المشكلة وفحواها، وكل ذلك وفق منطق “استعمال الحقائق لتزييف الحقائق”، وهو الأمر الذي تم ولا زال مستمرا في ملحمة أمة بغزة خرجت من طوفان أقصاها منادية بوقف وإزالة الاحتلال الصهيوني، فوجدت نفسها بعد نصف سنة من ذبحها، تتسوّل رغيفا وحليبا تسدّ به رمق “أطفالها”، الذين هم في نهاية الأمر مشاريع جثث قادمة ما دامت الوحشية الصهيونية مستمرة..
المضحك في التلاعب بمفهوم الحرية التي كانت عنوان “طوفان الأقصى”، يوم صنع رجاله الملحمة، أنّ الملوك والأمراء والحكام العرب، الذين كانوا من اليوم الأول “قبة” “إسرائيل” الحديدية، التي منعت الشعوب العربية من احتضان رجال طوفان الأقصى كمسيرة تحرير وتحرّر، هُم أنفسهم من ركبوا موجة “التجويع” ليكونوا خناجرها في طبق “غزة” الدامي، أولا بمنع وصول المساعدات الإنسانية على غزة المحاصرة عبر سياسة غلق المعابر، ثم بإيصالها إلى “تل أبيب” من خلال موانئ دبي وتركيا أردوغان أو من مهزلة الأجواء الغذائية الطائرة كما حدث مع طائرات السيسي وطائرات ملك الأردن اللذين سقطت مساعداتهما الإنسانية في أجواء “تل أبيب” بدلا من أجواء غزة، والنتيجة لما سبق، أنّ ملوك الأعراب وأنظمتهم، لم يكتفوا بخذلانهم لأمة الطوفان بغزة، ولكنهم استغلوا لعبة “المساعدات” الغذائية الطائرة، ليقولوا لـ”إسرائيل” أنهم معها وأنّ طبقها من طبقهم، وأنّ لا خوف عليها من ملحمة “اليمن” التي نقلت الجوع لمطابخ “إسرائيل”، فسارعت “الخيانة” العربية، للملمته والدفاع عن حق أطفال “إسرائيل”، وليس أطفال غزة، في الأكل والشرب المريحين..
مؤامرة “التجويع” الصهيوني، لاجتثاث ما تبقّى من حياة في غزة، هدفها الحقيقي كسر كل ما تبقى من صمود وما اشتعل من ثورة تحرير، حيث المشكلة الحقيقية للكيان الصهيوني، كانت ولا زالت في “جذوة” الحرية التي أشعلها طوفان الأقصى في الأنفس، لتصبح هي مصدر الإلهام للأجيال القادمة التي صقلتها تجارب الخيانة والخذلان فوعت الدرس جيدا في انتظار أي فرصة قادمة، لذلك، فإنّ مخطط التجويع، ليس إلا مرحلة ثانية من حرب إبادة، لم يستطع رصاصها ولا قنابلها وصواريخها أن ينزعوا من “أمة” تدعى غزة، عزّتها بطوفان أقصاها الذي أنهى كل سطوة صهيونية، وأعاد فلسطين كقضية صلاة ومسرى، إلى جذورها الأولى، وذلك بعد أن ظنّت “إسرائيل” كما ظن العالم، أنّ القضية قُبرت وأنّ مشكلة ما تبقّى من الفلسطينيين لم تعد إلا في كيفية “التعايش”، فإذا بطوفان الأقصى أولا ثم صمود غزة ثانيا، يؤكدان للعالم أنّ القضية تتعلّق بالعيش الحر وليس بالتعايش “المتصدّق” به..
آخر الكلام ومنتهاه، أنّ من يتوهّم أنّ مشكلة غزة اليوم في جوع أطفالها، يقفز على حقيقة مغيبة، أنّ “غزة”، قبل طوفان الأقصى، كانت محاصرة جوا وبرا وبحرا، وأنّ سياسة “تجويعها” ليست وليدة مذبحة نتنياهو فقط، ولكنها وليدة إستراتيجية منتهجة منذ سنوات من طرف الكيان الصهيوني، فمعبر رفح ومنذ عرفه “الناس” كان مغلقا في وجه الفلسطينيين، حاله من حال معابر الأردن، لذلك فقصة غزة مع سياسة “التجويع”، قصة قديمة وقدمها لا علاقة بعملية طوفان الأقصى، وإنما علاقته مع صمود لم يركع رجاله بالأمس كما لم يركعوا اليوم، وآخر الكلام، غزة ومن خلال طوفانها، كانت “حربها” صلاة أقصى، وليست صلاة “استسقاء” للماء ولا للرغيف، لذلك، فمن البلاهة ومن التفاهة والسذاجة، أن تتحوّل معركة “حرية” متكاملة الأهداف، إلى معركة “رغيف” وكيس حليب، فصبرا غزة فإنّها الأمة من تعيش الجوع حتى وإن ملأت بطنها بالذي هو أدنى، فيما أنت “الشبع” كله ورغيف مائدتك المقدّسة شرف و”صمود” والذي هو خير، حتى وإن عدمت قوت دهرك وما تسدين به الرمق.